ليس بجديد قول أنه لن يستمِرّ الأدبُ في امْتِلاك وظيفَةٍ، إلاَّ إذا وَضَع الشُّعراءُ والكُتَّابُ لأنْفُسِهِم مُهِمَّاتٍ لا يَجْرُؤُ أحَدٌ على تَخَيُّلِها كنا ينبهنا إلى ذلك (إكالينو). وبما أنَّ العٍلْمَ بدأ يفقِدُ الثِّقَةَ بالتَّفْسيراتِ العامَّة والحُلولِ غير المُتَخَصِّصَةِ والقِطاعِيَة، فإنَّ التَّحَدِّيَ الكبيرَ الذي يواجِه الأدبَ هو أنْ يكونَ قادِراً على نَسْج مُختلف أنواعِ المعرفة سَوِيَّةً، ومُختلف الشَّيْفَراتِ، في رُؤيَةٍ للعالَم مِتَشَعِّبَةً ومُتَعَدِّدَةَ الوُجُوهِ.
فإن كان الشاعر هو المالك الحقيقي للبياض، فإن ما يعمل عليه سعيد منتسب في ديوان "بيت العاصفة" هو توسيع شهوة هذا البياض لكل معرفة لاحقة به، ومدها بكيف تعمل، وكيف تتوالج، وتتواشج، إنه مثل ذلك الذي يسرع من ابتكار رياضيات ذات حلول فردية، لا بتلك الحلول التي تكون هي نفسها عند الجميع، فمن يتشبث بالمكتسب والمنطبع، ويقيم فيه، ينسى أن الشعر هو الشعر منفلت وهارب، فهو لا يكتفي بالتقاط تلك الإشرافات الحلمية للرؤية وإنما يمنحها أسلوبا في الوجود.
لست هنا إزاء تحليل أسلوبي، حتى أعرج على الألفاظ ومستوياتها، والتراكيب وأنماطها، والأصوات ودلالتها، لأن ما يقوم به منتسب وكذلك عبد الله زريقة، وعبد الرحيم الصايل، وأسماء مضيئة على قلتها، هو كتابة قصيدة يروي فيها "مشروع شعرية لا تنتهي" قائمة على السريانية (من السر الذي تصدر عنه دون أن تنخرط فيه تماما)
إنها ليست قصيدة بعينها، وإنما مجرد ابتكار لها
فإن كانت الحقيقة علاقة، فالحياة لا نهاية من العلاقات، لهذا يجنح هذا الشاعر (هذه المرة استخدم هذا الوصف في اطمئنان شاسع) لا بإشعالها بصيغ المجاز الكثيرة، وإنما يهبها طاقة الاختفاء حتى لا يضطر منها غير تلك الشعلة الصغيرة في ليل الضباب، إنها شعلة الروح.
فهذا العمل الشعري، الذي جاء في لغة كريستالية شفيفة، استطاع أن يكسر تلك الأسلوبية المنمقة، ويسدي نموذجا له إسهامه، وهذا وحده أساسي جدا، في حالة الوعي أن جمود اللغة العربية وكلاسيكيتها، والبناء المغلق المُسيجة به، هو ما يقف كعائق خرافي أمام التطور العلمي والمجتمعي لساكنيها، حيت أن البنية الواحدة التي تتمتع بها، تقع حائل ضد التجريب والاختراق، واستقبال نظم منهجية ومعرفية مغايرة. العربية هي موطننا الأول وساحة الصراع الأساسية والجوهرية بين الحداثة والتقليد، لهذا تبدو بالغة الأهمية فعلا فضيلة الاختلاف التي تتحكم في الديوان توليدا، وتكوينا، وبناءا.
لا أخفي أني سامرت طويلا تجربة هذا الشاعر، الذي لا ينام على اليقين، ولا يقتات معرفيا على الرواسب والحقائق المتكلسة، وقد تبلور لدي أكثر من معطى، لن تكون هذه الورقة إلا عتبة لدراسة طويلة أوردها فيها، إلا أن السمة الغالبة لديه، أن التعبير بالصورة الشعرية يتعدى التراكيب إلى الخطاب في حد ذاته، في عبور من المعاني الإيشارية إلى المعاني الإيحائية، بما يخلق استعارة تجمع بين الحسي والمعنوي، في تمرد على البناء العام للغة، وهو ما يصير معه هذا الانزياح لا يقبل فك شيفرته إلا بقدرة وامتلاك لمعرفة لغوية سيميائية وغير لغوية.
لقد خرج سعيد منتسب على اللغة. وتمرد على أسلوبيتها. لكنه في غفلة منه ومنها، سرق لمعانها، وأتاح للقصيدة إنارة تشغيل هوية مستقلة عن هوية اللغة الحاملة لها، وإن لم يكن تماما، إلا أنه بادر بجدية لبلورة هذه الاستقلالية، فالمغايرة الشعرية مقصورة لذاتها، بما هي تستعير عن الحداثة جوهرها في إبداع يتغاير بين الشكل والأسلوب، ومن تم فهذا الشاعر يتقدم بالمجاورة مع من سبق، وليس بالائتلاف معه.
لم يحصل من قبل أن انتقل روائي أو قاص إلى الشعر في مدونتنا الثقافية المغربية، على الأقل الهجرة المعاكسة هي ما تحصل وباستمرار مقلق، ما جعل عددا معتبرا من النقاد، اعتبروا انتقال منتسب من القصة التي فجر كامل طاقته الأدبية فيها، وحاز مكانة مرموقة ضمن نخبة مبدعيها، ما مكنه من عدد من الجوائز في جنسها، إلى الشعر نازلة حقيقة لم تلحق بأهل القصة مثلها، فمنهم من اعتبر منتسب ارتد عن ديانة أجداده، وهناك من اعتبرها خيانة أدبية، يقول في هذا الصدد الناقد عبد الدين حمروش إن عودة الكاتب إلى أصله الشعريّ، أثمر باكورة شعرية في غاية من السّمُوّ والجمال. وأعتقد أن عين الشاعر لم تخطئ الكاتبَ يوما، حتّى وهو يمْتهن الصحافة تحريرا وإدارة. غير أنه بإصدار هذا الديوان، يكون "منتسب" قد عاكس مجرى غير قليل من الشعراء، المُتحوِّلين جنسيّا إلى الرواية. وبذلك، استحقّ صاحبنا ميزة الشّاعر، بجدارة لُغته واستحقاق أسْلوبه. بعد ما سَلَف، من حقٍّنا التساؤل: هل استنفذنا معنى النص/ الديوان حتّى الآن؟ يجيب صاحبا "نظرية الأدب"، مُعَبِّريْن عن حدود هذه القراءة، على لسان الواقع.
أما الشاعر نفسه فيقول: لا يتعلق الأمر بأي نوع من الترحال. أعتقد أن الأجناس، في ما أكتبه، متجاورة، ولا أحد يحني رأسه للآخر أو يستعبده أو يخاصمه. كل واحد يحتاج إلى ما سواه. صحيح أنني تحيزت للقصة القصيرة في فترة ما، لكن الشعر ظل يمسك بي على نحو مباغت. وأنا على عكس ما يعتقده الكثيرون، لا أكتب من داخل الأسوار، وأعي جيدا أن اليد المرتجفة التي تخشى «تجاوز الخط» لا يمكنها أن تكتب سوى «بطيش». الارتياب في كل شيء هو حنطة الكتابة وزيتها، ومن لا يرتاب في الحدود ليس بوسعه أن يستكشف ما تخبئه وراءها. نعم، أصدرت مؤخرا ديوانين شعريين: «بيت العاصفة» و»أشواق اللوز»، وهما معا يعبران عن المظهر الأكثر إرباكا وتعقيدا –في نظري على الأقل- للمفهوم الجنس الأدبي. وحتى لا نعود إلى هذا الاشتباك القديم، أرى أن السرد-أو إذا شئت القصة- تختبئ وراء قصائد كثيرة في الديوانين، إن لم أقل إنه هو عمق مياهها. وهذا معناه أن الشعر يكلم القصة بتوق كبير، والقصة تتسلى معه لسبر الغامض والعميق. ولهذا، أعتقد أن لا وجود لخيط يخرجني من غابة السبل المتشعبة للأدب. الكتابة ضد الاقتفاء، وضد كل المخططات التي تسهل الولوج إلى قلعة أسرارها. الكتابة تشبه الأعمى حين يمشي خلف شيء لا يراه، في طريق لم يسبق له أن زارها. طبعا، هناك منعرجات وجسور وضباب، لكن دليل الكاتب الحقيقي هو إيمانه بأن هناك دائما طرقا أخرى كثيرة صالحة للاستثمار من أجل الوصول.. وبتعبير أدق، إذا كان هناك ثمة انتقال، فهو انتقال نحو «مكان آخر»، ولكن بالسلاح نفسه، والخدوش نفسها.
في ديوان "بيت العاصفة" قصائد تشبه الكرات المعدنية التي تضرب الناقوس الذي يرتج في بياضها، حتى تميل كل مرة إلى الشعر، الديوان الذي جاء على هيئة قصيدة طويلة، وهو الاختيار الفني القليل جدا، وسط مشهدنا الشعري حيت يميل الغالبية إلى كتابة الشذرة وقصيدة النفس الواحد، الذي لا يتعدى ست أسطر، في هذا الديوان الشعر ليس مجرد لعبة حدقة للكتابة، -خاصة لكاتب أبان عن لياقة نقدية كبيرة في كتابة "ضد الجميع"- تسكنه إيقاعات وإنشادية باطنية، تتعايش في تناغم خلاق، يترجم كل فعاليته في عملية تخترق وجودنا كله، في الانتقال بسياحة الانزلاق على سطح العالم، بدل المكوث في سطح ظواهره والإمعان في استنطاق علاماته.
فهذا الشاعر يبتكر اللغة حيت يرفض الانصياع لجبروتها النصي والديني، والمعافاة من تاريخها، هو أمر بالغ الأهمية، حيت أن هذا الديوان هو نموذج بليغ للعربية الحديثة، هذه التي مازلت لم تنفك تعرف تطويرا مضطردا، على يد مبدعين أكفاء، وهنا دور الشاعر الذي يجمع على توصيفه بأب اللغة.
إن البحث –والجهد به-عن التكوين الكامن للبديع في هذه الصورة الشعرية، واكتشافه هو عمل من قبيل الكشف اليسير، إذا ما من شك أنه سيوصلنا الآن إلى مدخل القصيدة فقط، حتى أنه غير كافي ليمهد لنا الطريق إلى داخلها، ولكن أحد مهما استنفد مهارة أدواته، لن يستطيع أن يضفي على جسم هذه القصيدة اختراقا معين، لطبيعتها المائية المتسربلة بدلال بين الأصابع، دون أن يكون حاصلا على معرفة تامة بمجازها الذي تعمل على تغييره وتحويله، فأنا الآن أجدني امضي بأدوات غير ملائمة، هي كل ما أجد لطبيعة الجسم اللذيذ، الذي أتناوله، لأنه يقوم على قوة اللحظة والانفعال المشترك الذي جمع بيننا أتناء عملية اللقاء السعيد، وهو ما يولد ذكرى شخصية، واعتبار ذاتي، يصعب تسطير خطاطة سردية لإضفائه على حكم أو تدليل، وإن لم تكن هذه الورقة استجابة لنزوة عابرة بيننا، وإنما لتماس كهرباء حصل عندنا.
فهذا النوع من القصائد الذي يخفي في طياته –كما عالمنا-وثنايا جغرافيته معاني متعددة، أجده ملائما بشدة لمواجهته بمصطلحات منهجية، ومفاهيم ما زالت تفتقر إلى صلابة التوظيف والاستثمار، فالتجريدية الطليقة التي تمتحُ منها طلاقتها، تشفع لنا في مزالق المخاطرة ومغامرتها فإن كان الهدف الأسمى من قراءة الأدب، هو تعلم الحياة un apprentissage de la vie فإن الهدف من ملاحقة هذه القصيدة هو الاستمتاع بهذه الحياة، عبر ما تضمنه لنا من فواكه الروح وخمر الوجود.
ديوان "بيت العاصفة" الذي جاء إخراجه الفني من طرف الشاعر والفنان بوجمعة اشفري، ما أهله ليستحق حلة أنيقة، جاءت معافاة هي الأخرى من التصاميم الجاهزة التي عهدناها، وجعله أيضا يخوض غمار تجربة تذكرنا بـ"كتاب الحب" لمحمد بنيس، الذي جاء في تناص فني بينه وبين الفنان التشكيلي ضياء العزاوي، و"الريح الرمادية" للشاعر حسن نجمي الذي ضم لوحات للفنان محمد القاسمي "بيت العاصفة" هنا أيضا يجاور بين الشعر والتشكيل، في عمل فني مركب، تتداخل فيه الأجناس لتهبه صفة المشروع. ولعلها الوصفة المناسبة التي يمنحنا إياها الديوان الحامل لأكثر من صيغة، فالنص الضامن له ليس هو المكتمل بذاته، المتضمِّــنُ ذواتِــه، ما دَقَّ منها، وما انتشـرَ، فهو كما ينبهنا هيروقليدس لا يمكننا السباحة في النهر مرتين، فإننا لا يمكننا أيضا كذلك أن ندخل هذا العمل ونخرج بالرؤية نفسها مرتين، لهذا حباه منتسب بمضاعفة عوالمه مسبقا.