يتناول الكاتب نص الروائية التونسية بالنقد، يمر على التفاصيل الحكائية والسرد الذي تغيّى قول التسامح، ليخلص أن الخطاب الروائي لم يوفق في مسعاه، من بناء الشخصيات إلى أن قول الرواية الذي تورط في الاستشراق المعكوس والأحكام المسبقة، وجعل خلاص المرأة القدري والاجتماعي بالزواج والروحي باعتناق اسلام ديناً.

جدلية التسامح والتعصب

في رواية «في قلبي أنثى عبرية» للتونسية خولة حمدي

الكبير الداديسي

نواصل الغوص في الرواية العربية المعاصرة بنون النسوة وبعد تقديم عدة أعمال من المغرب الجزائر مصر العراق لبنان سوريا السعودية الكويت.. نحط الرحال اليوم في تونس مع قلم نسوي غدا يفرض نفسه بقوة في السنوات الأخيرة بعد أن صدرت لها في السنتين الأخيرتين ثلاثة أعمال روائية، هي "أين المفر"، "غربة الياسمين" ورايتها الأولى "في قلبي أنثى عبرية" الصادرة عن دار كيان للنشر والتوزيع سنة 2013، في 774 صفحة من الحجم المتوسط، ونقصد بذلك الروائية والأديبة التونسية خولة حمدي. ونتيجة الإقبال على روايتها الأولى والتي صدرت طبعتها الطبعة الحادية عشرة سنة 2015 سنحاول تقديم هذا العمل لقرائنا الذين يتابعون سلسلتنا حول الرواية العربية المعاصرة بنون النسوة. فماذا تحكي هذه الرواية؟ وما خصائصها الفنية؟

تحكي رواية "في قلبي أنثى عبرية" أحداثا تنقل القارئ ما بين تونس، وجنوب لبنان، وفرنسا من خلال معاناة أبطال تتجاذبهم الديانات الثلاث (الإسلام، اليهودية والمسيحية) لتنتصر الكاتبة للإسلام في الأخير.

تتبتدئ الرواية بـ(نبذة تاريخية) تبرز فيها قِدَم وجود اليهود في تونس، وتؤرخ قدومهم لهذا البلد بأزيد من 2500 سنة عندما غزا نبوخذ نصر، ملك بابل، القدس وطرد اليهود وحرق معبدهم، فهاجروا إلى تونس وأسسوا أقدم كنيس يهودي بإفريقيا في جزيرة جربة، وفيها مازال يعيش إلى اليوم حوالي 2000 يهودي، منهم عائلة جاكوب الذي وجد نفسه مجبرا على تنفيذ وصية جارته المسلمة التي أوصته بالعناية بابنتها (ريما) بعد وفاتها، تنشأ ريما بين أحضان أسرة يهودية التزم فيها جاكوب بتربيتها تربية إسلامية؛ يأخذها كل يوم للمسجد لتتعلم الأمور الدينية رغم معارضة زوجته (تانيا) الحريصة على حماية أسرتها اليهودية من أفكار المسلمين. وإلى جانب هذه العائلة، كان يعيش سالم الرجل المسلم الذي فشلت علاقته بزوجته اليهودية (سونيا) فتزوجت ثانية من رجل مسيحي أرميني (جورج) وأخذت معها ابنتيها (ندى ودانا) إلى جنوب لبنان.

وكما كان (جاكوب) اليهودي بمثابة الأب لـ(ريما) المسلمة ، أصبح (جورج) المسيحي أبا في علاقته بـ(ندى) و(دانا) اليهوديتين. ولكن كلما تقدمت (ريما) في السن ازدادت الهوة بينها وبين زوجة عائلها (تانيا)، حتى جاء اليوم الذي اختارت فيه ارتداء الحجاب، فلم يكن أمام (تانيا) إلا طردها من البيت خوفا على أولادها، ووجد بابا جاكوب مخرجا لأزمته بإرسال (ريما) لتعيش مع أخته (راشيل) في قانا جنوب لبنان، هكذا تجد فتيات تونس (دانا) و(ندى) اليهوديتان و(ريما) المسلمة أنفسهن يتكيفن مع عوالم تعج بالصراع بين المقاومة الإسلامية والكيان الصهيوني جنوب لبنان. وحدث أن أصيب أحد المقاومون (أحمد) بشظية بعد تنفيذه لإحدى العمليات ضد الصهاينة، فوجد نفسه بعدما انفجر إطار سيارته يدق باب أسرة يهودية ويطلب عون (ندى) التي عملت على إيوائه مع صديقه (حسان) بقبو المنزل وسهرت على إسعافه بمساعدة قريبها المسيحي (ميشال)، المسؤول عن كنيسة، ورغم إصابته البليغة فقد أعجب (أحمد) بجمال (ندى) ومواقفها النبيلة ، لذلك أرسل أخته لشكرها وتطورت العلاقة بينهما ليتقدم لخطبتها. هكذا تضع الرواية القارئ في قلب الصراع والاختلاف بين الإسلام واليهودية من خلال تخوف أفراد العائلتين من مستقبل تلك العلاقة، في ذات الوقت كانت (ريما) الفتاة التونسية الأخرى تتعرض للتحرش والضرب من طرف زوج عمتها (راشيل) فاضطرت إلى إرسال الفتاة للاستقرار عند عائلة (ندى) بعد وقوف (راشيل) على أفعال زوجها، ويكون انتقال (ريما) إلى بيت (ندى) سببا في أن تلعب دورا رئيسيا في تمتين العلاقة بين (أحمد) و(ندى) وكأن الأقدار ساقتها لذلك. لكن الكاتبة فضلت أن تضع لها حدا -بعد أن ضيقت عليها الخناق وحولتها إلى مجرد خادمة في بيت (سونيا أم ندى) المتعصبة، وإن تعاطفت معها (ندى)- وفجرت جسدها أشلاء في يوم مطير بأحد أسواق قانا تحت القصف الإسرائيلي دون أن ينفعها تعاطف (ندى) معها شيئا.

يتحقق حلم اللبنانيين، ويتم تحرير جنوب لبنان وانسحاب الاحتلال الصهيوني، وتعم الفرحة بيوت أهل الجنوب اللبناني، لكن فرحة عائلات أبطال الرواية لم تكتمل بسبب غياب (أحمد)، لتنطلق رحلة (ندى) في البحث عن الحقيقة، ولما أضناها انتظار خطيبها فتحت لها الساردة نافذة للهروب من تلك الأجواء المكهربة، بحصولها على منحة دراسية بفرنسا لكن الغربة واختلاف القيم وما تعيشه من صراع داخلي حتم عليها العودة للبنان وإعلان إسلامها بعد مواضبتها على قراءتها للقرآن والسيرة تنفيذا لوعد قطعته لأحمد. ورغم وفائها وإخلاصها لـ(أحمد) قبلت خطبة (حسان) صديق خطيبها السابق بمباركة من أخته (سماح) التي فقدت كل أمل في عودة أخيها.

تتطور الأحداث بعودة (أحمد) إلى حضن عائلته فاقدا للذاكرة جراء صدمة جسدية (سقوطه في منحذر) ونفسية ( اعتقاده أن صديقه حسان يخونه مع خطيبته ندى إثر وجود صورتها لديه) لتجد (ندى) نفسها بين نارين: تنفيد وعدها لخطيبها الجديد (حسان) بالزواج أو الوقوف إلى جانب خطيبها السابق(أحمد) وتقديم يد العون له حتى يستعيد ذاكرته. تنتهي الرواية باستعادة (أحمد) لذاكرته، وزواجه بـ(ندى) في أجواء ترحيل جماعي لأبطال الرواية نحو الإسلام، حتى أولئك الذين كانوا أكثر اقتناعا بدياناتهم اليهودية أو المسيحية وأكثر نفورا من الإسلام خاصة من اليهود كما حدث لـ(سونيا) والدة (ندى) التي هربت بابنيتها خوفا عليهما من الإسلام، و(تانيا) زوجة (جاكوب) التي طردت (ريما) لحماية أسرتها.

يبدو من خلال رواية "في قلبي أنثى عبرية" مدى التداخل الديني في المجتمع العربي الذي تتفاعل فيه الديانات الثلاث (اليهودية، والمسيحية، والإسلام) إذ استطاعت الرواية أن تصور كيف تعايشت هذه الديانات طيلة عدة قرون، وكان يمكن لليهودية أن تتزوج المسلم أو المسيحي فتزوجت (سونيا) اليهودية من (سالم) التونسي المسلم وبعد ذلك تزوجت (جورج) المسيحي اللبناني، وكذلك تزوجت (تانيا) اليهودية بـ(جاكوب) المسيحي واحتضنا (ريما) المسلمة، فالزواج المختلط دينيا بين المسلمين والمسيحيين واليهود كان عاديا في المجتمع العربي (والتونسي نموذج لذلك). تقول (ندى): "خالتي تزوجت من رجل مسلم، وخالي ارتبط بمسلمة، ولا أظنهما حالتين استثنائيتين خاصة أن عدد اليهود في تونس ليس كبيرا، لذلك فإنهم يندمجون بسهولة في المجتمع ويتزوجون من المسلمين"(1)، وحتى الضوابط الدينية تسمح للمسلم بالزواج من كتابية، وإن منعت المرأة المسلمة من الزواج بغير المسلم، فاليهودية تشترط أن تكون الأم يهودية لأنها المسؤولة عن التربية ولا مانع من تزويج الفتاة اليهودية لابن ديانة أخرى. وفي نهاية الرواية تزوجت (ندى) اليهودية الأصل بـ(أحمد) المسلم. وأكثر من ذلك وجدنا (ندى) اليهودية تعلن إسلامها بالكنيسة وفق طقوس الاعترافات المسيحية على يد (ميشال) المسؤول عن الكنيسة والحامل لدوكتوراه عن المسيح في القرآن، وتختار حفل غذاء السبت المقدس لإخبار عائلتها. لكن ما تريد الرواية تبليغة هو كون هذا التسامح العريق غدا على كف عفريت بعد تنامي التعصب والكراهية اللذين كان من مظاهرهما الهجوم على كنيس يهودي بجربة يوم 16 أبريل 2002. فوجدنا الأم (سونيا) تقبل زوجا مسلما شريكا لحياتها، وتتجاهل إسلام إخوانها، لكنها ترفض قاطعا إسلام ابنتها (ندى) فتقطع حجابها؛ تقول الساردة واصفة ردة فعل الأم عند ارتداء ابنتها للحجاب: "رأيت نظرة غريبة لم أرها في عينيها من قبل، لعلها اختزال لحقد دفين على الإسلام وأهله، تحولت إلى وحشية في تلك اللحظة، رأيتها تنقض علي وتنتزع الحجاب بقوة، ألقته على الأرض وأخذت تمزقه بقدميها، ثم دفعتني لأسقط على الأرض وانهالت علي ركلا ورفسا .. جرتني من شعري بكلتا يديها وألقت بي في الشارع"(2).

وكذلك تبدو الكاتبة من خلال المتن مبشرة بالدين الإسلامي، إلى حد التعصب، وتقديم الإسلام بديلا لكل الأديان والمعتقدات، تأمُّه شخصيات الرواية من باقي الديانات وتعبد لهم الطريق نحوه، دون أن تسمح المؤلفة لأي شخص من شخوص روايتها بالخروج من الإسلام واختيار ديانة أخرى، وحتى عندما حاولت ذلك مع (أحمد) جعلته فاقدا للذاكرة، لا حرج عليه مادام ليس حرا في اختياراته، في مقابل ذلك جندت كل ما استطاعت إليه سبيلا من أجل دفع الأبطال نحو الإسلام وإنجاحهم لتجاوز كل العراقيل من أجل إسلامهم: فتمكنت (ريما) من تكوين شخصيتها المسلمة القوية في وسط يهودي، وتمكنت (ندى) اليهودية من فرض خطيبها المسلم على أسرتها، بل استطاعت أن تجرهم جميعا نحو الإسلام، وقاومت بكل السبل فلم يثنها عن إعلان إسلامها ما توالى عليها من مصائب: طرد الأم لها، تشردها، اختفاء (أحمد)، وفاة أعز الناس لديها في حادثة سير مروعة ذهب ضحيتها كل من أخيها (ميشال)، (بابا جورج) الذي رباها، (ماري) وطفليها (كريستينا) و(كابريال) وكل ما أثر فيها أنهن قضوا قبل أن تلقنهم الشهادة.

إن (ريما) صمت آذانها عن كل من حاول الوقوف في طريقها نحو الإسلام، فرغم محاولات (ميشال)، وهو بمثابة أخيها، إقناعها بالعقل من خلال ربط الإسلام بالتخلف يقول: "ما الذي وجدته عند المسلمين ولم تجديه عند أهلك اليهود؟ ألا ترين ما هم عليه من التخلف والتأخر عن بقية الأمم؟ لو كانوا على دين حق لكان الله وفقهم وسخر لهم الإمكانيات المادية. لكن دينهم لم يساعده إلا التقهقر والانغلاق! انظري إلى الشوارع المتسخة، وإلى الإدارات العامة التي تسودها الفوضى والفساد. انظري إلى الأخلاق والمعاملات في الشوارع، في وسائل النقل، وفي الأماكن العامة.."(3)، ورغم عزفه على وتر حساس ومحاولته استفزازها بطرح وضعية المرأة في الإسلام محاولا التأثير عليها عسى تتراجع عن اعتناق الإسلام، فإن ذلك لم يزده إلا تباتا يقول: "وماذا عن وضعية المرأة في الإسلام؟ هل بعد دراستك وأصلك السامي، تريدين أن تصبحي شيئا لا قيمة له، يوضع وراء الأحجبة والأقمشة، يوارى عن العيون ولا يقول رأيه، كيف يقول رأيه وصوته لا يجب أن يسمع ..لأنه عورة! أبعد كل سنين وتعليمك وسفرك إلى أوربا .. وكل ما قدمته إليك عائلتك لتنالي أعلى المراتب تنزلين إلى هذا المستوى، ترثين نصف ما يرثه الرجل، شهادتك نصف شهادة؟ هل أصبحت نصف بشر؟"(4). لكن كل ذلك كان بدون جدوى، وكل محاولة لثني الإبطال عن إسلامهم باءت بالفشل لأن الكاتبة واضحة في المسار الذي رسمته لإبطالها. وللتأثير في قرائها، وإقناعهم بوجاهة طرحها، حاولت كاتبة الرواية المقارنة بين الأديان في انتصار صارخ للإسلام وإن تعمدت في بعض المقاطع جعل المقارنة تبدو موضوعية كقولها في الصلاة على لسان (ندى): "صلاة المسلمين مختلفة عن صلاة النصارى التي تؤدى بصوت مرتفع وبطريقة غنائية، لكنها قريبة من صلاة اليهود، فعندنا يردد المصلون مقاطع من الكتاب المقدس بصوت خافت، أو في داخله دون أن يجهر بها"(5)، وتجلى انحيازها في التخلص روائيا من غير المسلمين في حادثة أودت بعدة أبطال، في وقت رحّلَت من بقي منهم على قيد الحياة قسرا نحو الإسلام.

ورواية "في قلبي أنثى عبرية" كعدد كبير من الروايات العربية لامست إشكالية شرق-غرب، من خلال سفر (ندى) إلى فرنسا وهناك انفتحت أكثر على الإسلام وبعد صدمة اللقاء واستكشاف الفضاء قامت بزيارة لمسجد باريس الكبير، ولم تخرج الرواية عن فكرة تقديم الشرقي فقيرا فنيا، لا يستهويه الفنون التشكيلية لا يتدوق الجمال الفني وبدا ذلك واضحا من خلال علاقة (ندى) بزميلتها الإيطالية (أنابيلا) التي اصطحبتها في زيارات للمتاحف الفرنسية، لكن عن (ندى) تقول الساردة: "لم تكن المتاحف تستهويها، بل تصيبها بكثير من الملل أكثر من أي شيء آخر، لوحات تماثيل، أوان خزفية، قطع نقدية قديمة كل ذلك كان يحلو لـ(أنابيلا)".

الرواية تبدو كأنها تطرح أماني الكاتبة ولا تصف واقعا معاشا، ذلك أن المجتمع اليهودي في العالم العربي يكاد يكون منغلقا على نفسه، ولا يسمح للغرباء بولوجه، وما تقدمه الرواية يجانب ما في الواقع مادامت حركة التنصير في المغرب العربي أنشط وقلما سمعنا عن يهودي أعلن أسلامه وتخلى عن ديانته بالسهولة التي تقدمها بها الرواية. لذلك قد تكون للرواية نتائج عكسية لما تطمح إليه، ففيها كثير من الأحكام العنصرية، والآراء المسبقة المقحمة دن مقدمات، أدرجت عكس السياق: ففي الوقت الذي تصدق (جاكوب) بكمية كبيرة من ملابس الأطفال بعد تأكده من جودتها تقدم الرواية "اليهود بصفة عامة يتصفون بالبخل والشح الشديدين إلا مع أبناء عقيدتهم. يكنزون المال ويضنون به على غيرهم ولا مكان عندهم للصدقات والتكافل الاجتماعي"(6). كما تكرس فكرة أن مصير غير المسلمين إلى النار ومآلهم جهنم، لذلك كان حلم (ريما) إنقاذ (بابا جورج) من النار، وجاهدت (ندى) بكل الوسائل من أجل إسلام عائلتها خوفا عليهم من نار جهنم دون أن تستثني من ذلك الأطفال فكان إسلام الطفلة الصغيرة (سارا) كافيا لأن تشعر البطلة بسعادة لا تضاهى: "ظننت أن سعادتي بإسلامي لا تضاهي سعادة أخرى، لكني اكتشفت اليوم معنى السعادة بنجاة شخص آخر من النار"، وهي في ذلك تسير على هدى الرسول الذي خرج بعد تشهيد صبي يهودي كان يحتضر "فرجا مستبشرا وقال: الحمد لله الذي أنقده على يدي من النار"(7)، وفي مثل هذه الأفكار ما يثير نعرات العصبيات الدينية ما دام يتضمن رفضا لمبادئ التسامح والحق في الاختلاف، خاصة وأن مصير الجنة والنار لاعلم لأحد به من البشر.

فلا غرو إذا وجدنا إسلام الشخصيات يتم دون مقدمات، ولم تكلف الكاتبة نفسها عناء وصف معاناة من يتخلى عن دينه، وعملت على إظهار بعضهم وكأنه كان على استعداد للإسلام فـ(جاكوب) لا يعرف ما الذي جاء به إلى المسجد: "سار بلا اتجاه يتسكع في الشوارع العتيقة، انتبه حين انتهت به قدماه أمام الجامع الكبير. توقف في تردد وتوتر ما الذي جاء به إلى هنا؟"(8)، و"حين تجاوز عتبة الصحن، انتابه شعور غريب كأنه يحقق رغبة دفينة لازمته منذ زمن طويل"(9).

تنحاز الرواية للإسلام وتحاول إبرازه بأنه دين الحق، وحده دين الله ومن يبغي غيره فلن يقبل منه دينا. لكنها تسقط من حيث لم تدبر في إظهار الإسلام دين التعصب ولم تسمح لأي مسلم بالتزعزع قيد أنملة عن عقيدته، مقابل ذلك كان اليهود والنصارى أكثر تسامحا يزوجون بناتهم لغير أبناء دينهم، يقدمون يد العون لأي مصاب، ويساعدونه حتى يتجاوز أزمته، فاستقبلت (ندى) في بيت أسرتها اليهودي مسلمان يطلبان الغوث، كما أسعف مسيحي (أحمد) عند أصابته الأولى ومسيحي آخر يأويه في محنته الثانية، كذلك ترعرعت (ريما) في بيت يهودي، وأكثر من ذلك جعلة الكاتبة من حيث قصدت أم لم تقصد اليهود لا يخلون الدين في مواقفهم الإنسانية فبعدما أسعفت (ندى) (أحمد) وسألها: "أنت يهودية لماذا تساعديننا" كان جوابها فاحما ومقنعا "ما شأن ديانتي بالعمل الإنساني؟ ألا يحثك دينك على الرحمة والرأفة وتقديم يسد المساعدة لمن يحتاجها مهما كان انتماؤه وعقيدته"(10). مقابل هذا الفيض في التسامح لدى اليهود منعت الكاتبة أي مسلم في الرواية من تقديم يد العون لأي مسيحي أو يهودي ما لم يتخلى عن دينه.

الرواية عجزت نسبيا في بناء شخصياتها، فرسمت لها الكاتبة مسارا يعبر عن موقف المؤلف أكثر ما يعبر عن تطور الشخصية حسب الأحداث، فجعلت (ندى) الصبية الحديثة العهد بهذا الدين تدرس القرآن والسنة وتفهمهما جيدا وتميز بين المحكم والمتشابه بل "كلما توقفت عند شبهة وجدت في التفاسير ما يوضح الصورة على عكس ما رأته حال تحليلها للتوراة والإناجيل .. فتحاليلها لم تكن سوى محاولات يائسة للتلفيق والإيهام"(11)، ومثل هذا الموقف قد لا يتوصل إليه الضليع المتخصص في الإسلام وبالأحرى فتاة غرة بالكاد تستطيع فك حروف القرآن، وهو ما جعل من الرواية أقرب إلى كتاب دعوي يعتبر المسلمين مركز الكون وما سواهم باطل، وهي أطروحة لا تختلف في شيء عن فكرة المركزية الأوروبية، لذلك نصبت الكاتبة نفسها مدافعة عن دينها تحاول دحض أفكار كل من يهاجم الإسلام، وكأن الهدف من الرواية هو تقويض بعض التهم التي توجه للإسلام من قبل خصومه ومن مظاهر هذه النزعة الحجاجية تبرير زواج القاصرات تقول على لسان (ندى): "إذا عدنا إلى تلك الحقبة الزمنية، لوجدنا أن تزويج الفتيات في سن السادسة كان أمرا عاديا، فالسيدة عائشة لم تكن حالة شاذة في ذلك. بدليل أن قريش التي كانت تعادي النبي محمدا (ص) وتقتنص الفرص لاتهامه والتنكيل به لم تستنكر عليه صنيعه.. والرسول لم يكن أول الخاطبين لعائشة بل كانت مخطوبة لرجل قبله"(12) بل وأكثر من ذلك أضحت تبحث عن الحجج والأدلة التي يمكنها أن تقنع بها فتاة صغيرة مثل (سارا) عندما سألتها قائلة: "بمعنى أنهم كانوا جميعا يعتدون على الأطفال ويجدون ذلك أمرا عاديا؟ أليس هذا اختلالا اجتماعيا"، فحاولت الكاتبة من خلال (ندى) البحث عن الأدلة للتبرير وربط الظاهرة بالمناخ والعادات فتقول: "إن الفتيات في تلك الحقبة الزمنية، وفي تلك البقعة من الأرض، كن ينضجن قبل مبكرا".

وحول الدفاع عن الحجاب، حاولت الكاتبة إقناع القارئ بأهمية ارتداء الحجاب الإسلامي في عدة مواطن من روايتها، فدفعت معظم فتيات الرواية إلى ارتدائه وتفضيله على غيره من باقي أنواع اللباس حتى لو اقتضى الأمر التضحية بالحياة الأسرية، فالبطلتين الرئيسيتين في الرواية (ندى) و(ريما) فضلتا التشرد والعيش مع أسر غريبة على طمأنينة الأسرة بدون حجاب، ولم تترك الكاتبة فرصة إلا أشادت بأهمية الحجاب الإسلامي، باحثة عن مختلف الحجج الشرعية وما تراه مقنعا في الدفاع عن موقفها، تقول (ندى) محاولة إقناع الصغيرة (سارا) بأن الحجاب: "صفقة رابحة بين الإثنين، المرأة تمتنع عن إثارة الفتنة بزينتها خارج البيت، والرجل يغض بصره، ثم يجد كل منهما ضالته في الحياة الزوجية"، وحتى إذا ما احتجت الطفلة متسائلة: وماذا لو لم تكن المرأة جميلة كان جواب (ندى) "ذلك هو بيت القصيد، غض البصر يمنع الرجل من رؤية ما لنساء الآخرين من زينة وجمال فيكتفي بما في زوجته من جمال ويرضى به حتى لو لم تكن باهرة الحسن"(13).

إن في رواية "في قلبي أنثى عبرية" تحمل موقف الكاتبة من عدة قضايا مرتبطة بالدين الإسلامي، كقضايا المرأة، الحجاب، الإرهاب، الزواج المختلط، علاقة الشرق بالغرب، وحاولت في الكثير من القضايا تقديم أدلة شرعية، وأمثلة من القرآن لدعم مواقفها ليس فقط في الأمور الدينية بل وظفت القرآن في بعض المسائل العلمية كوقوفها أمام مومياء مصرية في متحف اللوفر وربطها بين سلامة الجثة وبين ما جاء في القرآن عند قوله تعالى "واليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية"، وتأكيدها على أن "العلماء والمؤرخين أقروا بأن الفرعون المقصود في قصة النبي موسى هو صاحب المومياء الموجودة في المتحف"(14)، والأمثلة كثيرة جدا على النزعة السجالية الحجاجية للرواية. لكن مناقشة القضايا الكبرى لا يعطي بالضرورة عملا روائيا رائعا، فعلى الرغم من قيام الرواية على التقابل والصراع بين المعتقدات في الديانات الثلاث، وعلى الرغم من حجم الرواية الكبير وطول مسارها السردي، فالقارئ يشعر أنها تعاني فكثير من المقاطع من اقتضاب سردي فتفاجئه بعض الأحداث التي لم يكن يتوقع حدوثها، خصوصا ما يتعلق بالظروف والطريقة التي أسلمت بها كل من (تانيا) و(سونيا) و(جاكوب)..، ما يجعل الأمر وكأنه صدمة للقارئ الذي لم يكن ليتوقع إسلام شخوص كنتيجة منطقية مترتبة عن الخلفية التي تم تشكيلها عن تلك الشخصيات في الصفحات الأولى من الرواية.

صحيح أن الرواية ترفعت عن توظيف الجنس، ولم تتخللها أية مشاهد جنسية، وإن شكل الحب تيمتها الأساس سواء في علاقة (ندى) بـ(أحمد) أو علاقتها بـ(حسان)، لكنها كرست فكرة أن العربي تتحكم فيه العاطفة أكثر من العقل، فـ(ندى) رغم عقلانيتها في التعامل مع الأحداث والشخوص اختار لها الكاتبة في الأخير طريق القلب، فقد ورد قبيل النهاية أن (ندى) "تركت العاطفة جانبا وأفسحت المجال للعقل. تعلقها بأحمد كان بفعل العاطفة، وارتباطها بحسان كان بفعل العقل، حسان لم يخيب آمالها لحظة واحدة"(15). من يقرأ مثل هذه القرارات قبيل النهاية يعتقد أن الاختيار حسم خاصة وأنها طلبت من (حسان) تحديد موعد القِران، لكن الرواية اختارت نهاية رومانسية سالت (لها) دموع الجميع أنهارا بلا مواربة"(16) بإعلان (حسان) تخليه عن خطيبته لصديقه (خطيبها الأول) معتبرة موقفه موقفا رجوليا، سعت الرواية إلى تكريس فكرة أن هدف المرأة في الحياة هو الزواج فرغم علم (ندى) ودراساتها في تونس، ولبنان وباريس اختارت لها الروائية خولة حمدي نهاية زفها لعريسها وكانت أخر جملة في الرواية "ثم سارت بخطى محتشمة نحو القاعة المزينة حيث ينتظرها عريسها"(17)، وكانت الكاتبة قد حددت الهدف من الرواية قبيل ذلك في آخر رسالة من (ندى) لـ(أحمد) عند قولها "أنا اليوم مسلمة، ومسؤولة عن صورة الإسلام في عيون غير معتنقيه، أنا اليوم مسؤولة مثل غيري من المسؤولين عن الاتهامات بالإرهاب والتخلف والفوضى والفساد .. أنا مسؤولة عن حسن تطبيقي لتعاليم الإسلام في حياتي اليومية. عن إنشاء بيت مسلم، وتربية أطفال مسلمين يفهمون دينهم، ويتخذونه منهاجا ومسارا لحياتهم، أتدري كم هي عظيمة هذه المسؤولية؟!"(18).

فهل فعلا نجحت الرواية في تحقيق هدفها؟!!

* * * *

الهوامش

(1) ص 60–70.

(2) ص 518–519.

(3) ص 483.

(4) ص 521.

(5) ص 481.

(6) ص 237.

(7) ص 595.

(8) ص 627.

(9) ص 628.

(10) ص 63.

(11) ص 593.

(12) ص 578.

(13) ص 582.

(14) ص 487.

(15) ص 692.

(16) ص 769.

(17) ص 774.

(18) ص 773.