لا يحسم الكاتب المصري المرموق، في قراءته لرائعة الكاتب السويدي الحائز على نوبل، تأويله للقزم. أهو القزمَ الذي يصيره الإنسانُ في اتضاعه ووضاعته حين ينحط شأنُه وتُهان طبيعتُه. أم هو الرائي العارف، أو المُهلك المغير للمصائر كمُسببات الوباء الضئيلات، لكنه يفتح الباب بقراءته الممتعة للمزيد من التأويلات.

قزمٌ يفسد الزيفَ؛ أفلا يُكبَّل!

عاطف سليمان

للسويد مظاهر حضارية قديمة تمتد إلى حوالي ثلاثة آلاف سنة؛ كان بعضُها نقوشاً تصويرية أو كتابية على شواهد قبور. مع ذلك لم تعرف السويدُ الكتابةَ ولا حروفَها - مع اللغة القوطية ومن ثَم اللغة الإسكندنافية القديمة - إلا بعد قرنيْن من ميلاد السيد المسيح. وعلى الرغم من وجود هذه الحقيقة غير الـمُحفِّزة للتوقعات أسست السويد جامعةَ «أوبسالا» لدراسة اللاهوت مبكراً؛ سنة 1477. في القرون الوسطى السويدية ظهرت المستبصِرة الرائية والقديسة والكاتبة «بريجيتا» (1304 - 1373)، ثم ابتدأ الأدب السويدي الحديث بترجمة «أولوس بيتري» للكتاب المقدس سنة 1541، وأعقب ذلك ظهور الشاعر «جورج ستيرنبهلم» (1598 - 1672)، وتلاه الشاعر «جونو داهلستيرنا» (1661 - 1709)، ومع السنين دمغت اللغاتُ والثقافات الفرنسية والألمانية والإيطالية تأثيراتها على نواحي الثقافة السويدية. وحديثاً؛ كانت الأديبة «سيلمى لاجارلوف» هي الأولى في قائمة الكُتَّاب السويديين الفائزين بجائزة نوبل للآداب، سنة 1909، قبل ميلاد «نجيب محفوظ» بسنتين! وبعدها فاز سبعةٌ آخرون بالجائزة نفسها وهم؛ «كارل هيدنستام» (1917)، و«إيريك كارفيلدت» (1931)، و«بار لاجاركيـﭭـست» (1951)، و«نيللي ساتشس» (1966)، و«إيـﭭـيند جونسون» بالمشاركة مع «هاري مارتينسون» (1974)، ثم «توماس ترنسترومر» (2011).

في جامعة «أوبسالا» دَرَسَ الشاعر والكاتب «بار فابيان لاجاركيـﭭـست» «Pär Fabian Lagerkevist» (23 مايو 1891 – 11 يوليو 1974)، وفي الستين من عمره كان هو السويدي الرابع الذي يحصل على جائزة نوبل للآداب، وكان من مسوغات حصوله عليها أنه «في نشاطه الفني وباستقلاله الفكري في أعماله الأدبية عكف على الأسئلة الأبدية للبشرية محاولاً الوصول إلى إجابات». ومن بين أعماله كتاب "قلق" (1916) المشتمل على قصائد، وكتاب "فوضى" (1919) المشتمل على قصائد ومسرحية ونثر درامي، ورواية "ضيف على الواقع" (1925)، وكتاب "انتصار الحياة" (1927) المشتمل على أنشودة نثرية، ورواية "الجلَّاد" (1933)، ورواية "القزم" (1944)، ومسرحية "دعوا الإنسانَ ليحيا" (1949)، ورواية "باراباس" (1951).

تدور رواية «القزم» في بلاط مدينة إيطالية غير مُسماة، إبان النهضة، في القرن الخامس عشر، ويكتبُ «لاجاركيـﭭـست» أحداثاً وأوضاعاً صغيرة، ويكون له أنْ يتقصَّد منها إلى معانٍ كبرى كُليَّة.

اسمه «بيكولين»، طوله خمسة وستون سنتيمتراً، هو مَن يدوِّن حكايتَه ويبثُّ فيها تأملاتِه ويقطع بأحكامِه، ويستميل القارئَ أو يستدرج تواطؤَه معه بإعلانه أن في داخل كل إنسان قزماً، فعساه يعني أن في داخله ما يماثل الضميرَ الصريح الوقِح والخاضع للقمع أو الإغفال أو الصد، وعساه يقصد القزمَ الذي يصيره الإنسانُ في اتضاعه ووضاعته حين ينحط شأنُه وتضمحل هويتُه وتُهان طبيعتُه. يدقق كثيراً في وصف نفسِه؛ فهو قوي، لاذع اللسان، بصره ليس مثل بصر الآخرين؛ لا يستطيع رؤية النجوم في السماء، بينما في مقدوره رؤية كل شيء على الأرض حتى في الظلمة، وهو ذو حدسٍ، صاحب نظرة ثاقبة، مقبول الشكل بوجهه العاجز عن الابتسام والـمُخدَّد بتجاعيد كثيرة، يظن هو نفسُه أنها تثري تعبيراتِه، وتظهِره بمظهر المرء الطاعن في العمر، لَكأن سيماءه تؤكد الأسطورة القائلة بأن الأقزام منحدرون من سلالة بشرية أقدم وأكثر رقة وحساسية من سلالة البشر العاديين الآخرين؛ لكنه يتحرَّز من الإفصاح عن أسرار عِرقه، ولا يُزيد عن أن الأقزام عقيمون، لا يتوالدون، إنما تنجبهم السلالةُ البشرية العادية ضمن نسلِها فيأتون إلى الحياة منتمين إلى الجنس البشري ومنفصلين عنه في الوقت نفسه كانفصال الضيوف عن أهل البيت.

ومن خصال «بيكولين» أنه يستبشع الحب أو بالأحرى يستبشع هذا الادعاء، ولا يقرُّ بقدرة البشر على الحب، ولا بأمانتهم وإخلاصهم في شؤونه، ويقطع أو يكاد بأن حُب البشر ليس من طبائع البشر، ويتقزَّز من فكرة المضاجعة، ويرى نفسَه منفصلاً عن الجميع وكارهاً لهم، فإنه هو هذا الذي يكره السلامَ، يكره الموسيقى، يستقبح الضحك والابتسام، يزدري الطعام ونكهاته، ولا ينخدع بفضائل البشر التي يعتبرها رذائلَهم المموَّهة، ويتساءل: «لماذا هم ليسوا مثلي؟»، «أكره البشرَ الذين ليسوا أقزاماً، مع ذلك فأنا أكره الأقزامَ أيضاً، وعِرقي مقيتٌ في نظري»، «لا أستطيع مقاومة رغبتي في إبادة القبيلة التي أنا منها؛ لماذا؟ لا أعلم. لا أفهم ذاك الشعور. هل هو قدري أن أشتهي إبادة العِرق الذي أنتمي إليه؟»

إنه يستنكر وجود البشر ويرفضهم؛ يرفض الانتماء إليهم، يمُجُّ سماتِهم وصفاتِهم، أو لعله يائسٌ منهم وخائب الرجاء ليس إلا، إنه يخرج عنهم، يخرج عليهم، يخرج منهم، ويحب ألَّا يحب ما يحبون، لكنه لا يحب أن يشهد حالات انهيارهم وفقدانهم للكرامة، ويبدو أنه لا ينشقُّ عنهم إلا لكي يرتُق مصيرَهم.

وهو مجبولٌ على يقظةٍ دائمة؛ منتبهٌ يراقبُ كلَّ ما تطاله رقابتُه ويلاحظُ كلَّ اختلافٍ ويتوقَّعُ المخبوءَ ويستشفَّه، يتنصَّت ليكون عليماً بكل ما يجري. أفكاره ومعتقداته ومشاعره مستقلة عن الآخرين؛ كل الآخرين بمَن فيهم أهل القصر والسلطان، وإذا كان السادة ينظرون إليه باعتباره القزم الذي يعمل خادماً لديهم، فليس ثمة ما يمنعه من أن يبادلهم النظرَ باعتبارهم هؤلاء الذين يعملون سادةً لديه. «بيكولين» خالٍ من الاحتياجات أو لعله لا يعبِّر عنها، وبـحوزته يقينه الخاص: «لا أحد يشك بي لأن لا أحد يعرف مَن أنا». هو الساقي في بلاط الأمير والأميرة إلا أنه ليس بهلولاً ولم يتهاوَ إلى مصير البهاليل المطوَّعين لتسلية أهل القصر وضيوفهم، يحتقر الجميعَ ما عدا الأمير إذْ يراه رجلَ أفعالٍ، مُهابا. وإنه لَيتبع سيدَه الأمير بولاءٍ واحترام إنما بغير فهْمٍ لطبيعته المعقَّدة، وكذلك يبدو أن الأمير لا يفهم طبيعة قزمِه هذا الذي في خدمته، ومع ذلك فلدى «بيكولين» القدرة على تخمين رغبات الأمير قبل أن ينطق بها، بل حتى قبل أن تتكوَّن بداخله!

تشي ملامح الأميرة «تيودورا»، وقد تجاوزت شبابَها، بأنها كانت يوماً جميلة للغاية، و«بيكولين» يكرهها ويتمنى لها الجحيم، لأنه يراها فاسقة وعاهرة وشهوانية تخون الأميرَ، ويتشكك في انتساب طفلتها الأميرة «أنجليكا» إلى زوجها الأمير، لكنه قزمُها الذي يكتم أسرارَها ويحمل رسائل غرامها إلى معشوقيها وعشَّاقها الذين تتلاعب بهم، وهي تثق به من دون أن تحفل بالمخاطر التي تتسبب له فيها، وتستشيره كذلك في أمور زينتها فيستحسنها بتملُّقٍ فتكافئه هي بنظرة الإقرار بالجميل التي ترضيه. أبرز عُشاق الأميرة هو «دون ريكاردو»، الفارس ذو الأصل النبيل، الذي يترصَّده «بيكولين» بملاحظاته فإذا به شخص سوقي، تافه، عابث، طائش، يبدو غبياً يضحك من كل شيء، مختال يحب الظهور، متبجح، لا يُطاق، وهو محبوبٌ من الشعب، وقد ثبُت هيامُ الأميرة وتعلُّقها به يقيناً لأنها تدهورت وانتهت فور مماته.

لدى الأمير أيضاً عشيقة جميلة من نساء البلاط، يعترف «بيكولين» بأنها مالكة جمالٍ حقيقي وذات كبرياء ووقار ولباقة وكرامة، وليست له مآخذ عليها، بل إنه يختصها بتأييده، ويقبل منها ما لا يقبله من سواها، ويحاول استكناهَ جوهرها وجوهر الأمير: «من الصعب فهْم أولئك الذين لا يكرههم المرء؛ ففي هذه الحال يكون المرءُ أعزلَ من السلاح، وليس لديه ما يستطيع به أن ينفذ إلى كياناتهم».

ويُلقي «بيكولين» و«لاجاركيـﭭـست» بخلاصتهما في شأن الحب: «الحب هو شيءٌ ما يموت، ويتفسَّخ، فيصبح تُربةً صالحة لِـحُبٍّ جديد، وحينئذٍ يتابع الحبُّ الميتُ حياتَه السرية في الحب الجديد؛ وعلى ذلك فإن الحب في الواقع لا يموت»، وتنتثر خلاصاتٌ أخريات في أنحاء الرواية باعتبارها مُدوَّنة القزم الشخصية ذات القسمات الوجودية: «البشر بحاجةٍ إلى تملُّقٍ وإلا ما استطاعوا تحقيق غاياتهم حتى بنظر أنفسهم، ففي كلا الحاضر والماضي من الجمال والنُبل ما لم يصبح جميلاً ونبيلاً لولا ما أُغدِق عليه من المدْح والإطراء».

يحلُّ على القصر الأميري الضيفُ الغامض، بشعره الأشيب ولحيته الكبيرة وحاجبيْه الهائلين، الـمُبجَّل، المايسترو، العلَّامة، المتطلِّع إلى الفَلك، القائم بتشريح الجثمان ودراسة الجسد، صانع الرسوم المقدسة، مخترع ومصمم الأسلحة الحربية، وقد أتى لزيارة الأمير في بلاطه تلبيةً لدعوته. إن اسمه «برناردو» حسبما أفصح «بيكولين»، لكن ممارسات الضيف وصفاته تشي بأن اسمه الحقيقي هو «ليوناردو»، بل «ليوناردو دا ﭬـنشي»، ويمكن بالتالي تعيين زمن أحداث الرواية بأنه الوقت الذي رَسَمَ فيه «دا ﭬـنشي» لوحةَ "العشاء الأخير"؛ وهو السنوات من 1495 إلى 1498، وتكون الإمارة هي إمارة "ميلانو" على الأرجح. يبدأ «برناردو» الأشياءَ ولا ينهيها، ويعلم أنه سيترك كلَّ أعماله ناقصة، ويتساءل عمَّا إذا كان النُقصان هو سمة الوجود البشري أصلاً؟ وما إذا كان الإنسان مُمَجَّداً، حراً، له الكون بأسره؟ أم أنه كائنٌ أرضي، مُقيَّد، خائب الرجاء؟ ويتساءل عمَّا إذا كان الإنسانُ قد أُوجِد على الأرض ووسط كل هذه الأكوان طليقاً؟ أم أنه طليقٌ فحسب ضمن مجالٍ محدودٍ كشأن صقرٍ مربوط بخيط إلى يد صاحبه؟ ولو أنه كان كالصقر المربوط فما معنى وجوده إذاً، بمجاله المحدود، وسط كل هذا المدى المتسع بلا حدود ووسط كل هذه الأكوان الشاسعة التي لا يحيط بها فكرُ؟

يستهجن «بيكولين» تنوُّعَ أعمال «برناردو» ونقاشاته، لكنه يُعجب باللوحة المطابقة للواقع التي رسم فيها وجهَ الأميرة، والتي لم يرضَ راسمُها نفسُه عنها وظل يسعى لاجتلاء ما افتقدته لوحتُه من روح الأميرة إلى أن شهَدَها لاحقاً وهي تحتضر. ومن بعيد، وبلا اتصال، يتفق رأيُ «بيكولين» مع رأي «برناردو» في أن "اللاجدوى" هي قانون الحياة، وأن "لاجدوى" الحياة هذه هي فكرة مُحصَّنة، على مَر الأزمان، ضد أن تدحضها أيةُ فكرة أخرى تكون مساوية لها في التماسُك ومناقضة لها في المعنى. ويثابر «بيكولين» على يقظته في رصد التناقضات بأقوال «برناردو»، لكنما تقدير حساب التناقضات يبقى مسألةً نسبية على الدوام.

لعل يقظة «بيكولين» هي المكافئ لِقلقِ «بار لاجاركيـﭭـست» الذي كان منشغلاً في كتاباته بقدَر الإنسان على الأرض تحت سماءٍ لا تبالي به، وفي مسرحيته القديمة القصيرة «سر السماء» سبق له أنْ كتبَ هذه الجملة: «مغزى كل شيء هو أننا ندور في دائرة من فراغ»، وكانت ضمن سياقٍ يؤكدها. ولا يُغفَل أيضاً أن «لاجاركيـﭭـست» قد كتب رواية «القزم» هذه خلال سنوات صعود وازدهار الحركة النازية، فكأنها أتت صرخةً خاصةً منه ضد أهوال الحرب وشؤمها، أو أنها كانت مُناظَرةً وترجيعاً بحروف الهجاء لصرخات الرسام النرويجي «إدﭬـارد مونك» التي كان قد أثبتها في لوحاته قبل ذلك بحوالي ستين سنة.

يهيم «بيكولين» إعجاباً بالحرب وسفك الدماء، ويعتبر أن الحربَ هي صنو الوحشية وهي حشْدُ اللذات التي تستمتع بها جميع الحواس، ويرى أن المرء إذْ يشارك في القتال فإنه يخوض التجربة التي تتيح التحرُّر لجسده ولروحه، وأنه ينبعث بعثاً جديداً ويتحصَّل على الشعور بالتحقُّق ومنتهى الانشراح. وتتحقق آمالُ القزم إذْ يجهِّز أميرُه حملةً حربية لإخضاع الإمارة المجاورة ونهبها، ويعاونه في القتال فرقةٌ من المقاتلين المرتزقة، ويلمِّح القزمُ بأن الأمير نفسَه ينتمي إلى أسلافٍ من قادة المرتزقة، وهو لا يعرِّض بالأمير لأن روايته تبيِّن أن المرتزقة هم الذين يحققون النصرَ للجانب الذي ينضمون إليه، وهو أيضاً – الذي قلما أُعجِب بأحد - يُشْهِر إعجابَه، مراراً، بقائد المرتزقة. وتنضم إلى الخدمة أسلحةٌ جديدة ابتكرها «برناردو»، وبعد الانتصار في جولات عديدة تتبقى جولة النصر النهائي التي لا تتم لعجز الأمير عن تدبير النفقات المالية اللازمة لمواصلة القتال ودفْع أجور المرتزقة.

وأثناء الاستراحات من القتال أُوصِلت عاهرتان من نساء الإمارة الأخرى إلى خيمة الأمير و«ريكاردو» فأطلق القزمُ مقولتَه بأن العاهرة تجد لذةً أكبر في مضاجعتها لأعداء وطنها. وتعود الحملةُ بلا نصرٍ نهائي، فيُحبَط «بيكولين»، ويزدادُ إحباطُه بإعلان الأمير عن تحقيق مصالحة وعقْد معاهدة سلام مع الإمارة الأخرى في إنهاءٍ مفاجئٍ لحربٍ دامت لمدة قرنيْن. ويُدعى الأميرُ الآخر فيأتي مع ابنه الغلام «جيوفاني» ورجالات بلاطه ويُستقبَلون بحفاوة، وتُقام الولائم وسط أجواء السلام، وينشبُ هوى وشغف وشبق بين الصبي «جيوفاني» والصبية «أنجليكا»، ويتوالى السمر والقصف إلى أن يستشعر «بيكولين» أن اللحظة قد حانت ويستقرئ فكرَ أميره، ويتولى تنفيذ الخديعة بصب الخمر المسمم في كؤوس الضيوف، لكنه أضاف إلى الضحايا، من عندياته، واحداً هو «ريكاردو»، عارفاً أن الأمير - ذا العزم على عدم البوْح وذا القدرة على كتْم مكنونات نفسه - لا يوافقه على ذلك إلا في أعمق أعماق قلبه وأنه سوف يَكِنُّ له الرضا. إنْ كان القزمُ قد بَرَزَ في تلك اللحظة فإنما مثل مسيحٍ معكوسٍ بَرَزَ؛ ولقد سقاهم؛ سقاهم دَمَه المناوئ، سقاهم فأرداهم إلا «جيوفاني» الصغير الذي أنقذته محبوبتُه «أنجليكا» بإلهامٍ أو بغريزةٍ نسائية مبكرة، ونال الأميرُ استحسان الشعب لجدارته ودهائه في إفناء الأعادي.

حَزَنَت الجموعُ لمقتل «ريكاردو»، نبيلهم العزيز، وجمدت الأميرةُ في ذهولٍ بلا عزاء، واحتشمَ الأميرُ مُتصنِّعاً الفقدان، أمَّا الإمارةُ الأخرى فأفاقت سريعاً، وقدِمت للانتقام، بحقدٍ وشراسة وقسوة، مدعومة بجيش المرتزقة نفسِه، الذي بدَّل مكانَه بعدما دُفعت له أجورٌ مضاعفة. وتركزت مهامُ الأمير وجيشه في الدفاعات والتحصينات، وأساليب الدفاع عاطلة بطبيعتها عمَّا يشحذ الهمم وليس فيها إمتاع ولا إثارة، وتشوبها اللامبالاة على العكس من أساليب الهجوم. وبدأت الهزيمة ولاحت بوادر السقوط، وخسر الأميرُ حظوتَه لدى الجموع التي صفقت قبلاً لليلة الخديعة والدهاء، فباتت تمُجُّها وتعتبرها عملاً من أعمال الحُمقِ والعتهِ وجلْبِ الشقاوات، وقد أسهمَ «برناردو» بابتكار ما يساعد على كسْب الحرب، غير أن النزال بين مرتزقةٍ وفيلسوفٍ لا يُـحْسِنُ إلى الفيلسوف.

كان الحصار مضروباً على المدينة، والشعب جائع ومتشرد يجتاحه وباءٌ مميت، والأميرة المكلومة معتزِلة تعاني من إحساسها بكراهية الله لها، والأمير ناهضٌ مع معشوقته الجميلة يتألم من فتور محبة الشعب له، والأميرة الصغيرة «أنجليكا» تنظر في البعيد، وراء أسوار المدينة، إلى حيث رايات الأعداء، لأن «جيوفاني» هناك، فهل كانت تتفكر في انتصاره؟ وذات ليلة يلمح القزمُ طيفاً يدخل القصرَ حيث يجب ألَّا يدخل أحدٌ؛ رآه ببصره المميَّز، وعرفه بالفراسة، وتتبعه إلى غرفة «أنجليكا»، وانتظر إلى أنْ تسمَّع تناجيات الحب الغضِّ الذي بلا حذقٍ بين الصبي والصبية، ولربما استعاد مقولتَه عن العاهرات وأعداء أوطانهن، ثم مضى يبحث عن الأمير في عتمات القصر حتى عثر عليه في غرفة العشيقة الجميلة، فانتظره حتى خرج فأبان نفسَه له وتلقى تعنيفاته برضوخٍ إلى أن وجد الوسيلةَ لإخباره بالمستجدات، فمضى الأميرُ وجزَّ عنق «جيوفاني» النائم بجوار حبيبته الصغيرة.

ومهما يكن فإن الأمير العنيف هو الشخص الرقيق نفسه الذي كان يراعي إكرامَ أعدائه بفسحاتٍ أثناء قتاله لهم لالتقاط الأنفاس والتهيؤ لمعاودة القتال. ولقد أُلقي بجثمان الصبي في النهر، وأُصيبت الصبية المرعوبة بحُمى مماثلة للحمى التي أصابتها وهي طفلة حين ذُبِحت قطتها اللطيفة النائمة في جوارها، وتُركِت الصبيةُ منبوذةً تحت عناية إحدى عجائز القصر، وبعدما شُفيت اعتادت الجلوس إلى النهر والتحديق فيه، إلى أن جاء يومُها فتركت رسالةً مكتوبة وألقت بجسدها في ذلك النهر لِلُقيا حبيبها. بعد موت «أنجليكا» انطوى الأميرُ في تحفُّظٍ وعُزلةٍ، وغدا يتجنب الالتقاء بقزمه أو لعله قد بدأ يخافه.

ضعفت الأميرة، واكتسب القزمُ سطوةً عليها بسبب اجترائه على مكاشفتها بأكاذيبها التي تخدع بها نفسَها وتحاول خداع الله، وأمست تتذلَّل إليه ليعاقبها، وهو يثور عليها ويعذِّبها بالسوط وهي راضية ومتقبِّلة العذاب؛ معتبرةً أن قزمها هو "سوط الله" المخلِّص. وللوقت استشرى الوباء في المدينة وتحوَّل الشعبَ إلى كوماتٍ من القذارة والعفن وسقطت الكرامة الإنسانية وعَمَّ الشقاءُ، ووصل الوباءُ إلى القصر فجندل الموتُ امرأتيْن مترعتين بالعافية؛ خادمة الأميرة، وعشيقة الأمير الجميلة ذات الوقار، ويعجز القزمُ عن سبْر مشاعر الأمير إزاء موت معشوقته، ويزداد تحيُّراً بخصوص الحب البشري، ويلاحظ أن الأميرَ قد انهمكَ في الاهتمام بالأميرة؛ يزورها، ويمكث جالساً على فراشها، ويرعاها حتى بدا أن حُبه لها قد انطلق مجدداً وهي تحت عينيه تدنو من موتها بينما شخصيتها تتحوَّل.

وإذْ ظنَّ الأميرُ أن قزمه متورط في نكبة الأميرة فقد أمرَ بحبسه وتقييده وتعذيبه، فحُبِس هذا الذي طالما عرَّف نفسَه؛ «أنا رجل حر»، مثلما حُبِس مرةً قبل ذلك بسبب هرطقته وتجديفه، فليس له إلا أن يُؤخذ إلى التكبيل كلما أفصحَ وجاهرَ بمكنوناته الصادمة الناقضة للسائد، وهو موقنٌ بحتمية إطلاق سراحه لا لأمرٍ غير أن الاحتياج إليه لن ينقضي. ثم كان أنْ تفشى الوباء في جيش الإمارة الأخرى فأُجبر على فك الحصار والانسحاب مضطراً إلى الزهد في الانتصار والانتقام. وعاود «برناردو» الظهورَ في جنبات القصر، وقد افتُتن بسيماء الأميرة المطروحة في فراش أيامها الأخيرة، وعثر على مفقوده، فرَسَمَ لوحةً للسيدة مريم العذراء مُعطياً إياها وجهَ الأميرة المحتضرة ومستعيراً لها ابتسامتَها من لوحته السابقة لها، وحُمِلت اللوحة إلى الكاتدرائية فعُلِّقت فوق مدفن الأميرة التي باتت قديسة الفقراء.

للبشر ألَّا يتهيَّبوا من إدراك أن القصائد التي تتغنى بالغرام وتُمجِّده لا تتوخى الحقيقة كما خبرها السامعون والسامعات، وأن الأوضاع لا تني تتبدَّل فليس على الأرض ما هو مقطوعٌ بصحته، وأن الحب أرجوحة ترفع وتخفض العاشقين إلى سائر منازلها ومراتبها، وأن البشرية تحتاج إلى عزاءٍ يعينها على استيعاب خُلو الدنيا من الرجاء. ويبدو لي أن «بار لاجاركيـﭭـست»، وقد اختار قزماً وهيَّأَه بمواصفاتٍ نادرة ليروي عنه روايتَه، كان يقصد ثلْم حِدة الآراء التي تتأتى منه ككاتب وتقليل وهجها، إحساناً وإشفاقاً وليس تنصُّلاً، وذلك بإسنادها إلى ذاك الضئيل ذي الأصول الغامضة بما يتيح لمشيئة القارئ أن تعافه وأن تعتبره شاذاً، فيكون بمقدور القارئ أن ينفصل بما يكفي فلا يُحِلَّ نفسَه محلَ الكائن الغريب، ولا يتماهى معه، وتبقى هنالك دوماً مسافة آمنة بين القارئ والمقروء تسمح بالتفكُّر والتروي والتأمل والموضوعية.

ولعل «لاجاركيـﭭـست» قد أراد أن يهمس في الملأ بألَّا يستهينوا بمَن يظنونهم أصاغر البشر وبمَن يعتبرونهم قد وُجِدوا ليس إلا لأجل تسليتهم أو سَكْبِ الأشربة في كؤوسهم؛ فعسى أن يكونوا رائين وعارفين، أو أن يكونوا مُهلكين وحاسمين في تغيير المصائر مثلهم كمثل مُسببات الوباء الضئيلات. لقد تجرَّد القزمُ «بيكولين» من المراءاة بحصافتها المتعارف عليها وبطُمأنينتها الكاذبة، وأزاح عن روحِه أوهامَ البشر التي يطبعونها في نفوس بعضهم البعض، فكان بمثابة خنزيرٍ أسود أُنيط به أن يحمل آثامَ الكاتب، إنْ كانت ثمة آثام في النزاهة، ولعناتِ القُراء، إنْ كانت ثمة لعنات في التنوُّر، ويمضي بما يحمل إلى صوب البحر، ويغرق.

 

atif_sol@yahoo.com

https://web.facebook.com/atif.soliman.lotus