يضم الكتاب رسائل خاصة جداً، تتعلق بحياة الحكيم وعائلته ويومياته مع الكتابة كما يتناول الحياة الشخصية جداً للحكيم، والتفاصيل اليومية الكثيرة لها، ولا سيما علاقته بزوجته. اتسمت الرسائل بخفَّة الدم والبساطة وبالروح العفوية، كونها قد سُطرتْ بالعامية المصرية في غالبية أطوارها الكتابية، لكي تكون مفهومة وقابلة للقراءة من قبل زوجة ابنه.

رسائل توفيق الحكيم: لحظات كشف المخبوء

هاشم شفيق

أدب الرسائل هو فن آخر ينضاف إلى أصناف الأدب والمنتجات الفكرية والروحية، تلك المرتبطة بالأفعال الإبداعية، والمهام الذاتية والشؤون اليومية للذات المبدعة، كونها تجسِّد معاناة وصدق وتجربة الكاتب الحياتية، وما يتعلق بها من هواجس وأفكار ودوافع، أو ما يرافقها من هموم ومشكلات وعوائق، لذا تبدو الرسائل تجسيراً مؤقتا للغياب والنأي والبعد الذي يحصل بين شخصين تربطهما علاقة ما، على مستوى الحياة، إبداعياً أو روحياً، أو عاطفياً. فالرسالة تُرَطِّب الأجواء وتعيد اللحمة مرة أخرى، وترأب صدوع الفراق، وتجسر الهوة، وتقرِّب المسافات المتباعدة. كان ساعي البريد بمثابة الرسول الذي يحمل الأنباء التي تعبر المحيطات والمدن والتخوم، ليوصلها إلينا، زمناً كان ذلك، أيام الورق الخاص بالرسائل وأنواع الحبر الذي سيتم به تحبير الكلمات الشائقة إلى الآخر، البعيد وغير المرئي والمحجوب بسلسلة من المدن والبحار والجبال والأنواء.
أما اليوم فنحن في عصر البريد البرقي، واللحظوي الذي يصلك في جزء من الثانية، عبر وسائط الميديا الحديثة، لتكون الرسالة بلا حبر وورق، بلا لمسة الأصابع، وغير مبصومة بحبر ورائحة لورق معين، رسالة باردة تصلك حتى دون أن تحمل اسمك في مراسيم فن الخطاب الجديد، كون الرسالة تحمل اسم بريدك الإلكتروني. إنها رسالة باردة، خالية من المشاعر والأحاسيس، مصوغة بلغة متعثرة، من غير همزات وأدوات وصل، ودون مراعاة لأبسط القواعد الفنية اللغوية والنحوية .
بيد أن هذه التطورات التقنية الحديثة لا تستطيع حجب الماضي كلَّه، أو محوه بلمسة إلكترونية، ففن الرسائل ما انفكَّ يظهر بين حين وآخر، لكونه مرتبطاً بزمن معين، ومرحلة تاريخية بعينها، وله صلة بمبدع وفنان حي، أو غادرنا في يوم ما إلى مثواه الأخير. فبين فترة وأخرى، تظهر رسائل شخصية لكتاب ومبدعين عالميين، أحدثها رسائل الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث، وهي مرقَّنة لأمها أو لصديقاتها أو لمعجبيها، أو لزوجها الشاعر البريطاني الشهير تيد هيوز، وذلك قبل انتحارها بطريقة مأساوية، لتخلف بعد رحيلها كتباً وأشعاراً ورسائل عديدة وكثيرة، ظهر منها المجلد الأول، وفيما بعد سيظهر المجلد الثاني .
في العربية قرأنا أخيراً رسائل متبادلة بين الروائيين المغربيين محمد برّادة ومحمد شكري، صاحب «الخبز الحافي»، وهناك رسائل السياب التي طبعت أكثر من مرة، ورسائل مي زيادة، وتوفيق صايغ وجبران خليل جبران وأمين الريحاني، وغيرهم من المبدعين العرب الذين تركوا إرثاً إبداعيا وكتابياً يشار له بالبنان، الروائي والكاتب الشهير توفيق الحكيم، صاحب «عصفور من الشرق « وهو سيكون موضوع هذا المَسرد.
ينطوي كتاب توفيق الحكيم، وهو شبه أوتوبيوغرافيا، كتبها الكاتب المصري إبراهيم عبد العزيز، أحد تلامذته المخلصين، وما أكثرهم، في تلك الفترة التي كان فيها الحكيم مركز إشعاع ثقافي بارز، ومَعْلما من معالم الثقافة المصرية. ينطوي الكتاب كما أسلفنا على قسمين، الأول يضم رسائل خاصة جداً، تتعلق بحياة الحكيم وعائلته ويومياته مع الكتابة وتفاصيل الحياة اليومية، تلك التي كانت تشغله، ولا سيَّما حياة ولده اسماعيل الذي فقده باكراً، وهو في أوج شبابه وظهوره الفني والموسيقي، وحياة زوجته الأرملة هيدي، التي سيهتم بها الحكيم على نحو لافت كابنته، لا بل أكثر من ذلك، سيوافق على زواجها من بَكِر، وهو أحد أبرز أصدقاء إسماعيل المقرَّبين، طالب هندسة كان يدرس في لندن، ستلتقي به هيدي في لندن ليتزوَّجا، ويعملا كلٌّ في مجاله، وينجبا طفلين، سيكونان مثل حفيديه من ابنته زينب، وسيوليهما المحبة ذاتها .
اتسمت الرسائل التي كتبها حسين توفيق الحكيم، وهو اسمه الكامل، بخفَّة الدم والبساطة وبالروح العفوية، كونها قد سُطرتْ بالعامية المصرية في غالبية أطوارها الكتابية، لكي تكون مفهومة وقابلة للقراءة من قبل زوجة ابنه هيدي التي كان ينعتها في رسائله تحبباً بـ «المفعوصة».
تُظهر الرسائل والصور المرفقة في الكتاب، قوّة هيدي، وسيطرتها على أركان البيت عندما كانت تعيش مع زوجها الفقيد إسماعيل، في بيت توفيق الحكيم. كانت تملأ البيت طرباً ومرحاً وحركة، وحين غادرته لتتزوج، تركت فراغاً كبيراً لدى كاتبنا الكبير، فراغاً لا تستطيع حتى الكتابة تعويضه، فراح يستعين بكتابة الرسائل المتواصلة إليها، رسائل توضح مدى تعلقه بها. فهو في البدء قد عارض الزواج من هذا الرجل، ولم يكن أمام هيدي سوى الانزواء والعزلة، إلى أن حُلت المشكلة بموافقته على الزواج، بعد أن رآه الحكيم على أنه الشخص الممكن أن يسعدها، بعد فقدان ولده الوحيد، فأعجب الحكيم بشخصيته العملية، وبارك تلك الخطوة التي جعلت من هيدي بعيدة عنه وعن أجواء حياته الشخصية .
لكنَّ الحكيم وحسب الرسائل التي قرأناها، سوف لن يترك هيدي تمضي، دون ملاحقتها، كأب مسؤول عن كل خطوة تخطوها في الخارج، فكان يساعدها في أمورها اليومية، ويتوسَّط لها، فضلا عن الإرشاد المتواصل المدعوم والمتواتر من قبله، كي تكون قوية وقادرة على خوض الصعاب والخطوب التي تواجه كل إنسان مثلها، وهو بعيد عن تراب أرضه الأولى.
تُبرز الرسائل طبيعة العلاقة بين الحكيم وهيدي، فهي المحور الرئيسي في الرسائل، وهي الشخصية المركزية التي يدور حولها موضوع تلك الرسائل، قد تمر زينب وهي ابنته الحقيقية في موضوعة الرسائل، ولكنها تمر كأم تعمل وتقوم على تربية طفلين، فهي مشغولة بهما طوال الوقت .
فعلى سبيل المثال تعمل هيدي بمثابة السكرتيرة للحكيم، تترجم أعماله، وتنشرها في مجلات لندنية، ويتقاضى الحكيم مقابلها أجراً، تنشر له ولأصدقائه مثل نجيب محفوظ ويوسف جوهر وإحسان عبد القدوس، وقد جاء في إحدى الرسائل هذا التوضيح بخصوص النشر لأصدقائه «اسمعي يا هيدي، تقدري تقولي لمجلة (شيلا) أنَّ في امكانكِ تسليمهم في أواخر نوفمبر أربع قصص 2 من تأليفي و 2 من تأليف يوسف جوهر وهو من طبقة نجيب محفوظ وسعره مثله أو أقل شوية، وممكن اتفق لك ايضاً مع احسان عبد القدوس بسعر نجيب محفوظ وأخبركِ قريباً وبذلك تقدمين لهم أكبر كتاب القصّة في مصر وهم الأربعة المذكورون».
ثمة رسائل لهيدي يَعِدها فيها الحكيم أنه قادر على أن يعزمها هي وزوجها الجديد بكر الذي استلطفه الحكيم، بدعوتهما إلى باريس، متكفلاً الإقامة في الفندق، مع تذكرة الطائرة من لندن إلى باريس، لمدة ثلاث ليال، وهو هنا يرفض دعوتهم بالمجيء إليهم، بعد أن اكتشف في رحلة سابقة، كانت الأولى والأخيرة له، أن لندن ليس فيها «كافيه» على حد تعبيره، يستطيع من خلالها تزجية الوقت والتسكع بين الشوارع والمكتبات كما هو الحال في باريس التي يعشقها، منذ جاءها طالباً للعلم فيها، لدراسة القانون ونيل الدكتوراه. ولكن الحكيم المجبول على الكلمة والفن، سيختار طريق الإبداع والكتابة، ويُضحِّي بكل ما كان يحلم به والده، من طموح وعلياء لولده حسين توفيق الحكيم الذي عاد إلى القاهرة مفكراً وكاتباً وروائياً، ليفني جلَّ حياته في مسار الورق والقلم والكتابة، حتى تبوأ لقب شيخ الكتاب والمفكرين في مصر .
يُفصح الكتاب، وبطريقة فيها الكثير من الظرف والدعابة والتفكُّه، عن طريقته في الحياة، من ناحية المال، وحرصه عليه وعدم التبذير، بينه وبين عائلته، بين هيدي وزينب واسماعيل وزوجته وأحفاده، بينما في محل آخر يظهر المزيد من الكرم، وبالضد من البخل الذي عُرف به، كشراء سيارة لابنته، ومنحها ألف جنيه لو تركت التدخين، وتعامله المعقول والودود مع مدبرة المنزل منصورة، ومع حارس أراضيه عبد المجيد، ومنح ابنته ايضاً شقته في الإسكندرية لتعيش فيها، هي وأولادها، هذا غير شرائه لزوجته الذهب وعقداً من الألماس، هدية عيد زواجهما، هو الرافض في البدء للزواج وعدو المرأة، كما كان يشاع عنه، لكن الكتاب يُظهر الحكيم بصورة مختلفة، من خلال علاقته بزوجة ابنه وتدليله لها، عبر منحها كل ما تطلب، كزواجها مثلا، وكذلك الابنة زينب، وحتى ولده إسماعيل، رغم أنه كان يسجل دينه عليه بكمبيالات، هذا عدا اتهامه بجفاف العواطف إزاء المرأة وإزاء عائلته، ولكننا في الرسائل نكتشف أنه كان في غاية اللطف والعذوبة مع أحفاده، ومع هيدي، ومع أولاد زينب، وكذلك مع أصدقائه الخُلّص الذين يلتقيهم يومياً في مقهى «بترو» و«الكورنيش»، وهذا ما ذكّر به مؤلف الكتاب حين كشف «الملف الشخصي» للحكيم في الجزء الثاني من الكتاب، وأشار اليه كذلك نجيب محفوظ في مقدمة هذا الجزء.
يتحدث المؤلف إبراهيم عبد العزيز، عن تقدم الحكيم في العمر، وملازمة بعض أمراض الشيخوخة له، فيسهب في سرد يوميات الحكيم، مثل دخوله إلى مستشفى «المقاولون العرب» واهتمام إدارة المستشفى به لدرجة لا توصف، في تخصيص جناح خاص له، وكتابة لوحة مخطوطة تشير إلى «جناح توفيق الحكيم» الخاص في المستشفى. وخلال رحلة التلميذ مع أستاذه، يسعى المؤلف إلى انتزاع أجوبة من الحكيم، عن بعض أسئلته الكثيرة التي كان ينجز منها حواراً لصحيفة أو مجلة ما، فالحكيم متحدث لبق، ومدير مرموق ولافت للحوارات التي كانت تُجرى له، من قبل إذاعات وقنوات تلفزة أوروبية وعربية، فهو خير من تحدث بالفرنسية عن نمط الحياة الثقافية في باريس، كونه الطالب، والأستاذ، والموظف الكبير، كمندوب لمصر في منظمة اليونيسكو .
يستغرق الفصل الثاني من الكتاب في الحياة الشخصية جداً للحكيم، وهي تَحدِث لأي إنسان في مشواره مع الحياة، ومع التفاصيل اليومية الكثيرة لها، ولا سيما علاقته بزوجته ووضع مسافة بينه وبينها، كنومه بمفرده في غرفة خاصة به، وعدم التدخل في شأنه الشخصي، كالسهر والغياب عن البيت لفترات طويلة، مع أصدقائه في المقهى، رغم أن الحكيم لم يكن يوماً من المدخنين ولا من المتعاطين للكحول، بل هو مُنظِّر، ومتحدِّث بارع، بين أصحابه الأدباء والمفكرين والمبدعين، وكذلك بين تلامذته ومريديه وجُلسَائه الدائمين، وليس ثمة أفضل من الشاي والقهوة، حين تدور بين الصحبة الأنيسة والجلسات الأليفة واليومية في فضاء المقهى .
إبراهيم عبد العزيز: «الملف الشخصي لتوفيق الحكيم»
الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2015
369 صفحة.

 

جريدة القدس العربي