يرى الناقد المغربي أن هذه الرواية اختار لها كاتبها صيغة المتكلم، فأخذت من السيرة الذاتية ومن المتخيل الذاتي جماليتيهما، وأهم الخاصيات الكتابية التي خرجت بالرواية من فخ السيرة الذاتية، تمثلت في كون الكاتب لم يقم تطابقا بين السارد والشخصية المحورية، فجعل السارد شخصية من بين الشخصيات المتحدث عنها، والتي يروي محكياتها منفصلة ومتداخلة

الرواية بين حدود السيرة الذاتية والتخييل الذاتي

الروائي المغربي يوسف شبعة الحضري في «الشريفة»

محمد معتصم

تخلقُ الرواية المكتوبة بضمير المتكلم نوعا من الارتباكِ عند القراء، لأنها تتموقع بين ثلاثة أنواع من الكتابة التخييلية: السيرة الذاتية التي شبه الكتابة التاريخية في كونهما محكيات على الدرجة الصفر من المستوى التخييلي، واعتمادهما على المادة الواقعية، ولأن قصديهما يقومان على إيهام القارئ (المتلقي عموما) بحقيقة وواقعية المحكيات؛ والتخييل الذاتي الذي يضيق بالواقع والحقيقة ويتوق إلى تنشق هواء الحرية عبر التخييل، كما أنه يستند إلى خيال الكاتب من أجل ترميم الذاكرة وتوثيق الأحداث المروية؛ واستيهامات الشخصيات المتخيلة من أجل توسيع دائرة التخييل، كما يتهرب التخييل الذاتي من ضيق السيرة الذاتية المتمثل في الوظيفة التعليمية، وتقديم المعرفة اليقينية والخبرة الشخصية. أما الرواية التي وجدت ضمن ضمير الغائب بعيدا عن كل متاهات السيرة الذاتية قريبة من التخييل الذاتي، أو أنها تجمع بينهما في توازٍ وحياد.
رواية «الشريفة» للكاتب المغربي يوسف شبعة الحضري، اختار له كاتبها صيغة المتكلم، فأخذت من السيرة الذاتية ومن المتخيل الذاتي جماليتيهما، وأهم الخاصيات الكتابية التي خرجت بالرواية من فخ السيرة الذاتية، تمثلت في كون الكاتب لم يقم تطابقا بين السارد والشخصية المحورية، فجعل السارد شخصية من بين الشخصيات المتحدث عنها، والتي يروي محكياتها منفصلة ومتداخلة وحتى محكيات سردية استئنافية، تبدأ في أول الخطاب الروائي وتتوقف فاسحة المجال لمحكيات أخرى ثم يعود السرد لاستئناف السرد لاحقا.
يمكن أن نطلق على الرواية، انطلاقا من موضوعتها المحورية، اسم «حكاية أسرة مغربية» أو اختصارا وتعميما: «حكاية مغربية»، لأنها حكاية متكررة، وعاشتها كثير من الأسر المغربية وغيرها، بعد وفاة الوالد المعيلِ، وتهافت بعض أفراد العائلة على حقوق الأيتام والأرامل.
غالبا ما ينحو هذا النوع من المحكي نحو المأساة، لأنه يرصد الجانب السيء والمظلم في نفس الإنسان. تبدأ القصة من محاولة إعادة ترتيب الوقائع والأحداث، بداية متوازنة يضع فيها السارد نقاط انطلاق المحكيات وذلك باختيار الحديث عن الجدين عبد السلام الذي سيموت مبكرا مع مطلع يوم انطلاق المسيرة الخضراء نحو الصحراء، في السبت 6/11/1975، ويما رحمة التي ستواكب كل التحولات والاهتزازات وتساهم فيها بنصيب. الغاية من هذه المقدمة السردية هي عرض الشخصيات المساهمة في بناء المحكي الإطار، ويمكننا تصنيفها كالآتي:
المجموعة الأولى: تضم الإخوة الأحد عشر، وضمنهم عبد المجيد.
المجموعة الثانية: تضم أيتام عبد المجيد وأرملته «الشريفة».
أما العنصر المشوش الذي سيغير مجرى السرد وينتقل به إلى حالة الاضطراب والبحث عن الحل، فيمثله وفاة عبد المجيد على إثر حادثة سير مفجع. بعد الوفاة، وفشل العلاج، ستنقلب الموازين تظهر الأطماع التي كانت دفينة، والإنسان ميال إلى الجشع والطمع إذا لم يجد رادعا يردعه، وأول الطامعين رشيد.
محكي رشيد نموذجا واضحا للمحكيات الاستئنافية، التي تبدأ أحداثها لتتوقف بالانتقال إلى محكي آخر مغاير (قصة زواج عبد المجيد من «الشريفة» ومسرد يعرف بالعائلة الشريفة في طنجة، ص (89) وما يليها)، أو تتوقف بفعل الوصف الأمكنة والأشياء، أو تتوقف أحداثها بترتيب من السارد للزمن أو الفكرة والقصد. يبدأ محكي رشيد حين عرض عبد المجيد على أخيه رشيد الاشتغال معه في بيع التحف المغربية للسياح الأجانب براتب شهري يفوق طموحه. أطلق عبد المجيد ثقته ويد أخيه في ماله ومتاعه بالسماح له بالتوقيع نيابة عنه على المعاملات المالية خاصة في حال غياب المالك، وقد أتقن رشيد تقليد ونسخ توقيع وإمضاء أخيه. يتوقف السرد (محكي رشيد) ليُسْتَأْنَفَ في الصفحة 109 وما تلاها في سرد متلاحقٍ، كأن السارد يأنف من سرد كل شيء، أو يتحاشى تذكر الوقائع المؤلمة التي تجرعها وهو طفل يتيم بين إخوته وأمه التي لا حول لها ولا قوة، كالآتي:
إقناع رشيد أرملة أخيه بتوكيله أمرها وأبناءها.
الاحتيال على الشريفة والأيتام في آن.
احتيال رشيد على أمه وإخوته.
تدخل القدر صبيحة يوم توقيع وثيقة البيع: «…رفعت السماعة، وإذا بصوت زوجة رشيد وهي تصرخ وتجلب وتلطم كالنائحة، مخبرة إياها بوفاة رشيد بسكتة قلبية وهو يهم بالخروج من البيت!».
اخترت هذا المحكي من بين محكيات أخرى: محكي عبد الرحمان أو محكي خديجة أو محكي عبد المجيد… يما رحمة أو محمود أو خالد… أو زين الدين أو عبد الرحيم، لأنه محكي مركزي ومنسجم ومترابط البناء ولأجل المقاصد المتضمنة فيه اجتماعيا ونفسيا، ولأنه يمثل نموذجا من النماذج السلبية المنتشرة في حياة الناس، تلك التي تقع تحت سلطة الجشع والطمع فتعمى عن الحق فتكون الطريدة والضحية في الوقت الذي يتبدى لها في مخيلتها أنها المُطَارِدُ. ثم لأنه محكي يمثل نموذجا من المحكيات السردية الاستئنافية المتعددة الوظائف الفنية والتقنية والجمالية في كتابة الرواية المعاصرة.

المحكيات الساخرة لامتصاص سواد الفاجعة

ينزع محكي العائلة غالبا نحو المأساة والفاجعة، هنا في «الشريفة»؛ نجد وفاة الأب عبد المجيد، ووفاة الابن المعاق والموهوب المحبوب عبد الرحيم، معاناة الأيتام ومعاناة الأرملة من سوء معاملة وسلوك إخوة زوجها الهالك وأمه. هنا بعض تلك المحكيات:
«الزيلاشي» والجني والحَمام»: عندما صادف «الزيلاشي» سي عبد السلام «الفرنتشي» في طريق قفوله، بادره شاكرا على صنيع الكسال الذي يشتغل معه بحمامه، للوهلة الأولى ظن «عبد السلام» القائم على (مدفأة الحمام) أنه يتكلم عن كسال بحمام آخر، وعندما تيقن بأنه يتكلم عن حمامه، أخبره بأنه للتو ذاهب لفتحه… كاد «الزيلاشي» أن يجن، [...] ليكتشف «الزيلاشي» أن من تولى الإشراف على عملية فركه وتكسيله في هيئات وأوضاع مختلفة، ومن شده كالوتد للأرض ومن مرر على جسده الصابون البلدي، لم يكن سوى جني أسود فحم الجثة».
عبد الرحمان والزبون والحمار:» نظر أحمد إلى العربي مبتسما قائلا: صديق لك من مكة يبلغك السلام.
العربي: من مكة ويبلغني السلام.
أحمد: الله يا سي العربي من ينسى الرجال وعلى نذرتهم في هذا الزمان.
العربي: كثر من نلتقيهم بالحج أسي أحمد، ولكن يطويهم الزمان طي السجل للصحف.
أحمد: ولكن هذا الرجل من نوع خاص وصاحب فضل وعشرة.
العربي: لم أعرفه.
أحمد: شغل مخك، حاول أن تتذكر.
العربي: لا يحضرني الآن شخص بعينه.
أحمد: ألا يحضرك الحمار هههههه.
لينطق الشاهد: وأنا من الشاهدين أسي العربي، كاد الحمار يفقد سمعه من صراخ سي أحمد في أذنه اليمنى، مضيفا الغريب أنه لما سمع باسمك تجاوب مع السي أحمد وحرك ذيله، ليدخل الجميع في حالة هستيرية من الضحك».
إدريس والخمر: «… تؤجل نومها إلى حين أن ينام إدريس أولا، لتتأكد بنفسها إن كانت قنينة الغاز «بوطاكاز» أغلقها عند مغادرة المطبخ، حيث كان يعمد إلى إشعال سيجارته بدل الولاعة من آلة البوطاغاز بالمطبخ، وهو ثمل ثمالة وشبه عار وخصيتاه كـ»الكرموس» المتدلي من شجرة التين، لا يستطيع الوقوف رأسيا ولو ثانية من شدة سكره، كنا صغارا نرقب خصيتيه وهو في تلك الحالة، مشبهين إياهما بخصيتي كلب سلوقي منبوذ».
عبد الرحيم وخيال الظل: «… كنا ثلاثتنا في شغل شاغل حول طبق «الكوارع» منشغلين بالأكل، فاجأنا عبد الرحيم قائلا: ما هذا السخط الذي فوقنا؟ رفعنا أبصارنا فإذا برمز الفحولة منثور فوق رؤوسنا كشجرة بأغصان مثقلة بالموز تسقط على رؤوسنا، ما إن رمقناه بأعيننا حتى سقطنا صرعى على الأرض ضحكا [...] الغريب في هذا كله أننا كنا شديدي الحياء من بعضنا البعض…».
وهكذا فإن هذه المحكيات العائلية تضيق المجال على التخييل وتكاد تضعه، كما هي حال السيرة الذاتية والنصوص الواقعية، على درجة الصفر. إلا أن السارد قلص من دكنة السواد وقسوة الألم والفاجعة بالسخرية، وبتسجيل مواقف ساخرة وهزلية في المحكيات المشهدية السابقة، التي كانت غير تامة وبمثابة تعويض عن الخيال السردي.

يوسف شبعة الحضري: «الشريفة»
منشورات سليكي أخوين
طنجة، 2017
197 صفحة.

 

عن جريدة القدس العربي