تقدم محررة باب علامات هنا نموذجا ثقافيا مضيئا، ترفعه مرآة ينعكس عليها واقعنا الراهن، وأزمة المثقف فيه. فهو نموذج لمثقف يعلي قيمة العقل وقيمة الوطن معا. ويبذل الغالي والرخيص في خدمة وطنه العربي الكبير في المحافل الدولية، دون أن ينال ذلك من استقلاله الثقافي، ونزاهته الفكرية، واستنارته العقلية.

محمود عزمي

أثير محمد على

 

 خسرت الصحافة العربية بوفاة محمود عزمي، بل خسر العالم العربي شخصية من أعظم الشخصيات السياسية؛ فقد كان رحمه الله، يتميز بكفاءآت نادرة من علم غزير، إلى أدب جم، إلى وطنية صادقة، إلى إخلاص في العمل، إلى إنكار ذات، إلى عزوف عن المناصب، إلى ماشئت من خصائص قلّ أن تتوفر في رجل سياسي، وكان صاحب رسالة في نزعاته الاجتماعية، وهو من الرجالات القليلين في الشرق الذين كانوا يجهرون بآرائهم الحرة دون خوف أو وجل. خرج من هذه الدنيا لا يملك غير السمعة الطيبة لكفاحه الطويل في سبيل حرية وطنه وحرية الأوطان العربية، وهو أول صحفي عربي استطاع أن يحتل مكانة مرموقة في الأواسط العالمية، أصدر عدة صحف ورأس تحرير عدة صحف كبرى وانتدب لحضور عشرات المؤتمرات الدولية فكان من أبرز الصحفيين العالميين، وننشر فيما يلي الكلمة التي كتبناها ساعة حمل الأثير نبأ نعيه:

محمود عزمي

سامي الكيالي


حتى النفس الأخير وهو في صراع دائم، صراع عنيف ضد الباطل في سبيل الحق.

صراع مع الاستعمار في سبيل السيادة والحرية، حرية مصر وحرية العرب وحرية الشرق في كل جزء من أجزائه. صراع مع الدكتاتوريات في سبيل الديموقراطية الحقة، وقد كان رحمه الله؛ أول من دعا إليها في مصر، عقب إتمام دراسته الجامعية في باريس، وكان قلبه قد أشرب حباً بمبادئها في الفترة التي كان فيها مفهوم الديموقراطية في الشرق غامضاً وغير واضح ولا ملتو إلتواءه في هذه الأيام!.

حياته كلها صراع في سبيل المبادئ الحقة، وفي سبيل المثل العليا، وقد قضى فترات طويلة من حياته في الحرمان، بعيداً عن وطنه، وهو يدافع دفاع الأبطال عن حرية مصر بمعناها الواسع العميق. وأخيراً، صراع عنيف مع دول الاستعمار ومع اسرائيل المجرمة. فقد جاءت الأنباء تقول أنه لم يكد ينتهي آبا ايبان المندوب الاسرائيلي من خطابه المليء بالمغالطات والأباطيل، حول احتجاز السلطات المصرية للسفينة الاسرائلية "بات غاليم"، ولم يكد يحس بالمؤامرة الدولية التي تحاول المساس من سيادة مصر، وموافقه ايبان على اقتراح مندوب بريطانيا، حتى وقف يرد على مندوب اسرائيل، ويفند مزاعمه، ويدحض أباطيله، ولكن الصدمة ـ صدمة المؤامرة ـ كانت جد قوية على نفسه، وعلى أعصابه فلم يحتمل، وهو السياسي المرن، نعم، لم يحتمل هذا التهريج السياسي فوقع مغشياً عليه، وبعد لحظات معدودة؛ أسلم الروح، فكانت وفاته فجيعة كبرى، لا لمصر وحدها بل للعرب أجمع.

وهكذا، مرت حياة هذا الصحفي الأديب، الكاتب الحر، الأستاذ الجامعي، والسياسي الذي يرجع إليه في الملمات ـ مرت حياته في سلسلة من الكفاح الطويل في سبيل حرية وطنه وحرية الشرق العربي الذي عرف في محمود عزمي إنساناً كامل الرجولة، واسع الثقافة، تميز بالروح العربية الصافية، وبالشمم العربي، وبكرهه للاستعمار وما يمس حرية العرب وينال من سيادتهم. لن أسرد هنا قصة حياة هذا الصديق الحبيب الذي عرفته منذ خمس وعشرين سنة، فعرفت فيه الكثير من الخصائص النبيلة، فسيرته تؤلف سفراً ضخماً من المآثر، فحسبي وأنا جزع النفس جزعاً شديداً على وفاته ـ حسبي أن أرسم خطوطا سريعة من ملامح حياته، وأريد أن أعتقد أن الكثيرين من قراء كلمتي يعرفون الكثير من حياة هذا الصحفي الكبير الذي ملأ صحف مصر وأكثر البلاد العربية بمختلف مقالاته وبحوثه؛ وكلها تتميز بالجدة وعمق الفكرة والانطلاق.

ولا أغالي حين أقول أن محمود عزمي هو أول صحفي مصري تفهم "القضية العربية" تمام الفهم وكتب حولها عشرات المقالات ومئاتها في الوقت الذي كان مفهوم "القضية العربية" عند الجمهور المصري، وعند أكثر الصحفيين المصريين، غامضاً، بعض الغموض أو الغموض كله! أصدر عدة صحف ومجلات، واشترك في تحرير كبريات صحف مصر، وانتدب في مهمات صحفية ورسمية إلى مختلف بلاد العالم وإلى أكثر المؤتمرات الدولية فامتدت شهرته الصحفية امتداداً واسعاً فأصبح، في الأواسط الدولية، في طليعة الصحفيين العالميين.

وقد شغل عمادة كلية الحقوق في بغداد وكلية الصحافة في جامعة مصر فتخرج على يده مئات التلاميذ، ويشغل أكثرهم اليوم مراكز مرموقة.

كان رحمه الله، عف اللسان، مؤمناً بالنزعات الجديدة وقد دعا إليها بحرارة وإيمان وصدق.

وقد يكون الصحفي المصري الوحيد الذي لم يخضع لإدارة القصر، حتى في عهد الملك فؤاد، وقد لوح له رجالات القصر والوزراء، وأكثرهم رفاقه في الدراسة، بالمغريات، فأبى أن يبيع حريته، ويسخر قلمه للأباطيل والمخزيات. لقيته في العام الماضي، في مثل هذه الأيام، في قاعة "منظمة الأمم المتحدة" بنيويورك وإذ اعتاد أن يلقاني شتاء كل عام في مصر، كانت مقابلتي له لوناً من المفاجأة السارة. وجلسنا نتحدث في كل شيء.. عن سورية، ومصر، والعالم العربي.. عن الرجالات الذين يسيرون دفة السياسة العربية.. عن هذه الظاهرات الجديدة التي باعدت بين الساسة القدامى، والشباب الثائر المنطلق، وعما تدبره دول الاستعمار من خطط للشرق العربي.

تحدثنا عن كل شيء، وهو، كما يعلم كل من عرفه، محدث بارع، فلا يكاد يندفع في الحديث حتى تؤخذ بسحر حديثه.. وكانت الساعة قد قاربت الحادية عشرة، وهو موعد جلسة حقوق الإنسان، فاصطحبني معه لأحضر هذه الجلسة، وهو كما يعلم القراء قد انتخب بالإجماع رئيساً للجنة حقوق الإنسان في منظمة هيئة الأمم المتحدة، ولم يكد يكتمل النصاب حتى افتتح الجلسة، وأخذ يديرها بلباقة ودهاء، واندفع المندوبون يتكلمون الواحد تلو الآخر، وهو يستمع، ويدون ملاحظاته، حتى إذا فرغوا من الكلام اندفع يوضح آراءه في معنى حقوق الإنسان، وفي معنى الحرية، وعلى ضوء الفلسفات والمذاهب المختلفة، وكان يغمز من مبادئ المؤسسة، ويقول ما قيمة هذه الجلسات التي نعقدها إذا لم نعمل على إشاعة الحرية بمعناها الواسع لدى جميع الأمم، فكان لصوته أثره في النفوس، واستمر في الكلام قرابة ساعة، وهو يدافع عن حقوق الإنسان؛ وعن حق الأمم في السيادة والحرية. ونحن نعلم أن الدكتور عزمي من أبطال حرية الفكر، وبديهي وقد رأس أكبر هيئة دولية لنصرة حقوق الإنسان، أن يقرع أسماع المندوبين بمعنى الحرية ومدلولها الفلسفي العميق، وكان آية في التدليل على آرائه ببيان افرنسي أخاذ. فما كاد ينتهي حتى هرع الجميع يهنئونه، ويهزون يديه إعجاباً وتقديراً، ومحاضر جلسات هيئة الأمم لتشهد بما لهذا العربي الحر، والمفكر المناضل، من أثر في نصرة الحريات، والدفاع عن حق الشعوب.

وخرجنا من الجلسة وهو في شبه نشوة وأخذنا طريقنا إلى المطعم، واستأنفنا الحديث في مختلف الأمور، وإذا هو ضيق الصدر بجو نيويورك بصخبها وضجيجها، إنه يريد أن تنتهي مهمته، ليطير إلى سويسرة، حيث ترقد زوجته التي لا يكاد يذكرها حتى تتأكله الذكريات الحزينة.

والتقينا أكثر من مرة.. ثم سافرت إلى واشنطن، وزرت المدن الأميركية الكبرى، ولم نلتق، وكنت أتتبع أخباره في المنظمة، وكم كان سروري عظيماً حين قرأت نبأ اختياره، رئيساً لوفد مصر في المنظمة، فدلَّ الاختيار على دراية واسعة. وما كان لرجل أن يشغل هذا المركز، ويحظى باحترام وتقدير مندوبي العالم، غير الدكتور عزمي. واضطلع بالمهمة.. وكان رحمه الله، يواصل الليل بالنهار في سبيل فلسطين، ومصر، والعالم العربي، والشرق كله.. إلى أن كان مصرعه، وهو على منبر المنظمة، يدافع دفاع الأبطال.

رحمه الله وعزاء العرب بفقده، فقد كان؛ في المحيط الدولي، صوتاً من أقوى الأصوات العربية، وعاش طوال حياته في كفاح مرير مع المستعمرين.. وأخيراً، وحتى النفس الأخير، معهم ومع أذنابهم الصهيونيين.

الحديث، س28، ع (8 ـ 9 ـ 10)، حلب، 1954

كيف أمنت بالعلم وحده

للأستاذ محمود عزمي


بكر والديه الشابين اللذين فرحا بمقدمه ولازمه فرحهما به حتى توفيا. ودللاه في حزم وأحس هو دائماً تدليلهما وحزمهما معاً ما ظلا على قيد الحياة. ولعلهما من أجل تلك العواطف كلها لم يشاءا أن يدخلاه إلى "الكتاب" إشفاقاً منهما على قدميه أن تغلهما "فلقة" الفقي وأن تدميهما "جريدة العريف" ولعلهما من أجل تلك العواطف آثرا أن يدخلاه "المدرسة" مباشرة ولما يكن قد جاوز الرابعة من عمره، ولما تكن "رياض الأطفال" بعد معروفة، ولعلهما من أجل تلك العواطف أيضاً كانا يملأان جيوبه "بالملبس" وكان أبوه متفاهماً مع ناظر المدرسة على أن يدعه حراً في البقاء فيها والخروج منها كلما أراد أو كلما فرغ "الملبس" من جيوبه! وظل يرتع في هذه البحبحة إلى أن كادت سنه تبلغ السابعة فألحق بمدرسة حكومية، خضع فيها كغيره من الزملاء، لقواعد السلوك، وأحكام النظام المقررة، في "قانون نظام المدارس" والمدعمة بكبرياء وإباء "ناظر" كان يعتز بأنه على رأس إحدى مدرستين ابتدائيتين هما الوحيدتان المعتبرتان من الدرجة الأولى في القطر كله، وكان يعتز فوق هذا بأنه كان أستاذاً للخديو الجالس على العرش وبأنه كان ممن تلقوا علومهم في "فرنسا".

هو إذن لم يعرف في طفولته قيود "الكتاتيب" وقساوتها وهو لم يبدأ احتكاكه بالعرفان عن طريق حفظ القرآن وهز الأجسام، وهو لم يستظهر من "القرآن" إلا ما كان مقرراً على تلاميذ السنتين الثانية والثالثة ـ أو الأولى والثانية لا أذكر ـ من سورة المجموعة في جزء "عم تساءلون" وفي جزء "تبارك الذي بيده الملك". ولم يكن والداه يريدان أن يقسراه على شيء، حتى الواجبات الدينية نفسها، لكنه كان يريد من تلقاء نفسه أن يكون مسلماً وأن يكون مؤمناً وأن يصلي كما كان أبوه يصلي وأن يصوم كما كان أبواه يصومان. وكان ضابط المدرسة يحمله على أن يفطر رمضان، وكان الضابط يلجأ في هذه السبيل إلى ملعقة كبيرة، يدخلها بين فكي الصبي حتى يفتح فاه، ويسقط فيه شيئاً من الماء. لكن الصبي كان يعلن أنه قد بلغ سن "التمييز"، وأن إسقاط الماء في فمه قسراً لا يفطره، وكان يسخر بصيام يوم. كذلك كان يحلو له أن يصحب أباه يوم الجمعة إلى المسجد يؤدي فريضته في خشوع وتقوى.

وكانت هذه وتيرته، إلى أن بلغ الخامسة عشرة من سنه، وكان إذ ذاك تلميذاً بالسنة الثانية من القسم الثانوي، بالمدرسة التوفيقية، ينعم هو وزملاؤه في "القسم الفرنسي" بما يكفيهم من بيئة حرة ينشرها حولهم أساتذة فرنسيون، ويشفقون على زملائهم في "القسم الانجليزي"، حيث يلاقون ما يلاقون من صنوف التقييد والاخضاع. وكان هو وزملاؤه الذين يقطنون حي "العباسية" قد اعتادوا أن يمروا عصر كل يوم ـ حين كانوا يتنقلون من ترام "شبرا" إلى ترام "العباسية"، وهم في طريقهم إلى منازلهم ـ "بالحلواني الخديوي" الذي لايزال ملازماً مكانه في أول شارع الفجالة، يتناولون عنده ما "يصبرون" به أنفسهم، حتى يصلوا إلى دورهم، يتناولون فيها العشاء. وجاء رمضان السنة الهجرية الموافقة لسنة 1904 فرأى بعض تلاميذ المدرسة التوفيقية القاطنين بالعباسية ـ ومنهم صاحبنا ـ أنفسهم قد استمروا على أن يعرجوا على "الحلواني الخديوي"، قبل أن يذهبوا إلى منازلهم لتناول "الإفطار"، كما كانوا يفعلون قبل أن يذهبوا إليها لتناول "العشاء". على أنهم كانوا يكتمون "بينهم"، فلا يفضون بإفطارهم، لا إلى زملائهم في المدرسة، ولا إلى أقاربهم في المنازل. وكانت تلك أولى المخالفات التي ارتكبها ذلك الفتى في حق استمساكه بأهداب دينه وإيمانه. وتبعها بتتابع الزمن مخالفة عدم المواظبة على الصلاة في أوقاتها، وعدم الدقة في اصطحاب والده إلى المسجد يوم الجمعة. ولم يكن بالطبع مطمئناً أول الأمر إلى وقوع هذه المخالفات، لكن ملاحظة لم تبد له عليها من أحد فاستمرأها، ولم يجد على نفسه من أجلها غضاغة. لكن إسلامه ظل ثابتاً كما هو، وإيمانه ظل راسخاً لم يعتور عقيدتهما انحراف.

ونال الفتى إجازة "البكالوريا" في سنة 1906 وكان له ابن عم يطلب العلم في مدرسة الحقوق، ويمضي عطلة الصيف مع والده في طنطا. فقصد صاحبنا إلى زيارة ابن عمه. وكان ابن العم هذا كثير الإقدام على منافسة فتانا في آرائه ومعتقداته أيضاً، وكانا يقفان في مناقشتهما مواقف حادة، يستمسك فيها الفتى بأحكام دينه استمساكاً شديداً. لكن شيئاً من هذه المناقشة المعتادة لم تحصل بين القريبين في طنطا. ولعل ابن العم رأى من حسن الضيافة ألا يكدر ابن عمه بمناقشات تزعجه، ووقف الأمر بينهما إلى حد أن دفع ابن العم إلى الفتى بكتاب طلب إليه أن يقرأه. ولا يذكر الفتى اليوم اسم هذا الكتاب، وإن كان يذكر أنه من نوع الكتب "الأزهرية"، ورقه أصفر، وأنه كان صغير الحجم. وموضوع الكتاب ذكر لمفتريات، أريد بها القول بأن أغلاطاً وقعت في القرآن، ورد على هذه المفتريات. قرأ الفتى الكتاب فوجد كتاباً "ملعوناً"، ووجد واضعه "شريراً"، إذ يقدم للقارئ ما يقول أنه "افتراء" على القرآن في أسلوب محكم، ومنطق محبوك، وإذ يقدم له ما يقول أنه "رد على المفتريات"، في أسلوب ركيك، ومنطق غير متماسك. فكان من نتيجة قراءة الكتاب أن أدخلت "شبهات المفتريات" على الفتى دون أن تقوي "الردود" على درئها حقاً. لكن صاحبنا لم يعترف بشيء من هذا لابن عمه، واعتزم أن يلجأ حين يعود إلى القاهرة لموئل الدين وحصن العقيدة، للأزهر الشريف، ليقضي أحد علمائه الأماجد على تلك الأضاليل، قضاء مبرماً في أقل من لمح البصر.

وعاد الفتى إلى القاهرة يحمل بين جنبيه ما يحمل من ضغينة لذلك المؤلف التعس، وأمل موطد في ذلك "الأزهر الشريف". وقصد إلى الأزهر ـ ولعلها كانت هي المرة الأولى التي يقصد فيها إلى الأزهر ـ وطلب إلى القوم أن يدخلوه على "شيخ الجامع". ويذكر أنهم أدخلوه إلى غرفة مدت فيها أرائك، جلس عليها "مشايخ" قدموه إلى أحدهم حسبه هو كبيرهم... إذ كانت لحيته بيضاء... فقص عليه الفتى قصته، وطلب إليه أن يبدد له أباطيل ما ورد في ذلك الكتيب "الخبيث"، فما كان من ذلك الشيخ ذي اللحية البيضاء، إلا أن وضع يده على كتف الفتى وقال له: "لما تكبر ابقى تفهم ده"... وشيعه إلى الباب الذي كان قد دخل منه.

خرج الفتى وقد أحس أن دمه قد صعد كله إلى رأسه الذي كاد يحترق. وقد أحس أن كرامته قد مست بما لا يمكن محوه. "لما تكبر" إذن أنا صغير! و"تبقى تفهم" إذن أنا لا أفهم! أنا أبلغ من السن السابعة عشرة! وأنا الحاصل على "البكالوريا"! واستمر صاحبنا يردد هذه النغمة، وقد أصيبت عزة نفسه مرتين: بصفة كونه طالباً "مصرياً" مدعياً ككل الطلبة المصريين، وبصفته كونه مستمسكاً بأهداب دينه، يرى علماء دينه على هذه الشاكلة. وظلت الشكوك التي أقامتها قراءة الكتيب "الخبيث" مستولية على عقل الفتى، ولم يجد من يبددها له من "أهل الذكر" تبديداً. والتحق الفتى بمدرسة "الحقوق"، وكانت هناك حركة ترمي إلى التوفيق بين العلم والدين، يقوم بها جماعة من أساتذة دار العلوم. فعنى بها صاحبنا عناية خاصة، وتبع ما كان يلقى في سبيلها من محاضرات عن قرب، ولاسيما محاضرات الشيخ شاويش عن "الربا في الإسلام". وكان يسره ما يأتي به المحاضرون من تخريج، ومن تفسير حديث لبعض أحكام القرآن.

لكنه كان يدرس "الاقتصاد السياسي" بالسنة الأولى من مدرسة الحقوق. وكان يتعلم فيما يدرس أن "الربا" أصل كل نمو اقتصادي، لأن الفائدة التي تعود على صاحب المال، هي وحدها التي تدعوه إلى أن يقرض ماله اشتركاً منه في الجماعات المالية الكبرى، التي تخرج المشروعات المنتجة العظيمة. وكان يرى أن هذا القول في علم الاقتصاد، تؤيده دلائل الواقع كلها. لكنه كان لا يستطيع أن ينسى أن "الله" قد أحل البيع و"حرم الربا". وكان لا يستطيع أن يوفق بين الأمرين. فقصد يوماً إلى ناظر المدرسة ـ وكان ذاك هو الأستاذ الفرنسي "لامبير" ـ أفضى إليه بما يشغله: "الربا حلال في الاقتصاد السياسي، حرام في الشريعة الإسلامية، وحين تدرس الشريعة الإسلامية، لا تفكر في الاقتصاد السياسي!! لكن هذه الإجابة لم تقنعه. وكاد يذكر حين سمعها إجابة ذلك الشيخ الأزهري له منذ شهور، على ما بينه وبين الأستاذ "لامبير" من فارق في طريقة التعبير، ومظهر الإشفاق على الحيرة الناشئة.

وجرفت فتانا اعتبارات "التحضير للامتحان" والانتقال إلى السنة الثانية والتحضير للامتحان من جديد والانتقال إلى السنة الثالثة. وقامت في الوقت نفسه فكرة "الجامعة المصرية" وإرسالياتها، فكان صاحبنا بين من اختيروا للبعثة الأولى. وقصد إلى باريس، يتم فيها دراسته. وهناك أمضى السنة الأولى في الاستعداد لإجازة الليسانس، ولاستكمال ما أحس به من نقص في الثقافة العامة. وحلت السنة الثانية فوجد أمامه متسعاً من الوقت يسمح له بأن يحضر في جامعة باريس شيئاً آخر غير ما يدرس في كلية الحقوق. وقصد إلى "السوربون" مدفوعاً بحب الاستطلاع وبحب غيره أيضاً ـ ليس المقام مقام عرض له ـ وكتب له أن حضر ثلاثة سنوات متوالية محاضرات الأستاذ الأعظم "دوركايم" في "علم الاجتماع". وكان الأستاذ "دوركايم" ـ خلد ذكره! ـ من أساطين "الواقعيين"، واثبات "العقليين"، فكان من نتيجة توفره على حضور محاضراته بدقة، واستساغة، أن انطبعت في ذهنه طرائق تفكير الأستاذ، وتحليله وتدليله، وكان من نتيجة انطباع هذه الطرائق ـ التي لم يذكر خلال شرحها وتقديمها اسم "الله" إلا نادراً، واسم "الدين" إلا محترماً مجلاً، على اعتبار أنه حادث "عمراني" له قدره "التاريخي" ـ أن أصبح فتانا، عن طريق الاقتناع العقلي الثقافي، يؤمن بالعلم وبالعلم وحده، مع اعترافه بضيق الدائرة التي يبسط عليها العلم سلطانه، ومع اعترافه بأن جميع الحقائق العلمية نسبية، فهي معرضة لأن تتغير بتغير الأصول الأولى التي تقدم عليها، ومع تقريره أن العلم ليس محتوماً أن يعادي الدين، ويحمل عليه حملاً، وإن كان حتماً عليه ألا يأخذ إلا بنتائج الأبحاث التي تخضع للحس، ولوسائل الاستقصاء العلمي وحدها.

وعكف صاحبنا ـ إلى جانب حضوره محاضرات "دوركايم" العظيم ـ على قراءة مؤلفات العلامة البيولوجي "لودانتيك" أستاذ علم الحياة بالسوربون. وخرج من ذلك كله بأن "التدين" و "عدم التدين" إنما هما مسألة "عقيدة وإيمان"، يتوافر الاستعداد لهما في بعض النفوس، ولا يتوافر في البعض الآخر، ولا يحتملان تدليلاً على صحة أحدهما، وعدم صحة الآخر. فكما أن الدين لا يستطيع هو الآخر أن يتقدم بالأدلة القاطعة التي تثبت عدم وجوده. لكن للعلم ميداناً وللدين ميداناً، وجهود العقلاء يجب أن توجه في سبيل الفصل بين الميدانين، حتى لا يعرقل تداخلهما فضل الدين وفضل العلم معه.

وبعد فتلك حكاية "إيماني بالعلم وحده" أما آراء "دوركايم" وتعاليم "لودانتيك" التي كان لها جميعاً الأثر الأكبر في ذلك النوع من الإيمان فنرجو أن نوفق لأن ندلي ببحث في كليهما قريباً.

المجلة الجديدة، س1، مج1، ع2، القاهرة، أول دسمبر 1929