رواية "الفيومي" لطاهر الزهراني رواية مكان بامتياز، حيث تظهر جماليات المكان وتنوعه وتغيراته المختلفة، ولكنه لم يكن مستقلًا بذاته في الرواية، وإنما جاء خلفية لتحركات وتنقلات ونشاطات عطية الشخصية المحورية في الرواية، حيث برز بصفته الفضاء الذي تتمظهر فيه شخصية عطية وأفعاله والأحداث التي تبرزه مؤثرًا ومتأثرًا.
شخصية عطية في الرواية ليست نمطية، بل هي متمردة، متحركة، متجددة، نامية، فاعلة، إيجابية، لامنتمية، لا ترضخ لواقعها، ولا تتصالح معه بسهولة، وتصر على تنفيذ ما تؤمن به وإن على حساب راحتها وحياتها، كان "يتمتع بنوع من التمرد، والتفرد بآرائه، ويعتدُّ بذلك، وهذا الأمر يعجب والده، إلا أنه لا يظهر ذلك. في النهاية لدى والده يقينٌ أنه سوف يرضخ ذات يوم، ويرضى بالعمل معه."(18)
عندما غاب/غُيِّب عطية عن الديرة وشعب آل فيوم، اختلف كل شيء، وعاد المكان مهجورًا خربًا، لا حياة حقيقية فيه، فقد كان عطية دينمو المكان، الذي أحياه من جديد، بعد أن تركه أهله وهجروه إلى المدن؛ بحثًا عن الرزق وحياة أفضل في مكان آخر.
تظهر شخصية عطية المتفردة المتمردة اللامنتمية من خلال مواقف كثيرة في الرواية، نقف على أهمها:
يضيق عطية ذرعًا بالحياة في جدة، بسبب ما فيها من ضجيج وزحام في كل مكان "يشعرُ برغبة في البكاء، متضايقٌ من الحياة، لم يعدْ يطيقٌ الزحامَ، والضجيجَ، يشاهد العدد الهائل للسيارات، الزحام في كل مكان"(18)، بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار، وصعوبة الحصول على العقار، وانقطاع المياة، ومياه الصرف الصحي التي تغرق الشوارع، والهواء الملوث.
وهو على خلاف معظم الناس، لا يحب البحر، ولا يطيقه، "الشيء الوحيد الذي لم ينسجم معه عطية هو البحر، لا يذهب إلى البحر إلا غضبًا، يكره زنخه، ورطوبته، وزحامه، يعود منه متكدِّرًا ضائقَ الصدر، حتى عندما يُضطر لسلوك طريق الكورنيش، فإنه لا يلتفت إليه مطلقًا، يدرك عطية أن علاقته بالجبل جعلته كائنًا جبليًا لا يرتضي غيره."(33). وهو سلوك غريب، فمن لا يُحب البحر؟ ولكن عطية مخلوق جبلي، يعشق الجبال، ولا يألف سواها، والجبل والبحر لا يأتلفان.
ذهب ذات صباح ليراجع ديوان الخدمة المدنية في جدة، فوجد آلاف المنتظرين في القوائم، وهؤلاء يحتاجون إلى سنوات طويلة للتوظيف، فـ" خرجَ من المبنى، وقد غسل يده من الوظيفة المدنية، يشعر أن جدة التي عاش فيها كل حياته تريد أن تلفظه."(19)
عندما التحق بالجيش في القطاع الجنوبي، مُني معسكره بخسائر عديدة بسبب قناص ليلي كبدهم عددًا من الشهداء، ولكن عطية بذكاء وتدبير استطاع أن يُنهي أمر القناص إلى الأبد. ولما احتفل زملاؤه بانتصارهم الصغير، وأخذوا يضحكون ويغنون كان "عطية يشعرُ بداخله بشيءٍ مكسور، فهو لأول مرة يظنُّ أنه أزهقَ روحًا.."(22)؛ لأنه يؤمن في قرارة نفسه أن القاتل والمقتول ضحايا ووقود لصراعات عبثية، فالمسألة من السهل حلها دون أن تتساقط الأرواح، لكن يبقى التعنت سيد الموقف، والرغبة بالقتل والدمار هي التي تحرك كل شيء، وتتحكم بمصائر الشعوب.
بعد إنتهاء الحرب، وعودته إلى جدة، قرر ترك العسكرية على الرغم من الترقية والمكافأة والعرض أن يصبح مدربًا للرماية نظرًا لكفاءته ومهارته، إلا أنه رفض؛ لأن روحه تعذبت بما فيه الكفاية، "شعرنا بالانتصار، لكننا هُزمنا بطريقة أو بأخرى، لقد تكبدنا في هذه الحرب خسائر في الأرواح أهمّ بكثير من المليارات التي صُرفت عليها."(27)
وأخيرًا رضخ عطية، وعمل في المستودع كما تنبأ والده من قبل، لكنه ما لبث أن تركه حانقًا عندما طلب منه أخوه إحضار كرتونة فوط، "فهو لم يتصور أنه في يوم من الأيام سينقل كراتين الفوط النسائية، بعد أن كان يحمل صناديق الذخيرة على الحدود."(30)
في أثناء مسيره من جده إلى الديرة، مرَّ بالجبال التي يعشقها "للجبل في روحه حضورٌ مهيبٌ، لا يزداد مع الأيام إلا رسوخًا وتمددًا في سرِّه، لهذا لا زالت في عنقه عمرة معلَّقة، بعد أن شاهد البشر يدكون جبال مكة، فلم يطقْ صبرًا، فكيف يقومون مقام الربِّ في دكِّ الجبال، فعاد أدراجه دون إكمالِ النسك!"(32-33)، وعشق الجبال يرتبط –عادة- بأصحاب الهمم العالية، والعزم القوي، والبأس الشديد، الذين يتطلعون للأمام، ولا ينظرون للخلف.
في طريقه اشترى "حلالًا" وبقرة حمراء لجدته وسلاحًا وذخيرة، وفي الديرة قام بترميم بيت العائلة، وحرث "البلاد/الأرض" وزرعها، فهو أتى ليعيش الحياة التي يحبها بعيدًا عن صخب المدينة وتلوثها، فأحيا المكان، ووجد في جدته ووجدت فيه الأنس والسلوى.
شعر بالانتشاء والسعادة، فهو سيد المكان، يتفقد خلايا النحل في أعالي الجبال، يرعى الغنم مع كلبه غنام، يعيش حياته كما يحب. كان يهوى القنص والصيد، ولذا غضب عندما فشل في صيد "وبر" تحداه، فعزم أن يحتال عليه ويثأر منه، ونجح بعد التفاف وترصد، اصطاد الوبر وأسرع إلى جدته لتعد له الحساء الذي يحب.
شخصية عطية تأبى الاستسلام والاعتراف بالهزيمة، ولذا قبل التحدي في مباراة الرماية في عرس ابن الشيخ عبدان شيخ القبيلة وكبيرها، وكان في مقدوره أن يتخلف، فهم يعدونه أدنى درجة منهم، ولكنه أبى وعزم على أن يلقنهم درسًا، واشتد تصميمه عندما قرر الشيخ أن يزوج ابنته الجميلة "غالية" لمن يصيب الهدف بعد أن استعصى.
فشل الرماة في إصابة الهدف، وتراجعوا وكل منهم قد مني بخسارتين، ولما تقدم عطية اعترض "هيَّاس" الأرعن ابن الشيخ عبدان، قائلًا: "الفيومي ما يرمي". ولكن الشيخ قرر أن يرمي بعد أن تدخل "حنش" صديق عطية، ومن وجهاء القوم وكبارهم. رمى عطية فأصاب الهدف، وفاز بغالية بعد موافقتها، على الرغم من اعتراض "هيَّاس" ومحاولته إفشال الزواج، إلا أن موافقة غالية، وتصميم الشيخ حسمت الموقف.
يهوى عطية حياة الجبل، فمن الحمق أن تركن إلى الدعة والرخاء والنوم الطويل وأنت تعيش وسط جبال عامرة بالحياة، تناديك، وتستحثك أن تكون جزءًا منها، ولذا كان عطية "يجلسُ في أحد الشِعاب، ينتظر، والانتظار في الجبل ليس كالانتظار في المدن، في المدينة يتسرب الملل كسمٍّ يفتك بمنابع الابتهاج، ويتراكم على مفاصل الحياة، فتكون الرغبة في الانحشار في زوايا الأسمنت، في الجبل الأمر يختلف تمامًا، ينظر الإنسان إلى تفاصيل الحياة الضخمة، والصغيرة، في الجبل ترغب في الصمت، فتزعجك القرود بصياحها، تترقب الصيد، وتشاهد العقاب يترصد معك، تتعلَّم من الحيوانات، والطيور، التعايش، والتضامن، في الجبل ليس هناك اعتداءٌ من أجل الطغيان، وحب التملّك، كل الكائنات في الجبل، تكتفي بقوتها اليومي، تم تدع الحياة تسير، كل في فلكه، ووفق اختياراته."(75-76)
في الجبل، شاغب عليه ثعلب ذات يوم، وأفسد عليه محاولاته لصيد الحجل، فاحتال عطية على الثعلب، حتى أمسك به، وضربه ضربًا مبرحًا حتى ظن أنه مات فتركه، إلا أن الثعلب فر هاربًا، ولم يعقب.
بعد أن توفي الشيخ عبدان تولى "هيَّاس" المشيخة، وبعدها بأسبوع زار بيت عطية وطلب منه أن يطلق "غالية"، فالاتفاق كان بينه وبين الشيخ، والشيخ مات، وهو الآن غير موافق على هذا الزواج، طرده عطية، وطلب منه أن لا يعود إلى البيت مرة أخرى.
تعرض حلاله للقتل بفعل فاعل، وأحرقت خلايا نحله، لكن عطية لم ييأس، شعر بحزن وألم الفقد، فمن الصعب أن يعيش المرء في الديرة دون حلال، لكنه قرر أن يتحدى، فهو يشعر أن هناك عدوًا يترصده ويوجه له الطعنات ليستسلم، لكن عطية لا يعرف هذا المصطلح.
ترصد عطية العدو بعين يقظة، وذات ليل قبض على "جمعان" الذي أرسله "هيَّاس" ليسرق ويقتل ويخرب ممتلكات عطية، وأعترف أن "هيَّاس" لن يتركه حتى يطلق "غالية".
أصرَّ ذات يوم على "غالية" أن ترافقه إلى الجبل، وفي أثناء الصعود، طلبت منه بدلال أن يحملها على ظهره، على الرغم من أنها تركب حمارًا، فلم يخيِّب رجاءها وحملها. هذا الفعل لا يقترفه رجل دون مبرر، وخاصة في منطقة ترى في مثل هذه الأفعال منقصة ومعيبة بحق الرجل، ولكن عطية فعلها حبًا، وكان النسر شاهدًا "النسرُ المحلِّقُ يرصدُ المشهد في الشَعب الكبير، وبين الشجر يشاهدُ رجلًا يحمل أنثى، يقفز على الصخور بخفّة دونَ أن تتزحزح من فوقه، يراقبُ النسرُ منديلها الأحمر وهو ينحسرُ عن شعرها.
حررت شعرها للنسيم، تحرك يدها كأنها ترغبُ في الطيران، يقرِّرُ النسرُ أن يتركَ المشهد العابث، يحرف جناحه نحو الجبال."(141)
وفي سقيفة أعدها عطية لاستقبال "غالية"، قضيا يومًا وليلة من أجمل لحظات العمر ببهجة وسرور، كما يحلو لهما، بعيدًا عن العيون والظنون.
عطية هذا الإنسان الصلب العنيد، حزن بشدة عندما اصطاد وبرًا، وعلم أنها أنثى وفي بطنها صغيرين، وتكفيرًا عن ذنبه وتأنيب ضميره، قرر أن يربي الصغيرين ويعتني بهما، وأوكل المهمة إلى غالية، لتكون أمهما.
نجح "هيَّاس" في مساعيه للتفريق بين أخته وعطية، وحصل على حكم القاضي لعدم التكافؤ، فهو صنايعي ونسبه دخيل، وهي بنت شيوخ. أخذوا "غالية" أمام عينيه، ولم يستطع أن يفعل شيئًا، فقد تدخل الجنود، وأخذوها تنفيذًا لأمر قضائي نهائي. وفي القسم "أخذوا تعهدًا عليه ألاّ يتعرضَ للشيخ، وألا يقتربَ من بيته، وأنه سوف يتعرض للعقوبة في حال الإخلال بذلك، وذكَّره الضابطُ في القسم أنَّ شيوخ القبائل هم من منسوبي رجالِ الدولة، وأن أي اعتداءٍ عليهم هو اعتداءٌ على الدولة، وإذا أراد أن يتظلَّمَ فهناك جهاتٌ يتقدم لها."(155)
بعد رحيل "غالية" أهمل عطية كل شيء، باع حلاله، وترك أرضه، ولم يعد يساعد الناس لأن مساعدتهم جلبت عليه النقائص والمعايب، وعاش في سقيفة الجبل، برفقة عيد وسعيد صغيري الوبر، سيَّب نفسه وشعره، ولم يعد يستحم إلا لضرورة.
أحكم "هيَّاس" حصاره على عطية، وحرض الأهالي والبلدية لضرورة أن يمر شارع من أرضه، حاول أن يعترض دون جدوى، فقد اتفقوا وأجمعوا أمرهم تنكيلًا به، فعزموا أمرًا وعزم أمرًا، ولما جاءت اللجنة بعد أسابيع ومعها "هيَّاس" لأخذ توقيعه وموافقته، لم يتردد فأرداه قتيلًا بطلقة واحدة.
تفرقت اللجنة طلبًا للنجاه، والتجأ هو للجبال يعيش فيها، مطاردًا. وبعد أيام جاءت المعدات الثقيلة لفتح الطريق ومعها قوات أمنية لحراستها ومطاردة الإرهابي عطية، وتبادل الطرفان الرماية وإطلاق النار، وأصابت رصاصات عطية، أردته جريحًا، تنزف جراحه بغزارة، فغاب عن الوعي، وهاجمته الكوابيس، ولما أفاق وجد نفسه في المستشفى تحت حراسة أمنية مشددة.
عطية في هذه الرواية، لا يتمرد على السلطة أو الدولة، وإنما يرفض أن تُستغل سلطات الدولة في أهواء ومصالح شخصية، وأن تُسخَّر أجهزتها في خدمة الظالم مهما كانت صفته أو مكانته. ومن يستطيع أن يزاود على حب وولاء عطية للوطن، وهو الذي قدم روحه فداءً له في الجنوب يوم نادى المنادي؟!!
نجح الزهراني في روايته "الفيومي (منشورات الضفاف، 2016) في رسم شخصية عطية إنسانًا أبيًّا حرًا،كما يجدر بالمواطن الفاعل أن يكون، وبث مجموعة من الرسائل، وأثار كثيرًا من الأسئلة التي لا تخفى على اللبيب.