يرى الناقد المصري أن النص الشعري لدى الشاعر يتسم بجملة من السمات الجمالية والتقنية، حيث النزوع اللغوي المحايد، والولع بالمشهدية البصرية، وحضور العنوان بوصفه بنية دالة قادرة على تأدية وظيفة داخل المسار الشعري للقصيدة من جهة، ومسكوناً بجمالية أسلوبية من جهة ثانية

«برهان على لا شيء» الكتابة بذاكرة جمالية

يسري عبدالله

 

بدءاً من ديوانه «ذاكرة الظل»، ووصولاً إلى ديوانه العاشر «برهان على لا شيء» (روافد)، يتسم النص الشعري لدى المصري عاطف عبدالعزيز بجملة من السمات الجمالية والتقنية، حيث النزوع اللغوي المحايد، والولع بالمشهدية البصرية، وحضور العنوان بوصفه بنية دالة قادرة على تأدية وظيفة داخل المسار الشعري للقصيدة من جهة، ومسكوناً بجمالية أسلوبية من جهة ثانية.

يبدأ «برهان على لا شيء» من استحضار المأساة السورية التي تفرق ناسها في المنافي، ومن ثم يهدي الشاعر ديوانه إلى محمد فؤاد، رشا عمران، ندى منزلجي، محمد رشو، سلطانة يوسف، ريم بسوف... «حتى آخر وردة في الحقل السوري الذي وزّعته الريح على المنافي». يتشكل الديوان من ستة عشر قصيدة، يتلوها نص «الإشارات والتنبيهات» الذي يتماس الشاعر في عنوانه مع عنوان كتاب الشيخ الرئيس ابن سينا، ويمثل تتمة للرؤية الشعرية، وجزءاً مركزياً من بنية الديوان، حيث لا نصبح أمام محض تأويل للإحالات المعرفية التي وردت في متن القصائد، بل نصبح أيضاً أمام نص مصاحب، يفتح أفق التلقي، كما في القصيدة التي تشير الى إلى المغني الأميركي إلفيس بريسلي مثلاً (ص105).

تنهض عناوين الديوان على جدلٍ بين العنوانين؛ الرئيس والفرعي. ويكتب العنوان الفرعي بحجم صغير في خط الكتابة المستخدم، فتكون العناوين هنا من قبيل: «لبلابة على وشك السقوط/ الوجه الآخر لمنتصف الليل/ ثغرة للمراثي/ منظر غائم لشطٍ بعيد، طرف من مكائد الخيال/ عطايا الطوفان»، إذ نصبح أمام ديوان يوظف العناوين الموازية التي تنفتح معها مدارات التأويل. في «لبلابة على وشك السقوط»، يستهل عبدالعزيز نصّه بسؤال: «أين تذهب الأيام يا أمي؟». إنه السؤال الذي يستحضر الزمن، باحثاً في المصير الذي ينتظر تلك اللحظات الفائتة، بوصفها ظلالاً مهشمّة لعالمٍ معقدٍ، تبدو فيه الغربة ظلاً للروح، وعنواناً للشعر، ولمأزقه المتجدد. ومن رحم السؤال ذاته، تتولّد شعرية نص مفتوح على الزمن، ليس بوصفه صدى للفقد والنوستالجيا فحسب، ولكن باعتباره أيضاً مجلى للخيبات اللانهائية، وللوجع الذي يطارد الذات الشاعرة: «سعاد الحسيني تبحث في المذياع عن «تخونوه»/ بينما طفلها في الشرفة/ يتأمل الجند المحمولين إلى الصحراء/ الولد كان واثقاً/ بأن الزعيم هو الجسر الذي يعبر/ عليه النهار كل يوم/ إلى باحة البيت/ ليجفف الغسيل المنشور/ ويشد خيطَ لبلابته الموشكة/ على السقوط/ بريسلي – ودون أن يدري- كان أيضاً/ هو الجسر الذي عبر عليه السود في ما بعد/ إلى المكتب البيضاوي/ بل كان الجسر الذي عبر عليه/ البيض/ إلى الهواء الطلق/ بعد أن حرر الـ (روك آند رول) من/ حظائر الماشية/ ومن أدخنة التبغ الرديء/ المعقودة/ في سماء هارلم» (ص12-13).

وحين يفتح الشاعر نصّه على الإحالات المعرفية المتواترة في القصيدة، فإنه ينفذ صوب مسام الروح المسكونة بالخوف والترقب الدائمين. وفي النص أيضاً موازاة رهيفة بين الفيلم السينمائي الشهير «الوسادة الخالية» وبطله «العندليب» عبدالحليم حافظ، وحركة الفعل الشعري داخل القصيدة.

يُدخل عاطف عبدالعزيز متلقيه مباشرة إلى متن قصيدته «الشهيق»، والمهداة إلى الكاتب المصري سيد الوكيل، فيحيل بذلك إلى مروي له محدد، وقصته «نُنُّس» التي تشير إلى علاقة بين شاب مسلم وفتاة مسيحية، ويمثل السياق السياسي/ الثقافي قبل ثورة كانون الثاني (يناير) 2011 مباشرة إطاراً للحكاية، سنجد في القصيدة حالاً من الموازاة بين المحكي عنهما نادية نبيل سند، ومارسيل أديب عياد، بين المسرود عنها في حكاية الوكيل، والمحكي عنها شعرياً هنا «مارسيل»، والتي يؤخر الشاعر اسمها كثيراً، قبل أن يعلن رغبته في التحرر بالإفصاح. وينهي عاطف عبدالعزيز قصيدته عبر الجملة المدهشة، أو الصادمة: «متى نفعَ الحبُ في بلادنا أصحابَه؟!» (ص21). في «ثغرة للمراثي»، تهيمن الصور والأخيلة على فضاء القصيدة، وتمثل التراكيب المدهشة خصيصة جمالية لدى الشاعر، فيكسر أفق التوقع لدى المتلقي في مختتم النص على النحو التالي: «أين راح مطعمٌ كان هنا/ يعومُ/ على ساعد الموج؟!».

في «طرف من مكائد الخيال/ عطايا الطوفان»؛ يحيل عاطف عبدالعزيز إلى زمنٍ هارب، إلى ذاكرة معتلة، والنص فيه عودٌ على بدء، وبنيتُه مفتوحةٌ على فنون أخرى، تستعير من السرد بعض آلياته. في «ريشة على السطح»، نصبح أمام نصٍ ناعم، إيقاعاته الداخلية بارزة، وينهض على التمني، ويفتح ذاكرة التخييل على مصراعيها. هذه الذاكرة التي تمتد أيضاً إلى قصيدة «الولد الذي استحال ديكاً»، حيث الريشة التي تتطوّح على بلاط الشرفة، وكأنها برهانٌ على اللاشيء، وهي المذكور النصي الأول إلى العنوان داخل الديوان. ولعل الريشة هنا مغايرة عن تلك الريشة على السطح التي بدت في القصيدة السابقة، ومتقاطعة معها في آن، حيث تبدو وفق التحليل السيميولوجي علامة على حال من التوزع/ الرغبة في البراح/ الواقع الرجراج؛ حيث هذا التطواح المستمر. هنا أيضاً في «الولد الذي استحال ديكاً»، سنجد النزعة السردية، والبناء الخطي المتتابع، حيث نرى خروجاً من الحكاية الشعرية إلى أسر أخرى، حتى يصل الشاعر إلى ذروة النص، وتوهجه: «من هنا تقريباً بدأ الشعر/ بدأ الكلام الذي ينمو في قلب الكلام» (ص44).

في الديوان حضورٌ لتنويعات من الموسيقى، قد تكون الروك آند رول، أو حفلات الريسيتال، وبما يعني أن ثمة انفتاحاً على الفنون الأدائية والسمعية، مثلما نرى في قصيدة «ريسيتال». وفي «مدونات الشارع المسدود»، ثمة نزوع درامي يعتمد في بنيته على مشهدية بصرية ضافية. وفي «دليل الحائر إلى تبديل المصائر/ أن تحبك مها ناجي»، نرى موازاة فنية لواقع سياسي معقد؛ وعلى نحو لا يجرح الشعر بالأيديولوجيا الزاعقة. في «وقت في حراسة الخذلان»، يشير الشاعر إلى حال من التبدد، مستدعياً الشاعرة السورية ندى منزلجي؛ مثلما يستعيد أصدقاء آخرين فرّقتهم المنافي.

وفي «قمر على البراري»؛ يستحضر عاطف عبدالعزيز أفلاطون وخصومته التاريخية مع الشعراء، محيلاً إلى تلك العلاقة الإشكالية: «أما عظام أفلاطون/ خصمي/ وولي نعمتي/ الرجل الذي أيقنت أخيراً أنه لم يمت/ إلا من قلة النوم/ فسوف أجمعها في لفافة من القز/ وأجعلها وسادة» (ص100-101).

تبدو «الإشارات والتنبيهات»، أكثر من كونها دلالة معرفية، أو محض هوامش على متون شعرية، حيث تتمم أحياناً المدلول الشعري، بل إنها تكتنز داخلها دائماً طاقة إيحائية. إن نص عاطف عبدالعزيز تؤرقه الأسئلة أكثر من أي شيء آخر، بحيث يتوجه هنا، وفق ماكليش، «نحو أشياء العالم، لا لكي يُكوّن أفكاراً عنها بل ليكشفها، وبذا يكتشف نفسه». وأرى أن عاطف عبدالعزيز راكَمَ– وبجدارة- مشروعه الشعري المائز، الممتد على عشرة دواوين، وقدّم لنا نصاً ثرياً ومختلفاً في ديوانه «برهان على لا شيء».

 

جريدة الحياة