لا يقتصر الأمر على كون الرواية نوعا هجينا، أو تشكيلا من أجناس متعددة، ولا يتعلق بتقرير المتخصصين، حين اعتبروها نصا قابلا للتطور والتجدد باستمرار، إذ ترافق ذلك رغبة المؤلفين في إبداع ما يخرج عن الأطر الواضحة والمحدَّدة التي اتخذها أسلافهم مخططاتٍ لكتابتهم الروائية. واذا كانت تلك الميزة معروفة عن هذا النوع الأدبي، بل وشائعة معرفتها، فإن الأمر الآخر، المثير للدهشة، والذي لا يتعلق بتوقيتاته الزمنية، ولا بتقريرات النقاد والمتخصصين في علم السرد، ويتميز – وإن كان من ضمن فنون التجريب والتطوير والتجديد والتحديث – بوجود أكثر من لعبة سردية - تسمى لعبة لما تتمتع به من جمال وإدهاش - أو طريقة كتابة، تخرج بالشكل الروائي عن المألوف، لكنها لا تخرج بالرواية عن الميزات الرئيسية للنوع الروائي، كما في النصوص التي ظهرت في العقود الأخيرة، المتحررة من بعض المقاييس العامة للرواية، تلك النصوص التي اعتمدت على آليات كتابة ليست شائعة، الى الحدَّ الذي جعل البعض يجنسها بـ (الميتاسرد)، أو أن يخرجها آخرون من نوع الرواية تماما.
في رواية (لعبة المغزل)([1])، الثالثة للاريتري (حجي جابر)([2])، ثمة خصوصية، تعتمد على استخدام أكثر من تقنية سردية حديثة. وقبل الخوض فيها، يتبادر السؤال الإشكالي: لماذا لم تكتفِ (لعبة المغزل) بتقنية واحدة؟ أو اثنتين؟ لماذا غادرت منطقة التقليد السردي الى فنون الحداثة وما بعدها بمثل هذا البون؟!
اذا كان عنوان الفصل الأول (هذا إسمه في الدراسة لا في الرواية) بمثابة بوح بسرّ القصة قبل الدخول في متنها: "الشريط الأخير"؛ وهو كافٍ لتأكيد أنه الفصل الأخير، فهل شكّل هذا البوح استباقا خرَقَ عذرية السرِّ السردي، أم زاد في تشوق المتلقي؟ وحين جاء تسلسل الفصول في رواية (أيوب)([3]) للعراقي هشام توفيق الركابي بالشكل المنطقي: 1- 2- 3... الخ، مناقضا لما جاء في متونها من انكسارات زمنية، استرجاعات واستباقات، تخص الفصل كله، فضلا عن القصص الصغيرة داخل الحكاية الأم، فإن الفصل الأول في رواية (لعبة المغزل) - استخدمت في الرواية لفظة الشريط بديلة عن لفظة الفصل، استعارة من الفلم، ربما لأن اختراع السينما وضّح لنا أن الذاكرة تسير مسار الفلم، صورا متسلسلة لأسباب منطقية وغيرها، زمنية وموضوعية وسببية، في جامع مادي مصنّع - جاء مصرِّحا بموقعه، لفظا أولا، ثم متنا مؤكِّدا لعنوانه، لأن البطلة ستموت فيه، فتنتهي الحكاية. وكأنه يعتمد الكشف والمصارحة لا الغموض والإيهام. لكن موت البطلة هذا، والنهاية التراجيدية - مثل كلاسيكيات المسرح والملاحم - هذه، ربما كانت سببا لإكمال قراءة الرواية، هذه النهاية المأساوية هي المشوق لقراءتها!
لم تحمل بطلة الرواية إسما، مثلما حصل مع شخوص الرواية كلهم، هي الفتاة، وثمة جدتها، ومسؤول قسمها/ عملها في الدائرة، والطبيب، ومدير الدائرة، وأكثر من موظف – مثل السيد الرئيس - كانوا بلا أدوار سردية. كلهم كانوا بلا أسماء، ولا حتى رموز كالحروف – (ك) مثلا في رواية (القصر) لـ (كافكا) – ولا أسماء أرقام، بل بألقابهم العمرية أو الوظيفية.
وإن لم تكن تلك لعبة مهمة، مع أنها لعبة تؤكد فرادتها، فإن اعتماد الرواية على مجموعة غير قليلة من الوثائق، سوف تجعل منها رواية وثائق، تنضم الى جنس الرواية الميتاسردية، وهي لعبة ليست جديدة، فقد توفرت عليها روايات غير قليلة. لكنها – هنا - لعبة مركبة، تعتمد محور الرواية، والسرد عامة، وهو الحكاية، واستثمارها، من خلال إعادة صوغ الحكايات الواردة في الوثائق. هذا ما قامت به البطلة، للتخلص من مللها العام ومللها الوظيفي، فضلا عن تركيب بيني، هو تعلمها الحكي من جَدتها وحتى تعلقها به. كأنه إقرار، أو تأكيد، أو غوص في عمق النوع السردي: الحكاية، وتوالدها، وتطورها، واستثمارها، إغراق القارئ في بحر من الحكايات، أليس هذا ما يبحث عنه، أو ما يرجوه المتلقي في النص السردي؟ ولكن بشكل غير تقليدي، ذلك الذي يعتمد على تأثيث الحكاية الأم بمجموعة من الحكايات الاسترجاعية، تتعلق بشخوص وموضوعات الحكاية الأولى. الأمر ليس كذلك تماما، وإن كنا سنكتشف لاحقا أن الأمر لا يبتعد عن ذلك تماما، فالقصص المستلة من الوثائق لا تتعلق بشخوص الرواية، ليست هي قصص البطلة نفسها، ولا الطبيب أو رئيس القسم أو مدير الدائرة، إنها قصص في وثائق، اطلعت البطلة عليها من خلال عملها الوظيفي، فنلاحظ انتقال الوظيفة من خارج النص: العمل، الى داخله: الحكي. هذا هو الاستثمار القائم على التداخل، والتواشج بين وظائف يجمع بينها السرد!
كما أن قصص الوثائق ستشكل مادة خام للعبة أخرى، فضلا عما ذكر سابقا، حين تخضع النصوص الأصلية الى تصحيح أو أكثر. فقد رأت البطلة أن تنقل القصص وتعيد كتابتها برؤيتها هي، تخلصا من الملل، ورغبة في القيام بدور الراوي/ المؤلف، تجاوزا لدور الموِّثق، وللتعبير عن تبدل وجهات النظر وما يؤدي اليه من تغيير في المتون، تغييرات جذرية، لكن ليست كلية. هذه لعبة أخرى، أو اثنتان، حين يشير المتن السردي لرواية (لعبة المغزل) - العنوان يؤكد اللعب، ابتداء – الى تقنيات البحث في الوثائق وإعادة كتابتها، لأكثر من مرة، وبأكثر من رؤية، كما في قصة المطرب (ص70، 73، 74)، وغيرها، فضلا عن الإشارة الى التاريخ، وأسِّ تدوينه: من الوثيقة الى وجهة النظر. إحدى هاتين اللعبتين هي وجود راوٍ مجهول، هو كاتب الوثائق، وهو ليس واحدا، فتعدد الوثائق، واختلاف أنواعها، يشير الى وجود أكثر من راو/ كاتب لها، فضلا عن وجود أكثر من مصحح، يغير، ويشطب ويضيف، حسب وجهة نظره، يدل على ذلك وجود أكثر من خط (كتابة يدوية)، واحد من تلك الخطوط كان جميلا، مما أجَّج فضول البطلة للتعرف على صاحبه.
وهنا، وفي كثير من الروايات، وكثير جدا من القراءات التي يشوبها الالتباس، نلاحظ اندماج السيرة بالرواية، والحكي الروائي بالسيري، واذا كان سؤال القارئ مبكرا فإن جواب الكاتب جاء – في نهاية الرواية - متأخرا، مثيرا سؤالا آخر: هل بالإمكان وضع الفصل الأخير، الذي يحمل عنوانا مختلفا عن عناوين الفصول الموحدة الألفاظ، والمتسلسلة الأرقام، تسلسلين، أحدهما للشريط، والثاني لأجزائه (الشريط الأول.. الشريط الثاني، و(2) و (3) الخ)، السؤال: هل يمكن وضع الفصل الأخير الذي يحمل عنوان "كنز الطبيب" فصلا أولا، ووضع "الشريط الأخير" الذي جاء فصلا أولا بدله؟ أي نقل الأول الى الأخير، ونقل الأخير الى الأول، أي الاستبدال، هل سيتسبب ذلك بخلل ما؟ وهل ستفقد اللعبة شروطها الفنية؟ أم إن ذلك سيستبدلها بلعبة أخرى؟ للقارئ أجوبته، كما في خيارات تبديل القصص في الرواية، وللمؤلف حجي جابر خياراته في روايات أخرى، مثيرة، بالانتظار.
لم يعد اندماج السيري بالروائي مشكلة فنية؛ إذ حلها كثير من مؤلفي الروايات ونقادها، فالأمر لا يتعلق بالبحث عن ذات المؤلف، بقدر ما يتعلق بفنون القص، وهنا، وفيما يتعلق بالأمرين، فإن ضمير الحكي هو الإشكال، هو سبب وجود الآصرة أو انعدامها، وهو سبب تقريب المسافة وتبعيدها، كما أشارت الرواية الى ذلك. استخدم المؤلف ضمير الغائب، ولكنه يحكي من خلال البطلة: "هذه الحياة مملة أكثر مما ينبغي.. هكذا حدثت نفسها" (الرواية ص15)، إشارة الراوي الى الحوار الذاتي، وعدم وجود أقواس التنصيص، تختلف عن: "لكنها عادت وفكرت أنها بذلك ستغرق مجددا في الملل" (ص15)، الذي هو حوار ذاتي مسرّد، يختلف عن: "صحيح أنها لم تكن ترغب في العمل" (ص15)، وهو مشاعر أو أفكار مسرودة، تمثل المنطقة الوسطى بين الحوار الذاتي المسرّد وبين الراوي العليم الذي سيمتلك اختلافات كثيرة عما سبق: "شعرت أن الوظيفة الجديدة" (ص15)!! إلا اذا أبقينا - بقصدية القراءة – الحكي منبثقا من البطلة على لسان الراوي. هذا شيء قريب من تيار الوعي، بدون الإنكسارات، والإنقطاعات، بل بالإستمرار المنطقي، المسبَّب زمنيا وموضوعيا. إن الحكي بضمير الغائب يبعد الرواية عن صفتها السيرية، لكن الرواية سيرة شخصية للبطلة، سواءً أكتبتها هي أم مؤلف مجهول، على الرغم من إضافة فصل يوضح ذلك؛ لإلقاء الضوء أو لتعتيم المتون/ الألعاب السردية.
اللعبة الأخيرة في الرواية، هي لعبة الكشف عن أصل النص، لعبة الميتاسرد، فالنص السابق عبارة عن كلام مسجل على شرائط (ص205)، وهي نوع آخر من الوثائق - الوثائق المخطوطة قديمة جدا، مازالت تتواجد في المجتمعات المفتقدة للثقافة الرقمية، وحتى الوثائق المسجلة على أشرطة لم تعد حديثة زمنيا، فثمة تسجيل رقمي، بواسطة مسجل صوت يحتوي على ذاكرة/ رام، وبواسطة الكاميرا والموبايل - قام الطبيب بنقله الى الورق بالترتيب الذي وضعته الفتاة، لكنه - هنا الكشف المتأخر للعبة: تحويل اتجاه السرد عكسيا - استبدل ضمير المتكلم بضمير الغائب؛ كي لا يختلط الأمر بين الطبيب والفتاة/ البطلة. لم يكن هذا الاستبدال لعبة مفردة، بل مركبة، فحين كان المفروض أن تُكتب الرواية بضمير المتكلم/ المتحدث، لأنها رواية سيرية (سيرة خيالية فنية)، ولأن أغلب الحكي تعبير عن أفكار ومشاعر البطلة، ولأن الأحداث لا تكون إلا بوجودها، هذا هو الفرق السردي، فالرواية مجموعة أبطال يشاركون في أحداث، مجموعين ومفردين، وعلى مجموعات مختلفة، يقوم الراوي العليم برصدها كلها، فالراوي هنا لا يحكي عن حدث إلا والفتاة هي بطلته. كان الأمر في البداية هكذا، حكياً - وليس كتابةً، هذه لعبة أخرى كشف عنها الفصل الأخير المفبرك – بضمير المتكلم، حولَّه الطبيب الى كتابة بضمير الغائب.
ذلك كله عبارة عن تقنيات مقصودة، فلم يعد الحدث، أو الحكاية السبب الوحيد لشدِّ المتلقي واستمرار قراءته، إنه بحاجة الى فنون الحكي، وربما في السينما تقنيات أخرى أكثر، مثل التي ظهرت في العناوين الداخلية للرواية: شريط، في عملية سباق فني بين الرواية والسينما. لم يعد الحدث كافيا لخلق رواية، إن الفنون السردية، مثل هذه الألعاب، وغيرها، هي التي توفر للقارئ رغبة القراءة وتحافظ عليه من الملل، ومن الانتقال الى منافِسات كثيرات، أهمها الستلايت، بقنواته الألفية، والانترنيت بفضائه غير المحدود.
أهم الألعاب:
يُحتَمل وجود ألعاب أخرى في رواية (لعبة المغزل)، فضلا عن ما رصد هنا:
- البوح بسرّ القصة.
- الكشف والمصارحة بدلا عن الغموض والإيهام.
- أبطال الرواية بلا أسماء.
- اللعبة المركبة من:
- الوثائق.
- إعادة كتابتها، بعد أن تعلمت الراوية الحكي من جدتها.
- انتقال الوظيفة من خارج النص الى داخله.
- إعادة الكتابة، برؤية جديدة.
- المفارقة في الحكي، على أساس الضمير: ضمير الغائب، لرواية سيرية (سيرة روائية فنية).
- اللعبة الميتاسردية في الكشف عن أصل النص.
- تحويل اتجاه السرد عكسيا، بالاعتماد على استبدال ضمير الحكي أولا، والكشف المتأخر عن اللعبة (الميتاسردية) ثانيا.
- الاستبدال، ثلاث مرات:
- لفظة (شريط) بدلا عن لفظة (فصل)، ليس استبدالا لغويا محضا، بل هو استبدال تقني، لم يُستثمر تماما.
- الفصل (الشريط) الأخير جاء بدل الفصل الأول.
- ضمير المتكلم بضمير الغائب، في لعبة مركبة من السابق، وكون الأمر في البداية حكيا.
هذه الألعاب هي التي تم رصدها، مع احتمال وجود أخرى استعصت على الرصد.
الإحالات:
([1]) لعبة المِغزل، حجي جابر، المركز الثقافي العربي، 2015.
([2]) سَمراويت، حجي جابر، المركز الثقافي العربي، ط2، 2012. مرسى فاطمة، حجي جابر، المركز الثقافي العربي، 2013.
([3]) أيوب، هشام توفيق الركابي، دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد، 2000.