رحنا نتساند ـ جمال الغيطانى وأنا ـ ونحن نخطو خطوات حذرة على الطريق المغطى بالجليد الصاعد إلى الكنيسة المضيئة فى الأعالى، فى تلك الليلة قارصة البرودة ليلة عيد الميلاد الشرقي عام 2009، تحت سماء نيوجيرسي المكفهرة. وكنت قد تأبطت ذراعة خوفاً عليه أن تنزلق قدمه، وفجأة طارت قدماه فى الهواء وهوى على ظهره فى لمح البصر، فشددت ذراعي حوله محاولاً منعه من السقوط، فيما أطلقت صرخة صامتة أطلب فيها فى هلع من الله أن لا يصيبه بمكروه، وهو الذي قد طلب مني أن يصلي معي قداس عيد الميلاد بالكنيسة القبطية فكيف يكون جزاءه أن يصاب بمكروه؟ ويبدو أن دعائي غير المعلن قد استجيب، فقد قام الغيطانى وهو يطمئنني أن الأمر بسيط ، وواصلنا الطريق حتى دخلنا الكنيسة وجلسنا فى الصف المخصص للضيوف من أعضاء القنصلية المصرية وكبار الزوار، وكان ضميري يؤنبني طيلة الوقت كيف لم أصر على أن أوصل ضيفي بسلام إلى باب الكنيسة ثم أعود بالسيارة لأتركها فى موقف السيارات البعيد، لكنه رفض ذلك وأصر على أن نمشي معاً، وكان ذلك بعد أن قضينا ما يقرب من الساعة ونحن نبحث عن الكنيسة فى ظلمات ليل نيوجيرسي. ولم ينقذنا سوى جهاز الـ GPS وكنت استعمله لأول مرة، وهكذا نحتاج إلى التكنولوجيا حتى حينما نريد الصلاة!
تطفو ذكريات تلك الليلة فى خاطري كلما التقيت بجمال الغيطانى أو شاهدته فى التلفزيون ربما لأن هلعي عليه كان مركزاً بشكل ترك أثراً في تلافيف الذاكرة، وها أنذا أتذكر الحادث وأنا أكتب عن الروائي المصري الكبير في نوع من الاحتفال بعيد ميلاده الخامس والستين، وقد شاهدته يجلس فى بساطته الآسرة فى حوار مع الإعلامية دينا عبد الرحمن فى برنامجها المميز "صباح دريم" قبل أيام قليلة من يوم ميلاده فى التاسع من مايو. وقد سبقت تلك الليلة لقاءات عديدة لنا على مدى السنوات الماضية فى القاهرة حين أزورها وهنا فى نيويورك حين يزورها هو. وقد كثرت زياراته لها بعد عمل ابنه محمد فى البعثة المصرية للأمم المتحدة. وأصبح من عادتنا أن نلتقي إما في جلسات حميمة مع أصدقاء فى بيتي، أو في جولات أصطحبه فيها إلى أماكن يريدها أو اقترحها، وبذلك كان من حظي أن أتعرف على جمال الغيطانى ليس فقط المبدع المتفرد الذي طالما بهرتني رؤاه الإبداعية وكتاباته الاستثنائية ولكن أيضاً الإنسان المثير للدهشة بخصاله ودفئه وحكاياته ولمساته الإنسانية، وهو من هؤلاء القلائل من المبدعين كبار الموهبة الذين تتعرف عليهم شخصياً فيزداد حبك وتقديرك لهم، بينما حدث لى العكس مع بعض الآخرين.
انتعاش الغيطاني وهو يستمع إلى الإلحان والتراتيل القبطية فى الكنيسة ليلة الميلاد هو بعض من اهتمامه ومعرفته الواسعة بالتراث المسيحي القبطي في مصر، ومعرفته بهذا التراث تدهشني شخصياً أنا القبطي ابن رجل الدين المسيحي الذي تكتظ مكتبته بأشكال وألوان من هذا التراث فى صوره المكتوبة والمسموعة والمرئية. وانتعاش الغيطاني بهذا التراث هو انتعاش المتذوق المحب المقدر وليس مجرد موقف مثقف مصري يشعر أن من واجبه معرفة شيئ عن ثقافة شركاء الوطن ـ ومكتبته مليئة بالقديم والجديد عن الأقباط وتاريخهم وكنيستهم وفنونهم. كما أن اهتمام الغيطاني بالوجه القبطي لمصر ليس كاهتمام المثقف المسلم الليبرالي الذي يهتم بالأقلية المسيحية كنوع من تأكيده لموقفه العلماني وترحيبه بالتعددية الدينية والثقافية فكثيراً ما تجد مثل هذا الليبرالي المسلم مبتعداً عن تراثه الاسلامي منجذباً للتراث الغربي انجذاباً كثيراً ما يصل إلى حد الخلل والسقوط فى عبودية الآخر، وهو تطرف مخل تماماً كالذي يسقط في كراهية الآخر. أما الغيطانى فاهتمامه وهيامه بالتراث الإسلامى ـ وخاصة الصوفي منه ـ هو اهتمام هائل وشامل وعميق ودقيق. وكتاباته تكاد أن تكون كلها امتدادات مثيرة لما في التصوف الإسلامي من صفاء وجزالة لغوية وروحية معاً، وتكاد أن تكون أسئلته كلها هي أسئلة التصوف الكبرى الغائرة فيما وراء المحسوسات محاولة كشف المستور وسبر غور الملموسات، يقول فى كتابه «سفر البنيان» (1997) تحت عنوان مصطلح الدرج: «الدرج مرقاة، فهو توق، وهذا لا يكون إلا لصعود أو انتقال من سفل إلى علو. ومن هنا تكون المحاولة، فالانتقال من موضع إلى موضع مساو له فى الأفقية يقتضى بذل الجهد، فما البال إذا كان مضاداً للقوة الحافظة الماسكة لكل ما هو حى، أو نبات ينمو، أو طير يحوم، أن يفلت ويتوه فى فراغات الكون. وتلك القوة القابضة لا نراها، ولا نلمسها، ولا يمكن تعيينها، أو وصفها، أو إرجاعها إلى عناصرها الأولى، تماما شأن كل ما يؤثر فى مصائرنا، الزمن مثلاً، نرى أعراضه ولا ننفذ إلى جوهره». ويقول رفيق دربه الروائى يوسف القعيد ـ زميله فى صحبة العمر لأستاذهما الفذ الروائى الأكبر نجيب محفوظ ـ إن الغيطاني في كل أعماله له سؤال واحد: أين ذهب الأمس؟
والواقع أن كلمة «روائي» قد لا تكون الأكثر انطباقاً على جمال الغيطاني، وخاصة في أعماله المتأخرة، وفي اعتقادي أن الغيطاني يقع في مساحة خاصة بين الفيلسوف والشاعر، فكلماته شعرية ورؤاه فلسفية، وبينما ينشغل الروائيون عادة بالشخصيات والأحداث، محللين أعماق النفس الإنسانية فى تشابكها المأساوى مع الآخرين فى حلقات متداخلة من الصراعات والضربات والتحولات، ينشغل الغيطاني بما وراء هذا كله من خيوط كونية خفية وأسئلة وجودية أساسية وكبرى. ورغم أنه يمكن القول أن كل روائي عظيم لابد أن تكون أيضاً من اهتماماته هذه الأسئلة الوجودية الكبرى من خلال صراعات ومصائر شخصياته الروائية، فإننا نجد أن الغيطاني يميل في ازدياد إلى تناول هذه الأسئلة من خلال اللغة والكلمة، فهو ينتقي الكلمة ويزوجها لكلمة أخرى، ويحل بروحه الابداعية فى وسط هذا التزاوج لكي يدفع بالكلمتين إلى توليد مولود جديد مدهش مندهش صارخ بالوجع وبجذوة الحياة، مضيفاً إلى المعنى وإلى اللغز فى آن واحد. فاللغة هي نسيج الغيطاني الأساسي وطينته الطبيعية التي يظل يشكلها ويطوعها لكي يخلق بها ومنها عالمه البديل عوضاً عن عالم لا يعثر فيه على الأمس، ولا يدوم فيه مكان ولا إنسان.
حين نجد الغيطاني مهموماً بسؤال: أين ذهب الأمس؟ نجد ذلك مشابها لما يشغل بال العالم المصرى العالمي أحمد زويل الذى قال فى مقابلة مع منى الشاذلي ومحمود سعد: إن ما يشغلنى الآن هو السؤال: ما هو الزمن؟ وهكذا نجد ان الأديب المصرى والعالم المصرى يشغلهما سؤال وجودي كوني واحد ـ يحاول كل منهما، بطريقته، البحث عن إجابة له ـ هل صدفة أن يكون الاثنان مصريين؟ ليست صدفة لأن مصر هى فجر الإنسانية وطفلة الزمان الأولى، وهى مبتكرة الأبدية فى بحثها منذ القدم عن نقطة نهاية الزمن الكوني، ورفضها للنهايات، وتكريسها للروح والخلود، فالسؤال عن الزمن هو سؤال مصري صميم.
الارتباط العميق بين الغيطانى وتراثه الاسلامى نراه مجسداً فى برنامجه «قاهرة نجيب محفوظ» الذي يتجول فيه شارحاً أماكن روايات وشخصيات محفوظ فى أحياء مصر العتيقة، ونرى فيها كيف يحنو على الآثار المصرية من جوامع وزوايا وتكايا وأضرحة وقباب ومآذن وأروقة، وكيف يربت على ظهر كل حائط، ويحتفى بكل حجر بشكل لا يقدر أن يفعله شخص آخر ـ وهذا أيضاً تعبير عن ارتباط الغيطانى العميق بالمكان ـ ليكمل بهذا ارتباطه العميق بالزمان. ونراه يحاول الدفاع عن المكان وحمايتة والحدب عليه وتساعده على هذا قدرة فذة على الملاحظة والتحديق والغوص فيما وراء السطح، ولهذا لاحظت أن الغيطاني يسير دائماً على مهل. ويتحدث على مهمل ـ ولا أذكر أننى شاهدته يسير على عجل أو يتكلم على عجل إطلاقاً، لأن السرعة تقتل التأمل، وهو يعيش يومه متأملاً، وكأنه ـ فى خوفه الوجودي الدائم من الزمن وآثاره المدمرة ـ يريد أن يغترف الأماكن والأحداث بداخله ليبقيها فى الحفظ والصون لتخلد، ولا شك أن القدرة على الرؤية الثاقبة ضرورية للكاتب، فلابد للروائي أن يرى ليروي.
الاهتمام الشديد بالإسلاميات نراه لدى الغيطاني مصحوباً برفض شديد للتطرف الاسلامى والغلو فى التدين والارهاب ـ ولا شك أن هذا الرفض قد ازداد حدة لديه بعد محاولة اغتيال نجيب محفوظ الذي كفره بعض الاسلاميين، بسبب روايته "أولاد حارتنا" رغم أنني قرأت هذه الرواية منشورة مسلسلة فى أهرام الجمعة على مدى عدة أشهر، حينما كنت طالباً في الثانوي في نهاية الخمسينات، حيث وقف محمد حسنين هيكل والنظام الناصري في صف حرية الابداع ضد من اعترضوا على الرواية فى ذلك الوقت، مطالبين بمنع النشر، ويعترض الغيطاني بشدة على تحويل القضية الفلسطينية إلى قضية دينية على يد حماس. وبهذا يمثل الغيطاني تيار الثقافة الإسلامية الوسطية المستنيرة المنفتحة، وهو تيار قد تراجع كثيراً في معظم المجتمعات العربية فى الثلاثين عاماً الأخيرة.
بجانب المعايشة الوجدانية للإسلام فى عمقه الصوفي، والمحبة الحقيقية للتراث القبطي، يكتمل المثلث لدى الغيطاني بمعايشته الفسيحة للحضارة المصرية القديمة. وهو يتحدث عن مصر الفرعونية حديث الباحث المتعمق والعاشق المتيم معاً، ويتنقل بسهولة ونشوة من المعتقدات الروحية، إلى نظام الدولة، إلى نظام الري والزراعة، إلى عمارة المعابد، إلى أسرار كتاب الموتى، أو الخروج إلى النهار، فيتحدث لساعات متصلة دون كلل منه أو ملل من مستمعيه، رابطاً الغابر بالحاضر مفسراً ومفكراً. فهو حكاء من الطراز الأول، يحكي لك في يسر وطلاوة وبابتسامة هي أقرب إلى ابتسامة الطفل الماكر، الذي استطاع أن يحل لغزاً استعصى على الكبار من حوله. ومعرفته بالحضارة المصرية القديمة عريضة وعميقة، وقد أمضى الساعات الطويلة فى الجناح المصري بمتحف المتروبوليتان بنيويورك، وهو جناح هائل الحجم بالغ الجمال، ومن الطريف أنه خصص أحد أعداد جريدة "أخبار الأدب" التي يرأس تحريرها منذ صدورها عام 1993عن الهرم الأكبر، وذهب مع بعض محرري الجريدة في زيارة داخل الهرم، وأمضى الليل راقداً في تابوت بحجرة الملك خوفو القابعة فى نهاية نفق ضيق طويل يغوص صاعداً إلى بطن الهرم، فلديه دائماً تلك النزعة للحلول فى الآخرين ـ جسداً وروحاً، مكاناً وزماناً، لاختبار حياتهم وتمثل مشاعرهم وتذوق زمانهم، وهاجسه الأساسي هو إخفاقه فى أن يكون هو الآخر، أن يتوحد معه، أن يعايشه ويعيشه، ولذلك تتعمق غربته وتمتد رغبته فى التواصل عبر الكتابة، لعلها تمنح بعض الحلم وبعض الحلول وبعض الخلود.
يكتب الغيطاني تحت مصطلح: باب «قال كبير الكهنة أن كثيرين لم يولدوا بعد، يمثلون أمام الباب الوهمي، ويتساءلون، ويجتهدون، ويبذلون الطاقة وربما يشرف بعضهم على المعنى الكامن، تماماً كما ستجئ لحظة يمكن للأحفاد أن يدركوا القصد الحقيقي للأهرام، والمسافات التى قطعتها أصداء النقوش فى آفاق الكون المنظور». لا أعرف كاتباً مصرياً أو غير مصري آخر يملك تلك القدرة والرغبة واللذة في معايشة التراث الفرعوني والقبطي والإسلامي معاً، والحلول في كل منها حلولاً كاملاً ولهذا فالغيطاني مبدع فريد وظاهرة مدهشة فى تاريخ الثقافة المصرية على طولها. وعادة ما نجد المثقف المتوغل كثيراً في تراثه الوطني الثقافي المحلي رافضاً أو معاديا للتراث الغربي، ولكن المدهش في الغيطاني أن اهتمامه بالثقافة الغربية كبير وعريض، وليس فقط في الأدب ولكن أيضاً في فنون الرسم والعمارة والمسرح وغيرها. وقد أصيب بجزع حقيقي عند سقوط البرجين في نيويورك إذ خشي أن يؤدي هذا إلى هوة بين الشرق والغرب. وتوقع الأضرار الكبيرة التي ستنجم عنه، وهذا ما حدث فعلاً. ولكن انفتاح الغيطاني على الثقافة العالمية بشغف وحب هو في اتساق تام مع الشخصية المصرية التي كانت دائماً منفتحة على الآخر كريمة محبة له مرحبة به في أرضها قبل تلوثها بالتيارات المنغلقة الوافدة عليها من بلاد ليس لها تاريخ طويل في التعامل مع الآخر المختلف ثقافياً وعرقياً ودينياً.
وربما لهذا أجد جمال الغيطانى أقرب من عرفت من المبدعين المصريين ـ روائيين أو فنانين أو أدباء أو شعراء ـ لكونه التجسيد الأكمل للشخصية المصرية الصميمة الحميمة فى نموذجها الأجمل، أي في نموذجها المعبر عن المصري في عصور الازدهار الحضاري والإبداع الإنساني، وليس في عصور الانحطاط والانحدار الذي عاشته مصر فى فترات طويلة من تاريخها وفي اللحظة الراهنة، ولهذا جاء الغيطاني من صعيد مصر، الذى جاء منه الملك مينا موحد القطرين، الصعيد الذى شهد صرح الحضارة المصرية الشاهق وآثاره الخالدة فى معابده وأهراماته وتماثيله ومسلاته ومقابره المترامية على ضفتي النيل من طيبة إلى ممفيس. وهناك صورة طريفة لوجه الغيطاني بجوار وجه تمثال فرعوني لا تستطيع أن تفرق بين ملامح الاثنين، فهذا الشبل من ذاك الأسد، ففي الغيطاني، الذي له كتاب شاهق هو "التجليات" تتجلى الروح المصرية المتجددة الدائمة الحلول في خير أبنائها على امتداد الزمان. ففيه عذوبة المصري ودفء تواصله، ومحبته للآخرين، وحبه للدعابة والضحك والمرح، مع حبه الجارف للحياة، فرغم نزعته للصوفية فكراً ولغة ووجداناً، فالغيطاني ليس زاهداً في الحياة، وإنما هو محب عاشق لها، متذوق مرهف لما تمنحه من متع وأفراح وملذات ومكابدات جسدية وروحية تنعش الآمال وتجدد الأحلام، ولكنه متذوق للكيف وليس للكم، يتذوق الطعام الجيد، ولكن لا يفرط فيه، ولا في شئي آخر، وفي إحدى زياراته لنا علق على الطعام الذي أعدته زوجتي قائلاً أن هذه أول مرة يأكل «مسقعة» لها مذاق هو أقرب إلى الحلاوة منه إلى الملوحة المتوقعة، والواقع أن الباذنجان هنا يكون أحياناً ذا حلاوة، وكأن قد أضيف عليه سكر.
ولكن المتعة الأعمق لدى الغيطاني هي متعة بصرية وسمعية، فالمكان له حضور طاغ عنده، كما أن للغيطاني شغفاً بالموسيقى غير المألوفة، وقد أهداني مرة قرصاً مدمجاً أطلق عليه وصف "الكنز" يجمع كنوزاً من التراث الموسيقى العربي والتركي الذي يصعب جمعه من مصدر واحد، ولمعرفتي بشغفه بالموسيقى وبالمتعة البصرية معاً، صاحبته لحضور عرض سينمائي غير عادي هو نوع مميز من السينما المعروفة بالآى ماكس IMAX، ولكن تختلف عنها فى أن الشاشة هى قبة كروية هائلة، تشكل جدران وسقف المكان كله ـ وهى جزء من متحف العلوم بنيوجيرسى، وهذه أكبر شاشة عرض فى العالم وتصاحبها سماعات صوتية هى الأضخم والأقوى فى العالم بدورها، وهذه حقائق تعلنها السينما بالأرقام في بداية العرض، وكان عن رحلة الأسماك الضخمة والصغيرة فى البحار الميحطة بالقارة الافريقية في جزئها الجنوبي، وحينما بدأ العرض بشكل هائل الصوت والصورة يجعلك فى قلب المكان والحدث، قال الغيطاني: «وكأن الواحد لم يشاهد سينما فى حياته من قبل!».
فى مطلع العام الحالى 2010 لم يحضر الغيطاني عيد الميلاد بالكنيسة، ولا حضرته أنا، فقد كان كلانا مهموماً هماً هائلاً بخطر يهدد كيان الانسان ووجوده، وعندما حضر إلى نيويورك هاتفنى قائلاً أنه في هذه المرة يحضر مع زوجته لعلاج من مرض خطير أصيبت به، ويتطلب فترة طويلة من العلاج، مع جراحة بين ذلك، واستمعت إليه فى انزعاج وألم، فقد كنا قد سعدنا، زوجتى وأنا، بالتعرف على السيدة الفاضلة زوجته الإعلامية الصحفية المميزة ماجدة الجندي في القاهرة، عندما دعينا للعشاء فى مسكنهما الجميل بالدقي بالقاهرة قبل سنوات قليلة. وبعد أن استمعت لهذا الخبر الصادم قلت أنني أيضاً أمر بتجربة مماثلة، فتسائل الغيطاني فى نبرة مستغربة: كيف ذلك؟ فقلت له أن طبيبي أخبرني منذ أيام فقط أنني مصاب بورم فى البروستاتا، ولابد من إجراء جراحة فوراً. فصمتنا قليلاً ثم تساءل: وهل هو ورم عادى؟ فقلت لا، هو ورم خبيث! فصمتنا قليلاً ثم قال لمؤزارتى: «إن عملية استئصال البروستاتا لم تعد خطرة، كما كانت قبل سنوات، لقد أجريتها أنا أيضاً، وكنت قد أصبت وأنا فى رحلة فى أوروبا فجأة بألم هائل مصاحب باحتباس للبول، وعندما رجعت لمصر أجرى لي طبيب مصري الجراحة، لتضخم البروستاتا، وكان تضخماً طبيعياً بدون أورام. وقد كتبت تجربتي كاملة في كتاب». فتساءلت في بعض الاستغراب: وماذا أسميته؟ فقال "يوميات الحصر" فلم أتمالك سوى أن أضحك بصوت عال وشاركني ضحكي. وهكذا نلوذ بالضحك فى مواجهة أخطار التهلكة العظمى!
وأجريت جراحتي بعد ذلك بأيام قليلة ـ وبعدها بحوالي شهرين أجرت السيدة زوجته جراحتها، وكنا نتهاتف قبل الجراحتين وبعدهما للاطمئنان، وما كنت لأكتب عن هذا الشأن الخاص لأسرة الغيطاني لولا أنه قد كتب عنه بالتفصيل فى يوميات الأخبار، حيث وصف مشهد دخول رفيقة حياته لغرفة العمليات قائلاً : «ماجدة خلعت خاتم زواجنا، ارتديته فى نفس الأصبع الذى يستقر فيه الخاتم الذى يحمل اسمها، انزلق بسلاسة لعلها المرة الأولى التى يفارق اصبعها منذ خمسة وثلاثين عاماً.. كان الباب الكبير ذو المصراعين مفتوحاً، وماجدة بين ممرضتين تتقدم بخطى ثابتة إلى الداخل، إلى الجراحة، يبدو أنها شعرت بوجودي التفتت باسمة، ابتسمت فرفعت يدى ملوحاً ومشجعاً، واجهتني ملتفتة إلى الخلف، يتألق جمالها فى لحظة نادرة، لم يسبق لي أن رأيتها فى هذا الألق، ذلك الصفاء».
جمال الغيطاني حالة فريدة بين المثقفين المصريين، وتجسيد نادر للعبقرية المصرية حين تتجلي في شخصية محددة في المكان والزمان، فتمنحك فرصة أن تتعرف من خلالها علي الخصائص المصرية الصميمة من دفء التواصل وكرم الروح إلى مرح النفس وفرح الحياة.
كل سنة وأنت طيب ومبدع أيها المصرى الأصيل الجميل، متعك الله بسنوات طويلة سعيدة مع رفيقة دربك وأولادك وأحبابك.
نيو يورك في 9 مايو 2010