يصور القاص المغربي بلغة متينة وببناء قصصي متماسك مقطعا مفصيلا من حياة امرأة كادحة تكسب عيشها وسط السوق الفقير ببيعها وجبات الطعام، راصدا تعبها وحركتها والتعاطف الإنساني في محيطها المتكافل إلى لحظة طلقها وسط تحت الشجرة.

حافة الحياة

نجيب الخالدي

على ضفاف المياه المتدفقة من الشلال والعيون الغزيرة، وفي رقعة ضيقة مرسومة الحدود، تكنس يزّة الأرض، تنضحها بماء النهر لتبدد الغبار المتصاعد كموج من الدخان، تنشر حصيرا تثبّت عليه مائدة خشبية قصيرة القوائم، تفككك رزمة من ثوب الخيش، تضع منها على المائدة بضعَ كؤوس وصحون خزفية مختلفة الأشكال والأحجام، تلتقط أنفاسها التي أكلت منها بنَهَم شعابُ ومنعرجات الجبل قبل الحلول بضفة النهر، تعود إلى انحنائها تفك كومة من العيدان اليابسة، تصففها في مجامر طينية، تنفخ فيها بما تبقى من أنفاسها، تفرك بمعصمها عينيها الدامعتين، تسوّي جلستها على صخرة بشِقّ الأنفس، ثم تشرع في تقشير الخضر وتقطيعها...

في هذه الأثناء تحلّ فطومة بالمكان، تفترش الأرض بجانبها، تلتقط سكينا من أحد الصحون، تمدّ يدها إلى الخضر:

- أشتاق أبي كثيرا...

- طال غيابه هذه المرة

- أتمناه بخير يا ربي

- يعود بالسلامة... إن شاء الله

وهي تصفف الخضر في " الطاجين " تتسلل نحو يزّة سيدة أنيقة تلقي عليها ذراعها، وتبتسم ابتسامة عريضة تعبر عن سعادة طافحة تغمرها:

- ابتسمي، سيلفي رائع، أجمل سيلفي، انظري إلى الشاشة، هيا ابتسمي...

يتدفّق العرق على جبين يزّة تدفّق المياه أمامها، تمسح انهماره بطرف كمها، تشرئب عيناها تنشدان فطومة التي ابتلعها المكان في غفلة منها، تنادي عليها بصوتها الهزيل، فلا يرد غير الصدى.

تحسم الأمر، فتُقرر الانطلاق لجلب الخبز الذي تعدّه كل يوم بنفسها رغبة في الجودة التي يبتغيها الزبائن، تتسلق من جديد منعرجات الطريق الضيقة الصاعدة، تحني ظهرها لتتمسك بالصخور المترامية هنا وهناك، أو تسند كفيها إلى الأرض ليتقوّى جَهدها فتأمن انزلاقا خطيرا، قد يلغي صعودها أو يجعله منطلِقا من الصفر بعد لَأي ومكابدة. هي الآن تسارع خطوَها في مسابقة الزمن حتى تؤوب إلى الضفاف قبل أوان الغداء...

- تعال سيدي، "طاجين" لذيذ، باللحم أو الدجاج... تعالي سيدتي مرحبا

- بكم "الطاجين"...؟

- مرحبا سيدتي، لذيذ وبثمن مناسب، ستون درهما...

- ثلاثون درهما فقط... توافقين؟

- خمسون تناسبك؟

دون اكتراث بردّها، تنقاد يزّة نحو شجرة محاذية، تسند إليها رأسها ثم جسدها...

تهرول إحداهن نحوها:

- ما بك يزّة !؟ ما بك !؟

تلاحظ سائلا أبيض ممزوجا بالدم يتدفق منها:

- ستكونين بخير يزّة... الله يسهل عليك...

وبغتة، يتفجر صياح:

- أحضروا العربة بسرعة، أين البغل؟

تصيح أخرى:

- لا أرى عربة ولا بغلا... أسرعوا، هيا أسرعوا...

تستلقي يزّة على الأرض، تزمّ شفتيها بقوة، تلقي بنظراتها المتعثرة نحو السماء، وحدها سحابة مثقلة بالسواد تملأ عينيها...

وتصيح أخرى:

- يزّة... العربة... البغل... يا نساء...

الشلّال المتفجر في شموخ يتدفق ماؤه سبائك لجين نحو الأسفل العميق، ينسكب في ألق سلسالا رقراقا في الشعاب، تغازله المجاري وتغريه المنحدرات بين الصخور...

يتدخّل أحدهم:

- يا ألله، انظروا..! استمتعوا بهذا البهاء، ليس له نظير..! استعدوا لتبلغوا القمة.

 

*قاص من المغرب