صفقة القرن اقتصادٌ مذلٌ ورفاهيةٌ مخزيةٌ:
يبدو أن صفقة القرن الأمريكية للسلام في منطقة الشرق الأوسط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، باتت تتكشف تفاصيلها يوماً بعد آخر، ويماط اللثام عن بعض بنودها الأساسية، رغم حالة الغموض العامة التي كانت تحيط بها، والسرية التي حرص عليها صناعُها، إلا أن الحديث عن بعض تفاصيلها لم يعد سراً، كما لم يعد حكراً على قادة ورؤساء وملوك الدول العربية، فضلاً عن الحكومة الإسرائيلية، التي تتلقى تفاصيل دقيقة من الإدارة الأمريكية، وتتدخل بصورةٍ مباشرةٍ في تعديل بعض بنودها أو تصويب جوانب فيها، حيث بدأت داخلياً تتحضر إلى هذه المرحلة، وتعد العدة السياسية والأمنية والاقتصادية للتعامل معها والاستفادة منها.
لا يمكن أن تتعارض المبادرة مع الأحلام والمطامع الإسرائيلية، أو تختلف مع مفهومهم للسلام الذي يريدونه مع العرب عموماً، قبل أن يكون مع الفلسطينيين أصحاب القضية والشأن. خاصةً إذا علمنا أن منسق الصفقة وحامل لوائها، والذي نسج خيوطها وحاك أثوابها، وما زال يجوب المنطقة مروجاً لها وداعياً إليها، ومبشراً بالمستقبل الرغيد في ظلها، إنما هو صهر الرئيس ترامب، وهو اليهودي المعروف، والذي ساق وراءه زوجته إيفانكا فغدت يهودية الديانة مثله، فشكلا في البيت الأبيض حصناً يحمي الدولة العبرية، ويحول دون تعرضها لأي خطر، وبذا يستبعد أن يضع اليهوديان ومن معهما من أقطاب اليمين الأمريكي المتطرف، خطةً تضر بكيانهم، وتتعارض مع أحلامهم، ولا يوافق عليها زعماؤهم.
تقوم صفقة القرن الذي يتطلع إليها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعقلية رجل الأعمال، ويديرها كتاجرٍ يبحث عن الربح ويهرب من الخسارة، أساساً على عامل الاقتصاد، حيث يتطلع إلى خلق حالة من الانتعاش والرفاهية في المنطقة كلها، تكون إسرائيل نواتها وفي القلب منها، تحركها وتنظمها وتتحكم في خيوطها، وتضع القوانين الناظمة لها والقيود الضابطة لأدائها، حيث يتوقع بعض الخبراء والمعنيين أن تعود الصفقة الموعودة على الاقتصاد الإسرائيلي خلال السنوات الخمس القادمة بما يزيد عن 18 مليار دولار، فضلاً عن خلق حالة تنافسٍ كبيرة بين كبار المستثمرين الدوليين والشركات العابرة للقارات، الذين كانوا يهربون قديماً من المنطقة بسبب حالة عدم الاستقرار، والحروب المشتعلة دائماً، فضلاً عن المقاطعة العربية التي كانت تفرض قيوداً على بعض الشركات الدولية العملاقة، التي تحرص على الأسواق العربية، وتتطلع إلى عدم خسارتها، كونها أسواقاً استهلاكية نشطة، ومجتمعاتٍ ظهورية فاعلة، تبحث عن الجديد وتنشغل بالتبديل والتغيير والتجديد، الأمر الذي يساعد محركات الإنتاج العملاقة على مواصلة العمل وعدم التوقف.
لكن الذي يتطلع إليه رجل الأعمال الأمريكي الذي أصبح رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، ولكنه حمل معه إلى البيت الأبيض عقلية المستثمر وحسابات السوق المضارب، يتجاوز الشركات الدولية إلى استدرار رؤوس الأموال العربية، وهي رؤوس أموالٍ ضخمةٍ مكدسة في البنوك، أو معطلة ومجمدة فلا تشارك في عملية الاستثمار، ولا دور لها في تحريك عجلة الاقتصاد في المنطقة العربية وفلسطين، التي هي محل الصراع وقلب المواجهة وأساس التحدي الذي تقوم عليه الصفقة، ولهذا يريد أن يكون الاقتصاد معبراً للأمن، والرفاهية طريقاً للاستقرار، والرخاء وسيلةً للتنازل.
تهتم صفقة القرن الأمريكية بتعويض الفلسطينيين في مناطق السلطة الفلسطينية، على مستوى الأفراد والمجتمع، والبيئة والمدن والمناطق السكنية، وتعمل على خلق مشروع مارشال دولي، يضخ مليارات الدولارات في الأسواق الفلسطينية، ويخلق فرص عملٍ جديدةٍ لعشرات آلاف الخريجين والعاطلين عن العمل، وتخلق مشاريع إنمائية وإنتاجية تتيح الفرصة لتشغيل آلاف العمال الذي استغنت عنهم إسرائيل في السنوات الأخيرة، وستكون الدولة العربية عماد أساس هذا المشروع، فضلاً عن الممولين الكبار لوكالة تشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، الذين سيواصلون تقديم الدعم إلى الفلسطينيين مباشرة، وليس إلى الوكالة الدولية التي آن الأوان لإعلان تفكيكها والاستغناء عنها وإنهاء الخدمات التي تقدمها.
وستطلب الإدارة الأمريكية من الحكومة الإسرائيلية تسهيل التبادل التجاري مع الفلسطينيين، والموافقة على إنشاء ممراتٍ دوليةٍ تفعّل الاقتصاد وتخفف من معاناة السكان، حيث أن الصفقة العتيدة تحمل خططاً لبناء مطاراتٍ وموانئ، وفق شروطٍ أمنيةٍ ضابطةٍ وضماناتٍ إسرائيلية كبيرة، لكنها ستكون ذات نفعٍ كبيرٍ للفلسطينيين، وستدر عليهم أموالاً ضخمة تستخدم في تحريك عجلة الاقتصاد المحلية، وتساهم في النهوض بظروف المواطنين الفلسطينيين المعيشية والاجتماعية، ليشعروا بجدية المشروع، وأنه يعود بالنفع الكبير فعلياً عليهم، وأنه يساهم في تغيير البنية الاجتماعية والقوانين الاقتصادية المحلية، خاصةً في قطاع غزة، الذي يجب أن يطاله جزءُ كبيرٌ من الصفقة، التي ستهتم به بصورةٍ أكبرٍ، كونه يشكل بؤرة التوتر الدائمة والقنبلة السكانية القابلة للانفجار في أي لحظة، مما يفشل المشروع جوهره، ويعيد المنطقة كلها إلى حالة الحرب المستدامة.
لكن الصفقة المغرية مادياً، والمثيرة للجدل اقتصادياً، والمُروجُ لها عالمياً، والمدعومة دولياً، قد لا تمر بسهولة، ومن المستبعد أن يوافق عليها الفلسطينيون ويقبلوا بها، فهي في المقابل تجردهم من حقهم في الدولة، وتحرمهم من عاصمتهم المقدسية، وتشطب حقهم في العودة، وتفرض قوانين دولية لتوطين الفلسطينيين حيث يكونون، تمهيداً لمنحهم جنسيات الدول التي يقطنون فيها، وإشراكهم في الحياة الاقتصادية والسياسية ليكونوا جزءاً طبيعياً من النسيج السكاني للدولة، على أمل أن تتخلى الأجيال الحالية أو القادمة عن حلم العودة إلى فلسطين، واستعادة الحقوق والأملاك التي كانت لآبائهم وأجدادهم فيها.
فهل سيقبل الفلسطينيون بما سيملى عليهم وما يخطط لهم، وسيخضعون للإرادة الدولية ويصغون السمع للعصا الأمريكية، وسيوقعون خوفاً ورهبةً على اتفاقيةٍ جديدةٍ تفوق اتفاقية أوسلو في سوئها، مخافة عقوباتٍ أمريكية جديدةٍ، أو ضغوطٍ دوليةٍ خانقةٍ، وحرمانٍ عربي قاسي، وجفاءٍ من المحيط مذلٍ، وحصارٍ من الجوار مهينٍ، أم أنه لن يكون لهم رأيٌ أو قرارٌ، ولن يستشاروا في الأمر ولن يشاركوا في التوقيع، وسيلزمون بقوة الأمر الواقع وحقيقة الوقائع الجديدة على الأرض.
أم أنهم يملكون القوة لرفضها وعندهم القدرة لتعطيلها، وسيوحدون في سبيل إفشالها صفهم، وسيجمعون كلمتهم، وسينسقون جهودهم وسيعدون للمواجهة عدتهم، ولن يخضعوا لبريق الذهب الزائف، ولا لرفاهية الدولار الغادر، ولا للرخاء الاقتصادي الذي يفقد الكرامة ويهين النفس، ولا لبنيانٍ عالي يمرغ بالتراب أنوفهم، ولا لحريةٍ تفقدهم وطنيتهم، ولا لوعودٍ كالسراب تجردهم من قوتهم وتحرمهم من مستقبلهم، وأنه ستكون لهم كلمتهم المدوية كطلقة، وإرادتهم الجبارة كبركان، وثورتهم المهيبة كزلزالٍ، وفعلهم الجارف كسيلٍ، ومقاومتهم المباركة كغيثٍ ستؤتي بإذن الله أكلها حريةً وعودةً وكرامةً، ونصراً ودولةً ووطناً.
القدس مدينةٌ فلسطينيةٌ عربيةُ الوجه إسلاميةُ الحضارة
لا نصاب باليأسِ والإحباطِ وبالقنوط والعدمِ، ولا نُسلمُ ونستسلمُ ونخضعُ ونخنعُ، ولا نقبل ونعترف ونقر ونوافق، فما حدث ليس قدراً محتوماً ولا كتاباً مسطوراً، ولا قلماً يكتب التاريخ ويرسم المستقبل، إنما هي إعلانات مأفونٍ وتصريحاتُ مجنون، وأحلام سفيهٍ وتصرفات أهوجٍ، وأقوالُ رجلٍ يظن أنه ملك الدنيا وحكم العالم، وامتلك الكون وسيطر على الأرض، وأنه بجرة قلم أو بتغريدةٍ على التويتر، أو بصفقةٍ في السوق أو بمغامرةٍ في البورصة، يستطيع أن يبدل صفحات التاريخ وأن يغير معالم الجغرافيا، وأن يستبدل واقعاً ويثبت آخر، وأنه بهوسه الغريب يستطيع أن يُنسي الفلسطينيين حقهم، وأن يجرد المسلمين من قدسهم، وأن يشطبها من قاموسهم ويلغيها من كتابهم.
نسي هذا الأحمق الأهوج أن القدس آيةٌ في كتاب الله، وأنها بعضٌ من القرآن الكريم، يتلوها المسلمون آناء الليل وأطراف النهار، يقرأونها في صلاتهم ويتهجدون بها في قيامهم، ويتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بذكرها، ويحفظونها صغاراً ولا ينسونها كباراً، ويورثونها لأنفسهم أجداداً لأحفادِ، وأنها مسرى رسولهم من البيت الحرام، ومعراج نبيهم إلى السموات العلى، وقد باركها الله عز وجل لهم وفيما حولها من أجلهم، وجعل فيها طائفةً من أمته على الحق ظاهرين ولعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا ما أصابهم من اللأواء في سبيله، وهم على العهد ماضون، يحافظون على قدسهم، ويرابطون في أقصاهم، ويدافعون عن مسجدهم، الذي هو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وأحد ثلاثة مساجدٍ يشد إليها الرحال، ولهذا فإنهم عنه وعن القدس يدافعون، وفي سبيلهما يضحون بالأرواح والمهج وبالأموال والولد، وبهما لا يفرطون، ولهما مهما طال الزمان لا ينسون ولا يهملون.
نسي هذا الهائج كثورٍ الذي أطلق إلى ساحة مصارعةٍ يجهلها، فبات يتخبط في نفسه، ويضرب ضرب هوجاء في الفضاء عله يصيب خصمه وينال من مصارعه، أن القدس عربية الأثواب والأسمال والمعالم والأسماء، وأنها عربية الحرف واللسان، وعربية البنيان والعمران، فتحها عمرٌ، وحررها صلاح، وسكن فيها عليٌ وعمرَّها عثمان، ومشى فوق ترابها شدادٌ وأبو عبيدة، وصال فيها عبادة وسلامة وأبو طلاسة، وبقي فيها المسلمون عهوداً، وشد إليها العربُ الرحالَ عمراً، فكانت لهم فيها حاميةً وأبواباً، وأقواتاً وأحباساً، ما زالت إلى اليوم تحمل اسمهم وتخلد ذكرهم، وتبقي رغماً عن الاحتلال آثارهم.
لو قدر لهذا المفتون بنفسه المغرور بقوته أن ينبش تراب الأرض، وأن يستخرج أجداث الأموات من الآباء والأجداد الذين سبقونا، وأن يحلل بقايا الرفات والعظام، فإنه سيجد أن أديم هذه الأرض هو من تلكم الأجساد الطاهرة المؤمنة، المسلمة الموحدة، وأن تربتها تحتضن رفاتهم، ويسكنها أبطالهم، ويصبغها بالعروبة والإسلام رجالهم، وأن ترابها رطبٌ بدمائهم، ومعبقٍ بطهرهم، وفيه بقايا من آثارهم، والكثير من علاماتهم، فهي الأرض المقدسة التي فتحوها بعهدتهم العمرية، وهي تلك التي حرروها من الاحتلال الصليبي بالدماء الزكية، وهي نفسها التي طهروها من الغزو المغولي، فبقيت عربية الوجه إسلامية الهوية والحضارة.
ليس أدل تشبيهاً لهذا الأرعن الأمريكي، المأفون في عقله والفاسد في فكره، ولا أدق وصفاً له من قول الله عز وجل "إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا..." وبذات حمق الكفار وعنادهم القديم، وجهلهم وسفههم المعروف، قال: إنها أورشاليم عاصمة إسرائيل الأبدية الموحدة، وبها اعترف عاصمةً، وفيها أعلن أنه سيبني سفارة بلاده، ومنها ستزاول عملها ونشاطها، وقد ظن في نفسه جهلاً أنه البطل دون رؤساء أمريكا السابقين، وأنه الأكثر شجاعة والأصدق وعداً، وما علم أنه سيبوء بالخسران، وسيجد نفسه مضطراً للاذعان إلى الحق، والقبول بالعدل، والنكوص عن الوعد والنكوص على العقب، وسحب الاعتراف وإبداء الندم، وسيشهد التاريخ على جهله، وستذكر الأيام مدى سخفه وقلةِ عقله، ونقص خبرته وضحالة تجربته.
لا تنسوا أيها العرب والمسلمون، وأيها الفلسطينيون في الوطن والشتات، أن فلسطين كلها محتلةٌ أرضها، ومغتصبةٌ حقوقها، ومنتهكةٌ مقدساتها، ومنهوبةٌ أملاكها، وأهلها منها مطرودون وفيها لاجئون وعنها مبعدون، وقد اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بالكيان الصهيوني عند تأسيسه في العام 1948، بل كانت أول دولةٍ تعترف به، ولم تكتفِ بالاعتراف به وتشريع وجوده، بل زودته بالمال والسلاح، وبالخبرة والرجال، والعلوم والتقنية الحديثة، ليبقى متفوقاً، ويستمر قوياً، ولكن اعترافها الأول به لم يلغِ عروبة القدس، ولم يشطب هويتها الإسلامية ولم يغير معالمها الأصيلة، رغم مساعيه المحمومة ومحاولاته المجنونة، وإجراءاته التهويدية التي لا تتوقف، إلا أن القدس تبقى عصيةً على تهويدهم، وترفض أبداً تغريبهم، وتصر على أن يبقى الضاد لسانها، وأن تصدح بنداءات الله أكبر مساجدها، وتتردد فوق قبابه وفي جنباته تلاوةً وتجويداً كلماتُ ربها وآياتُ قرآنها، ذكراً حسناً خالداً أبداً وعد الصدق إلى يوم القيامة.
ترامب يدعو العرب المسلمين إلى الهدوء والتعقل
بكل وقاحةٍ وبجاحةٍ وصفاقةٍ وقلة أدبٍ، وانعدام ذوقٍ وبلادة فكرٍ وسوء خلقٍ، وباستخفافٍ بادي واستهبالٍ ظاهرٍ، أو باستعباطٍ مقصودٍ وغباءٍ متعمد، يطالب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الشعوب العربية والإسلامية بالتعقل والهدوء، والكف عن التظاهرات والمسيرات، والامتناع عن الشجب والرفض والاستنكار، والتراجع عن الثورة والغضب، ووقف الحملات التحريضية وتعبئة الجماهير الشعبية، والعودة بالمواطنين إلى الحياة العادية، بعد هالته مشاهد التظاهرات والمسيرات، وصور الرفض والاستنكار، التي عمت جميع العواصم العربية والغربية، ولم تستثن منها العاصمة الأمريكية واشنطن، التي شهدت بدورها مظاهراتٍ واعتصاماتٍ منددة بالقرار، ومتضامنة مع الشعب الفلسطيني، ومؤيدةً حقه في القدس مدينةً وعاصمةً لهم.
دعا ترامب الشعوب العربية والإسلامية إلى تفهم مبرراته والاطمئنان إلى دوافعه، وعدم الشك في نواياه أو الطعن في مقاصده، فهو يتطلع إلى السلام الشامل بين العرب والإسرائيليين، ويريد حلاً نهائياً للقضية الفلسطينية، وأكد أن مساعده كوشنير وآخرون سيقومون في الأيام القليلة القادمة بالكشف عن مشروعه للسلام وتصوره للتسوية في المنطقة، وعندها سيدرك الفلسطينيون أنه لم يخدعهم ولم ينقلب عليهم، ولم يصطف إلى جانب الكيان الصهيوني، ولم يعطهم حقاً ليس لهم، القدس التي هي حقٌ لغيرهم وعاصمةٌ لسواهم، بل إن ما قام به يخدم السلام ويفيد المنطقة ويحقق الأمن والاستقرار لسكانها.
ترامب الذي يعيب على الإدارات الأمريكية السابقة، ويتهمها بالتقصير وسوء الإدارة، والإهمال وعدم المبادرة، لأنها لم تقم بهذه الخطوة السيادية المشروعة منذ سنواتٍ، يريد بكل بساطةٍ ويسرٍ من العرب والمسلمين أن يصدقوه، وأن يسلموا بحسن نيته وصفاء سريرته، وشرعية مقصده وقانونية خطوته، ويتمنى عليهم ألا يتهمونه بسوء القصد وعدوانية القرار، ولا بالانحياز الأعمى إلى الكيان الصهيوني، ولا بالجهل التام بقضايا الشرق الأوسط، ويدعي أنه بخطوته هذه إنما يريد الخير للفلسطينيين والسلام للعرب والاستقرار للمنطقة، وعلى العرب والمسلمين أن يفكروا جلياً في قراره، وأن يدركوا أبعاده، فهو قرارٌ صائبٌ يصب في صلب العملية السلمية ويتناغم معها، ولا يتعارض مع مبادئ السلام، ولا يسبق العملية السلمية، ولا يفرض حلولاً مسبقةً، ولا يستبق بوقائع جديدةٍ يصعب تجاوزها خاصةً إذا تم البناء عليها.
لست أدري هل يكذب علينا هذا الرجل أم يكذب على نفسه، وهو يحاول أن يوهم الآخرين بما يرى ويعتقد، أتراه يصدق نفسه عندما يبرر فعلته النكراء بهذه الأكاذيب الشنيعة، أم أنه يستهزئ بالعرب والمسلمين ويستخف بهم وبعقولهم، ولا يعنيه أمرهم ولا يهتم لشأنهم، ولا يتوقف عند احتجاجهم، ولا يحسب حساباً لمعارضتهم، ولا يأبه بمظاهراتهم واعتصاماتهم، ويريد أن يقنعنا أنه يقف إلى جانبنا، ويساندنا في حقنا، ويحرص على مستقبلنا، ويتطلع إلى السلام من أجلنا، ويفترض فينا البراءة والبساطة بما يكفي لنصدقه، ويريدنا وقد صدقناه أن ندافع عنه ونرد الاتهامات التي تشاع حوله، وأن نبشر بخطته ونبارك قراره.
ألا يدري ترامب أنه بقراره الطائش هذا قد أصاب الأمة العربية والإسلامية في صميم قلبها، واستهدف روحها، وطعنها في أعز مقدساتها، واعتدى على درة مساجدها وعروس مدائنها، وألحق نسبها الشريف بأخس أمةٍ وأحط شعبٍ، ولوث باعترافه المشؤوم شرفها الرفيع، وأهان كرامتها المصونة، وهي العزيزة الكريمة، الأبية الرفيعة النسب العالية المقام، التي تمتد جذورها في عمق التاريخ، وترسم صفحاتها الناصعة على هام الزمان آياتٍ من العز والفخار، يتشرف بها المسلمون، ويفخر بانتسابهم إليها العربُ، إذ كانت لهم في زمانهم عاصمةً ومنارةً، بها يُعرفون وإليها ينتسبون، وبمنارة مساجدها يهتدون.
كيف يمكن لهذا الدعيِّ الغبي أن يطلب من العرب والمسلمين أن يتقبلوا هذه الجريمة، وأن يغضوا الطرف عنها، وألا يتهموا مرتكبها بالجنون والسفه، اللهم إلا إذا كان قد اتفق مع البعض، وتآمر مع آخرين، وعقد النية بالتعاون مع بعض الخائنين للأمانة، المفرطين في الوعد، والزاهدين في القدس، فاطمئن إلى أن قراره سيمضي، وأن مفاعليه ستتحقق، وأن غضب الشارع العربي والإسلامي بفضل المتعاونين معه سيهدأ، وستخبو ثورته وستتراجع انتفاضته، وسيسلم بعجزه عن مواجهته، وعدم القدرة على منعه، وسيقبل في نهاية المطاف بالأمر الواقع، خاصةً إذا قبلت بالأمر الحكوماتُ، ووافق عليه الملوكُ والرؤساءُ والقادةُ والأمراءُ.
أخطأ الرئيس الأمريكي بالتأكيد قراءة الشراع العربي والإسلامي، وخانه معاونوه ومستشاروه عندما لم يخبروه أن شعوب هذه الأمة حية، وأنها حرة أبية عزيزة، لا تنام على الضيم، ولا تسكت على الذل، ولا يطول مقامها على الخسف، ولا تقبل المساس بدينها، ولا الاعتداء على مقدساتها، أو الإساءة إلى رموزها وتدنيس مساجدها، فكيف إذا جردها عدوها من مسجدها الأقصى، وحرمها من مدينتها المقدسة، حينها لن تستكين الشعوب ولن تهدأ، ولن تصغي السمع لأحد ولن تخضع، ولن تترك العدو ينعم بالمنحة، ولا أمريكا بنشوة القرار، لكن أعداء الأمة أغبياء لا يتعلمون، وسفهاء لا يعقلون، وقد أصابهم مسٌ من الجنون فخرفوا، والكثير من الغرور فأخطأوا، وبعض الغطرسة فظلموا، فهل توقظهم الأحداث، وتنبههم من غفلتهم ردةُ فعل الشعوب الغاضبة وثورتها النابضة.
القدسُ تجمعُ وتوحدُ وفلسطينُ تتصدرُ وتتقدمُ
أراد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن يسلخ مدينة القدس عن أمتها، وأن يقصيها عن عالمها، وأن يحرم شعبها منها، وأن يغربها عن أهلها ومحيطها، وأن ينسبها إلى غير أصحابها عنوةً، وأن يمنحها لمغتصبيها ظلماً، وأن يشرع لمحتليها أرضها، وأن يدنس بأقدامهم مقدساتها، وأن يعترف بحقهم فيها عدواناً. ولكن الله أراد شيئاً آخر، وحقق للأمة مراداً مخالفاً، رد به كيد أمريكا إلى نحرها، وأغاظ به قادتها وأزعج إدارتها، وخلط أوراقهم وشتت أفكارهم، وبدل أولوياتهم، إذ صدمتهم ردود الفعل الشعبية العربية والإسلامية، إلى جانب الموقف الشعبي الفلسطيني العنيد، الذي انبرى للدفاع عن قدسه والذود عن حياض بلاده، وهو الذي خرج للتو من معركة البوابات الإلكترونية، التي أجبر فيها سلطات الاحتلال على التراجع والانكفاء، وتفكيك البوابات وإزالة الكاميرات، وهو اليوم أشد عزماً وأقوى مضاءً في الدفاع عن شرف مدينة القدس وطهرها، ولن يفاجئ الأمريكيون وغيرهم بهذا الشعب العظيم، إذ لن يفت قرارهم الفاسد في عضده، ولن يضعف إرادته، ولن يدفعه إلى اليأس والقنوط والإحباط.
أما شعوب الأمة العربية والإسلامية، الذين لا نستثني منهم شعباً ولا ننسى دولةً، بدءاً من نواكشوط وصولاً إلى جاكرتا، ومروراً بعواصم أفريقية وأوروبية أخرى، فقد خرجوا في مظاهراتٍ عارمةٍ ومسيراتٍ جرارةٍ في كل عواصمها ومدنها، وفي جامعاتها ومساجدها، وفي ميادينها العامة وساحاتها الكبرى، وأمام السفارات الأمريكية وعلى بوابات المؤسسات الأممية، وهم على قلب رجلٍ واحد، متفقين في الموقف وموحدين في الرأي، يرفعون شعاراً واحداً ويعلنون موقفاً موحداً، القدس عاصمة فلسطين الأبدية، ولسان حالهم يقول لترامب وللعالم أجمع، أن هذه المدينة المقدسة ملكٌ للعرب والمسلمين جميعاً قبل أن تكون ملكاً للشعب الفلسطيني، ولهذا فهي تستحق منهم التضحية والفداء، وتوجب عليهم الدفاع والحماية.
ما كان ترامب وزبانيته والعصابة التي تقف معه تؤيده وتشير عليه، وتحرضه وتستعجله لإعلان قراره، تتوقع أن تكون ردة الفعل العربية والإسلامية بهذا الحجم الكبير، وبهذا الانتشار الواسع، فكأنه بقراره العنصري البغيض قد نبه الأمة العربية والإسلامية من غفلتها، وأيقظها من منامها، وأعادها بالصدمة إلى جادة الطريق، وذكرها بدورها وبالواجب الملقى على عاتقها، ودفعها بقوةٍ للتعبير عن مواقفها، وكشف عن المخزون النضالي الكبير لدى أبنائها، وبيَّنَ أنه كامنٌ يتربص، وجاهزٌ للانطلاق عندما تدعو الضرورة.
كشف قرار ترامب الذي ظن أنه سيمر بسهولة، وسيتقبله العرب وسيرضى به المسلمون دون مقاومة، وسيخضع له الفلسطينيون لإحساسهم بالعجز والضعف والغربة، إذ تخلت عنهم الحكومات والأنظمة، وتآمرت عليهم الدول والأجهزة، مدى العداوة الأمريكية للعرب والمسلمين، وعمق العنصرية التي يتعاملون بها معهم، وفضح زيف اعتدالهم ووهم وسطيتهم، وكذب وساطتهم ورعايتهم.
أثبتت الوقائع والصور المنقولة من كل مكانٍ، أن العرب والمسلمين في سبيل القدس يتوحدون، ومن أجل فلسطين يتفقون، وللدفاع عنها ينسقون، ولحمايتها يخططون، وقد كان البعض يراهن على جراحاتهم الداخلية ومشاكلهم الوطنية، واضطراباتهم الأمنية ومشاكلهم البينية، والعمليات المسلحة التي تشهدها بلادهم، وعدم الثقة التي سادت بين مكوناتهم، إلا أنهم أثبتوا للجميع أن فلسطين تسكنهم والقدس تجري في عروقهم، وأنهم لا ينسونها ولا يفرطون فيها، ولا يتخلون عنها ساعة العسرة، ولا يتركونها في ظل الكروب والمحن العصيبة.
قرارٌ ترامب أعاد الألق القديم إلى القضية الفلسطينية، وكشف عن بريقها الأخاذ وسحرها الفاتن، وسلط الضوء على طهرها وعدالة قضيتها، وشرعية نضالها ونزاهة مقاومتها، وجمع الأمة عليها من جديد، وهي التي ظن الفلسطينيون قبل غيرهم أنهم انفضوا عنها، وتخلوا عن أبنائها بعد الانقسام المرير الذي عانوا منه، والصراعات الداخلية التي شوهت صورتهم وأضرت بقضيتهم، وحرفت نضالهم عن الطريق الصحيح، وجرفته إلى أماكن تضر ولا تنفع، ودهاليز لا تخدم ولا تفيد، بل تزيد في عمق الأزمة وتعقد جوانب القضية.
الفلسطينيون اليوم فرحون وسعداء، ولا يشعرون بخوفٍ أو قلقٍ، ولا يعانون من فرقةٍ أو غربةٍ، ومعهم كل المخلصين من أبناء الأمة العربية والإسلامية، إلى جانب أحرار العالم وثواره، الذين أحبوا القضية الفلسطينية وآمنوا بعدالتها وناضلوا إلى جانبها، إذ وجدوا أنفسهم أنهم ليسوا وحدهم في مواجهة الاحتلال والولايات المتحدة الأمريكية المساندة له والمؤيدة له ولسياساته، بل وجدوا أنفسهم محاطين بأبناء أمتهم، يحمونهم ويساندونهم، ويؤيدونهم ويقفون إلى جانبهم، ويضحون معهم ويبدون الاستعداد للمقاومة في صفوفهم والقتال إلى جانبهم.
ولعل الأرض الملتهبة طولاً وعرضاً في كل مكانٍ ضد الإدارة الأمريكية، وصورة القدس التي ترفع، والمسجد الأقصى الذي يبرز، وأعلام فلسطين التي ترفرف، والخبر الأول الذي ينشر، وهاشتاق القدس عاصمة فلسطين الأبدية الذي يتصدر، والشعارات التي يتردد صداها في أرجاء الكون، والأرض التي تكاد تميد تحت أقدام الاحتلال ومن حولهم تشتعل، لهي أعظم رسالةٍ وأبين موقفٍ، على أن رجال القدس لا عدَ لهم، وجنود فلسطين لا حصر لهم، فلا مكان يحصرهم، ولا حدود تقيدهم، ولا جنسية تنأى بنفسها اليوم عنهم، ولا قوةً في الأرض ترغمهم، ولا سلطةً في الكون مهما بلغت سطوتها تخيفهم وتمنعهم، ولا من يقوى على نزع القدس منهم أو شطب الأقصى من قرآنهم، فهل تدرك الإدارة الأمريكية هذه الحقائق وتعيها، أم تمضي سادرةً بلا عقلٍ في غيها.
معاً في تظاهرات بيروت نصرةً للقدس
كم كنت سعيداً وأنا أخوض في شوارع العاصمة اللبنانية بيروت، متظاهراً مع اللبنانيين بكل فئاتهم الاجتماعية وطوائفهم الدينية ومستوياتهم العلمية، الذين خرجوا معاً رجالاً ونساءً وشباناً وشاباتٍ، ومعهم مواطنون عربٌ تصادف وجودهم في بيروت، وآخرون أجانب أحبوا أن يكونوا مع المتظاهرين من أجل القدس، إلى جانب الفلسطينيين اللاجئين في لبنان والمقيمين في مخيماته المنتشرة في أنحائه، في ثلاثة مظاهراتٍ كبيرةٍ على مدى يومين متتاليين في منطقتين مختلفتين، استنكاراً للقرار الأمريكي الذي اعترف بالقدس عاصمةً أبديةً للكيان الإسرائيلي، وتأييداً للشعب الفلسطيني وحقه في القدس عاصمةً عربيةً أبديةً لدولته، ورفضاً للانتهاكات الإسرائيلية القديمة والجديدة في حق المدينة وسكانها العرب.
في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت الصامدة خرج عشرات آلاف المواطنين اللبنانيين والفلسطينيين، في تظاهرةٍ مهيبةٍ وزحفٍ جبارٍ، وتمثيلٍ جامعٍ، متنوعٍ ومختلفٍ، وهتافاتٍ تزلزل الأرض وتسمع الجوزاء في السماء أصداءها، وقبضاتٍ ترتفع في السماء وتهتز بيقين، وتلوح بوعد وتعد بلقاء، كلهم يهتف للقدس رايحين شهداء بالملايين، وبالدم والروح نفديها، وباليقين التام نحررها ونستعيدها، عاصمةً للعرب وعروساً للمدائن، ومهوىً للقلوب والأفئدة، وأرضاً للأسرى والمعراج، وساحةً للرباط والجهاد والمقاومة، فهذا وعد الله الخالد لهذه الأمة، أن تكون القدس درة عواصمهم، وعرين رجالهم، وحصن أبطالهم، وقاصمة أعدائهم.
خلت شوارع بيروت الجنوبية وكأن إضراباً قد عم أحياءها وشل مرافقها، إذ أغلقت المحال أبوابها، وعطلت المدارس تلاميذها، ومنعت الشرطة وعناصر الأمن الداخلي السيارات من المرور أو العبور في مكان ومحيط المسيرة، وخرج سكان مخيم برج البراجنة القريب، برجاله ونسائه، وشبانه وشاباته، وأطفاله وشيوخه، يتقدمهم ممثلو القوى والفصائل الفلسطينية، وهم يعتمرون الكوفية الفلسطينية، التي بدت وكأنها الزي الموحد للمسيرة، إذ سارع اللبنانيون قبل الفلسطينيين على تزيين جيدهم بها، وتمييز أنفسهم بلبسها، وكانت الأعلام الفلسطينية ترفرف إلى جانب العلم اللبناني، وكأنها يتحدان معاً في علمٍ واحدٍ، بل إن بعض الشبان قد خاط العلمين معاً وحملها على ساريةٍ واحدةٍ، إلى جانب أعلامٍ عربيةٍ أخرى شارك شبانٌ منها في المسيرة التظاهرة، تضامناً ومساندةً، ونصرةً وتأييداً، وكلهم فرحٌ بالمشاركةِ وسعيدٌ بالمساهمةِ، فما أعيا أحداً طولُ المسافة ولا ضيقُ الطريق، ولا كثافةُ المتظاهرين وكثرة التدافع وشدة الازدحام، ولا الإجراءاتُ الأمنية والضوابط التنظيمية.
وبالأمس الأحد كان اللبنانيون ومعهم جمهرةٌ كبيرةٌ من الفلسطينيين، على موعدٍ في منطقة عوكر شمال بيروت، حيث السفارة الأمريكية في لبنان مع تظاهرتين كبيرتين متعاضدتين، أمَّ الأولى علماءٌ ومشايخٌ، وأئمةٌ ورجالُ دين، وكتابٌ ومفكرون وطلابٌ ونشيطون، وغيرهم كثيرٌ ممن استجاب لندائهم وأسرع للمشاركة معهم، فاندفعوا جميعاً نحو السفارة الأمريكية التي ارتكب رئيسهم ترامب حماقته الكبيرة، وأعلن موقفه العنصري المستفز لقيم وعقائد العرب والمسلمين، فكانت رسالتهم إليه عبر سفارة بلاده، التي كانت تراقب وتتابع عن كثبٍ، وإن كانت الطريق إليها قد أغلقت، أن القدس عربيةُ الهوية وإسلامية العقيدة، وهي ملكٌ للمسلمين جميعاً، ولا حق لغيرهم فيها، ولن تكون عاصمةً لغير فلسطين، ولا مدينةً لغير العرب والمسلمين.
وتبعها مظاهرةٌ أخرى أكثر عدداً وأشد تنوعاً، فيها من كل أطياف المجتمع اللبناني بطوائفهم ومذاهبهم المتعددة، ومن جميع التيارات الفكرية اليسارية والاشتراكية، والليبرالية والتقليدية والإسلامية، ومعهم طلاب الجامعات ونشطاءٌ عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومغتربون لبنانيون وفلسطينيون، جاؤوا بحماسةٍ أشد ورغبةٍ أكبر للمشاركة والمساهمة، وإلى جانبهم إعلاميون وكتابٌ وفنانون ومراسلون، يحملون جميعاً هماً واحداً، ويناضلون من أجل قضيةٍ واحدةٍ، ويهتفون باسم القدس ويرددون أغنية فيروزهم التي خلدت بكلماتها مدينة القدس، لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي، لأجلك يا بهية المساكن، يا زهرة المدائن، يا قدس يا مدينة الصلاة أصلي، فكان لتنوع المتظاهرين غنىً، ولكثرتهم قوة، ولحضورهم من كل مكانٍ حبٌ لافتٌ وحزنٌ على زهرة المدائن كبيرٌ.
في التظاهرات الثلاثة التي شهدتها في بيروت تضامناً مع القدس ونصرةً لها، وجدتُ اللبنانيين متفقين معاً على اختلافهم وتعدد قضاياهم حول القدس وفلسطين، ولمست منهم عاطفةً صادقةً، وإحساساً بالقدس مرهفاً، وسمعت كلماتٍ وعباراتٍ تبعث على الفخر والسعادة، وتشي بالحب والعشق، وقد أثارني كثيراً التنوع القشيب الزاهي، والتعدد الطائفي والثقافي، والتباين في الميول والاتجاهات، والتمثيل المتنوع لكافة الفئات العمرية والمهنية والعلمية، كما كان للفنانين دورٌ أحببته، ومشاركةٌ أسعدتني، إذ حرص بعضهم على أن يظهر حبه للقدس، وعشقه لها بطريقته الخاصة، ورفضه التام لكل ما يهينها أو يمس قدسيتها ومكانتها.
إنه ليومٌ مميزٌ، تعبتُ فيه وجهدتُ، ومشيتُ فيه على قدمي ساعاتٍ طوال، وقطعت مسافاتٍ طويلة، وحُصرتُ بين الجموع، وتعثرت لكثرة المشاركين وتدافع الأقدام، وعانيتُ من بطء المسير وضيق المكان، ولكن هذه المميزات قد أتاحت لي فرصة الاستماع إلى التعليقات والإنصات إلى بعض الكلمات، رأيت شباناً يبكون، وآخرين تترقرق الدموع في عيونهم لكنها لا تسقط كبرياءً، وسمعت أخواتٍ ونساءً يتمنين أن يَكُنَ في القدس، ويتطلعن للرباط في المسجد الأقصى والصلاة فيه، وسمعت أطفالاً وتلاميذاً يتوقون للمقاومة، ويريدون حمل البندقية وقتال إسرائيل لإرغامها على الرحيل وتطهير فلسطين والقدس من رجسها.
كم هي القدس عظيمة، وكم هي فلسطين مباركة، حقاً إنها بهية المساكن وزهرة المدائن، وهي عروس العرب ودرة بلاد المسلمين، فهي الوحيدة القادرة على جمع شتات الأمة وتوحيد كلمتها ورص صفوفها، فإلى القدس تتطلع العيون وترنو، وتهفو القلوب وتدعو، وتحن الجباه إلى مسجدها لتصلي، فلا خوف على هذه المدينة ما بقيت هذه الأمة، التي تهب لنجدتها كالبرق الساطع، وتأتيها من كل طريقٍ على جياد الرهبة، وتدق بكل قوتها على الأبواب، لتعيد إليها الحرية والبهاء، وتمحو عنها آثار القدم الهمجية.
غزةُ تسبقُ وبالحقِ تنطقُ وبالدمِ تصدقُ
إنه قدر أهل غزة دوماً الذي لا تتبرمُ به ولا تشكو منه، والذي تؤمن به وتسلم له، وترضى به ولا تضج بسببه، وواجبها أبداً الذي لا تتأخر عنه ولا تهرب منه، ولا تخشى حمله ولا تنأى بنفسها عنه، بل تسرع لمواجهته وتهب للتصدي له، غير أبهةٍ بالصعاب، وغير خائفةٍ من الأهوال، إذ لا تحسب شيئاً صعباً ولا تخال أمراً مستحيلاً، ولا تظن أن عدوها عنيداً، بل تراه خائفاً رعديداً، ولا تشك في أنه خوارٌ جبانٌ، لا يثبت أمام الرجال، ولا يصمد في مواجهة الشجعان، حتى بات الجميع يعرفها غزة المقدامة، ويدرك أنها شجاعة وفي النوازل فعالة، وأنها سباقةٌ دوماً قبل الكل، ومندفعةٌ أكثر من الجميع، ومتحديةٌ كأنها الكلُ، فأهلها صِيدٌ بيضُ الفِعال، وأباةٌ كماةٌ جِيدُ القتالِ، وغيارى أعزةٌ سادة الرجال، فطوبى لمن جاورهم أو كان منهم، وهنيئاً لمن ولد فيهم وعاش بينهم، إنهم طلائع السرايا ورواد المنايا، يقطفون الكرى من العيون إحساناً وتوفيقاً، ويزرعون الأمل ورداً ورياحينَ، ويغرسون الغد زيتوناً ونخيلاً.
أهل غزة فقراء معدمون، ومحاصرون معذبون، وحزنى متألمون، فيهم الأسرى والمرضى، وبينهم الشهداء والجرحى، حياتهم بؤسٌ وقهرٌ وعنتٌ، وألمٌ وحرمانٌ ووجعٌ، يعانون من ضيق العيش وقسوة الحياة، وظلم الجار واعتداء العدو، جيوبهم خاوية، وأيديهم خالية، وأعمالهم معطلة، وحياتهم معقدة، وأدواء الكهرباء كثيرة، تنعكس على كل شيء في حياتهم، حتى نومهم بات بدونها مبكراً، وسهرهم في ظل انقطاعها متعذر، وعلاجهم من أمراضهم في غيابها متعسر، فاستعصى الشفاء لما تعذر العلاج ونذر الدواء، وعجز الأطباء عن إجراء العمليات وتشغيل المختبرات وإتمام الفحوصات، وغير ذلك الكثير مما يشكو منه سكان القطاع.
إلا أن معاناتهم لا تمنعهم من مشاركة شعبهم وأمتهم في هبة القدس الجديدة، بعد أن ساهموا معهم في انتفاضة باب الأسباط، التي أجبرت سلطات الاحتلال على التراجع، وها هي اليوم تهب قبل غيرها، وتواجه أكثر من سواها، تمسكاً بالقدس وحفاظاً عليها، ورفضاً للقرار الأمريكي واستنكاراً له، ونضالاً من أجل إسقاطه ومقاومة في سبيل استعادة مدينة القدس وكل الأرض الفلسطينية، فكانوا في هبتهم رجالاً وفي مواجهتهم شجعاناً، ورغم أنه يفصل بينهم وبين العدو أسلاكٌ ومسافاتٌ، إلا أنهم تجمعوا قبالته وفي مواجهته، تحدياً له واستخفافاً به، غير عابئين برصاصه الذي يتناثر فوق رؤوسهم ويخترق أجسادهم، فيقتل بعضهم شهداءً، ويصيب العشرات غيرهم إصاباتٍ متفاوتة، تخلف فيهم عاهاتٍ مستديمةً، أو أمراضاً يصعب علاجها ويتعذر بسبب الحصار والحرمان الشفاء منها.
قدم أهل غزة حتى سادس أيام القرار المشؤوم ستة شهداء وعشرات الجرحى، بعضهم ارتقى شهيداً خلال عمليات المواجهة والتحدي، على أطراف القطاع وفي مواجهة جنود الاحتلال، وآخرون سقطوا في الرباط، وهم في مواقعهم العسكرية يرصدون ويراقبون، ويتأهبون ويستعدون، فأغار عليهم العدو بطائراته وقصفهم بصواريخه، فكان عددٌ من الشهداء الشبان والمقاومون الأشداء، الذين نذروا وغيرهم أرواحهم من أجل القدس ونفوسهم من أجل فلسطين الأرض والوطن والمقدسات.
ما يقدمه الغزيون في قطاعهم الحبيب المحاصر إنما هو جزءٌ يسيرٌ مما يقدمه الفلسطينيون جميعاً في الوطن والشتات، بل لعله أقل ما يُقدم من أجل القدس وفداءً للأقصى، ودفاعاً عن هوية المدينة ومقدساتها، وفيما يقدمونه رسائل متعددة الاتجاهات وعديدة العناوين والمضامين، فهم يقولون للرئيس الأمريكي ترامب وإدارته، أن القدس عربيةٌ فلسطينية، وأننا لن نتخلى عنها ولن نفرط فيها، ولن نخضع للقرار ولن نستجيب له، ولن نعتبره أمراً واقعاً وحدثاً قد مضى وسبق وتم البناء عليه، وهي تحذيرٌ له ولكل المتآمرين على قضيتنا ووطننا، أياً كان لبوسهم أو لغتهم، وبغض النظر عن دينهم وعرقهم، فإننا لن نتسامح مع من يتاجر في قضيتنا، ويبع وطننا، ويفرط في شبرٍ من أرضنا وحقوقنا.
إنها رسالةٌ مدويةٌ واضحةٌ لا لبس فيها ولا غموض، وصريحةٌ مباشرةٌ لا تخطئ الهدف والقصد، إلى القيادة الفلسطينية كلها، السلطة والفصائل وأعيان الشعب ورموزه، وكل من تحدث باسم الشعب الفلسطيني وتقدم حاملاً رائته، أن القدس غالية، وأن فلسطين عزيزة، وهي تستحق منا كل تضحيةٍ وفداء، وفي سبيلها تهون المهج والأرواح، وترخص الأنفس والأموال، فلتتمسكوا بها ولا تفرطوا فيها، ولا تساوموا عليها ولا تتخلوا عنها، ولا تفاوضوا العدو عليها، ولا تقبلوا بأنصاف الحلول ولا بالوعود الكاذبة المعسولة، وأصروا على أن القدس لنا عاصمةً موحدةً أبديةً، وفلسطين لنا دولةً ووطناً على كامل ترابنا الوطني وحدودنا التاريخية، وإليها جميعاً سنعود، وفيها سنعيش ونقيم عاصمة دولتنا فلسطين الحرة العزيزة المستقلة.
غزة تقول لشعبها الفلسطيني كله أنها معه في المواجهة، وتسبقه في المقاومة، وأنها كما كانت يوماً مبتدأ الانتفاضة وأصل المقاومة، فإنها اليوم ستمضي معهم على ذات الدرب، وستسير على نفس الطريق، وكلها ثقة ويقين بأنها ستصل وشعبها إلى الهدف المنشود والغاية المرجوة، والعدو يعرف ذلك عنها، ويحذر المواجهة معها، ولكنه يريد بما يرتكب من اعتداءاتٍ أن يحرف الأحداث، وأن يصرف الأنظار عن قضية القدس والقرار الأمريكي المشروم في حقها، لكن غزة التي أفشلت حروبه، وأبطلت حملاته، لهي اليوم قادرة بوعيها وإرادتها، وصدقها وثباتها، أن تفشل العدو من جديد، وأن تجعل قضية القدس هي الواجهة والعنوان، التي عليها تلتقي لجهود وتتوحد الإرادات وتتفق السياسات.
شرف القدس في استانبول على طاولة منظمة التعاون الإسلامي
هل تضيع القدس وخلفها ثمانيةٌ وأربعون دولةً إسلاميةً، يقودها ملوكٌ ورؤساء، وسلاطينٌ وأمراء، يسكنون القصور ويعمرون المصايف ويتنافسون في البنيان، ولدى بلادهم جيوشٌ جرارةٌ وأسلحةٌ وعتاد وصواريخ بعيدة المدى وقنابل ذرية ومفاعلاتٌ نووية، وتجري جيوشهم مناوراتٍ عسكرية دورية، وتشتري صفقاتِ أسلحةٍ بمليارات الدولارات، وتعتد بأنظمتها وتفخر بأوطانها، وتتباهى بأرضها الممتدة وبلادها الفسيحة، وثرواتها الكبيرة، ونفطها الذي ينعب ولا ينضب، وخيراتها التي تفيض على غيرها وينعم بها سواها.
هل تفرط الدول الإسلاميةُ بالقدس وعندها منظمةٌ عريقةٌ تأسست من أجلها، وتكونت للدفاع عنها، وتشكلت لتكون لها درعاً وحصناً، وسنداً وعوناً، والتأم تحت سقفها أكثر من خمسين دولةً إسلامية، اجتمعت لأول مرةٍ عندما حرق مستوطنٌ صهيوني أسترالي المسجد الأقصى عام 1969، وتعاهدت حينها على الدفاع عن القدس والأقصى، وحمايته وتحصينه ومنع تهويده والسيطرة عليه، وشكلوا لهدفهم لجنةً وسموا لها رئيساً وأفردوا لها ميزانية، وكلفوها بدورٍ وأسندوا إليها مهماتٍ كبيرة، وانتظروا نتائج عملها وثمرة جهودها.
وهل يتلوث شرف القدس وهو الرفيع المقدس، الطاهر النقي المنزه، الذي تهون دونه الأرواح وتجود من أجله الدماء، وخلفها مئات ملايين المسلمين الذين يعشقونها ويؤمنون بها، ويتطلعون لفدائها والتضحية في سبيلها، ويتوقون إلى اليوم الذي تعود إليهم حرةً مستقلةً، ويكونون فيه أحرار بزيارتها والتجوال فيها، وزيارة مسرى رسولهم الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، والصلاة في المسجد الذي صلى فيه إماماً بالأنبياء والرسل عليهم السلام، والمرور بحائط البراق الذي عرج منه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلى ومنها إلى سدرة المنتهى.
أم أنها تغتصب أمامهم جميعاً وفي حضرتهم، وقادتها يتفرجون، وحكامها يتآمرون، وملوكها يتسترون، وأمراؤها يتهامسون، فلا يثورون من أجلها، ولا يهبون لاستنقاذها، ولا ينتفضون غضباً لها وغيرةً عليها، بل يتركونها للمحتل فريسةً يستفرد بها ويستولي عليها، ينهش عرضها وينزع عنها أثوابها الأصيلة، العربية الإسلامية القديمة، ويستبدلها بيهوديةٍ غريبةٍ، وصهيونيةٍ جديدةٍ، تزور التاريخ وتدلس الروايات، وتبدل الوقائع والشواهد بما يخدم هدفها ويحقق مرادها، ويعينها على جرمها غربيٌ حاقدٌ وعربيٌ جاهلٌ ومسلمٌ غافلٌ.
هل يخيب القادة المجتمعون آمال الأمة، ويسقطون رهانهم عليهم، وينفضون أيديهم منهم، ويعودون من استانبول، وقد اكتفوا بالصورة التذكارية التي تجمعهم، وهم يطأطئون رؤوسهم خجلاً وخزياً، ويمسكون بأيديهم خوفاً وجزعاً، ويجرون أذيال الخيبة، ويتلفحون بأثواب العار، ويقبلون بقرار الدولة السيد والرئيس الكاوبوي المتهور، ويذعنون له خوفاً ورهباً، أو يتوسلون إليه أملاً ورجاءً، ويجلسون في قصورهم ينتظرون العطاء الأمريكي والمنحة الموعودة المسماة بصفقة القرن، علَّ فيها بعض ما يستر عوراتهم، ويحفظ ما تبقى من ماء وجوههم، وبالمقابل يطالبون شعوبهم بالهدوء والتعقل، أو يقمعونهم بالقوة ليسكتوا، ويواجهونهم بالقسوة والعنف ليخنعوا.
أم يستجيبون إلى خيارات الشعب والأمة، ويلبون آمالهم ويحققون رجاءهم، فيقطعون علاقاتهم بالولايات المتحدة الأمريكية إلا أن تتراجع عن قرارها، وتعتذر إلى الأمة عما ارتكبت في حقها، ويرفضون استقبال أي مسؤولي أمريكي مهما علت مزلته وسمت مكانته، ويمتنعون عن زيارة عاصمة بلادهم، ويجمدون أي تواصلٍ معهم أو اتصالٍ برئيسهم، ويضيقون على طواقمهم الدبلوماسية، ويحصرون أنشطتهم العامة في سفارتهم بحدود القانون الدولي، وليسمحوا لشعوبهم بالتظاهر أمام سفاراتهم، ونقل الرسائل الغاضبة إليهم، والتعبير أمامهم عن حقيقة شعورهم وعمق ألمهم، ليعلموا أن الأمة حرةٌ لا تقبل المساس بشرفها ولا العبث بحرماتها، ولا تسكت عمن يعتدي عليها، ولا تقبل أن يتكرر التاريخ بوعودٍ جديدةٍ وتعهداتٍ مشؤومةٍ أخرى.
ربما على السلطة الفلسطينية أن تسبق الجميع بموقفها، وأن تضرب للكل مثلاً على جرأتها، فتتخذ قراراً بقطع علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتعلن رفضها لدورها في المفاوضات، ووساطتها في الحوارات، كونها طرفاً معادياً، ودولةً منحازة، وترفض تلقي أي معونةٍ منها أو مساعدةٍ من طرفها، فالحر الكريم يترفع عن كسرة الخبز الممزوجة بالذل والملوثة بالعار، ولا أرى شعباً أعز وأنبل من الشعب الفلسطيني الذي يخوض غمار المقاومة، وينتقل من ثورةٍ إلى انتفاضةٍ، ومن مواجهةٍ إلى معركةٍ، ولا يتعب ولا يمل، ولا ييأس ولا يقنت، بل يصر بيقين على النصر، ويمضي بعنادٍ إلى الحق.
لم يفت الوقت بعد ولم يتجاوزنا الزمن، بل ما زال أمامنا ما نفعله، وعندنا من الإجراءات الكثير التي نستطيع القيام بها، والتعجيل الجاد بتنفيذها، لنقطع الطريق على نتنياهو الساخر من القمة، والمستهزئ بقراراتها، إذ تحدى المجتمعين وتهكم على المشاركين، ووعدهم بمزيدٍ من الدول والحكومات التي ستعترف بالقدس عاصمةً أبديةً للدولة العبرية، وادعى أن الاعتراف لن يقتصر على الولايات المتحدة وعدة دولٍ أخرى، بل إن دولاً أخرى ستتسابق إلى الاعتراف بالقدس عاصمةً لهم، فهل نلقمه في فمه حجراً فنخرسه بإرداتنا، ونعجزه بفعلنا، ونثبت له أننا نستطيع أن نمنعه وأسياده، وأن نصده ومن سانده وأيده ووالاه.
على قادة الدول الإسلامية أن ينظروا إلى شعوبهم، وأن يراقبوا أفعالهم، وأن يؤمنوا بقدراتهم، وأن يفتحوا المجال لهم، وألا يغلقوا الأبواب في وجوههم، وألا يهدروا طاقاتهم، وألا يخونوا دماءهم أو يفرطوا في تضحياتهم، وألا يقمعوا إرادتهم، فشعوبهم صادقةٌ، وأمتهم واثقةٌ، ورجالهم شجعانٌ، وأبناؤهم أبطالٌ، ونساؤهم ماجداتٌ، وقد خبرهم العدو وعرفهم، وأدرك بأسهم وتجرع كأسهم، وبات يخشى مواجهتهم، فليثقوا في قدرتهم على انتزاع النصر واستعادة القدس، وصون الشرف وحماية الأوطان، فأبناؤهم أحفادُ عمر وخالد، وأبناءُ سعد وطارق، وأتباعُ جعفر والحارث، وورثةُ عليٍ ومحمد، صناعُ النصرِ وروادُ المجد.
المصالحة الحقيقية هي الرد ورفع الحصار هو المنتظر:
إذا كان العرب والمسلمون عاجزون عن مواجهة قرار ترامب الغاشم، ويرون فيه عنجهيةً وتكبراً، وتحدياً وعناداً، وتجنياً واعتداءً، ولا يعتقدون أن لديهم القدرة على إبطاله أو الجرأة على مواجهته، ولكنهم يرون أن هذا القرار قد ظلم الشعب الفلسطيني واعتدى على حقوقهم، وأهان الأمة العربية والإسلامية وانتهك حرمة مقدساتها، وتطاول على قيمها ومعتقداتها، ويريدون بصدقٍ أن يقفوا مع الشعب الفلسطيني ويناصروه، وأن يؤيدوه في حقه ويساندوه في موقفه، ولا يريدون أن يتخلوا عنه، أو يتركوه وحيداً في مواجهة العدو الصهيوني والتصدي للإجراءات الأمريكية الجائرة في حقه، والسياسات البغيضة التي تنال منه وتمس أرضه ووطنه.
المجال أمامهم إن هم صدقوا وما كذبوا، رحبٌ وفسيح، وأبوابه مفتوحةٌ غير موصدة، وسبل الدعم كثيرة، ووسائل الإسناد عديدة، وخيارات المساعدة متعددة ومتنوعة، وهي لا تقتصر على لونٍ واحدٍ بعينه فتجد الحكومات العربية والإسلامية نفسها أمامه محتارة قلقة، ومقيدة عاجزة، فتبرر لنفسها القعود، وتجيز لها الانكفاء، لكن عليها أن تكون جادةً وصادقةً في مواقفها، وحازمة في قراراتها وتوجهاتها، وتقصد الهدف الذي نتطلع إليه ونعمل من أجله، وألا تتردد في فعله خوفاً، أو تمتنع عن تنفيذه أملاً ورجاءً.
على الدول التي تعترف بالكيان الصهيوني أن تسحب اعترافها به، وأن تنهي علاقتها السياسية والأمنية معه، وأن تسحب دبلوماسييها منه، بعد أن تغلق سفارتهم في بلادها، وسفاراتها في كيانهم، وتنكس أعلامه المرفوعة في بلادنا، وتجمد أي تعاملٍ مادي معه، فلا تجارة مشتركة، ولا صفقات ثنائية، ولا علاقاتٍ سرية معه، ولا زياراتٍ خفيةٍ، ولا رحلاتٍ جويةٍ، ولا محادثاتٍ غير معلنةٍ معه، ولعل هذه الخطوات هي أقل ما ينتظره الفلسطينيون من الحكومات العربية والإسلامية، إذ لا يتطلعون منهم دعماً عسكرياً أو مساندةً ميدانية، إذ أن الفلسطينيين يكفونهم هذه المؤونة، وينوبون عن الأمة كلها في المقاومة والجهاد، وفي التصدي والثبات، ولكنهم يتمنون خلال تصدرهم للمقاومة ألا يخذلهم أحد، وألا تتآمر على مقاومتهم حكومةٌ أو بلدٌ.
لكن حريٌ بنا وجديرٌ بشعبنا نحن الفلسطينيين، قبل أن نطالب أمتنا العربية والإسلامية بالقيام بواجبها، ونصرتنا والوقوف معنا، وتأييدنا والعمل إلى جانبنا انتصاراً لقضيتنا وحمايةً لمقدساتنا، أن نقوم نحن بالواجب الملقى على عاتقنا، فعلى السلطة الفلسطينية أن تبادر قبل الجميع بسحب اعترافها بالكيان الصهيوني، ووقف كافة أشكال التعاون أو التعامل معه، فلا لقاءاتٍ ولا اجتماعات، ولا تنسيق أمني ولا تبادل للمعلومات، ولا خوف من مواجهته أو التردد في رفع شكاوى ضده، أو عرض جرائمه على المحاكم الدولية والمنظمات الأممية، إذ لا يجوز أن نطالب الحكومات العربية والإسلامية بما لا نلتزم نحن به، وبما لا نقوى على فعله أو القيام به، وإلا فلن نكون محل احترامٍ أو تقدير.
كما ينبغي على الفلسطينيين جميعاً، قوى وتنظيمات، وحكومة وفصائل، وسلطة ومنظمة التحرير، أن تنهي حالة الانقسام التي أضرت بنا وأفسدت حياتنا وشوهت صورتنا وحرفت نضالنا، وجعلت منا مدرسةً للخراب الذاتي والتدمير التلقائي، وصورةً مسخةً عن شعبٍ غير مسؤولٍ، وعن قيادةٍ غير رشيدة، فإنهاء الانقسام من شأنه أن يحسن صورتنا، وأن يعيد الألق والبريق إلى قضيتنا، وأن يستعيد الاحترام والتقدير والفخر والإعجاب الذي كان الفلسطينيون يتباهون به، إذ أننا بإنهاء الانقسام والمباشرة في المصالحة الجادة، نحقق الوحدة العامة، ونجلو الصدور من الأحقاد، ونصفي النفوس من الكراهية، ونجمع القلوب على المحبة، ونجعل من أنفسنا صفاً واحداً عصياً على التمزق أو الانهيار، فضلاً عن أننا نكفر عن السنوات الأحد عشر السوداء الماضية، ونسترجع مكانتنا الراقية التي كانت لنا، ومنزلتنا المقدسة التي ميزتنا وحفظتنا.
كما ينبغي على السلطة الفلسطينية أن تقوم فوراً برفع العقوبات المفروضة على قطاع غزة، وأن تكف عن حصار وتجويع أهله، وأن تنهي معاناته اليومية وشكواه الدائمة، وأن تقوم بمده بما يحتاج إليه من وقودٍ وكهرباء، وطبابةٍ وعلاجٍ، وأن تساوي بين المواطنين جميعاً في فرص العمل، وأن تباشر في صرف رواتب الموظفين، وأن تعيد الموظفين المسرحين إلى لخدمة من جديد، وأن تقوم بالإفراج الفوري عن المعتقلين لديها، وأن تكف عن ملاحقتهم وحبس حريتهم، إذ كيف يستقيم الأمر ويستوي الحال، حينما تقوم الأجهزة الأمنية للسلطة باعتقال العشرات من المواطنين في ظل عمليات المواجهة اليومية مع سلطات الاحتلال، الذي قتل حتى اليوم أكثر من عشرة شهداء، وأصاب بجراحٍ مئاتٍ آخرين.
عندما تقوم السلطة الفلسطينية بالمهام الموكولة إليها تجاه شعبها، بصفتها المسؤولة عنه كسلطةٍ ومرجعية، ووفاءً منها له وتقديراً لعطائه، فإنه يسهل علينا بعد ذلك مطالبة القيادة المصرية برفع الحصار المفروض على قطاع غزة من طرفهم، وفتح معبر رفح الحدودي فتحاً تاماً ودائماً، وتسهيل حركة المسافرين على جانبي الحدود، والتيسير عليهم خلال مدة رحلتهم من وإلى القاهرة عبر صحراء سيناء، حيث بات سفر أهل غزة قطعة من العذاب مضنية، ورحلة من المعانة تبقى في الذاكرة وصمةَ عار وصفحاتٍ سوداء من المهانة والإذلال، فإذا شعر الغزيون بأن جانبهم من جهة مصر محمي، وأن حقوقهم فيها وإليها محفوظة، وأنها باتت لهم سكناً وملجأً، وعمقاً وأهلاً، فإن مقاومتهم ستزداد، ومشاركتهم ستتعاظم، ودورهم سيقوى وسيشتد.
لم يعد هنالك أي مبررٍ لاستمرار الانقسام، أو لتأخر المصالحة، أو لتعذر تنفيذها أو تعطيل تمريرها، ولا مبرر أو تفسير عاقلٍ لاستمرار الحصار وبقاء العقوبات، اللهم إلا إذا كان القائمون على الأمر يفتقدون إلى الإخلاص، ويفتقرون إلى الحكمة والعقلانية، وتعوزهم الوطنية، وتنقصهم المسؤولية، ولا يعنيهم الشعب ولا تهمهم مصالحه الحيوية ولا معاناته اليومية، ما يعني أن داءنا فينا والعيب منا والخلل بيننا، وبذا نستحق ما نزل بنا، ونس-تأهل الهوان الذي حل فينا، ولا نستغرب الحمأة التي وقعنا فيها، والوبيئة التي نالت منا.
وحشية القمع الإسرائيلي وعنف الرد الحكومي:
المتابع ليوميات الغضب الفلسطيني والحراك الشعبي العام، الذي عمَّ المناطق الفلسطينية كلها، وانطلق في مدن الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، وشمل فلسطين التاريخية بأسرها كنارٍ دبت في هشيمٍ فاشتعلت، وكبركانٍ انفجر من جوف الأرض وارتفعت حممه وألسنة لهبه عالياً صوب السماء، وكزلزالٍ حرك جنبات الوطن، وزلزل الأرض تحت أقدام العدو، كذلك كانت هبته التي شملت أركان الوطن كله، وفئات الشعب ومكوناته جميعهم، استنكاراً لقرار ترامب الأرعن بإعلان القدس عاصمةً للكيان الصهيوني، سيدرك المتابع يقيناً الطريقة القاسية التي يعتمدها جيش الاحتلال في مواجهته للمتظاهرين، والمنهج الذي يسلكه في قمع تظاهراتهم، والتصدي لحراكهم، ومواجهة غضبتهم الشعبية الكبرى.
سيشاهد المتابعون مستوى القمع الذي يتعرض له المتظاهرون الفلسطينيون، ودرجة القسوة التي يتعامل بها جنود الاحتلال معهم، وحجم العنف الذي يلاقونه، وذلك بالاستناد إلى عدد الشهداء الذين سقطوا خلال الأيام العشرة الماضية التي تلت القرار المشؤوم، والطريقة التي قتلوا فيها، والحالة التي كانوا عليها عندما استهدفهم جنود الاحتلال، وأعداد المصابين والجرحى الذين يزدادون بصورةٍ مهولةٍ ومقلقةٍ، فيما يبدو أنه تنفيسٌ عن حقدٍ دفينٍ، وتعبيرٌ عن رغبةٍ مريضةٍ تسكن نفوسهم، وتنفيذٌ دقيقٌ لقرارٍ قديمٍ متخذٍ.
إذ لم يكن بعض الشهداء يشكل خطراً على جنود الاحتلال، أو يحمل بيديه سكيناً تهددهم، بينما كان آخرون بعيدين عنهم خلف الأسلاك الشائكة التي تفصلهم عن قطاع غزة، وما كان لأحدهم أن يصل إليهم، أو أن يلحق بهم ضرر، اللهم إلا التظاهر وإبداء الغضب، وإطلاق الصوت ورفع الشعارات، وإلقاء الحجارة التي لا تصل إليهم لبعدهم عنهم، وتحصنهم في مكانهم.
ورغم ذلك يمطرهم جنود الاحتلال بعشرات قنابل الدخان المسيلة للدموع، التي تخنق الأنفاس وتكاد تقتلهم، كما يتعمدون إطلاق وابلٍ من الرصاص على جموع المتظاهرين المتفرقة، ويقصدون إصابتهم أو قتلهم، ولا يأبهون بالعدد الذي قد يسقط منهم، إلى الدرجة التي ناهز فيها عدد المصابين في يومٍ واحدٍ أكثر من تسعمائة مصاب، إصابة العديد منهم حرجة.
يبدو أن التعليمات الصادرة لجنودِ جيش الاحتلال صريحةٌ وواضحةٌ، ومباشرةٌ ودقيقةٌ، بوجوب فض المظاهرات الشعبية، وتفريق المسيرات الغاضبة، وقمع التظاهرات بالقوة، وجواز استخدام القوة المفرطة، وإطلاق النار بغزارةٍ، حتى ولم يكن هنالك خطرٌ يتهدد حياتهم، أو مبررٌ يجبرهم على إطلاق النار بقصد القتل أو الإصابة المباشرة، ولعل وسائل الإعلام ولجان حقوق الإنسان قد رصدت جرائم جنود الاحتلال، التي قتلت أمام عدسات المصورين شاباً مقعداً مبتور الساقين يتحرك على عربةٍ، سبق أن استهدفته في عدوانها على قطاع غزة عام 2008، وشاباً أعزلاً آخر إلا من لسانه ويقينه، كان يقف بعيداً عنهم، بالإضافة إلى الصور التي وثقت تعذيب الشبان الفلسطينيين وركلهم، وحجزهم في أماكن خفيةٍ وصفعهم وتوجيه اللكمات لهم بصورةٍ عنيفةٍ جداً وقاسيةٍ.
يبدو أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تخشى أن تتحول حالة الغضب الفلسطينية المتصاعدة إلى انتفاضةٍ شعبيةٍ عارمةٍ، تشبه الانتفاضتين السابقتين، تستمر فعالياتها وتنتظم، وتتوحد قيادتها وتتنسق جهودها وتتفق، وتعود القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث كما كانت قديماً، تجمع حولها المؤيدين والأنصار، وتجذب إليها الدعم والإسناد، وتعود بالأوضاع إلى ما كانت عليه نهاية الثمانينيات، حيث تشوهت صورة الكيان الصهيوني، وتضررت سمعة جيشه، واستنكر العالم سياسته وجرائمه، وتمكن الفلسطينيون من تحقيق الكثير من الأهداف من انتفاضتهم، انتفاضة الحجارة الأولى، التي شغلت الحكومات الإسرائيلية وجيشها ومؤسساتها الأمنية لسنواتٍ عديدةٍ قبل أن تخمدها الاتفاقيات السياسية والجهود الخبيثة.
تخطئ سلطات الاحتلال الإسرائيلي ومعها أجهزتها الأمنية ومؤسساتها العسكرية، عندما تعتقد أن عنفها سينهي مقاومة الشعب الفلسطيني، وأن سياستها القمعية ستخيفهم وستجبرهم على التراجع والانكفاء، وعدم المضي بعيداً في سيناريوهات الانتفاضة أو الهبة الجماهيرية طويلة المدى، ولهذا فهي تمعن في القتل، وتتمادى في استخدام القوة، ولا تحاسب جنودها على ما يرتكبون، ولا تردعهم عما يفعلون، ولا تخاف إن انتشرت صور القمع، أو نقلت مشاهد التعذيب والقتل، إذ تريد من الشعب الفلسطيني أن يدرك جديتها، وأن يقتنع بإرادتها تجاه الحسم، خاصةً أن هذه الانتفاضة إن قدر لها الصمود والاستمرار، والتنظيم وحسن الإدارة، فإنها قد تفشل مخططاتهم المعدة لعملية السلام، فيما يطلق عليه اسم "صفقة القرن"، التي لن يستطيع الكيان الصهيوني فرضها أو تمريرها هي أو غيرها في ظل يوميات الانتفاضة الملتهبة.
- الفلسطيني قد وطَّن نفسه على هذه السياسة، وخبر أساليب العدو كلها، وذاق مرها واكتوى بنارها، وناله الكثير من الأذى بسببها، وهو يدرك أهدافه وغاياته، ويعرف سياسته ومنهجه، ولا يجهل طبيعته وفطرته، وقد عرف أنه يواجه عدواً ماكراً خبيثاً، قوياً لئيماً، يستعذب قتلهم، ويهوى تعذيبهم، ويتطلع إلى طردهم، ويعمل على التضييق عليهم وحرمانهم، ولكنه دوماً كان يبوء بالخيبة ويرجع بالخسارة، ولا يحقق أهدافه ولا يصل إلى مراده، إذ ما استكان الفلسطينيون يوماً لهم، وما ضعفوا أمامهم، ولا خضعوا لقهرهم، ولا استسلموا لعدوانهم، بل بقوا دوماً يقاومونه بصدقٍ، ويتحدون إرادته بيقين، ويواجهون مخططاته بأملٍ، وهم على يقينٍ بالغدِ، وعلى موعدٍ مع النصر، وحينها سيفرحون بنصر الله عليهم يتنزل.
أمريكا تفقد الرعاية وتتخلى عن الوساطة:
واهمٌ من يظن أن الولايات المتحدة الأمريكية وسيطٌ نزيهٌ للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأنها ترعى المفاوضات الثنائية بموضوعيةٍ ومهنيةٍ، وبمصداقيةٍ وعدالةٍ وأمانةٍ، وأنها تقف على الحياد بين الطرفين في العملية السلمية، فلا تؤيد فريقاً على حساب آخر، ولا تضغط على طرفٍ وترضي الآخر، وأنها جادةٌ في سعيها ومخلصةٌ في دورها، وحريصةٌ على نجاح مهمتها، لذا فهي تهيئ الأجواء بين الطرفين، وتذلل العقبات بينهما، وتسوي المشاكل وتساهم في خلق الحلول الممكنة، وتدفع من خزينتها ما يكفي لتسهيل قبول الطرفين بالحلول المقترحة، وتبني التسويات الممكنة، وتسمي ممثليها في المفاوضات من شخصياتها المعتدلة، ودبلوماسييها المشهود لهم بالوسطية والمهنية، ممن يؤمن بالسلام العادل بين الطرفين ويعملون له.
الحقيقة أن الإدارة الأمريكية قد فرضت نفسها وصيةً على المفاوضات، وجعلت من نفسها طرفاً لا وسيطاً فيها، وخصماً مريداً لا حكماً عادلاً، وفرضت وسطاء من جانبها هم أقرب في ولائهم وإيمانهم إلى الإسرائيليين من العرب عموماً ومن الفلسطينيين خصوصاً، واختارت من كبار موظفيها مبعوثين يهوداً أو من اليمين المسيحي المتطرف الذين هم أكثر صهيونيةً من الإسرائيليين أنفسهم، وأكثر حرصاً على كيانهم وأمنهم، وسلامتهم ومستقبلهم، وبذا فهي أبعد ما تكون عن العدالة والوسطية والمهنية والموضوعية والنزاهة، وآخر من تصلح أن تلعب دور الوسيط أو الراعي، إنها طرفٌ أكثر تطرفاً من الإسرائيليين أنفسهم، وأشد حقداً على العرب والفلسطينيين من الحركة الصهيونية نفسها.
تثبت وقائع المفاوضات السابقة ومحاضر اللقاءات العديدة أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة كلها كانت تخدم الكيان الصهيوني، وتسخر قدراتها السياسية والعسكرية والأمنية والعلمية وغيرها لمساندته وتأييده، وهي لا تمارس عليه أي ضغطٍ، ولا تطالبه بما يرفض ولا يرغب، بل تتبنى وجهة نظره، وتقاتل وفق خطته، وتشارك في وضع التصورات معه، وتمول مشاريعه وتساهم في أفكاره، وتضغط على الجانب الفلسطيني ليقبل بشروطه، ويخضع لرؤيته وتصوره، وغالباً تكون مقترحاتهم على حساب الشعب الفلسطيني، وضد مصالحه وأمنه ومستقبله وحقوقه ومقدساته، وتمس كرامته وحياة مواطنيه ووحدة أرضه ومستقبل وجوده.
ربما ران على قلوب بعض العرب والمسلمين سرابُ السياسة الأمريكية، فاعتقدوا عكس ما قدمتُ وبينتُ، وآمنوا بالولايات المتحدة الأمريكية راعيةً للمفاوضات وضامنةً للسلام، وبرروا لها مواقفها وتفهموا بعض سياساتها، حتى جاء قرار كبيرهم المشؤوم، وموقفه المشين باعتبار القدس عاصمةً للكيان الصهيوني، حيث منحهم من جديدٍ حقاً ليس لهم، والتزم أمامهم بما وعدهم به، وفاخر بأنه كان معهم أفضل من سابقيه، وأكثر صدقاً من أسلافه، الذين وعدوا ولم ينفذوا، وأعلنوا ولم يطبقوا، وهددوا ولم يصدقوا، ولكنه ينفذ ما وعد به، ويتبجح بأن ما قام به سيخدم السلام، وسيعجل في الوصول إلى اتفاقيةٍ ترضي كل الأطراف، وتحقق العدل المنشود والاستقرار المأمول.
كشفت الإدارة الأمريكية بقرارها الطائش عن وجهها الحقيقي، وبينت سوء نيتها وانحياز موقفها، ونأت بنفسها عن الحق والعدالة، وارتضت أن تصطف مع الاحتلال وأن تكون جزءاً منه، وأن تشرع له الاغتصاب والانتهاك والسرقة والاحتلال، وتنكبت للأمة العربية والإسلامية لها وأنكرت حقها وجحدت دورها، ونكصت على عقبيها إذ وعدت أن تكون على الحياد، وأن ترسي قواعد الحق والعدل في المنطقة، فإذا بها تضع للشر قواعد، وللفتنة أساساً، وترسي أسس صراعٍ ديني لن ينتهي، وتمهد لحروبٍ عقائديةٍ ستطال بنيرانها المنطقة كلها، وستزرع في الأرض ألغاماً ستنفجر بالجميع، ولن ينجوَ منها أحدٌ.
على الأمة العربية والإسلامية أن تدرك يقيناً أنها تخطئ كثيراً إذا عادت لتثق في الإدارة الأمريكية من جديد، ولعله سيكون من السفه والجنون أن تعيد تسليم الأوراق والملفات إليها، والخضوع لمندوبيها ومبعوثيها، وستكون جاهلةً إذا كررت مقولتها السابقة أن أغلب أوراق القضية بيد الولايات المتحدة الأمريكية، بل حريٌ بها أن تكون واعيةً وعاقلةً، وأن تكون مدركةً ويقظةً، فلا تلدغ من ذات الجحر للمرة الألف، فالولايات المتحدة الأمريكية قد اعتادت على لذغ العرب والمسلمين غدرهم، بل لا يعينها أمرهم، ولا تهتم لشؤونهم اللهم إلا بالقدر الذي تستفيده منهم، ويخدم مصالحها في بلادهم.
لا تشعر الإدارة الأمريكية بأي ندمٍ أو تأنيبِ ضميرٍ على ما فعلت وارتكبت، ولا تحاول التراجع أو تغيير موقفها، أو البحث عن محاولةٍ للتفسير أو التأويل، بل قد لا ترى نفسها قد أخطأت وتجنت، أو أنها اعتدت وظلمت، أو طغت وبغت، فهي تشعر أنها قامت بعملٍ عظيمٍ، وأتت فعلاً يبعث على الفخر، ويدفع على التيه والإعجاب، فهي لا تدس رأسها تحت التراب خجلاً وخزياً، ولعلها لا تصغي للناقدين، ولا تسمع ثورة الغاضبين، ولا تتابع انتفاضة المسلمين، ولا يعنيها اعتراض الكثيرين، فقد نفذت ما تريد وأوفت بما وعدت، وباتت تمني نفسها أن صبر العرب سينفذ وتضامن المسلمين سيتراجع، وإرادة الفلسطينيين ستضعف، وسيصبح القرار حدثاً من الماضي، وواقعاً مع الأيام حقيقة.
ينبغي على القيادة الفلسطينية كلها، سلطةً وفصائل وتنظيماتٍ وقوى، أن تحترم نفسها وأن تحافظ على كرامتها، وأن تحفظ أهلها وشعبها فلا تهينه ولا تسيئ إليه، وألا تظهره بمظهر الضعف والهوان أو الذل والصغار، وألا تعود إلى الأوهام الأمريكية ولا إلى سراب وعودهم وكذب عهودهم، وألا تقبل بوساطتهم أو رعايتهم، وعليها أن تكون قويةً وجريئةً، وصريحةً وواضحةً، وأن تكون على قدر المرحلة وبموازاة الرجال الذين يقاومون ويضحون، ويقدمون أغلى ما يملكون دفاعاً عن قضيتهم، فنحن قومٌ لا نستجدي حقوقنا، ولا نتوسل عدونا، ولا نطلب الوساطة من خصمنا، ولا نقبل المهانة على أنفسنا أو في ديننا، بل نغار على حقنا، ونثور في سبيل وطننا، ونضحي دفاعاً عن مقدساتنا.
الفيتو الأمريكي صوتُ معزولٌ وقرارٌ مرذولٌ:
سقوط مشروع القرار العربي الذي صاغته مصر في مجلس الأمن الدولي لا يعني الفشل أو الهزيمة في معركتنا من أجل القدس، وهو لا يعني أبداً اليأس والقنوط والاستسلام والخضوع، واستخدام الولايات المتحدة الأمريكية حق النقض "الفيتو" الممنوح لها دولياً لا يعني أنها انتصرت، كما لا يعني أنها على الحق وستنجح فيما ذهبت فيه أو تطلعت إليه، وانتهاء عملية التصويت داخل مبنى مجلس الأمن لا يعني انتهاء المعركة، أو طي صفحة المواجهة والقبول بالأمر الواقع الجديد، وأن نتيجة المعركة حاسمة وناجزة ولا يمكن تغييرها أو التأثير عليها، بل هي على العكس من ذلك تماماً، إذ فتحت الأبواب على معارك جديدة وخياراتٍ عديدة، فالمحاولات الدولية لإبطال القرار الأمريكي، وثني إدارتها عن المضي قدماً في تنفيذ إعلانها، ونقل سفارتها بالفعل إلى مدينة القدس المحتلة، لن تتوقف أو تتجمد، بل ستمضي قدماً، وستستمر بأشكال عدةٍ.
تدرك الولايات المتحدة الأمريكية التي أسقطت مشروع القرار في تحدٍ صارخٍ لمنظمة الأمن والسلم الدوليين، أنها ضعيفة في موقفها، ومهزوزة في سياستها، ومعزولة بقرارها، وأن أحداً لن يؤيدها أو يقف معها، وأن الأربعة عشر عضواً في مجلس الأمن الذين صوتوا ضدها، وأيدوا القرار الذي يدينها، ودعوها للتراجع عن قرارها والتزام الشرعية الدولية فيما يتعلق بمدينة القدس، ووجوب عدم اتخاذ أي قراراتٍ من شأنها المس بهذه المدينة أو التأثير على حالها، يتهمونها أنها التي تعطل القانون الدولي، وتتخذ قراراتٍ مخالفة لما يصدر عن مجلس الأمن الدولي، رغم أنها الدولة الأقوى في العالم، والتي يفترض أن تكون هي الحارسة على القوانين الدولية، والضامنة لتنفيذها والالتزام بها، وإلا فإنهم يعجلون في انهيار هذه المؤسسة الأممية الكبرى.
تعلم الولايات المتحدة الأمريكية أن حجتها التي أعلنت عنها مندوبتها في مجلس الأمن نيكي هايلي، حجةٌ ضعيفة أو هي كاذبة، وأنها ليست إلا لذر الرماد في العيون، والتأثير على المعارضين للقرار والمتظاهرين ضده، لثنيهم عن مواصلة المظاهرات والمسيرات، وحملهم على التريث والصبر، ومنحهم الفرصة الكافية للكشف عن صفقة القرن العامة، رغم أنها تعلم يقيناً أن هذا القرار الباطل الظالم لن يخدم أبداً عملية السلام، ولن يؤدي إلى استقرار الأوضاع في منطقة الشرق الوسط، ولن يكون مقدمةً لمشروع سلامٍ إقليمي يرضي الفلسطينيين، ويحقق لهم آمالهم والكثير مما يتطلعون إليه أو يتمنون الحصول عليه، وأنه لم يتخذ إلا خدمةً للمشروع الصهيوني، وتأييداً لأحلامهم وتنفيذاً لمخطاتهم.
لن يوقف الفشل في اتخاذ القرار المساعي الأممية والدولية، والفلسطينية والعربية والإسلامية خصوصاً، الساعية لإفشال القرار الأمريكي، والحيلولة دون قيام دولٍ أخرى بتقليدها واتباع سياستها، والاعتراف بالقدس عاصمةً للكيان الصهيوني، بل لعله يفتح الطريق أمام أفكارٍ جديدةٍ ومساعي مختلفة، تكون أدعى للنجاح والتوفيق، وأبعد عن الهيمنة والسيطرة الأمريكية، وبمنأى عن الفيتو المعطل، فالقدس كما القضية الفلسطينية قضيةٌ عادلةٌ، وجميع دول العالم تعلم مدى المظلومية التي يعيشها الفلسطينيون، وحجم المعاناة التي يلقونها من جانب سلطات الاحتلال الإسرائيلي، التي لا تنفك تقتل وتطرد، وتعتقل وتصادر، وتعتدي وتداهم وتعتقل.
الشارع الفلسطيني الذي كان يأمل أن تستغل الإدارة الأمريكية فرصة التصويت على مشروع القرار للتراجع عن اعترافها، والعودة إلى قيم الحق والعدالة، والنزول عن الشجرة التي صعد عليها رئيسهم المجنون، لم يفاجئ بما حدث في مجلس الأمن، ولم يصدم بنتيجة القرار، إذ هذه هي السياسة الأمريكية التي عهدها منذ العام 1948، حيث اعتادت الإدارة الأمريكية على حماية الكيان الصهيوني من أي إدانةٍ دولية أو استنكارٍ أممي، وقد لجأت عشرات المرات لاستخدام حقها في النقض "الفيتو"، فأبطلت قراراتٍ هامةٍ، وأجهضت مساعي إنسانية، وعطلت مشاريع كان من الممكن لها أن تنقذ المنطقة كلها وسكانها مما ألم بها من حروبٍ ومعارك، ولا فرق في هذه المسألة بين رئيسٍ أمريكي وآخر، فكلهم كان يهرب من المواجهة واستحقاقات الإدانة بعيداً عن الحق والعدل والإنصاف، إلى استخدام الفيتو ولو كان على حساب حياة السكان وأمنهم وسلامتهم، وأرضهم ووطنهم ومستقبل وجودهم.
يبدو أن الإدارة الأمريكية لا تشعر بحجم أخطائها، ولا تقر باعوجاجها، ولا ترى درجة انحرافها، ولا تقبل أن تصغي السمع لمن ينصحها ويصدقها، ولا يهمها كثيراً أن تكون وحيدة أو معزولة، وترى أن أعضاء مجلس المن الدولي قد أساؤوا لها وأخطأوا في حقها، إذ شككوا في نواياها، واعترضوا على مساعيها للسلام في المنطقة، وأساؤوا إلى رئيسها في أول خطواته الجادة في مسار السلام بين العرب والإسرائيليين، ولعل المندوبة الأمريكية في كلمتها أمام أعضاء مجلس الأمن كانت تهدد أكثر مما هي تهدئ أو تطمئن المجتمع الدولي.
يوماً بعد آخر تكشف الولايات المتحدة الأمريكية أنها طرفٌ في الصراع، وشريكٌ مع الاحتلال، وأساسٌ في الأزمة، وأنها أبعد ما تكون عن الوسطية والاعتدال، وآخر من يصلح للوساطة والرعاية وإدارة الحوار، وأنها تخدع العرب والمسلمين وتكذب على الفلسطينيين، ولا تفي بما تعهدهم به، ولا تنفذ ما التزمت به، وأنها فقط تنتظر الفرص المناسبة للانقضاض والتغيير، والعمل على تثبيت الكيان الصهيوني وضمان استمرار وجوده، وتخليصه من كل ما يهدد أمنه أو يعطل مشروعه، إذ هي الضامن لوجودهم والكفيل ببقائهم، وهي المتعهد بأمنهم والعامل الأساس في قوتهم وتفوقهم.
أيقوناتُ المقاومة الخالدة ورموز الانتفاضة الباقية:
كثيرون هم الفلسطينيون على مدار سنواتِ مقاومتهم الطويلة، وخلال مواجهاتهم الدائمة مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي وجيشه، وعناصر أمنه ورجال مخابراته، الذين حفروا أسماءهم في سجل الشعب المقاوم، وسطروا في سفره أعظم الملاحم، وحفروا بدمائهم وأرواحهم تاريخ شعبهم، وخلدوا بمواقفهم صفحاتِ عز وطنهم وصورَ مجدِ أبنائهم، ورسموا للأمة كلها بتضحياتهم العزيزة صورَ البطولة وأسطورة التحدي آياتٍ من العز والفخار، ما زالت باقية في الذاكرة، وخالدةً في التاريخ، يحفظها أبناؤهم ويورثها آباؤهم، ويعتز بها المقاومون، ويروي قصصهم الغيارى والمحبون، الذين يغبطونهم على ما صنعوا، ويتمنون أن ينالهم شرف ما قدموا، وأن يدركوا سنا الذين سبقوا، إذ علموا مكانتهم وخبروا فضلهم، وعرفوا أنهم بالنسبة لشعبهم وأمتهم مناراتُ هدى ونجومٌ في السماء.
حاتم السيسي ابن مخيم جباليا أول شهداء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي خضبها بدمه، وشق طريقها باستشهاده، فحُفظَ اسمه وتخلد ذكره وذاع صيته، وسميت باسمه شوارع ومدارسٌ ومؤسساتٌ، وتسمى باسمه مئات المواليد، وما زال الفلسطينيون يربطون اسمه بالانتفاضة، ويعدونه نجمها الأول، وصاحب فضل السبق فيها، وإن تلاه شهداءٌ آخرون، وتبعه على ذات الدرب كثيرون، إلا أنه يبقى صاحب قصب السبق.
وكذا كان الفارس الصغير، الطفل البطل المغوار، العنيد الجريء، الصبي العملاق، فارس عودة الذي تحدى بحجرٍ دبابةً، وتصدى بصدره جيشاً، وعطل بعيونه آلياته، فأغضب العدو وأغاظه، وقزَّم بثباته جنوده وضباطه، وهز رتبهم ونجومهم، ومرغ بالتراب سمعتهم، إذ فضح تفوقهم، وكشف زيف قوتهم، وأخزاهم بصموده، وأربكهم بتقدمه، وما أوقفته الدبابة، ولا أرعبته فوهتها الضخمة، فما كان من العدو إلا أن أجهز عليه حنقاً، ونال منه حقداً، وقتله غيظاً وغضباً، ولكن فارس سيبقى في ذاكرة شعبه ووجدانه هو الفارس.
أما الطفلة إيمان حجو فلا يبدو أن فلسطينياً قادرٌ على نسيان صورتها أو تجاوز حادثها، وهي الرضيعة التي لا يحتمل جسدها شوكةً تشوكها، فكيف برصاصةٍ تخترق صدرها وتخمد أنفاسها، دون ذنبٍ اقترفته سوى أنها فلسطينية، وتنتمي إلى أمٍ فلسطينية، وترضع من صدرها حب فلسطين حليباً، وتنتسبٍ إلى شعبٍ مقاومٍ يناضل من أجل حقه، وعلى استعداد للتضحية بالكبير والصغير والطفل الرضيع من أجل وطنه ودفاعاً عن قدسه.
أما محمد الدرة فيكاد لا ينساه أحدٌ، ولا يقوى إنسانٌ على أن يغفل صورته، أو أن يصم آذانه عن ندائه أو استغاثات والده، فقد قتله جنود الاحتلال الإسرائيلي وهو بين يدي والده، وأمام عشرات وسائل الإعلام وكاميرات التصوير، التي سجلت آخر لحظاته، وصورت الرصاصات التي اخترقت جسده الصغير، وهو الطفل الصغير الذي لا يشكل خطراً على العدو سوى في وجوده وبقائه، وتجذره في الأرض وثباته في الوطن، قتلوه برصاهم ولكنه كما سيخلد في الجنة يوم القيامة، فقد خُلِّدَ في الدنيا، وأبقى الله على ذكره في الأرض، ورفع اسمه، ومجد شهادته حتى غدت للعالمين قصةً وحكايةً، وبات محمد الدرة اسماً علماً ونجماً سامياً لا يطويه الزمن ولا تتجاوزه الأحداث.
أما هدى غالية التي شهدت وهي طفلة لم تتجاوز العاشرة من عمرها استشهاد سبعةٍ من أفراد عائلتها أمام عيونها، منهم والدها الذي بكته وصرخت في وسائل الإعلام ليصوروا والدها المسجى أمامها وهي تناديه وتبكيه، إلى جانب خمسةٍ من أشقائها، اليوم تبقى غالية تواصل الحياة من بعدهم، وتحمل الراية وتصر على المضي على ذات الدرب، وإن كان فيها حتفها أسوةً بأهلها.
أما اليوم وخلال معركة الدفاع عن القدس، فإننا أمام رموزٍ جديدةٍ وأبطالٍ عظامٍ، لا يقلون عن السابقين، ولا يختلفون في بعضهم عن الشهداء الخالدين، فذاك مُقعَدٌ على كرسيه المتحرك يتنقل، شامخٌ من مكانه يقاوم، وعظيمٌ من موقعه يقاتل، لم تمنعه رجلاه المبتورتان عن الحركة، ولم تقعده حالته عن أخذ دوره بين المتظاهرين دفاعاً عن القدس، واستنكاراً لقرار ترامب المقيت، وقد كان يعلم أن قامته بلا رجلين قصيرة، وأنه قد لا يُسمعُ جنود الاحتلال صوته وهتافه، فاعتلى بقوةٍ تلةً عاليةً، ووقف فوق ربوةٍ مرتفعة، وبعالي الصوت صرخ في وجوه المحتلين، وبالحق الذي يسكنه نادى على العرب والمسلمين، وما كان يعلم أنه من مكانه فوق التلة شرق غزة سيسمع العالمين جميعاً صوته، وسيرفع بدمه وهو المقعد قضيته، وسيكون له دورٌ في الدفاع عن قدسه والمسجد الأقصى، إنه الشهيد إبراهيم أبو ثريا، الذي استهدفه جيش العدو في حرب عام 2008 على قطاع غزة بقذيفة دبابةٍ أدت إلى بتر ساقيه.
ولنا مع المقاومين الأحياء قصة ومعهم وقفة، فليست كل القصص تروى بالدم وتنسج بأنفاس الحياة، بل إن من المقاومين من يجعلون من أسمائهم علماً وهم أحياء، ويرسمون صوراً تفوق ما يرسمها الشهداء بدمائهم، كحكاية عهد البرغوثي، الطفلة التي لم تتجاوز السادسة عشر من عمرها، ولكنها استطاعت أن تجعل بجرأتها وثباتها وصمودها وعنادها، من نفسها رمزاً كبيراً وأمثولةً عظيمةً، وها هي اليوم أكبر من الجنود الذين داهموا بيتها، وأكثر شجاعةً من الضباط الذين اقتحموا بلدتها، ولعلها أشد ثباتاً من القضاة العسكريين الذين أرادوا استنطاقها، وحرصوا على إدانتها ومحاكمتها.
لكلِ مرحلةٍ نضاليةٍ رجالها وأبطالها، ولكل انتفاضةٍ فلسطينيةٍ رموزها وعناوينها، وعلاماتها ونجومها، وفي كل حربٍ وعدوانٍ تبرز أسماءٌ وتسمو عائلاتٌ، ويذهب آباءٌ ويبقى أبناءٌ أطفالٌ، يحفظون النسل، ويبقون على الذكر، ويحملون قصص المجد، ويصرون بعنادٍ على حمل الراية ومواصلة المسير، هؤلاء هم الذي يميزون المراحل بمقاومتهم، ويتركون أثراً بالغاً في نفوس شعبهم، ويغيظون العدو بعظيم فعلهم ورمزية مقاومتهم، ويثيرون نقمته بذيوع قصصهم وانتشار أعمالهم وتقليد أفعالهم، إذ يذكرهم الأهل ولا ينسونهم، ويذكرون مجدهم ويكررون قصصهم، ومنهم يتعلمون وبهم يقتدون وإلى مجدهم التليد يتطلعون، وهم جمعٌ كبيرٌ يصعب حصرهم، ولا يمكن لمتتبعٍ عدهم، لأنهم كثيرٌ على مدى الزمن وعلى طول المرحلة كلها، ولكن بعضهم قد طغى اسمه، وسما نجمه، وعلا ذكره، فبات نسيانه مستحيلاً مهما قُدُمت قصته ومضى زمنٌ على شهادته.
الأمم المتحدة تنتصر لفلسطين وعاصمتها القدس:
لم ينفع بلادها كعبها العالي ولا كلماتها الحادة، ولا لسانها السليط وألفاظها النابية، ولا تهديداتها المنافية للأدب والمخالفة لأصول الدبلوماسية، ولا خطاباتها العنجهية في مجلس الأمن والأمم المتحدة، ولا اطلالتها المستفزة ونظراتها العدائية، ولن ينفع الكيان الصهيوني زيارتها للقدس وساحة البراق، وولاءها المطلق له ودفاعها المستميت عنه، إذ لن تتحقق أمنية نيكي هايلي التي دستها بين جدران الحائط، ولا تلك التي تمتمت بها ورددتها، والأماني التي أسرتها، ولن تكون القدس عاصمةً للكيان الصهيوني، وإن وعدهم بها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب، الذي ظن أن كلامه منزلاً، وأن حكمه مبرماً، وأن قراره لا يرد، وأنه سيد الكون الأوحد وحاكم العالم الأقوى، وأن كلمته هي الأولى والأخيرة، وهي التي تتمتع بالحصانة والسيادة فلا راد لها، ولا معارض لمفاعيلها.
ولن تنفعها ورئيسها الذي عينها في منصبها وأبدى إعجابه بخطاباتها، وأيدها في تصريحاتها وكررها نفسها بلسانه، أموالُ بلادهما وخزائن دولتهما، تلك التي يستخدمونها في استرقاق الدول واستعباد الحكومات والسيطرة على الشعوب، والهيمنة على المؤسسات واحتكار الشركات وإدارة الأعمال والاقتصاد والتجارات الخارجية، التي دمرت اقتصاد البلدان وأضرت بهياكلها الاقتصادية، وغيرت أنماط الحياة وسلوك المواطنين، لهذا فلن ترضخ لأموالهم الدولُ، ولن تصغي السمع لهم الشعوب والحكومات، حتى تلك الدول التي تتلقى منها الهبات والمساعدات، فإنها لم تقبل أن تكون عبداً عندها، ولا ترضى أن تكون عندها أجيرة بما تقدمه إليها من مساعدات أو بما تيسره لها من ديونٍ وقروضٍ وبرامج تنموية.
إنه يومٌ مشهود تلقت فيه الإدارة الأمريكية ورئيسها صفعةً قاسيةً، ولطمةً على الوجهين مهينة، ودرساً بليغاً لها من أغلب دول العالم، الفقيرة والغنية، الضعيفة والقوية، والبعيدة والقريبة، والمعادية والصديقة، والمسيحية والمسلمة، بأن سياستها مرفوضة وغير مقبولة، وأن دول العالم لا تقبل بما تمليه عليهم وتريده منهم، ولا ترضى أن تكون أداةً طيعة بيديها، تصوت تبعاً لتعليماتها وتؤيد مقترحات قراراتها، وتصمت عن تجاوزاتها وتسكت عن مخالفاتها، بل تريد من الإدارة الأمريكية أن تحترمهم وتقدرهم، وأن تأخذ برأيهم وتسمع لهم، فهم ليسوا قطيعاً يساق بالعصا وتحركه غريزة حب الطعام، بل هم دولٌ وشعوبٌ عريقة، لها كرامتها وتحرص على سيادتها، ولا تقبل أن تخضع للهيمنة أو أن تستعمر بالقوة.
لم تهزم الإدارة الأمريكية في الجمعية العامة للأمم المتحدة وحسب، بل سبقتها هزيمةٌ مدويةٌ أخرى في مجلس الأمن، لم يقلل من أثرها سقوط القرار بموجب قوانين مجلس الأمن المعمول بها، فقد صوتت معه ضد السياسة الأمريكية دولٌ حليفةٌ لها وتدور تاريخياً في فللكها ومنها بريطانيا، التي تؤيد الإدارة الأمريكية بصورة دائمة وتنسق معها، وتشترك معها في الكثير من السياسات والمشاريع والحملات العسكرية والتحالفات الدولية، ومع ذلك فقد أيدت بريطانيا ومعها ثلاث عشرة دولة أخرى القرار الذي يرفض أي تغيير أحادي في مدينة القدس، ويبطل مفاعيل القرار الأمريكي بالاعتراف بها عاصمةً للكيان الصهيوني.
لكن الإدارة الأمريكية التي نجحت في إسقاط القرار في مجلس الأمن، واستعرضت قوتها فيها وتباهت بالفيتو الذي تتمتع به، واطمأنت إلى أن القرار لن يمر، عجزت عن حماية سياستها في الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما جردت من القوة والامتيازات، وأصبحت دولةً عادية كبقية دول العالم، ليس لها إلا صوتها الذي به تتساوى به مع جميع دول العالم الصغيرة والكبيرة، والضعيفة والقوية، ورغم توقعاتها أن تهديداتها ستغير النتيجة وستقلب التوقعات، إلا أنها الواقع عزلها، وأعداد المصوتين مع القرار فضحها، وأسماء الدول الصغيرة النكرة النائية التي لا يعرفها أحد قزَّمها، وأظهر عجزها وأبان انحيازها العنصري، ما يعني أن الزمن الأمريكي في انحسار، وأن التفرد واستعراض القوة وادعاء العظمة لن يفيدها كثيراً في بسط نفوذها وتعميم سياستها.
ستبقى الإدارة الأمريكية على موقفها السلبي، ولن تتراجع عن قرارها الخاطئ، خاصةً في ظل رئيسها الأهوج الغريب التصرفات، المسكون بالقوة والعظمة، والمتصرف في البيت الأبيض كرجل أعمالٍ يصف نفسه دائماً بأنه عنيد وقوي، وأنه يكره الفشل ولا يحب الخسارة، ولهذا فقد نسمع منه بعد هذه النتيجة المدوية المؤيدة لفلسطين والفاضحة للسياسة الأمريكية، قراراتٍ جديدةٍ قد تكون أكثر سوءاً وأشد قبحاً وأوسع انتشاراً، في محاولةٍ منه للانتقام من الفلسطينيين وممن أيدهم ووقف إلى جانبهم، وصوت لصالحهم ضد قراره، ولعله سيلجأ إلى خطواتٍ انتقامية عنصرية، ومنها تجميد التزامات الولايات المتحدة الأمريكية المالية تجاه الأمم المتحدة ومؤسساتها، وكذلك وقف المساعدات والمعونات لبعض الدول التي تتلقى دعماً مالياً مباشراً منها.
بعد قرار الأمم المتحدة وحالة العزلة النسبية التي دخلت فيها الولايات المتحدة الأمريكية، لن يكون من السهل على الإدارة الأمريكية أن تعود لرعاية المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وأن تكون طرفاً وسيطاً نزيهاً حكماً عدلاً بين الطرفين، ولن يصدق أحدٌ ما قالته نيكي هايلي على منصة الأمم المتحدة، من أن هذا القرار الذي اتخذه رئيسها إنما هو لخدمة العملية السلمية، والدفع بها إلى الأمام، وهذا القرار لا ينفي حل الدولتين، ولا يقف أمام مقترحات الطرفين خلال عملية التفاوض المباشرة.
دوماً تنتصر فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتقف دول العالم إلى جانبها، التي تعاني من الصلف الأمريكي وتشكو من سياستها العنصرية، لأنها تعلم أن فلسطين على حق، وأنها تواجه عدواً شرساً وتعاني من احتلالٍ مريرٍ، وشعبها مظلومٌ مضطهد، يعاني من الاحتلال ويقاسي من ممارساته، ومن حقه أن يكون له كبقية شعوب العالم دولته المستقلة، والقدس عاصمتها التاريخية.
تباً لترامب على شنيعِ جرمِه وشكراً له على جميلِ صنعِه:
هل يشكرُ أحدٌ عدوَه ويعترفُ له بالفضل والعرفان، ويدين له بالتقدير والامتنان، أم تشكر الضحيةُ جلادَها وأصحابُ الحق مغتصبيه وملاكُ الأرض محتليها، أم يشكر المظلومون ظالمهم الذي يتآمر عليهم ويعمل ضدهم، ويعفو أهلُ القتيلِ عن قاتلهم، ويسامحُ أصحابُ الحق ناهبيه وسارقيه منهم.
هذا لعمري أمرٌ عجيبٌ وفعلٌ غريبٌ ليس له في الزمان مثيلٌ، لا يقوم به عاقلٌ، ولا يلجأ إليه إلا غِرٌ جاهلٌ أو سفيهٌ أحمقُ، أو أن يكون فاعله قد استمرأ الذل ورضي بالهوان، واستعذب الاستعباد واستعصى على الرفض والعناد، وأبى المقاومة والجهاد، فرضي أن يكون تبعاً أو أن يعيش عبداً، وقَبِلَ أن يستحسن لعدوه القبيح، ويرضى منه بالبشع الشنيع، ويصفق له ابتهاجاً صدقاً أو نفاقاً إذا قال أو فعل، ولو كان في قوله فاحشاً أو في فعله ظالماً، أو كان في سلوكه سفيهاً وفي عقله مريضاً.
لكن الشعب الفلسطيني العزيزُ القويُ، الشريفُ الأبيُ، الشجاعُ المقدامُ، الجريءُ الهمامُ، المنتمي إلى العروبة والإسلام، والمعتز بقطز وصلاح الدين والقسام، الذي سلك طريق المقاومة وخبر مسار القوة، وعرف معنى العزة وعاش في ظلال الكرامة، واستعصم بكبرياء المقاومة ونال شرف القتال، وتمسك بالانتصار وأبى الذل والصغارَ، وأصر أن يحيى حياة الأبطال وأن يعيش عيش الكبار، ولم يعط طيلة سنوات نضاله الطويلة الدنية في حقه ووطنه، وبقي صامداً حتى في سجنه ومعتقله، وثابتاً رغم ضعفه وحصاره.
هذا الشعب العظيم قد شكر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي استعداهم واعتدى على حقوقهم ومستقبلهم، وتطاول على حرماتهم ومقدساتهم، وتآمر مع عدوهم واتفق عليهم معه، ودعمه وسانده، وأيده وناصره، وسمى القدس عاصمته، ونقل إليها سفارته، وهو يعلم أنه بهذا الفعل إنما يعتدي على الشعب الفلسطيني كله، ويتطاول عليه وعلى حقوقه، ويمس قيمه ومبادئه وثوابته، ويرتكب بقراره الأهوج جريمةً جديدةً في حق الشعب الفلسطيني تضاف إلى سلسلة جرائمهم، وكأنه بلفورٌ مشؤومٌ آخرٌ، وكتابٌ أسودٌ جديدٌ.
بالتأكيد فإن الشعب الفلسطيني لم يشكره على جريمته، ولم يحمده على سوء فعلته، بل دانه واستنكر قراره، ووصفه بأبشع الصفات ونعته بأرذل النعوت، لكنه شكره إذ ميَّزَ بعجرفته وسفاهته وكبريائه وصفاقته بين الغث والسمين وفرز القمح عن الزوان، وغربل العالم كله بين صديقٍ وعدوٍ، وصادقٍ وكاذب، ووفيٍ ومنافق، وفضح أنظمةً ادعت وقوفها مع الشعب الفلسطيني ونصرتها لقضيته، وكشف زيف بلدانٍ تآمرت معه ونسقت وإياه، وكانت تعلم بفعلته يقيناً وطمأنته عليها لئلا يحاف من عواقبها، وضمنت له ضبط الشارع وردع المواطنين، ومنع التظاهر ووضع حدٍ للمسيرات والاحتجاجات المناهضة لسياسته والمعارضة لقراره.
يشكر الفلسطينيون ترامب على حمقه وجنونه لأنه كشف عن حقيقة مواقفه وأصل سياسته، وأسفر عن نواياه الرافضة منح الفلسطينيين حقوقهم، وتمكينهم في بلادهم وعلى أرضهم، وانقلابه على مسار التسوية وتراجعه عن حل الدولتين، وتخليه عن دور الوساطة والرعاية، إذ لم يعد بقراره وسيطاً نزيهاً وحكماً عدلاً بين الخصوم والأطراف، وبذا حكم على نفسه بالانحياز وعدم الأهلية، وأخرج نفسه من معادلة الصراع في منطقة الشرق الأوسط، وأخلى الطريق لقوى عظمى أخرى لتلعب أدواراً أفضل وأصدق، وأكثر نزاهةً وأحرص عدلاً.
ويشكر كثيرٌ من الفلسطينيين ترامب على قراره لأنه نعى إلى العالم كله العملية السلم وأعلن موتها، ومشى قبل الجميع في جنازتها قبل الإعلان رسمياً عن دفنها وإهالة التراب عليها، فأضعف بذلك فريقها وفض المؤيدين من حولها، وجعل من الصعب استئنافها أو بعث الحياة فيها من جديد، وبذا لم يعد هناك ثمة فرصة لنجاح عملية التسوية، كما لم يبق مؤيدون لها أو مؤمنون بها، وبهذا أحيا قرارُ ترامب الخائبُ الخيارَ العسكري، وأعاد إليه الحياة من جديد وجعل الرهان عليه ناجحاً، الأمر الذي من شأنه أن يعزز المقاومة وأن يعلي من قيمتها، ويزيد من عدد المؤيدين لها والمتمسكين بها.
ويشكرونه أنه عجل في عزل بلاده وإقصاء إدارته وتهميش دورها، فقد تسبب ترامب بقراره في عزل الولايات المتحدة الأمريكية وشل قدراتها الدبلوماسية والسياسية، وتخلي العديد من دول العالم عنها بما فيها دول الحلفاء الصديقة للولايات المتحدة الأمريكية، والمتعاونة معها في مشاريع الحرب والسلام، التي عارضت قراره، ودعته إلى التراجع عنه وعدم تنفيذه، وكما أظهر مشروع قرار مجلس الأمن الدولي وقوف الولايات المتحدة الأمريكية وحيدة أمام أعضاء مجلس الأمن الخمسة عشر، فإن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أهان الإدارة الأمريكية، وحشرها سياسياً في زاويةٍ ضيقةٍ مع سبعة دولٍ مجهريةٍ نكرة لا يعرفها أحد، وليس لها أي أدوار دولية أو إقليمية.
استطاع ترامب بكلماته وخطاباته المباشرة أو على لسان مساعديه ومندوبيه، أن يستفز دول العالم وأن يهينها، وأن يساومها ويضغط عليها، إذ هدد الدول الفقيرة وتوعد الدول الضعيفة، وأعلن الحرب على الأمم المتحدة وعلى المؤسسات الدولية التابعة لها، فأظهر عدوانية بلاده وعدم أخلاقية سياستها، إذ توعد المعارضين لقراره بعقوباتٍ قاسية وردودٍ موجعة، ووعد المؤيدين لقراره أو المتغيبين عن الجلسة والممتنعين عن التصويت بحوافز ومكافئات، وبهباتٍ ومساعداتٍ.
لهذا كله وغيره يشكر الفلسطينيون ترامب على غبائه، ويقدرونه على وضوحه وصراحته، ويرون أنه ساعدهم على إعادة الثقة بأنفسهم، والاعتبار إلى قضيتهم، واستعادة الوحدة بينهم، ولعله ما أراد هذه النتيجة وما كان يتمناها وقد صدمته مظاهرها وأقلقته تداعياتها، ولو علم أنه سيخدم بقراره العنصري الفلسطينيين وسيضر بالكيان الصهيوني ومعسكره ما أقدم عليه، لكن ما الذي يمنع أن يتسبب غبيٌ في هزيمة بلاده، أو مجنونٌ في خراب أوطانه، أو معتوهٌ في انهيار بنيانه، اللهم إلا الجهل والغباء والعناد الذي دفعه لارتكاب هذه الحماقة وخوض غمار هذه المواجهة.
إسرائيل وأمريكا تنسحبان من المنظمات الدولية وفلسطين إليها تنتسبُ:
أصيبت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها دولة الكيان الصهيوني بالسعار والجنون، بعد الصدمة التي شكلها التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي مس قداسة القدس ومكانتها، وهدد مستقبلها وعبث بهويتها الحضارية والدينية، وقرر نقل ملكيتها اعتباطاً وتغيير سيادتها ظلماً، عندما اعترف بها عاصمةً موحدةً للكيان الصهيوني، وقرر نقل سفارة بلاده إليها، دون مراعاةٍ للحق أو التزامٍ بالقانون، ولكن تصويت أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة بالغالبية العظمى ضد قراره، وتأكيدهم على الاحتفاظ بوضعية المدينة المقدسة وعدم المساس بها، التزاماً بالقرارات السابقة لمجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، أحرج الإدارة الأمريكية وعزلها، وانتقد السياسة الأمريكية وحشرها، إذ لم يقف معها غير سبعة دولٍ مجهريةٍ لا تكاد تبين ولا يعرف باسمها أحدٌ بالإضافة إليها والكيان الصهيوني.
استشاطت الحكومة الإسرائيلية غضباً وأصيبت بالخبل والذهول، وخرج الرئيس الأمريكي ترامب عن طوره، وبدأ يصرخ ومندوبته في الأمم المتحدة دون وعيٍ وإدراك، وبلا تمييزٍ وتقديرٍ، وصار يتخبط في تصريحاته المتضاربة كالغِر عديم الخبرة، وكالجاهلِ فاقدِ المعرفة، وتبعه رئيس حكومة الكيان وأعضاء حكومته في هستيريا عنيفة، وحمى شديدة الوطأة، أدخلتهم جميعاً في حمأةٍ آسنةٍ أربكتهم، وفي فوضى عارمة أفقدتهم التوازن والتركيز، إذ هددوا الدول والحكومات التي أيدت القرار وعارضت الإرادة الأمريكية والرغبة الإسرائيلية، بقطع المساعدات عنهم، ووقف تمويل مشاريعهم، ومعاقبتهم بشدة على سلوكهم، وعدم التهاون في التعامل معهم.
وامتدت التهديدات الأمريكية والإسرائيلية المجنونة، التي حملت شبهة الثأر والانتقام والعقاب والقصاص، لتطال المؤسسات الدولية والمنظمات الإقليمية ومؤسسة الأمم المتحدة، حيث تهكم الطرفان بهذه المؤسسات، واستخفوا بجديتها، واتهموها بالتبعية والذيلية، وأنها منحازة وغير عادلة، وأعلنا نيتهما الانسحاب من بعضها، وعدم تمويل الأخرى منها، وأكد الرئيس الأمريكي عزمه تقليص مساهمة بلاده في ميزانية الأمم المتحدة، التي وصفها بأنها نادي العاطلين، واعتبر أن قراراتها غير مسؤولة، ولا يجب الإصغاء لها أو الاهتمام بها، وهي نفس الشعارات التي رفعها إبان حملته الانتخابية الرئاسية، والتي أكد أنه سينفذها في حال فوزه، وما نراه اليوم ليس إلا ترجمةً دقيقة لشعاراته الانتخابية التي هي ثوابته السياسية.
أما حكومة الكيان الصهيوني فقد كانت قبل القرار غاضبةً جداً من منظمة التربية والعلوم والثقافة "الأونيسكو"، التي سبق لها أن أصدرت أكثر من قرارٍ يدين الكيان الصهيوني، وينفي السيادة اليهودية على الأماكن المقدسة في مدينة القدس، في الوقت الذي أكدت فيه السيادة الفلسطينية عليها، الأمر الذي أغضب الإسرائيليين وأزعجهم، فأطلقوا سلسلة من التصريحات المنددة بهذا القرار، والرافضة لسياستها، وأكد رئيس حكومتهم نيته الانسحاب منها وعدم المشاركة في اجتماعاتها ولقاءاتها الدورية، أسوةً بقرار الإدارة الأمريكية الذي قضى بالانسحاب من عضوية الأونيسكو، والذي وصفه نتنياهو بأنه قرارٌ أخلاقي شجاعٌ وجريءٌ.
تكرر موقف الحكومة الإسرائيلية نفسه مع منظمة اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة "الأسكوا"، التي أصدرت رئيستها ريما خلف تقريراً يصف ممارسات سلطات الاحتلال بالعنصرية، ويطالب بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وتمكين أهلها من تأسيس دولتهم وتقرير مصيرهم، ورغم إصرار الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريوس على سحب التقرير والتراجع عنه، إلا أن التهديدات الإسرائيلية والأمريكية للمنظمة التي خضعت لها واستجابت لشروطها وسحبت تقريرها بقيت على حالها، ولم يخفف منها إلغاء التقرير واستقالة المديرة التنفيذية العامة، الأمر الذي يشير إلى تفاقم الانحياز الأمريكي المطلق لصالح الكيان الإسرائيلي في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب.
يبدو أن الإدارة الأمريكية ومعها حكومة الكيان الإسرائيلي سيمضيان قدماً في مشروع الانسحاب من المنظمات الدولية، وتقليل الاعتماد على منظمة الأمم المتحدة، وعدم اللجوء إليها أو القبول باللجوء إليها لحل أي مشكلة دولية، والاكتفاء بالمواقف السيادية لها، التي تعتمد على القوة والنفوذ في فرض القرارات التي تريد، وتمرير السياسات التي ترى وجوبها، وذلك لإحساسهما بأن المجتمع الدولي يتجه لرفض سياستهما، ويتجرأ في الاعتراض على قراراتهما، الأمر الذي سيحرجهم وسيعمل على عزلهم، إذ لم يعد من الممكن دولياً القبول بالممارسات الإسرائيلية، أو باستمرار احتلال الأراضي الفلسطينية، ومنع الفلسطينيين من تقرير مصيرهم وتأسيس دولتهم، وقد تكون الخطوة الأمريكية القادمة تجاه مجلس حقوق الإنسان، التي ستبادر بالانسحاب منه بعد الإهانات التي تعرضت لها فيه، والانتقادات التي تلقتها من كثيرٍ من الدول الأعضاء، والملفات والقضايا التي أثارها أعضاء المجلس التي تُعتبرُ الولايات المتحدة الأمريكية طرفاً فيها ومتهمةً بها.
بالمقابل فإن فلسطين قد حصدت نتائج التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولمست درجة التأييد الدولي لها رغم حملات الترغيب والترهيب، والضغوط والتهديدات الأمريكية لكل دولةٍ تخرج عن بيت الطاعة، حيث أن دولاً كثيرة رفضت الخضوع لمنطق الابتزاز المادي، والمقايضة على المبادئ والأخلاق مقابل الدعم المادي والوعود السرابية، وأبدت استعدادها الكامل للتصويت لفلسطين في كل المحافل الدولية والمؤسسات والمنظمات الأممية، ولعل الأصوات التي ستنالها في أي تصويتٍ قادمٍ سيتجاوز ما نالته في التصويت الأممي على مستقبل القدس وما حصلت عليه في قرار منظمة الأونيسكو.
ينبغي على السلطة الفلسطينية أن تكون جادةً في تهديداتها، وصادقةً في وعودها، ومخلصة في الدفاع عن شعبها وحماية مقدساتها، وتمضي قدماً في الالتحاق بالمؤسسات والمنظمات الدولية، دون خوفٍ من الضغوط الأمريكية والتهديدات الإسرائيلية، وعليها أن تستفيد من الأجواء العامة والمناخات التي وفرها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي يشكل بالنسبة إلى فلسطين قاعدة انطلاقٍ جديدة، ومنصةً أخرى للعمل الوطني الجاد والمثمر، فالقدس تنتظر منا المزيد من الحراك الدولي والنشاط الدبلوماسي، إلى جانب الحراك الشعبي ومسيرات التضامن ومظاهرات التنديد الدولية.
قرارُ ترامب يطلق الكلاب ويفلت الذئاب:
يبدو أن القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باعتبار القدس هي العاصمة الموحدة للكيان الصهيوني، وبنقل سفارة بلاده إلى مدينة القدس، قد أطلق إشارة البدء وصافرة الانطلاق لسلسلةٍ طويلةٍ من الإجراءات والقرارات الإسرائيلية الصاخبة، وأتاح المجال للمتطرفين الإسرائيليين وغلاة المستوطنين والمتشددين المتدينين والقوميين معاً لأن يعبروا عن رغباتهم المتطرفة، ويكشفوا عن مكنون نفوسهم الخبيثة، وينفذوا ما استعصى عليهم قديماً، واستحال عليهم سابقاً نظراً للظروف الدولية والإقليمية، والعقبات التي كانت تعترضهم، والمقاومة التي كانت تمنعهم وتصدهم، ولكن القرار المشؤوم أخرجهم من جحورهم وبث سمومهم كالأفاعي، وأطلقهم على الأرض يلذغون ويغدرون كالعقارب، فبات خطرهم أشد وأقسى، وفعلهم أسوأ وأخبث، دون خوفٍ يقيدهم، أو ترددٍ يمنعهم، أو خصمٍ يتعقبهم.
توالت المشاريع وتسارعت الخطوات، وهي أكثر مما نعتقد، وأشد خطراً مما نتوقع، وقد استغلت الحكومة الإسرائيلية فرصة القرار الأمريكي فاستثمرته كما تريد وفسرته كما تحب، وشعرت أن الظروف العامة تخدمها والأوضاع الفلسطينية والعربية لا تستطيع أن تصدها، وهي فرصة قد لا تتكرر بهذه المواصفات والحيثيات، فضلاً عن أنها من جانبٍ آخر تخدم نتنياهو المهدد في مستقبله، والمتهم مع زوجته في قضايا عديدة، فالمضي في بعض هذه المشاريع قد يبعد عنه شبح تحقيق الشرطة وكابوس المحاكمة والسجن، وفي الوقت الذي يحقق فيه بعض المنافع الشخصية وهي هامة بالنسبة له ولها أولوية عنده، فإنه سينجح في استرضاء قادة ائتلافه الحاكم ورموز التشدد والتطرف والاستيطان في الأحزاب اليمينية والدينية.
كانت أولى الخطوات التصعيدية التي انتهزت الظرف واستغلت القرار، إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية المصادقة على مشروع بناء ثلاثة آلاف وحدة سكنية في مدينة القدس ومحيطها، وهذا من شأنه مع ما سبق من مشاريع معدة سابقاً أن يطوق مدينة القدس بالمستوطنات والأحياء اليهودية، وأن يعزلها عن محيطها العربي، ويزيد عدد سكانها اليهود بالمقارنة مع السكان العرب، المحرومين من التوسع والبناء، وممنوعين من الترميم والصيانة، ومهددين بالطرد والحرمان من الهوية والمواطنة المقدسية.
وأصدر رئيس بلدية القدس الصهيوني نير بركات تعليماته إلى طواقم بلديته لإعداد خطة شاملة وكاملة لجميع شوارع ومرافق وأنحاء مدينة القدس، والمباشرة في عبرنتها، أي إعادة تسميتها باللغة العبرية، وإعادة الأسماء العبرية القديمة التي يعتقدون أنها كانت لها قبل آلاف السنين، على أن يتزامن هذا الإجراء مع شطب كافة الأسماء العربية، وتغيير كافة اللوحات الطرقية التي تحمل أسماءً وإشاراتٍ عربية، علماً أن هذا المشروع كان حلماً قديماً يراودهم، لكنهم كانوا دوماً يعجزون عن تنفيذه، ويلجأون إلى إرجاءه عاماً بعد آخر.
بالتزامن مع مشاريع استكمال عملية تهويد مدينة القدس، ينوي أعضاء الكنيست الإسرائيلي مناقشة مشروع فرض عقوبة الإعدام على الأسرى الفلسطينيين الذين يدانون بعملياتٍ عسكريةٍ يقتل فيها مواطنون إسرائيليون، ويطمح العديد من أعضاء الكنيست بالإضافة إلى وزير حرب العدو أفيغودور ليبرمان وغيره، إلى إقرار هذه العقوبة والموافقة على تنفيذها بحق المدانين من الأسرى الفلسطينيين، ويرون أن الفرصة مواتية جداً لإقرارها واستخدامها سلاحاً رادعاً في وجه المقاومة الفلسطينية، ولا يرون عيباً في تنفيذها رغم اعتراض الأمم المتحدة ولجان حقوق الإنسان الدولية عليها، وهي نفسها التي تعترض على الولايات المتحدة الأمريكية التي يصفونها بأعمق الديمقراطيات في العالم، ومع ذلك فهي تنفذ عقوبة الإعدام في حق المدانين بارتكاب جرائم قتلٍ.
في ظل هذه الأجواء المشحونة بالتوتر والعنصرية والكراهية، قام عضو الكنيست الإسرائيلي روني حزان بالاعتداء على كرامة الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، وتهجم بصورةٍ سافرةٍ وبكلماتٍ بذيئةٍ نابيةٍ على والدة أحد الأسرى، بينما كانت في حافلةٍ عائدةً من زيارة ابنها الأسير، وقد تعمد حزان الإساءة إليها، وقام جندي يرافقه بترجمة كلماته النابية وكررها على مسامعها أكثر من مرةٍ، واصفاً الأسرى وابنها بالحشرات، ولم تقم أي جهةٍ رسمية باستدعاء النائب المذكور للتحقيق معه أو إدانته بما ارتكب من جرمٍ شائنٍ بحق هذه الأم وابنها.
أما حزب الليكود الذي يترأس الحكومة الإسرائيلية ويعتبر قلب الائتلاف الحاكم وعموده الفقري، فإنه يمثل قمة التطرف والتشدد، ولعله يقف على يمين الأحزاب اليمينية الدينية والقومية، فقد أعلن عزمه إجراء استفتاء داخل حزبه على مشروع ضم الضفة الغربية بصورةٍ نهائية إلى الدولة العبرية، لتكون جزءاً من الكيان الصهيوني، تخضع لسيادتها ويطبق القانون الإسرائيلي عليها، وذلك تمهيداً لعرض المشروع بعد إنضاجه على الكنيست لدراسته في أكثر من قراءة والتصويت عليه، حيث أنهم يعتقدون أن الضفة الغربية هي "يهودا والسامرة"، التي تمثل قلب الممالك اليهودية القديمة، وبذا فإنها جزء أساس من الدولة اليهودية المنوي الإعلان عنها وجلب الاعتراف الدولي بها، وتمهيداً لهذه الغاية فقد انطلقت أوسع حملة استيطان ومصادرة أراضي لبناء مستوطناتٍ جديدةٍ أو توسيع القائم منها، ولن تقتصر هذه المشاريع الاستيطانية على مدينة القدس وحدها، بل ستتجاوزها إلى كل أراضي الضفة الغربية.
وفي معرض مواجهتها لحملة الاحتجاج الفلسطينية، وقبل أن تتحول إلى انتفاضةٍ عامةٍ وشاملة، فقد اعتمدت سياسة التصعيد العسكري والتهديد باستخدام القوة المفرطة، وعمدت إلى استهداف الأطفال والنساء، وإطلاق النار على الجميع بقصد الإصابة أو القتل، وحتى لا تتعرض الحكومة الإسرائيلية إلي انتقادٍ أو إدانةٍ دولية، فقد باشرت الانسحاب من بعض المؤسسات والمنظمات الدولية والإقليمية، واستنكرت قراراتها ووصفتها بأنها غير مسؤولة، ويبدو أنها ستقوم في الأيام القلية القادمة بما يغيظها ويستفزها.
إنه قرارُ ترامب الأهوج الذي فتح الأبواب أمام الكلاب الإسرائيلية المصروعة لتنبح وتعض وتنهش، وللذئاب الصهيونية لتهاجم وتنقض، دون خوفٍ من أحدٍ، أو مراعاةٍ لجهة، فسيد العالم الذي يتطلع إلى محاكاة الكابوي قد سبقهم إلى الحلبة والميدان، وحثهم على اللحاق به واتباعه، لكنه وهم ما عرفوا أن هذا الشعب قد لبس لأمته وأعد عدته وقرر مع أمته مواجهته والتصدي له، مهما بلغت قوته وعظم سنده، وكثر سلاحه، وما كان لشعبٍ امتشق سلاحه وآمن بحقه، أن يعود دون هدفه أو يرجع منكساً رأسه.