في تأمل محرر (الكلمة) لما يدور في واقعنا العربي الراهن من مهازل مؤسية، بعدما أطاحت الثورة المضادة بأهم ثورات الربيع العربي، يطرح على القارئ تعامل واقع آخر مع أهم قضاياه، وهي هنا تعامل المسرح والرواية الانجليزية مع قضية الخروج من الاتحاد الأوروبي.

تأملات في هموم الواقع

الأدب والفن وقضايا المجتمع المصيرية

تعامل المسرح والرواية مع قضية «بريكزيت» في بريطانيا

صبري حافظ

 

تمهيد يثير الأسى:
لكارل ماركس مقولة مشهورة مفادها أنه «حينما يعيد التاريخ نفسه، فإنه يظهر في المرة الأولى على شكل مأساة وفي الثانية على شكل مهزلة». وكلما تبدت لي في هذه الأيام السوداء، التي تمت فيها الإطاحة بالثورات العربية النبيلة بشراسة، تجليات إعادة التاريخ لنفسه في واقعنا العربي، كلما تأكدت من صدق بصيرة هذه المقولة الدالة. فقبل أن ينتهي شهر مارس كانت صور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مع رونالد ترامب تؤكد أن التاريخ يعيد نفسه بحق على شكل مهزلة، حينما تقارنها بلقاء جده الشهير، الملك عبدالعزيز بن سعود، مع رئيس أمريكي آخر، هو فرانكلين روزفلت على متن الباخرة الأمريكية كوينسي US Cruiser Quincy في البحيرات المرّة وسط قناة السويس عام 1945. فبينما حذر الجد روزفلت من تزلزل الأرض وانفطار السماء وارتجاج الجبال إذا ما دعمت أميركا مشروع إنشاء دولة للاستيطان الصهيوني في فلسطين. ها هو حفيدة يبتسم ببلاهة، ورئيس أمريكي آخر، أعاد فيه التاريخ نفسه كمهزلة، يكيل له الإهانات واحدة تلو الأخرى.

وقد جاء محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة، لا ليحذر الرئيس الأميركي من مغبة التمادي في دعم دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، كما فعل جده، بعدما قرر ترامب أن يتيح لها أن تلتهم كلية ثالث الحرمين، وتلتهم معه حل الدولتين، وإنما جاء ليدعم خطة ترامب القبيحة، ويتنازل عن الحقوق الفلسطينية المشروعة كلية. فهمه الأول هو تحويل وجهة العداء العربي من عدو الأمة التقليدي ونهّاب أرضها، ومدمر شعوبها، إلى الدولة الإسلامية المجاورة إيران. لأن العدو الصهيوني، وبعدما نجح في تدمير العراق ثم سوريا من ورائها، لا يسعه الحياة مع دولة قوية في المنطقة. ويسره أن تتحول أرض الحرمين إلى دولة حليفة، دون أن يدفع مقابل أي تنازل عن الأرض الت احتلها كما سبق وطالبه الملك عبدالله في مبادرته المشهورة. بل يتيح للعدو الصهويني أن يكسب الكثير وبشرهه المعهود. فالحفيد على عكس جده الذي عاش التاريخ كمأساة يكرره كمهزلة، فيحيل أيام العدو الصهيوني إلى أعياد، كما فعلت من قبله مصر ومنحته عيدا، باعتراف رئيس دولة الاستيطان الصهوني نفسه، بتعاقدها على شراء غازها المنهوب من هذا العدو نفسه.

ولا تنتهي مهازل إعادة التاريخ لنفسه على شكل مهزلة هنا. فقد رافقت مهزلة محمد بن سلمان مهزلة أخرى تدور أحداثها بالتزامن معها في مصر. من خلال الحالة المزرية التي وصل إليها الواقع المصري أثناء عملية الترشح لرئاسة الجمهورية مؤخرا، والتي أحالت مصر إلى أضحوكة سياسية أمام العالم المتحضر، تستدعي من المثقفين عامة، رغم إحباطهم في السنوات الأخيرة، وعزوفهم عن الواقع بعد تفشي القمع والاستبداد فيه، إلى وقفة متأنية لتأمل ما جرى. وطرح مجموعة من الأسئلة المهمة عما يدور في مصر الآن بعد سبع سنوات من أنبل ثوراتها في العصر الحديث؛ وعن دور الأدب والفن في مواجهة قضايا المجتمع المصيرية. وهل من قضية أهم من هذا الانغلاق الأدهم للأفق السياسي بصورة عجزت فيها مصر عن إفراز مرشح سياسي قادر على خوض غمار الانتخابات أمام رئيسها الحالي، لاختيار من سيحكم مصر لسنوات أربع مقبلة؟ وأصرت على إجراء انتخابات تؤكد أن استفتاءات زمن الاستبداد الناصري تعيد نفسها هنا كمهزلة.

صحيح أن متابعتي المستمرة لما يدور في مصر، منذ ثورتها النبيلة في 25 يناير تجعلني أتفهم عزوف مثقفيها الكبار الراهن عن المشاركة في الهم العام، بعد أن استشرى البطش الأعمى والاستبداد. وامتلأت السجون بالمعتلقين وسجناء الرأي، وكثرت تقارير مؤسسات حقوق الإنسان الدولية عن الاختفاء القسري والعنف العشوائي، والذي كان من أبرز ضحاياه الباحث الإيطالي جوليو ريجيني. وبعد أن لعب عدد منهم أدوارا مرموقة في بلورة خطاب تلك الثورة، والدفاع عن شعاراتها ومطالبها بالكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية؛ وأتأسى غمّا لعودة كوابيس الأفق المسدود الذي خيم على الواقع المصري قبل اندلاعها، وبشكل أكثر حدة وشراسة. لأن هذا الأفق المسدود لم يعد اجتماعيا واقتصاديا فحسب، بل أصبح أيضا ثقافيا وأدبيا إلى حد كبير.

والواقع أنني أشعر بالعار، بعد أن كنت مزهوا بالثورة وتحضرها وشعارها الجميل «ارفع راسك فوق .. أنت مصري»، وأنا أقرأ السخرية المرّة في الصحف الأجنبية في الغرب، في تهكمها الجارح على ما يدور من مهازل مشهد الترشح للرئاسة في مصر. وانصراف الواحد تلو الآخر عن الترشح؛ وخلو الساحة من مرشح يعبر عن أحلام الثورة المصرية وعن مقاومة الثورة المضادة مهما كانت سطوتها، بعد إحباط خالد علي رغم شجاعته الملحوظة. وهو إحساس تفاقم مع التعجل المرتبك في اللحظة الأخيرة للعثور على مرشح هزلي ينقذ الرئيس الحالي من رعب المقاومة السلمية المحتملة، أو العصيان المدني المرتقب، بانصراف المصريين، بعد أن أهانت طريقة إدارة المعركة ذكاءهم، عن اللعبة بأكملها؛ وعدم تصويت ثلاثة ملايين ناخب، وهو الحد الأدنى المطلوب دستوريا لنجاح الرئيس الحالي لو ترشح وحده.(1)

الثقافة الأنجليزية والهم القومي:
ومن نافل القول أنني منذ انتهت بي المقادير مقيما في بريطانيا، ومتابعا لما يدور فيها، لا أستطيع أن أتخلص في تعاملي مع ما يدور هنا من مقارنة مستمرة مع ما يدور هناك في وطني الحبيب مصر. وإذا كانت كتابات وداع عام مضى واستقبال عام جديد قد تريثت عند تعامل مختلف الآداب والفنون مع أبرز مشاغل بريطانيا، وخاصة مع أهم قضاياها المصيرية التي تواجهها منذ تصويتها في استفتاء عام 2016 على الخروج من الاتحاد الأوروبي، فإنني كلما تأملت ما يدور هنا في لندن، وقارنته بما يدور في القاهرة يزداد حزني على ما آلت إليه ثورة 25 يناير المصرية النبيلة، وعلى ما يعانيه عدد كبير من ابرز مثقفي مصر من الغم والكدر الذي أصاب البعض بالصمت والخرس.

ولا شك في أن أشد الهموم إلحاحا على الواقع الانجليزي السياسي منه والثقافي طوال العام الماضي، وحتى الآن، هو وقع نتيجة الاستفتاء بالخروج من أوروبا عليه، والمعروفة باسم «بريكزيت». فقد صوتت بريطانيا منتصف عام 2016 بأغلبية ضئيلة (52% ضد 48%) لصالح من يدعون لخروجها من الاتحاد الأوروبي. واسم بريطانيا الرسمي هو المملكة المتحدة التي تتكون من انجلترا، وويلز واسكتلندا وإيرلندا الشمالية. صوتت اثنان منها (اسكتلندا وإيرلندا بنسبة كبيرة، ومعهما العاصمة لندن) للبقاء في أوروبا، بينما صوتت كل من انجلترا وويلز للخروج منها. بمعنى أننا بإزاء تصويت لا يفصلها عن أوروبا فحسب، ولكنه يحدث صدعا في وحدتها المتوهمة كمملكة غير متحدة من حيث الرؤى والتصورات. كما برهن هذا التصويت الذي يطرح عددا من الأسئلة الجوهرية حول هويتها.(2)

ولايزال الجدل السياسي دائرا حول هذا الأمر حتى اليوم، خاصة وأنه كلما تقدمت بريطانيا خطوة في طريق ذلك الانفصال، كلما اكتشف الناس أن الذين دعوا له لم يكن لديهم أي تصور لعواقبه، واستخدموا كثيرا من الكذب والتضليل لحث الناخبين على التصويت له. وأن الناخبين تعرضوا للكثير من التلاعب، (خاصة بعدما انكشف دور المليادير الأميركي الشهير روبرت ميرسر وابنته ريباكا، وما يتسمان به من عنصرية وتعصب ويمينية متطرفة، وتوظيف مؤسسات يدعماها بالملايين، مثل كيمبريدج أناليتكا في بريطانيا، وستيف بانون و«برايتبرات» في أميركا، للتلاعب بالرأي العام عبر الشبكة العنكبوتية) ودفعوا ببلدهم للهروب من قارب لا يوفر لهم ما يرغبون فيه، إلى عرض البحر وسط الأمواج والأنواء التي لا يعرفون أين ستؤدي بهم، أو بالأحرى ببلدهم. وإن كانت آثار هذا القرار قد بدأت بالفعل في التأثير على المواطن العادي في كثير من تفاصيل حياته اليومية، ولهذا السبب كان اهتمام الثقافة بما جرى، وطرحها لأسئلته الملحة.

مسرحية «بلدي» بين الشعر والتوثيق الدرامي:
وسأتناول هنا أولا شيئا من استجابة المسرح لهذه القضية في العام الماضي. لأن المسرح في لندن من أهم منابر التعبير الإبداعي، وأدوات التفاعل الثقافي مع الواقع وهمومه. وإذا كان العام الماضي قد شهد كثيرا من التأويلات الجديدة لأعمال مسرحية كبرى بأسلوب يكشف عن موقف العرض من قضية «البريكزيت» كما هو الحال في مسرحيتي إبسن «عدو الشعب» و«هيدا جابلر»، وحتى في بعض مسرحيات شكسبير، فإنه قد شهد أكثر من مسرحية جديدة، كتبت خصيصا لتناول هذه القضية الشائكة. وسأكتفي هنا بعملين مائزين قدمهما المسرح القومي الانجليزي، وهو أهم منابر المسرح الجاد، تمييزا له عن المسرح التجاري. عُرض أولهما في مارس 2017، بينما عرض الثاني في ديسمبر واستمر عرضه حتى يناير من العام التالي 2018.

أما العرض الأول والذي قدمه المسرح القومي فحمل العنوان الدال: (بلديMy Country) وصاغته كارول آن دافي Carol Ann Duffy، شاعرة البلاط الحالية.(3) وربما يكون هذا العمل هو إسهامها في تحقيق ما يُتوقع منها كشاعرة بلاط بأن تقدم عملا له طبيعة قومية واضحة، أو عملا أكبر من مجرد قصائد متفرقة. لأنه وإن كان عملا تجريبيا يعتمد على مزيج من الوثائقية والإبداع الشعري، فإنه يتناول واحدة من أكثر القضايا القومية إلحاحا على الواقع الانجليزي، وأقدرها على بلورة حالته الراهنة. حيث قام فريق من المسرح القومي، بعد ظهور نتيجة هذا الاستفتاء، بجمع آراء عدد كبير من البريطانيين من مختلف الأعمار (9 – 97 سنة) والمشارب والمناطق والطبقات في بريطانيا حول نتيجة استفتاء «البريكزيت»: كيف يتصورون بلدهم بعده؟ وما هي مشاعرهم إزاء نتيجة هذا الاستفتاء؟ وكيف يتوقعون ما سيترتب عليه من إجراءات؟ ولماذا صوتوا بالشكل الذي صوتوا به؟ وكيف يرون حال بلدهم الآن؟ وأخذت الشاعرة المادة الخام التي جمعها الباحثون، وأحالتها إلى عرض مسرحي مدهش! يكشف مدى انقسام البريطانيين الحاد على أنفسهم وعنادهم الذي يتجاوز في أغلب الأحيان كل منطق.

وتبدأ المسرحية بـ«بريطانيا»، الشخصية الأسطورية التي تمثل الجزر البريطانية مجتمعة، والتي صاغها المخيال الجمعي على مر التاريخ، ونجد صورة لها على بعض العملات المعدنية. وقد استدعت ممثلي كاليدونيا (اسكتلندا) وكمرو (ويلز) وأيرلندا، وجنوب غرب انجلترا، ووسط انجلترا، وشمالها. وسألت كل منهم ما الذي جرى عندكم؟ ومن خلال تقديم كل من هذه الشخصيات الست لخلاصة ما جمعه فريق المسرح القومي من تلك المناطق الستة، وقد أعادت شاعرة البلاط كتابته بأسلوب شعري يكثّف الشهادات، ويمزج بين التهكم وإبراز المفارقات فيها، تتبلور حالة المجتمع بشكل يدعو للرثاء والسخرية والحيرة معا. لأننا بإزاء عمل تنهض فيه الدراما على صراع المناطق والرؤى والتكتلات، بدلا من صراع الشخصيات. وتعتمد فيه البنية المسرحية على الإبيسودية والتجاور والتوثيق، أكثر ما تقوم على الحوار وحبكة الأحداث والتفاعل. وإن لم يضح العمل بدراما التوقعات التي تشد المشاهد المسرحي للعرض، وإنما أرهفها من خلال حبكة درامية تعتمد على التجاور والتناقض المستمرين، ولغة شعرية قادرة على التوجه للعقل والقلب معا.

ذلك لأن ممثل كل منطقة يحرص على أن يدعم ما يقوله بالصور: صورة من يعرض رأيهم واحدا وراء الآخر. وصور منتقاة من خطب بعض السياسيين الحقيقيين أثناء الجدل الذي دار قبل الاستفتاء وعرضها على خلفية المشهد. ومن خلال تلك الشهادات والصور التي تتقاطع وتتكامل وتتعارض بطريقة درامية ملحوظة، نكتشف مدى التباينات الطبقية في حاضر بريطانيا، وتأثيرها على قطاعات كبيرة؛ ومدى التفاوت في التعليم بين التعليم العام والخاص، وتأثير هذا التفاوت على مستقبل من يتلقونه؛ ومدى غيظ بعض من يعملون بمرتبات متدنية من استغلال البعض الآخر لنظام الإعانات الاجتماعية المختلفة، بالصورة التي يتجاوز فيها دخلهم منه مرتباتهم. بينما يكشف لنا ممثل وسط انجلترا أنها ليست أرض اللبن والعسل كما يتوهمها المهاجرون، وأن الحياة فيها ليست رخيّة ولا عادلة.

وتتصاعد على مد العرض الأصوات الغاضبة، والجمل المصكوكة التي كثيرا ما يرددها الناس في هذا الشأن؛ بعد أن تحولت مصكوكات الإعلام التي تلوكها الألسن بلا تفكير، واستعاراته الدالة المصاغة بمهارة خبيثة ومتعمدة، إلى مسلمات قادرة على إثارة مخاوف المصوتين، رغم هشاشتها وعدم صمود أغلبها للتمحيص العقلي. فمما بلورته تدخلات «كيمبريدج أناليتيكا» هو أن ما يحرك الناس للتصويت هو مخاوفهم أكثر من أي اقتناع عقلي، أو تصور منطقي للقضية المطروحة. وأن كل ما على العملية الانتخابية القيام به هو تحريك تلك المخاوف الشائعة وتحويلها إلى قوة فاعلة في الحشد تدفعهم للتصويت لموقف ما، دون أي فهم عقلي لعواقب هذا التصويت.

لكن النتيجة النهائية أننا بإزاء بلد تغلي بالاستياء والغيظ، أكثر مما نحن بإزاء بلد يعي ما يرفض أو لديه أية فكرة واضحة عن البديل. ولم يطرح العرض سؤال كيف توصل كل منهم إلى المعلومات التي بنى عليها موقفه، وبالأحرى تصويته بما اختاره؟ وإن استطاع العرض في مجمله، أن يكشف لنا عن أن الخوف لا العقل كا وراء تصويت الكثيرين: التوجس من تدخل الاتحاد الأوروبي وبيروقراطيته غير المنتخبة في شؤون الناس؛ أو الخوف من أن يكتسح المهاجرون السكان الأصليين، يستولون على وظائفهم ويجهزون على ثقافتهم المسيحية؛ أو المخاوف التي صاغتها الصحافة اليمينية بشأن المهاجرين من المسلمين، وما يرسلونه من تحويلات لتمويل الإرهاب؛ وغير ذلك من الأقاويل التي لا أساس لها من الواقع، هي التي صاغت مواقفهم أكثر من أي تفكير عقلي أو منطقي، بالصورة التي يجعلنا في مستوى من المستويات بإزاء أهجية لنتائج التصويت الجاهل في أمور سياسية مصيرية من هذا النوع.

لكن المسرحية تطرح أساسا مشكلة الهوية في العالم المعاصر: ماهي هوية بريطانيا الأن؟ ما هو تصور أهلها عنها؟ وهل ثمة صورة مثالية لها؟ وما علاقة هذه الصورة بالواقع المعاش؟ ولماذا هذا الخوف من المهاجرين؟ هل بريطانيا جزء من أوروبا؟ أم هي جزيرة معزولة تفرض على أهلها طبيعة تفكير الجزر السعيد بانغلاقه وعزلته؟ هل ثمة أمل في التغلب على عدم المساواة فيها، وغياب العدل الاجتماعي، والسخط على كل شيء وأي شيء؟ وغيرها من الأسئلة المهمة التي يكشف معها المسرح عن دوره في طرح الأسئلة أكثر من تقديم أجوبة عليها.

صحيح أن العرض ينتهي بالدعوة لقيادة حكيمة قادرة على أن تقود السفينة وسط كل تلك العواصف والأنواء التي أطلقها الاستفتاء المنكود؛ لكنه لا يكشف بأي حال من الأحوال من أين ستجيء هذه القيادة الحكيمة المبتغاة، في واقع يتسم بهذا القدر من الاهتراء والتمزق. والواقع أن استبعاد لندن، التي صوت أكثر من 60% من سكانها للبقاء في الاتحاد الأوروبي، من أن يكون لها من يجسدها بين الممثلين الستة؛ وكذلك استبعاد أي ممثل للجنوب الشرقي، من المثول أمام «بريطانيا» ظلم كثيرا رؤى الرافضين للخروج. وغيّب أصوت 48% من السكان، بالصورة التي دعت الكثيرين إلى نعت العرض بأنه (بلدهم) وليس (بلدي)، مما عمق من حس الفرقة الذي استعر في المجتمع منذ ذلك الاستفتاء المنكود.

خاصة لما تمثله لندن من تكوين سكاني واقتصادي أصبح مع مرور الزمن مغايرا بشكل ملحوظ لبقية بريطانيا، وأكثر كوزموبوليتانية من أي من مناطقها؛ كما أن طبيعة إسهامها الكبير في اقتصاد بريطانيا المتغير والذي يعتمد على ما يسمى بالتصدير غير المنظور، لأنه تصدير نتاج ثقافي ومهني في المحل الأول، وليس سلعي أو صناعي، يعتمد أساسا على التنوع الواسع في سكانها وخلفياتهم الثقافية المتباينة. فقد كان باستطاعة لندن أن تطرح كيف يمثل الحراك الاقتصادي الجديد فيها، والذي سيتأثر بعملية الخروج من الاتحاد الأوروبي أكثر من غيره من القطاعات الاقتصادية الأخرى، كيف أن هذا التصويت يدير ظهره للمستقبل، بينما يتوهم أنه يعزز فرص بريطانيا فيه.

صحيح أن العرض حرص على أن يمثل مختلف الشرائح العمرية والاجتماعية في بريطانيا، خاصة الذين عاشوا إبان الحرب العالمية الثانية، وكشف عن مدى تجذر النوستالجيا المرضية لإنجازات الماضي البعيد، والتي يرافقها في الوقت نفسه غياب للتعامل العقلاني مع الحاضر ناهيك عن المستقبل، إلا أن تركيزه على بلورة تلك القوة المدمرة التي انتجها الاستفتاء، والتي دفعت الكثيرين للتعبير عن أسوأ ما فيهم من ضيق أفق وعنصرية، عزز من قدرة المسرح التحذيرية، وصدمته التي تدفع المشاهد إلى المزيد من التفكير العقلاني فيما جرى. لأن ما جرى مثل تراجعا خطيرا لهذا التفكير المنطقي والعقلاني في المجتمع.

القديس جورج: تأويلات جديدة للأسطورة القديمة:
اما العمل الثاني الذي يتناول هذه القضية فهو العرض الذي قدمه المسرح القومي الانجليزي في شهر ديسمبر الماضي، ومازال يعرضه في العام الجديد 2018 بعنوان «القديس جورج والتنينSaint George and the Dragon» للكاتب المسرحي الشاب روري مولاركي Rory Mullarkey، الذي لم يبلغ بعد الثلاثين من العمر، ومع هذا تعرض مسرحيته في أكبر فضاءات المسرح القومي Olivier Theatre. وهي مسرحية شديدة الطموح والمعاصرة معا، ليس فقط لامتداد الفترة التاريخية التي تغطيها منذ العصر الإقطاعي وحتى ما تعانيه بريطانيا اليوم، ولموضوعها الشائك، ولكن أيضا لأن القديس جورج، هو القديس الحامي لانجلترا. لذلك من الصعب علينا عند مشاهدتها تجاوز الكثير من الإيحاءات والاستدعاءات المرتبطة به. وأولها بالطبع الجانب الديني الذي استغله الأدب منذ بدايات الشعر الانجليزي في العصر الإليزابيثي، عندما حفر القديس جورج صليبه في اللاوعي القومي، وفي تاريخ انجلترا الأدبي منذ ملحمة إدموند سبنسر الشهيرة (الملكة البديعة The Fairy Queen).

وثانيها أننا بإزاء مسرحية يطرحها المسرح القومي إبان الاستعدادات المسرحية لموسم أعياد الميلاد، حيث يهتم المسرح بتقديم أعمال شعبية تجتذب كل أفراد الأسرة صغارا وكبارا للذهاب إليه. وثالثها أننا بإزاء مسرحية تعتبر نفسها «حكاية شعبية لأمة قلقة أو مأزومة»، كما يقول عنوانها الثانوي، لذلك فإنها تستخدم الأسطورة الدينية للتعامل مع أزمة الهوية الانجليزية الحادة التي اندلعت في الخطاب الانجليزي عقب التصويت للخروج من الاتحاد الأوروبي، ولازالت مستمرة حتى اليوم. حكاية تطرح قضايا حقيقة البطولات الأسطورية القديمة التي جرى استدعاؤها وتوظيفها في جدل الخروج من الاتحاد الأوروبي أو البقاء فيه، وتطرح في مواجهتها ضرورة بناء الأمة وتوحيد قواها، في مواجهة شرور تتغير طبيعتها باستمرار عبر دورات المسرحية الثلاثة.

والواقع أن مسرحية روري مولاركي مستلهمة من مسرحية الكاتب الروسي إيفجيني شوارتز (1896-1958) Evgeny Schwartz الشهيرة والتي كتبها عام 1943 بعنوان (التنين)، واستخدم فيها تلك الاسطورة الدينية الشهيرة حول القديس جورج الذي استطاع أن أن يقتل التنين الذي كان يعيش في البحيرة التي تعيش على مياهها المدينة، وفي رواية أخرى في الجبل المشرف عليها، ويستأدي المدينة أحدى بناتها بشكل دوري. وقد اعتادت المدينة على إجراء قرعة كلما حان موعد تقديم الأضحية له لاختيار إحدى بناتها لتقدمها له، حتى وقع الدور على ابنة السلطان نفسه. وحاول السلطان أن يفدي ابنته بكل ما يملك من مال أو عقار، لكن المدينة أصرت على أن تذهب من وقعت عليها القرعة إلى البحيرة حتى يخرج لها التنين، ويجرها معه إلى قيعانها، ثمنا لسكوته عن المدينة وعدم إيذائها حتى الموعد التالي. وحينما وصلت الأميرة للبحيرة في انتظار خروج التنين، تصادف أن مر عليها القديس جورج ممتطيا جواده الشهير، وحاولت أن تطلب منه الابتعاد عن البحيرة، لكنه رفض وتصدى للتنين حينما خرج لالتهام فريسته، ورسم عليه علامة الصليب التي جمّدته، ثم طعنه بحربته الشهيرة من فوق جواده، وأنقذ الأميرة وعاد بها إلى المدينة التي دخل أهلها إلى المسيحية بفضله.

هذه باختصار هي أسطورة القديس جورج الدينية. وكان شوارتز بعد أن كتب عددا كبيرا من مسرحيات الأطفال، ومسرح عددا من قصص كاتب الأطفال الدنماركي الشهير هانز كريستيان أندرسون (1805-1875) للمسرح الروسي، كتب أمثولته الرمزية، ومسرحيته التهكمية الساخرة (التنين) التي أضاف فيها إلى الأسطورة الدينية المعروفة، دورة جديدة يعود فيها التنين، بعد أن استراحت المدينة من شروره وعنفه لمدّة طويلة، ولكن بشكل جديد وفي صورة مغايرة تستخدم كل ادوات الدولة الشمولية الجديدة التي كانت قد تبلورت سطوتها في روسيا الستالينية، بصورة أحالت مسرحيته إلى دراما تهكمية ينتقد فيها سطوة الشمولية في عصره. وقد نجح شوارتز في تناوله للدورة الثانية التي عاد فيها التنين، في تجذيره في تفاصيل الواقع، وتحويله إلى جزء من آليات استمراره، ووضع يده على أهم عناصر استمرار سطوة الشر/ التنين وسيطرته على حياة المجتمع الذي يسود فيه، وهي أن الناس يعتقدون لا بأهميته فحسب، وإنما بأن طريقة الحياة التي اختطها لهم، وما تنطوي عليه من آليات الحفاظ على دوره وشره ومكانته، هي الطريقة المعقولة الوحيدة الممكنة، إن لم تكن المثلى. وقد وضع بذلك يده على مدى مرونة الروح البشرية وخمولها واعتيادها على التعايش مع الشر، أو كما يقول الحياة حتى في الجحيم نفسه.

إلى فكرة الدورة المتكررة للأسطورة التي ابتكرها إفجيني شوارتز يعود الكاتب المسرحي الانجليزي المعاصر روري مولاركي ليبني عليها مسرحيته الجديدة التي يلجأ فيها إلى دورات ثلاث بدلا من دورتين. ويدير عبرها حواره الخلاق مع ما يدور في الواقع الانجليزي والعولمي الراهن. ويبدأ الكاتب مسرحيته الجديدة بالطبع بالأسطورة نفسها، لأن البداية بها ينطوي على تأسيس مهم لفكرة ضرورة البناء على ماضينا وميراثنا، لأنه بدون الوعي بهذا الموروث نتعرض لفقدان الذاكرة التاريخية، وهو أشد الأمراض فتكا بالأمم. فنحن نعرف في عالمنا العربي كيف أن فقدان الذاكرة التاريخية يدفع عالمنا إلى تكرار أخطائه، وييسر سبل العصف به وتدميره بشكل مستمر. فالتاريخ، وخاصة التاريخ المفتوح للتأويلات المتعددة وغير المبتسر في رؤى جامدة ضيقة الأفق محدودة، لا يعلمنا الماضي ويقينا من تكرار أخطائه فحسب، ولكنه يخلق نوعا من الاستمرار والهوية الجمعية والسرديات المشتركة.

لذلك تبدأ الدورة الأولى في واقع انجليزي ريفي، أقرب ما يكون إلى انجلترا بيوولف أو انجلترا التشوسرية، يكرر تلك السرديات المشتركة؛ حيث يستطيع البطل جورج، العائد إلى قريته بعدما اكتسب من رحلاته خبرات ومهارات عديدة، بدلت الصورة التي تركها لدى القرية حينما هرب منها قبل أكثر من عام. إنه الآن راغب في أن يصارع الوحش/ التنين الذي يهدد القرية، بدلا من الهرب منه كما فعل من قبل. لكنه يدرك الآن بعد خبرة الارتحال في العالم، أن سبيله الوحيد للانتصار على الوحش هو توحيد القرية ضده، بعدما نجح الوحش في تقسيمها، وتأليب قسم منها على الأخرين، ودفع الجميع إلى اختيار أجمل فتيات القرية لتقديمها له، وهي بالصدفة، إلسا، الفتاة التي كان جورج مغرما بها قبل مغادرة قريته. وما أن تنتهي انقسامات القرية وتتوحد قواها حتى تشارك جمعيا في دعم جورج ووضع الدروع الواقية عليه، كي يحارب الوحش نيابة عنها، بعدما كادت في انصياعيتها وسلبيتها أن تقدم له أجمل صباياها. وينقذ جورج سكانها من شروره، بعدما تمكن من توحيد القرية كلها ضده، وضد أعوانه.

وتنتهي بقتل الوحش الانقسامات والصراعات، ويبدأ زمن يطلب فيه جورج من أهل قريته أن يحلموا بالمستقبل. بزمن يعد بالسلام والرخاء، ويمارس فيه الجميع حياة جمعية سعيدة. على هذا الحلم المفتوح بالمستقبل يترك جورج القرية ليلتحق بفريق الفرسان بحق، بعدما برهن على فروسيته وشجاعته. وما أن يعود إلى القرية بعد غياب تقول لنا الحكاية أنه عام، بينما تكشف لنا التغيرات التي انتابت الواقع أنه قرون، حتى يجد أن كل شيء قد تغير في الدورة الثانية.

لنجد أنفسنا في مواجهة انجلترا الطالعة من معمعة الثورة الصناعية، وقد انتشرت فيها المصانع وسيطرت على سماواتها المداخن، إنها انجلترا العصر الفيكتوري، الذي تسيطر فيه الرأسمالية المستغلة على كل شيء. وما أن توقف الجميلة إلسا، وهي هنا عاملة في إحدى المصانع، الآلة التي كادت أن تلتهم ذراع طفل يعمل في المصنع، حتى يحكم عليها النظام الرأسمالي/ صاحب المصنع/ التنين الجديد بالإعدام. فنحن هنا بإزاء تنين جديد مغاير لذلك الوحش الغريب الذي كان من السهل التضامن ضده في الدورة الأولى. إنه يتمثل في نظام كامل يمثله هنا صاحب المصنع الذي يدافع عن مصالحه، أو تلك الرأسمالية الصناعية التي تستأدي العمال آخر قطرة من دمائهم لزيادة مكاسبها. إنه واحد منا، وبشر لا يختلف كثيرا عن جورج نفسه. لذلك تتعدد رؤوس هذا الوحش الذي يجسد طغاة العصر الفيكتوري على عكس ما كان عليه الحال مع الوحش القديم. ومع تعدد الرؤوس تتعرض فكرة البطل الفرد، الفارس القادر على القضاء على الوحش نيابة عن المجتمع للنقد والتفكيك. فلم يعد الوحش عدوا خارجيا يسهل التجمع ضده ومحاربته والتغلب عليه، وإنما أصبح جزءا من بنية المجتمع الطبقية. هنا تصبح عملية تجنيد العمال وإرهاف وعيهم بقدراتهم التفاوضية، ناهيك عن قدرتهم على الثورة هي وسيلة الخلاص.

أما الدورة الثالثة، والتي تختفي منها مداخن الثورة الصناعية، وترتفع في سماواتها ناطحات السحاب، والعمارات ذات الواجهات الزجاجية، فإن الأمر يزداد فيها صعوبة. حيث يتغير فيها الواقع والوحش معا. فلم تعد للوحش حتى التجسدات البشرية التي كانت له في الدورة السابقة، حينما كانت التباينات بين الطبقات جلية للعيان. بل يصبح في اشد صوره مراوغة وتخفيا، لذلك يزعم أن من المستحيل القضاء عليه، لأنه تسلل إلى أغوار كل منا، وتغلغل في أرواحنا، وكمن في شره كل منا إلى المزيد إلى البضائع الاستهلاكية. فلم تعد ثنائية الخير/ الشر القديمة على نفس الدرجة من التضاد، بعدما انمحت الحدود الفاصلة بينهما. لقد أصبح جزءا من بنية المدينة الجديدة التي نعيش فيها، ومن كل مجالات هذا العيش المختلفة فيها. ولا تصلح معه بطولة الفارس القديم التقليدية، ولا سيفه البتّار، لتخليص المجتمع من شروره.

لأن الخلاص في هذا الواقع الجديد يكمن في قدرتنا على تنظيم هذا العالم العولمي أو المعولم بطريقة عادلة وسليمة، وهو أمر تعترف المسرحية باستحالته. في مواجهة تلك النوستالجيا المرضية إلى العوالم القديمة التي أحيتها في الواقع الانجليزي سرديات الماضي العريق، وقدرة انجلترا على الصمود وحدها! وكيف أن الجانب الآخر للعملة في هذه النوستالجيا هو الحط من قيمة الذات وأحلامها وعوالمها. فإلسا، حبيبته التي أنقذها من التنين في الدورة الأولى، تصبح في الدورة الثالثة امرأة مهنية مشغولة بصعود السلم الوظيفي في مهنتها، أكثر من انشغالها بأي حبيب أو زوج محتمل. فقد تغيرت طبيعة الطموحات وبنية الأولويات الاجتماعية والإنسانية القديمة. إننا في حقيقة الأمر بإزاء دورة لا نعرف أين هي جذور الشر الذي يتهدد المجتمع فيها؛ ومع ذلك فإن الجميع يعي أننا نعيش في مجتمع لا يقل خللا عن ذلك الذي عانى من شرور التنين القديم. لأن التنين الجديد نجح في زرع الجشع والشر وخيبة الأمل وكل الخطايا البشرية في داخلنا.

إنه واقع يعود بنا إلى مقولة برتولت بريخت الشهيرة في (جاليليو جاليلي) ما اتعس البلاد التي تحتاج إلى أبطال! ولكن الأمر الآن أصبح أشد تعاسة مما كان عليه الحال في زمن جاليليو، حيث لا إمكانية لوجود مثل هؤلاء الأبطال. لأننا نعيش في عالم بلا أبطال وبلا قيم! عالم لم يعد فيه أمل في أي حلم بالمستقبل، كما كان الحال في الدورة الأولى. إذ تصبح النزعة الوطنية بشوفينيتها الضيقة هي إحدى تجليات التنين في الدورة الثالثة. لكن الجانب الإيجابي في هذه الدورة هو أنها تسعى لأن تكون مرآة ترى فيها بريطانيا واقعها الراهن بعدما تعرفت على مسيرتها الماضية في الدورتين السابقتين. وتتعرف على حال الأمة وقد أصبح التفاوت فيها بين الدخول في أسوأ حالات عدم المساواة: لا في الأجور وحدها، وإنما في الفرض كذلك. فنحن هنا بإزاء بريطانيا الغارقة في مساءلة النفس، وتمحيص خياراتها وأسباب انقساماتها بعد استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي. ففي بعض التأويلات أصبحت عملية «البريكزيت»، أي نتيجة الاستفتاء الشعبي بالخروج من الاتحاد الأوروبي، هي التنين! في المرحلة الثالثة.

قلت أن خلق هذه السرديات المشتركة من العناصر السارية في شرايين الدورات المتكررة في هذه المسرحية. حيث تسعى، في مستوى من مستويات المعنى فيها، إلى التعرف على الدورات المختلفة في تاريخ بريطانيا منذ أن كان الخطر/ التنين خارجيا كلية، سواء على شكل الأرمادا الإسبانية 1588 في العصر الإليزابيثي، أو تهديد نابليون في 1805، أو ألمانيا النازية في القرن العشرين، وحتى أصبح كامنا في البنية الداخلية للمجتمع الراهن، وانقسامات الذات على نفسها، وانشقاق بريطانيا على نفسها وجيرانها معا بالصورة التي تجلت في عملية «البريكزيت». وهو الأمر الذي أصبحت معه، بطولة جورج ونبل مقاصده، عبءً عليه في واقع يتسم بالكلبية، والانكفاء على أوهام الماضي، وفقدان القيم الأخلاقية. لأن المسرحية تسعى أيضا إلى التعامل مع ما تنطوي عليه فكرة البطل المخلّص الذي يحرر المدينة من التنين، ويخلصها من سطوة الشر، من أوهام تاريخية رازحة.

فالبطولة ليست مجرد فعل الفرد الاستثنائي، ولكنها إهالة المجتمع على هذا الفعل قيمة بطولية، وما يسبغه عليها من دور إيجابي فيه. فلا بطولة دون اعتراف الآخرين جمعيا بها، وبالتالي حاجتهم إليها في واقعهم. لذلك يعرّض العمل فكرة البطل المخلص نفسها للنقد والتفكيك في الدورتين الأخيرتين، اللتين تتبدل فيهما صورة التنين، دون أن يتغير جوهره. فلم تعد بريطانيا في حاجة إلى بطل من نوع الملك آرثر، أو حتى ونستون تشرشل. وإنما أصبحت في حاجة ماسة إلى أن ينفض المجتمع عن نفسه تلك الحاجة السلبية لبطل يخلصه من التنين، إيّما كان نوعه؛ وأن يصبح كل فرد إنسانا واعيا فعّالا وقادرا على تحمل مسؤولية مواجهة تجليات الشر المختلفة وتصحيحها. أو يمعنى آخر ربما أصبحت ثمة حاجة إلى تطوير نوع مغاير من البطولة الجمعية القادرة على توسيع آفاق طموحات المجتمع المعنوية، ومنحه رؤية لما يمكن أن يحققه أو تكون عليه صورته المرجوّة.

إننا هنا بإزاء واحدة من القصص البدئية إن صح التعبير: قصة البطل الذي يقتل الوحش الذي يهدد مدينته أو مجتمعه، بدءا من وحش أوديب في الأساطير اليونانية، وحتى تنين القديس جورج في الأسطورة المسيحية، وصولا إلى مختلف أفلام كائنات العوالم الأخرى وروايات الخيال العلمي في الأساطير الهوليودية. لكن تلك القصة البدئية برغم استمرارها عبر العصور فإنها تتغير باستمرار مع تغير الحياة وتبدلها. وتتغير معها الأسئلة التي تطرحها: هل تأتي الوحوش من الخارج دائما؟ أم أنها تنبثق من داخلنا؟

كان هذا السؤال هو ما ميز مسرحية شوارتز التي استلهمها مولاركي. لأن البطل الذي يحمي الناس من شرور الوحش فيها، يمكن أن يكون هو نفسه القوة التي تتسلط عليهم وتستعبدهم. لكن ما تطرحه هذه المسرحية الجديدة هو السؤال الأهم: من أين تأتي تلك الوحوش؟ وكيف تتغير أشكالها باستمرار؟ وما الذي جرى في ظل هيمنتها لأهمية الإنسان الفرد الذي تكرس في «الماجنا كارتا»؟ كما أنها تطالبنا بالتفكير في أن التاريخ الذي يقلّص فرصنا، ويحصرنا في خيارات محدودة وقطعيّة، هو نفسه ما يعوق حركتنا نحو المستقبل، ويحيلنا إلى قطيع ينحدر دوما نحو القاع، كما هو الحال في واقع كثير من مجتمعاتنا العربية، التي توشك آلية استمرار التردي فيها أن تكون مبنية على عملية تقليص اختياراتنا على الدوام، وحصرها في تصورات جامدة وتأويلات عقيمة لماضينا.

الرواية الانجليزية تواجه قضايا الـ«بريكزيت»

إذا ما انقلنا من المسرح إلى الرواية سنجد أنها تتعامل مع التصويت الذي قررت به بريطانيا الخروج على أنه فتح صندوق «بندورا» الشهير فخرجت منه الأشباح الغافية والشرور. وسوف أقدم هنا تعامل رواية شيقة معه بطريقة مغايرة عن تلك التي تناولها المسرح، تكشف مغايرتها بشكل من الأشكال عن الاختلاف بين المسرح والرواية كجنسين أدبيين متباينين. وإذا كانت المسرحيتان قد حظيتا باهتمام كبير، وقُدمتا على خشبة أهم المسارح البريطانية، وهو المسرح القومي بلندن، فقد استطاعت الرواية أيضا أن تصل إلى قوائم جائزة البوكر الانجليزية الشهيرة. وأن تحظى باهتمام نقدي واسع، أبرز قيمتها الفنية وكشف عن الكثير من رؤاها الثرية، ناهيك عن وصولها إلى قوائم أكثر الروايات مبيعا وبقائها عليها لعدة أسابيع.

وإذا عدنا لأسطورة باندورا التي بلورها هزيود في (الأيام والأعمال) سنجد أنها تقول لنا أن باندورا بعد أن فتحت صندوقها وأتاحت لكل الشرور أن تنطلق منه، أغلقته على ما بقي في قاعه، وهو الأمل الخادع، أو التوقعات المراوغة التي تجلب لمن يستسلم لها اللعنات، وتقوده إلى حتفه. لإن ما فعله التصويت على «البريكزيت» كما تقترح علينا الرواية أنه لم يقفل الصندوق على هذا الأمل الخادع، بل أطلق له العنان أولا، أثناء عمليات الحشد للتصويت، حتى إذا تمكن من غواية الناخبين فصوتوا للخروج، اطلقت بقية الأشباح والشرور واللعنات من ورائه.

ذلك لأن رواية (خريف Autumn) للكاتبة الاسكتلندية المرموقة آلي سميث Ali Smith، وهي روايتها السابعة في مسيرة روائية ناجحة، أكدت عبرها أنها من أكثر كتاب جيلها قدرة على اقتناص نبض المجتمع البريطاني وتحولاته المستمرة. تكشف لنا كيف انطلقت كل شرور المجتمع البريطاني من محبسها بعد هذا الاستفتاء، أثناء الصيف الذي تم فيه التصويت وظهرت نتيجته الحرجة، وطوال الخريف التالي له، وهو زمن الرواية. وتعلن علينا كاتبتها أنها الرواية الأولى في رباعية تستخدم الفصول عناوين لها، وستعقبها رواية (الشتاء) التي صدرت فعلا قبل شهر. والخريف هو أوان الحصاد، وهو فصل التحولات، فأي حصاد ستجنيه بريطانيا من هذا الاستفتاء الذي قسمها بعنف كما لم يقسمها شيء من قبل؟ وما هي التحولات التي تستشرفها الرواية في هذا المناخ القاتم الذي بلورته لنا أحداثها؟

تبدأ الرواية زمنيا عام 2016 وفي الخريف الذي أعقب صيف الاستفتاء وظهور نتيجته، ولكنها تأخذنا في الزمن إلى الأمام لعام 2017 وتعود بنا للوراء إلى زمن الحرب العالمية الثانية، وهو زمن كثيرا ما استُدعي أثناء الجدل على هذا الاستفتاء، من خلال استعادات الفلاش باك الكثيرة. وهي رواية مكتوبة بإيقاع سريع، ومنشورة بنفس السرعة مما جعلها أولى روايات «بريكزيت» التي تطمح إلى سبر أغوار لحظة قرار الخروج من أوروبا، وعواقب أن تؤسس أمة قرارا مصيرا على حفنة من الأكاذيب.(4) وكيف فتح مثل هذا القرار صندوق باندورا ولا يعرف أحد كيف يغلقه.

تبدأ بدانيل جلاك، وهو يهودي ألماني انتقلت به أسرته إلى بريطانيا عقب صعود هتلر، وقد أمضى حياته بها مثقفا وكاتبا ناجحا للأغاني وجامعا للوحات، وقد بلغ 101 من عمره، وهو يحتضر ببطء في بيت للمسنين خارج لندن، في زمن تمت فيه خصخصة مؤسسات الرعاية الاجتماعية. ويحلم بأنه قد ارتد للشباب، ويرى جسده وقد استعاد حيويته، وتخلص من كل العجز والعفن كلية، وحينما يكتشف أنه عارٍ يلتف بأوراق الأشجار ويترك جسده كي يتخلل الأرض ويصبح جزءا من تربتها النافعة. فلا نعرف إن كان يرى نفسه في الحلم، أو فيما بعد الموت. حيث يمضي أكثر وقته في النوم، كما هو الحال مع الذين يقتربون من الموت. وليس له أسرة أو من يسأل عنه أو يزوره. اللهم إلا إليزابيث التي تتطوع بأن تكون أسرته.

وإليزابيث، بطلة الرواية الأساسية في عالم عار من أي بطولة، محاضرة مؤقتة في إحدى الجامعات بلندن، في الثانية والثلاثين من العمر (فقد ولدت لدلالة المفارقة عام 1984، وسيكون للرواية التي تحمل رقم هذا العام دور في روايتنا وحياة بطلتها) يقلقها أنها قد لا تحصل على ساعات عمل كافية في زمن العقود الصفرية Zero Hours Contracts. وهي عقود الزمن الجديد والمتغيرات الصعبة، والتي لا يلتزم فيها صاحب العمل إلا بصفر من ساعات العمل، وبصفر من أي ضمانات أخرى كالرعاية الصحية أو الضمان الاجتماعي أو المعاش. وقد أصبحت مثل تلك العقود الصفرية البديل عن الوظائف الدائمة التي تفرض على صاحب العمل الكثير من الالتزامات التي تحرر منها بفعل قوانين العولمة الجديدة.

وتنتمي إليزابيث، بطلة هذه الرواية الأساسية، إلى بطلات آلي سميث الأثيرات، فهي شابة هشة، مترعة بالأحلام والشكوك والتساؤلات، ومثقلة بالذكريات ولا تستطيع التملص من آثار طفولتها عليها. وحينما نلتقي بها تكون في طابور بمكتب بريد ساعته معطلة (وكأننا في زمن وليام فوكنر الأثير)، تنتظر دورها لتقديم طلب الحصول على جواز سفر، وهي تقرأ كتاب هكسلي (عالم جديد طريف)، في عالم تجاوزت مواضعاته أكثر كوابيس هكسلي إزعاجا، وتتخوف من أن يعيد الموظف لها طلبها، وهو ما يحدث بالفعل لأن حجم الوجه في الصورة أكبر من اللازم. وحينما ترد على موظف مكتب البريد، بهل معنى أن حجم رأسي في الصورة أكبر من اللازم أنني مشبوهة وسأقوم بعمل شنيع؟ يرد عليها إننا في مكتب بريد، وليس في عالم خيالي/ قصصي. والواقع أن المزج بين الواقع العياني البائس والخيالات القصصية هو عماد هذه الرواية الأساسي التي يلعب فيها التناص، أو بالأحرى شبكة من التناصات المتراكبة، دورا أساسيا.

ومن خلال استعاداتها للزمن القديم، نكتشف كيف تعرفت إليزابيث على دانيل منذ عام 1993 حينما كانت في الثامنة من العمر، وهو في التاسعة والستين، حينما طلبوا منها في المدرسة أن تكتب صورة خبرية/ قلمية عن أحد جيرانها. وكان دانيل الذي أعجبت الطفلة بأناقته هو الجار الذي اختارت الكتابة عنه، رغم تحذير أمها لها من ألا تتحدث معه، لأننها تتصور أنه مثليّ. وتنصحها أمها بألا تذهب له، وأن تكتب موضوعها عنه دون زيارته. اطرحي أسئلتك، ثم تخيلي ما يمكن أن تكون إجابته عليها واكتبيها. لكن الطفلة تقول لأمها إن المفروض أن تكون إجاباته حقيقية، لأنها ستكون في موضوع الأخبار، وسأقرأها في طابور الصباح. فيكون رد أمها، إن أغلب الأخبار التي تسمعينها مختلقة على كل حال. وكأنها تتحدث عن عالمنا الراهن وأخباره المختلقة في زمن دونالد ترامب الغريب.

لكن إليزابيث لا تستجيب لنصيحة أمها وتذهب لبيت جارهم دانيل، فتدخلها تلك الزيارة الباكرة إلى عالم مغاير كلية لكل ما يدور في بيتهم. وتلاحظ الطفلة الطُلعة كيف أن كل شيء في بيته من صور ولوحات مغاير لما في بيتهم. وسوف تصحح إليزابيث بعد ذلك تصور أمها، وتقول لها إنه ليس مثليا، إنه أوروبي. في نوع من تأكيد دور أوروبا في صياغة هوية الجيل الذي تمثله إليزابيث، وفي فتح أبواب كثيرة أمامه. ذلك لأن تلك الزيارة الباكرة لإليزابيث الطفلة له، سرعان ما تفتح أبواب حوار عميق، وصداقة روحية بين الشخصيتين. يفتح دانيل فيه أمامها أبواب عالم الفن والأدب. هل أقول وأبواب أوروبا أيضا! فقد كان من جامعي اللوحات، ومن المكتشفين للفنانات اللواتي لم يأخذن حقهن من الاهتمام والشهرة. إذ كان هو من أوائل من اكتشفوا أهمية أعمال فنانة الستينيات الانجليزية المغمورة بولين بوتي Pauline Boty (1938-1966) التي ماتت في شرخ الشباب، وتعد الآن رائدة فن البوب الانجليزي، ومن رواد النسوية الانجليزية والتحرر في ستينينات القرن الماضي.

بل إن الرواية في مزجها بين الواقعي والخيالي تجعل دانيل، في أحد أزمنتها المتراكبة، عاشقا حقيقيا لهذه الفنانة الشقراء الجميلة، مأخوذا بفنها وقدرتها على تحدي المجتمع، وواقعا في غرامها. حيث تجلبها إلى فضاء الرواية، وتحولها إلى موضوع لرسالة إليزبيث للدكتوراه في تاريخ الفن فيما بعد، وهو موضوع يدخلنا بدوره في فورة ستينيات القرن الماضي، وما كانت تعج به من طاقة خلاقة، وقدرة على التحدي والتغيير، بصورة تحيلها إلى مرآة مناقضة لزمننا الردئ. وتمزج الرواية بين حياة إليزابيث ومأساة حياة بوتي في تقاطعات دالة، تكتب عبرها قصة صداقتها العميقة بدانيل، أو بالأحرى هذا الحب والانسجام العميق بينهما والمختلف عن تجارب الحب الحسية المألوفه: "لا أحد يتكلم مثل دانيل، لا أحد لا يتكلم مثل دانيل". حيث يعم بينهما نوع من التفاهم العميق والوئام، حتى في تلك اللحظات الصعبة المفضية إلى احتضاره. حيث يصبح الصمت لغة تواصل لا تقل بلاغة عن الكلام. في تناقض صارخ لما يعج به العالم المحيط بهما من فقدان للفهم وضيق أفق متصاعد.

وتحرص الرواية على تجسيد ضيق الأفق وفجاجة النزعة الشوفينية الجديدة التي أطلقتها «البريكزيت» من صندوق باندورا، حيث أدت نتائج الاستفتاء إلى شق هائل في المجتمع. لأن أمها تخبرها حينما تذهب لزيارتها، أن نصف القرية لا يكلم نصفها الآخر منذ ظهور النتيجة. وأن شخصا قد كتب بـ"سبراي" رشاش الألوان «عد إلى بلدك» على حائط بيت أحد جيرانهم وقد تصور أنه مهاجر؛ فما كان من صاحب البيت إلا أن كتب تحتها «إنني في بلدي فعلا! شكرا لك!» فأخذ الناس يضعون باقات الزهور على الرصيف بجوار جدار البيت، وقد أحال فعل التعاطف البيت، لمرارة المفارقة، إلى قبر! لأن الناس في بريطانيا يضعون الزهور على المواقع التي يموت فيها أحد! أو على القبور! كما تخبرها أمها أن الأسلاك الشائكة وكاميرات المراقبة ظهرت فجأة حول أحد المواقع في قريتهم.

وتخبرنا الكاتبة «على امتداد البلاد شعر الناس بأنها النتيجة الخطأ، وعلى طول البلاد أحس الناس بأنها النتيجة الصحيحة. وعلى طول البلاد أحس الناس بأنهم خسروا، وعلى طول البلاد شعر الناس بأنهم كسبوا، وبأنهم قاموا بالعمل الصحيح، بينما صوت الآخرون للجانب الخطأ. وعلى طول البلاد عمّ الحزن، وعلى طوال البلاد انتشر الفرح! وفي كل البلاد بدا أن لما حدث قدرة العصف بالجميع كسلك كهربائي عار، انقصف من عموده العالي في العاصفة، وأخذ يضرب الهواء والسقوف والمرور، وعلى امتداد البلاد شعر الناس بأن هذا كان الأمر المطلوب، وعلى طول البلاد احس الجميع بأنهم خسروا، وعلى طول البلاد احس الجميع بأنهم كسبوا!» (ص94)

ويتردد هذ الشق العميق كلحن القرار في الرواية عدة مرات وبأشكال مختلفة "على طول البلاد شعر الناس بأنهم كانوا على حق، وأن لرأيهم مصداقيته، وعلى طول البلاد انخرط الناس في الحزن والصدمة".(ص60) وإن كانت الرواية تطرح بموازاته أو بالأحرى في مواجهة له نوعا من رأب الصدع الذي كان كامنا بين إليزابيث وأمها. فقد كانت الأم وقد انفصلت عن زوجها وهي في أوج شبابها، وآلت إليها عملية رعاية ابنتها وحدها، توزع اهتمامها بين رعاية تلك الإبنة وإقامة عدد من العلاقات التي تشبع عبرها احتياجاتها الحسيّة. بصورة لم تغب بعض تفاصيلها عن البنت الصغيرة التي كانتها إليزابث وقتهاز وقد استغلت الأم اهتمام دانيل بإلبزابيث الصغيرة لتعهد له برعايتها حينما تكون في إحدى تلك المشاوير. فقد أصبح يتطوع للقيام بدور جليس الطفلة Baby Setter حينما تنطلق الأم في مشاويرها التي توحي الرواية أنها كانت مشغولة فيها بإشباع رغباتها، أكثر من الانشغال برعاية ابنتها الطفلة. وهو الأمر الذي توثقت عبره علاقة دانيل بإليزابيث على حساب علاقتها بأمها كما يبدو. خاصة وأن دانيل كان يأخذها إلى المسرح وإلى المعارض التي يتردد عليها، أثناء تلك الفترات التي تعهد له أمها برعايتها.

وتتذكر إليزابيث أنه كان أول من صحبها إلى المسرح، وأنه صحبها لمشاهدة مسرحية (العاصفة) لشكسبير. وهو تذكر دال في شبكة تناصات الرواية الكثيرة والمتشابكة يقيم علاقة بين دانيل وبروسبيرو. لكن المهم هنا أن الرواية وهي تطرح عملية رأب الصدع القديم بين البنت وأمها في مواجهة الصدع الجديد الذي يناتب الأمة كلها، تتقصى لنا الكثير مما دار في حياتهما القديمة. حيث تكتشف إليزابيث، وقد كثر ترددها على أمها، لأن بيتها في الطريق إلى بيت المسنين الذي يحتضر فيه دانيل، جوانب جديدة عليها في شخصيتها تقربها منها أكثر من قبل. وتبدأ في الدخول من جديد تحت جلد أمها وفهم الكثير مما فاتها من تصرفاتها القديمة في ضوء فهمها الجديد لها. وتكتشف فيها الكثير من الإيجابيات التي أخفقت في اكتشافها من قبل. فكلاهما يشعر بالقهر الذي لا يستطيع له د فعا. حيث تخبرها أمها «إنني متعبة من الغضب، ومن تفشي البخل العاطفي والرداءة، إنني متعبة من الأنانية، ومن كل ما يجعلني أشعر بالخوف"» (ص 86)

وكلاهما يعي أن تفشي رهاب كراهية المهاجرين هو القاسم المشترك بين ما يدور في بريطانيا بعد نتيجة الاستفتاء، وما أدى إلى صعود النازية في ثلاثينيات القرن الماضي. وتكتشف إليزابيث أنها تحاول هي الأخرى، كما حاولت أمها من قبل، أن تلملم شتات حياة غير عادلة بالمرة. حيث أنها تعيش في نفس الشقة المستأجرة الصغيرة التي كانت تسكنها وهي طالبة. وليس لديها وظيفة ثابتة برغم تعليمها العالي الذي تكلل بالحصول على الدكتوراه، والتي كانت توفر في الماضي وظيفة مضمونة. ولكن أقصى ما وفرته لها الآن هي وظيفة التدريس الجامعي المؤقتة. والتي لا تكسب فيها ما يكفيها من النقود. وقد وطنت نفسها على ألا أمل لها في أن تشتري لنفسها سكنا، وهو أمر كان أحد رواسخ أو علامات تقدم الطبقة الوسطى وتحققها حتى جيلين سابقين! وان كانت تشعر أنها أفضل حالا من طلبتها في الجامعة الذين يتخرجون مثقلين بالديون، ولا يشعرون بأن لهم أي مستقبل، أو أن باستطاعتهم الحصول على وظيفة تشبع مطامحهم.

كما أنها تشعر فضلا عن هذا كله بانسداد الأفق من حولها. حيث تفقد شيئين عزيزين عليها: أولهما التحضر والحصافة الإنسانية Decency وثانيهما أكثر الأشخاص قربا إلى نفسها وأهمية لها من الناحية الروحية. ألا وهو دانيل الذي شارك في صياغة الكثير من رؤاها ومشاعرها. فقد كان يحدثها، في تمشياتهما معا، عن حبه للفن وللغة، ويعلمها كيف تحكي القصص وتنسجها، وكيف تستوعب ما تصادفه أو تعيشه من البشر في حكاياتها، لأن من يصنع الحكاية يصنع العالم (ص 119) وكان يحدثها عن ديلان توماس، وتوماس ديلون، وسيلفيا بلاث. بالصورة التي جعلت من الصعب على محبيها اللاحقين الارتقاء إلى مستوى معلمها السقراطي ذاك. ولايزال يواصل هذا الدور في حياتها، حتى وهو شبه مقعد في بيت المسنين، لأنه يسألها باستمرار عما تقرأ. ومن خلال هذا الحوار المستمر تتخلق شبكة العلاقات التناصية الثرية في الرواية. حيث كانت إليزابيث في مطلع الرواية تقرأ رواية ديكينز (قصة مدينتين)، لدانيل، وتتعمد في حديثها مع دانيل ان تستخدم مقتطفا معدلا منها. فبدلا من "إنها أفضل الأوقات، إنها أسوأ الأوقات"! تكرر إنها أسوأ الأوقات مرتين! فنزعة المفارقة التهكمية تسود النص.

فنحن في عالم تتداعى فيه الأشياء، وكأن التداعي هو القانون الحاكم الجديد. بل إن قائمة الكتب التي تقرأها طوال زمن الرواية، وتخبر دانيل بها مثل (المسخ) لكافكا، أو (عالم جديد طريف) لهكسلي أو (1984) لجورج أورويل أو أشعار جون كيتس الحزينة، تشترك كلها في أنها أعمال تتناول زمن التزعزع والانقلابات المدوّخة. فالرواية في بعد من أبعادها هي رواية عن الزمن، ليس فقط لأن الرباعية الروائية المبتغاة تستقي عناوينها من فصوله. ولكن أيضا لأن بنية السرد فيها تتحرك فيه بعفوية ومهارة: «قبل لحظة كنا في يونيو/ حزيران، والآن تهل نسائم سبتمبر/ أيلول» ولكنها تتعامل مع الزمن من المنظور الذي بلوره هنري برجسون حوله بالتركيز على الأمد la durée فيه، حيث لا يقاس الوقت بزمن الساعة الكرونومتري المحايد، وإنما بالزمن مضافا إليه إحساسنا به، وخبرتنا بوقعه علينا، ووعينا بعواقبه، بالزمن وكأن صفته الأساسية هي التزامن لا التتابع، أو التعاقب، حيث تحدث الأشياء والوقائع والأزمنة كلها في آن. فلا نعرف ما هو الواقعي منها وما هو المستدعى من مخزون الذاكرة الكبير.

والواقع أن دانيل نفسه، يتعرف في إليزابيث، الطفلة الطُلعة الذكية، على صورة من اخته الصغيرة التي قبض عليها النازي في نيس عام 1943 فتنجح برغم صغر سنها في الهرب من عربة الترحيلات التي كانت تقلها مع كثيرين غيرها إلى معسكرات الإبادة الجماعية. بينما كان هو يدرس في لندن وكما تقول كلمات خطاب بعثته أخت دانيل له منذ زمن طويل، ولكنه يتذكر كلماته في واقعه الراهن «إن الأمل هو الطريقة التي نتعامل بها مع الأفعال السلبية التي يقترفها البشر في حق بشر آخرين في هذا العالم، حينما نتذكر أننا وهم بشر أيضا». لأننا بإزاء رواية تسبر العلاقة بين الماضي والحاضر، بين الأحياء والموتى، بين الفن والحياة، وبين الأدب والواقع.

ولكنها كما ذكرت رواية بالدرجة الأولى عن الزمن، كأمد رازح لا نعرف حقا كيف نتعامل معه. تصحبنا إلى عوالمها الداخلية، وتزامن مشاغلها بالحاضر والماضي في وقت واحد. لأن آلي سميث مولعة بموضوع الزمن ومدى قدرة السرد على اقتناص تزامناته المدوّخة. لذلك تتمدد استدعاءات سردها المختلفة وتتشابك كما تتشابك الجذور والأشراش وفق منطق جيل ديلوز عن الـ Rhizomeوزحف تشعباته في تناقضة مع الشجرة ونموها العمودي وتفرعاتها. لذلك تبدو الرواية وكأنها تتحرك بنا بيسر وليونة بين الواقعية التفصيلية الدقيقة، والسيريالية المغرقة في الخيال. فقد كان دانيل في ماضيه البعيد قد حُجز هو وأبوه في معسكرات الحجز البريطانية التي حُجز فيها الألمان، إبان الحرب العالمية الثانية. وفي أحد استدعاءاته من الماضي نجد شاطئا انجليزيا مليئا بجثث ضحايا الهجوم الألماني عليه، وببعض الجثث التي ألقى بها الماء إلى الشاطئ، في نفس الوقت الذي يمتلئ فيه الشاطئ نفسه تحت وقع نظر دانيل، ربما في زمن آخر متراكب معه، بالمصطافين تحت مظلاتهم في تزامن سيريالي يزيل التتابع الزمني ويكشف عن التداخل الخلاق بين الأزمنة.

ولا تقل أخبار العالم الخارجي، العالم الحقيقي التي تروي إليزابيث له أمشاج منها غرابة عن تلك التداخلات السيريالية في ذاكرته، بل تتجاوز ما بشرنا به هكسلي في عالمه الطريف أو أورويل في كوابيس عام 1984. حيث تحكي إليزابيث لدانيل، شبه العازف عن العالم في نهاية حياته، وان كان لايزال مهتما بسماع أخباره منها أثناء زياراتها له عن اغتيال عضوة البرلمان الانجليزي جو كوكس Jo Cox قبل أسبوع من الاستفتاء (16يونيو 2016) بصورة بشعة، بسبب دعمها للبقاء وللمهاجرين، لم يكتف فيها القاتل المعارض للبقاء في أوروبا والداعي لطرد المهاجرين، بطعنات السكين المصمية، ولكنه أخرج بعد ذلك مسدسه وأطلق على رأسها النار عدة مرات. وكأن طعنها وحده ليس كافيا! أم تراه الجنون ذاته!

إننا بإزاء رواية تستخدم الزمن والتاريخ والفن للتعامل مع تلك اللحظة التاريخية المبهظة، لحظة مابعد التصويت للبريكزيت. وبإزاء مساءلة حداثية للتاريخ، أو كما تقول إليزابيث بإزاء توماس هاردي بالحركة السريعة. بصورة تتحول معها الرواية إلى مرثية لدانيل، ولكل ما مثلته حياته من تفتح على الآخرين، وقلب كبير يسع تناقضاتهم وصبواتهم، وعقل مولع بالفن والثقافة. حيث يقول لها دانيل «إن سطوة الأكاذيب تغوي دائما من لا قوة له» (ص 114) كما تقول أمها: «لقد ضقت ذرعا بالذين لا يعبأون بما يقدم لهم من أكاذيب». (ص57) بل إنها توشك بالتدريج، وكلما اقتربت إليزابيث منها، أن تعبر عن رأي إليزابيث ذاتها، وهي تقول: «إنني متعبه من الأخبار، ومن الطريقة التي تجعل بها الإشياء مثيرة، بينما هي ليست كذلك. وكيف أنها تتعامل بتبسيط وسطحية مع ما يبدو أنه مثير للاستهجان والتقزز. إنني متعبة من النقد اللاذع المهين، ومن الغضب. أنني متعبة من البخل والأنانية، ومن كيف أننا لا نفعل شيئا لنوقف هذا كله». (ص198)

إن احتضار دانيل البطيء طوال الرواية، دون أن تنتهي بدفنه، هو الدليل على أن القيم التي يمثلها، وان كانت تعاني من الاحتضار، لم تمت ولن تموت ما دامت هناك إليزابيث المترعة بحب الحياة وقيم التسامح رغم كل شيء. حيث تبدو آلي سميث في الرواية وكأنها دليل طيب يقودنا وسط غابة من الأفكار حول الأدب والفن والنسوية والذاكرة، وأهم من هذا كله حول ما يمكن أن يفعله البعض إزاء الديموقراطية التي تشبهها بزجاجة يمكن أن يكسرها البعض ويحولها إلى سلاح مدمر. إن الرواية توشك أن تقترح أن هذا هو ما فعله الاستفتاء. لقد هشّم الديموقراطية البريطانية الهشّة، وحولها إلى سلاح مدمر كما يكسر البلطجي الزجاجة، ويهدد بها من يشاجرهم. وهذه الاستعارة هي نوع من التحذير الذي توجهه الكاتبة لقرائها في تلك اللحظة التاريخية الحرجة، وهي تتأمل ما نتج عن هذا الاستفتاء من حطام تنقب فيه عما بقي تحت سطح هذا كله في مجتمعها من جمال وإنسانية.

 

هوامش:
(1) راجع التقارير التي نشرتها الصحف الانجليزية والأمريكية في هذا المجال في الشهر الماضي وخاصة في صحف مثل الجارديان والإندبندنت في بريطانيا، ونيويورك تايمز، ولوس انجلوس تايمر، والواشطن بوست في امريكا، وكان تقرير الصحيفة الأخيرة عن الانتخابات بعنوان صادم «أشباح الثورة تطارد انتخابات العار المصرية». https://www.washingtonpost.com/world/the-ghosts-of-the-arab-spring-haunt-egypts-sham-election/2018/03/28/ab317e8c-3288-11e8-b6bd-0084a1666987_story.html?utm_term=.a58890636a38 بينما حمل تقرير آخر لنفس الصحيفة عنوان مهزلة الانتخابات المصرية https://www.washingtonpost.com/news/worldviews/wp/2018/03/28/egypts-farcical-election-and-the-long-arab-winter/?utm_term=.814ea1ab3280

(2) كان تصويت بريطانيا في استفتاء سابق عن الانضمام للسوق الأوروبية المشتركة كما كان الاتحاد الأوروبي يعرف من قبل، وكانت قد انضمت إليه عام 1973 ووعد حزب العمال بالاستفتاء لوفاز بالحكم ونفذه عام 1975، بنعم 17,378,581بينما صوت لا ا 8,470,073بينما لم يدل14 مليون باصواتهم من بين40 مليون كان لهم حق التصويت وقتها. وكان التصويت بالأغلبية في أقسام المملكة المتحدة الأربعة، لأننا نعرف أن اسم بريطانيا الرسمي هو المملكة المتحدة التي تتكون من انجلترا، وويلز، واسكتلندا، وأيرلندا الشمالية. أما في استفتاء 2016، فقد كانت نتائجه شديدة الاختلاف. حيت صوتت اثنان من أقسام المملكة الأربعة، وهما اسكتلندا 62% وايرلندا الشمالية 56%، ومعهما العاصمة لندن 60% للبقاء في أوروبا، بينما صوتت كل من انجلترا وويلز للخروج منها. بمعنى أننا بإ زء تصويت لا يفصلها عن أوروبا فحسب، ولكنه يحدث صدعا في وحدتها المتوهمة كمملكة غير متحدة من حيث الرؤى والتصورات كما برهن هذا التصويت الذي يطرح عددا من الأسئلة الجوهرية حول هويتها. وقد كانت أعلى نسبةتصويت للبقاء في جبل طارق حيث صوت 95,9% للبقاء، و4,1% للخروج. ولايزال الجدل السياسي دائرا حول هذا الأمر حتى اليوم، خاصة وأنه كلما تقدمت بريطانيا خطوة في طريق ذلك الانفصال، كلما اكتشف الناس أن الذين دعوا له لم يكن لديهم أي تصور لعواقبه، واستخدموا كثيرا من الكذب والتضليل لحث الناخبين على التصويت له. وأن الناخبين تعرضوا للكثير من التلاعب، ودفعوا ببلدهم للهروب من قارب لا يوفر لهم ما يرغبون فيه، إلى عرض البحر وسط الأمواج والأنواء التي لا يعرفون أين ستؤدي بهم، أو بالأحرى ببلدهم. (خاصة بعدما انكشف دور المليادير الأميركي الشهير روبرت ميرسر وابنته ريباكا، وما يتسمان به من عنصرية وتعصب ويمينية متطرفة، وتوظيف مؤسسات يدعمانها بالملايين، مثل «كامبريدج أناليتيكا» في بريطانيا، وستيف بانون و«بريتابارت» في أميركا، للتلاعب بالتصويتعبر الشبكة العنكبوتية( وهناك الآن كثيرون يربطون بين نجاح ميرسر في ترجيح كفة التصويت لخروج بريطانيا من أوروبا، ونجاحه بعد ذلك في إيصال دونالد ترامب في أميركا إلى البيت الأبيض، بالرغم من تفوق منافسته هيلري كلينتون عليه بما يقرب من ثلاثة ملايين (2,8مليون صوت) بالصورة التي بدأت تثير الشكوك والتساؤلات الحرجة حول العملية الديموقراطية نفسها في ظل الاستخدامات الحديثة للانترنت.

(3) كان للقب شاعر البلاط في بريطانيا تاريخ طويل يعود إلى تقاليد رعاة الفنون، وإلى استقطاب الحكام للشعراء. ويرجعه البعض بشكل غير رسمي إلى إدموند سبنسر (معاصر وليام شكسبير) في القرن السادس عشر، وملحمته الشهيرة The Fairy Queen التي كتبها تطوعا عن عصر إليزابيث الأولى. لكن التأريخ الحقيقي للقب يرجعه إلى تخصيص جيمس الأول لمرتب شهري للشاعر بن جونسون، وإن لم يصبح «شاعر البلاط» تقليدا رسميا إلا في زمن الملك تشارلز الثاني الذي أسبغ اللقب على الشاعر المسرحي الشهير جون درايدن في القرن السابع عشر؛ وجعل له مكتبا ثابتا ضمن مؤسسة البلاط الرسمية. وظل لهذا التقليد تاريخه المتواصل في بلد يحرص على تواصل تواريخه، لا تمزيقها، وإرهاف ذاكرته التاريخية لا نسيانها. وإن كان تواصل التواريخ لا يعني الثبات وإنما التطور مع الزمن وتغير المفاهيم حول دور الشاعر وطبيعة الشعر نفسه. فبعد أن كان اللقب يتطلب من شاعر البلاط أن يكتب قصائد في مناسبات ملكية معينة، أصبح الأمر، منذ زمن وليام وردزورث، في العصر الفيكتوري متروكا لتقدير الشاعر لكتابة ما يراه مناسبا لدور الشعر في بلده وعصره أثناء حيازته لهذا اللقب. ثم أسبغ الشاعر الشهير اللورد تينيسون بعده على الدور مسحة قومية واضحة حينما غير طبيعة القصائد التي كان يكتبها شاعر البلاط في مناسبة عيد ميلاد الملك، إلى قصائد تتناول قضايا الوطن القومية المهمة. ثم انتاب الدور تغير ملحوظ آخر بعد قرن من الزمان، فبعد أن كان اللقب، الذي لابد أن يسبغه الملك أو الملكة على الشاعر وفق اختيار دقيق، يستمر مع الشاعر حتى وفاته، أصبح من حق الشاعر مؤخرا ان يقبله لفترة عشر سنوات مثلا، كما جرى مع شاعر البلاط السابق أندرو موشن Andrew Motion الذي قبل اللقب عام 1998 لعشر سنوات، وقد تم بعدها، عام 2009، اختيار كارول آن دافي، كأول امرأة شاعرة كي تصبح شاعر البلاط في تاريخ هذا اللقب العريق؛ وقد جرى تعيينها في المنصب أيضا لعشر سنوات. وإن كان لايزال متوقعا، كنوع من مواصلة التقاليد المحمودة، من الشاعر أن يقوم أثناء فترة حيازته لهذا اللقب بكتابة عمل ضخم أو له مسحة قومية عامة، وإن لم يعد هذا الأمر شرطا معلنا.

(4) بالإضافة إلى رواية آلي سميث، Ali Smith, Autumn (London Penguin Books, 2017) والتي استخدمت هنا طبعتها الانجليزية تلك، تتابعت روايا عديدة عن الموضوع، أبرزها رواية دوجلاس بوردDouglas Board (زمن الأكاذيب Time of Lies) ورواية أنتوني كارترايتِAnthony Cartwright (القطع The Cut) ورواية آدم ثوربAdam Thorpe (أفتقاد فاي Missing Fay) ورواية آماندا كريجAmanda Craig (كذبة الوطن The Lie of the Land) وغيرها.ومنها رواية من نوع روايات السخرية السياسية اللاذعة تربط البريكزيت البريطاني بنجاج دونالد ترامب في أميرها وهي (التدجيل COMPROMAT) لستانلي جونسون Stanley Johnson