ساعةٌ وحُلم وسُنبلة
تموت السنبلة من العشق وتغادر البركة لمثواها الأخير.. وأنا من الشرفة ناظر محايد.. أرمق أخطاء الآخرين.. تعال يا خوفي المستديم كظلي المرعب نقتسم الغنيمة .. وخذ رحيق هزيمتي تدثر بها أمام الزمهرير.. تعال يا حلم العمر ، لج فراشي.. ودعني أحل في مرابعك السحرية.. دع أحبتي حولي مثل فراشات الأصياف.. امنحني قصة أسهر بها قرائي.. امنحني زمناً أدفء به زمهريري.. الزهرات في طواف دائم حول سريري .. فأسمع أزيز أجنحة النمل ورائحة العسل.... لكل مسعى قدمان من التعب.. تجتاز فوق الدروب الطويلة.. وكلما حلّ الليل أرتدي أجمل ثيابي.. فلي أحبة يأتون من كلّ فج بعيد.. بعيداً عما أنجزه الفتيان .. ما بال صديقك المشاكس لا يقتحم سدم ومضاتك.. وأنا هنا في هذا المكان البعيد أفتقد دفء روحي .. المسافات جراح بالية .. ثآليل وجع تمتد وتطول وتتيبس.. في البرهة الخالية من ضجيج المارة.. شجرة زقّوم دامية تقطع الأواصر وتنشئ صدامات وهمية.. الجرار كفّت عن استقبال النبيذ.. والكرمات الكريمة أبتْ أن تبيع الشراب بعد هجرة المواسم والفصول مع الأخيلة.. الحانات أقفلت أبوابها مع هطول غضب الزمن الآبق.. وأنا مذ وداعي بقيت يتيما ًمتيماً لقامتك الباسقة. وهي تمخر في أوهامي.. حلمت بأيام الطفولة وبمراحل الأبجدية الأولى .. بوق مرزوق.. عش هكذا أيها العلم.. تيقنا أنَّ لمرزوق بوق نحاسيّ وصدى وقيثارة هرمة.. طالما أسكر صداه عشاق السهر.. ولها في وقع روحي قصة ملغزة لا تنبس بها شفة ولا تطرق سمعاً.. والقياثير في الحلم واليقظة سفيرات الفرح.. نعم مستشرية في رحم الحزن.. مفاتح سعد تكنس النحس..فلها أيامها المُرّة والحلوة .. فقدتْ أوانها.. ولها مثلنا أشواط محددة .. طفولة ، يفاعة، وكهولة ، وهرم .. ذي هي ساعتها المتوقفة عن الحركة معلقة على جدارمتصدع..
2
أمي ليست بعدها أم
لم أستيقظ يوما إذا لم أرهف سمعي لتنهيدات أمي الحزينة.. كحزن زواجها القسري المبكر.. أبكي على صوتها وأشدو مثل العندليب حروف قسوة الزمن معها.. ألهو مع السنبلة أتقلبُ في حضنها الذهبي تلامسنا النسمات وتهزّ في بقايا وترَ الفرح.. الزمن من بعدك محضُ قطار يشتبك مع المستقبل.. لكنّي إلى الآن متمسّك بأطراف ثوبك ومحتفظ بعطرك كما لو كنت معي ولم ترحلين الى درك السرمدية..
أماه ومعك كل الآمال والآلام.. يُبللنا رذاذُ العراك والصدمة أخيراً انطفأ خيرُك وحنانك صرت محض حكاية تذكرك السنة الخلف.. نحن اليوم كالطواحين يحرّكنا الماء والريح والدخان والعبث يلفنا الغموض والسكون.. رحيلك مرارة أزلية في حلقي وفي مذاق زماني .. المكان والزمان حلاهما كطيف حلم راحل في خلود ذكراك.. أماه ضعي يدك الحانية على رأسي وعلى وحدتي الطاعنة في سن الألم ضعي يدك في يدي نتبادل حرارتنا ليجاور دمك دمي ودمعك المكلّل بدمعي.. أكتب بمداد الشوق مشوار قلب الأم والابن.. عام يلد خلفه أعوام ثم يخبو الذكر والكلام..أماه..!! اذكريني عند عالمك الآخر مع رهطك المسافر.. فلكلّ أناس هناك وقتُهم .. ولكلّ وقت أناسه..
3
اقتحام
اقتحموا علينا الدار بعدما خلعوا مسامير قلوبنا قالوا لا تخافوا نحن زّوار الفجر الفجر نأسف للإزعاج.. سألونا أسئلة كثيرة ومنها تحديداً عن الصورةَ المعتقة َوالمعلقة على الجدار. وعن الموت الذي غيب صاحب الصورة وعن النجمة َالمُتدلية َعلى بيرية جيفارا العسكرية.. فتشوا وراء النافذة ،عن الحب العميق في أرجاء البيت .. سألوا وسألوا.. ما بقي عندي مما يُسأل عنه .. ولا حتى ردود أو صدود على استفسارهم القاتل .. ما أعطيتهم شيئاً يمسكون بخيط الدلالة على ضبط الحب المكنون في قلبي .. لم يعثروا على شيء جزعوا وثاروا ، قلبوا البيت على آخره.. ركلوا الباب بعدما بصقوا على صورة أبي وهو يتلو آيات الحب على شواهد وطني.. تركوني أتقمّطُ ببقايا ليلي..غابوا، وذابوا.. ذبُلت معهم الخوف.. وطارت معهم الأمان والعافية .. جمعت ما لدّي من أوراق وصور مبعثرة على الأرض .. قلت في نفسي.. سيأتي يوم وتكون هذه الأيام قصصا وعِبراً جاهزة للنشر.. فمنْ قالَ إن الزمن ثابتٌ على حاله ولا يتغيّر؟..
4
دفء
كتب في صفحته على الفيس بوك: انه بصدد كتابة سيرته الذاتية.. وبعد ساعات أعلن لمحبيه سر إصابته بداء النسيان وفق تقرير طبيبه الخاص إنه كان مصاباً به منذ وصوله إلى منفاه القسري.. ذوا دمي.. أخذوا صراخ فمي.. سلبوا يراعاتي الملونة.. لكنهم لِمَ أطفأوا دفء سريري ودمي.. وتركوني للزمهرير.. أخذوا من مهد طفولتي وعلقوني على صليب الخزن منكسراً،الملم شتات ذكرياتي .. يبست سلامات يدي.. وغابَ صوت احتجاجي واحتجب كل الحقب لها مَنْ يسرق منها الذهب.. لم يستسلم لهم .. لهم أفانين الضلال لهم المعابد والمعاهد والدواوين المطهّمة بالأكاذيب.. ولنا التشرد عبر متاهات الفيافي لهم اليوم أكاليل من المجد مفتوحة لهم كل الكنوز وكلّ الطرقات.. لكني لذتُ بصمتي، بانزوائي.. وبقيت مثل شرارة قابلة للاشتعال.. أخذوا كلامي ومعجمي.. قمعوا لهاثي كمّموا عنادي.. أنا اليوم في المنفى أشبه بصخرة صمّاء بلا انتماء.. محوا مدوناتي في سجل التواريخ وغيّروا انتمائي بمداد شنق أحبابي.. في الشتات استردت سجل أصالتي .. لكنِّني في ملجئي النائي احتضنت بلادي أفضل منهم وبانَ للملأ زيف الأدعياء.. توالت الأيام.. ومرة تلو المرة أحتضن وطني.. فلستُ بلا غد فبين يديّ صفحات كتاب أحلامي، المدينة ترتدي درع حديد وتُسمعنا احتجاجاً للأغراب صوتها القرميد.. هي جاثية ترخي لنا جدائلها وحلمتاها تدرّان غضباً يُسعّر جمرات انكساراتنا ، هزائمنا.. هو الليل الذي يطوقنا في المنفى وحده كأنه غول بلا رأس ولا ذيل كما لو كان دهراً.. غرز قوائمه في مراسينا وفي تعابير مواسينا كما لو كانَ كابوساً من الرعب.. أما لهذا الليل من آخر؟ أما لمنْ أخذوا دمي هدراً من مثأر أو ثائر.. أليسَ لنا حقٌ لأنْ نرفعَ قبضتنا ونردعَ من جرّدنا من هويتنا ومن حلمنا القزحي.. يا زمن القرود فقد سرقوا في رابعة النهار صبرنا وظللوا بسواد النسيان شواهد قبورنا.. أليس أيها الزمن من الحق أن ألبسَ ثوباً وأزهو مثل أهل الغرب ثوب الفرح والبهجة وأزهو به بين لدائن أقراني..ألا أيها الصبر الكامن فيّ، خذ بناصية مَنْ أوصلوني إلى حافة الغيبوبة.. إلى ضفاف الصمت المطبق.. إلى المتاه الأبديّ للصبر حدود.. وللجراحات ألف ألم وصدود.. قولوا معي بصوت المحتسب.. الله ما أصبرك على جراح الفقد والبُعد.. فصبراً يا أهل الشهداء.. إن موعدكم الربيع الدائم .. آمين يا رب العالمين ..
5
فنجان قهوتي
- عرافة شاطئ مرمرة المتجولة تضاريس فنجاني.. بك رغبة مكبوتة في امتطاء صهوة الإنسانية، حسبك أنت مثلما رغبة جارك المعتقل في أقبية قصر النهاية.. رغبتك الجامحة تمنعك أن تستريح إلى جوار الدعة الفارغة على حساب راحة الآخرين.. يومك الغسقي له البومه المخصص في كرنفال التنكر.. جارتك المنفية حمامتها لها هديل يصعد من بئر مجهولة.. وأنت تكون لها عشها المتهادي.. الرقيب في غرفة التحقيق الصامتة يسجل أنّات عذاب جارك المنتكس عن مبادئه الثورية.. يسجل ويستعجل الرقيب نبض اعترافاته القسرية.. ولست أنت المبرأ أيضاً من اقتراف الإثم.. أنت تؤشر حيناً بإبهامك تجاه لهاثي.. تود أن تخنق الصراحة.. تستدرجني مع مديات خيالك إلى المعصية كي أكون أكثر واقعيةً مثلك.. أنا التجوال والعيش على كشف خبايا النفوس المكبوتة.. في هذا الفضاء المعتم أفتح لك نافذة حلمك على الطريق.. على غبار المشاة، على الثرثرة والهذيان العابر في الدرب القاحل.. أنت في كل وجبة من وجبات التأمل، بالشوكة والسكين تتناول فتات حزنك ،وتشهق بين فينة وأخرى وخز وجع منفاك.. أنظر إلى تلك الضفة البعيدة عن مرمى رغباتك .. إنّها عارية من الرتوش ولا يلامسها وغف الماء، ولا تغشاه سراطينه.. جفاف يغتال النفس والنفيس والعيش والتجوال.. نحن معاً يدفعنا الموج إلى لجج القرار، إلى الغياب القسري حيث الجماجم السحيقة الآن مليئة بجماجم الجنون.. تأمل تلك اللوحة السريالية.. فيها الحقل والفضاء ترتمي الرغبة وتكسر طوق نجاتها، كل مدخل موصد إلى الواحة، الحقل يموج بالجراد الآبق، يعلوه في طرفة عين سيمياء اليباس.. ترسمه ريح السموم.. ها ذي أنت الآيبة من أسفارك ترمين بعد تلك السنين إلى ساحتي المهجورة سهمين سنبلتين من الشوق.. فأنسى صحاري المنسية في قاع غثياني.. تعالي زوغي من زمن الالتباس.. زوري ولهي الجائع.. ومدّي يدك إلى يباس نسيم بسمتي.. وهل نحن سوى جني الجفاف يضرب لوعة خيام خيالنا.. ويستبيح الظل والقيلولة.. أنت وأنا اليوم بلا ظل وظليل.. رغبتان من البطولة الزائفة وهباء من العمل المجاني.. كلانا اليوم بعد فوات الزمن رسمان فوق التراب .. في الأفق المكبوت المبتلي بعاصفة الغبار.. ترتحل قامتنا بعد دبق الانتظار نحو الشاطئ.. نتساءل معاً .. ترى أين السفينة التي تستضيفنا في رحلة الشقاء؟.. حين غادرت الكازينو امتلأ صدري بالحزن والفرح.. إذاً أنا وهي كنا على مسافة قريبة من الخطأ والصواب..
6
على هامش الوعود
يعزف بكمانه الناطق في مقاهي إسطنبول الصيفية زفرات قلبه المولع بلهيب المنفى.. وأنا أنزف حروفي شعراً ونثراً في قرّ صقيع القطب الشمالي.. ثنائيان في الوجد والألم .. كلانا في مرتجى وعد كاذب.. في رميم الصميم ثغرات متبقية تنزّ حزنها الأثير.. والخراب الذي عمّ في المدينة.. أخي كان يتلوا فاتحة رحيله ولا يدري سيكون من المُشيّعين ، أي وغد هذا الذي استهدف واستباح قدسية المكان.. زلزل الزمن المستقرّ .. وبعده كل بغيتي أستفزّه هذا النهار المُدجج بالخديعة حدّ الإذلال.. وهو السعير الذي تقذفه النار طي الضلوع.. خسر الحِلمُ أصقاعه،عراه مبكراً أوان الصمم والحريق.. لعينيك هذا العسل المحلّى بالحزن الشفيف.. اصطفيت لك هذا النبض.. لك النبض يسترخص كل عذر.. سيّرَ قمعه في الطريق إليك.. عبّأ الزمن من بعدك صرته بالوعود والأكاذيب.. فها هو عمود دهشتي شابه الملل اللعين على هامش الوعود..
أديب وفنان تشكيلي عراقي