يصور القاص المغربي بأسلوب مميز العالم الداخلي لطفلٍ فقير يحلم بالدفء والطعام والحنان، في ليلٍ شتوي، يتداخل السرد متنقلا بين توق الطفل لعناق أمه وكانه في حلم وبين عذابه في ليل البرد لقلة الأغطية وأعتقاله من قبل الشرطة في حملاتها على الأطفال الباعة.

في البدء كان الغياب

نجيب الخالدي

 

أطرق الباب، يفتح أمامي مشرعا. أرتمي في حقول أحضانها أشتم طيبها، ألثمها، أتحسس عينيها، خديها، أذنيها، شفتيها، أمرر كفي على شعرها الناعم المتدفق على كتفيها، أمكث طويلا بين أنفاسها الدافئة أتنفسها من الأعماق، أتنسم شميم جسدها عطرا يزيدني شوقا إليها، عيناي لا تقويان على مقاومة نورها المنبلج من صفاء حناياها... لا أقدر على الانفصال عنها لولا ذلك الألم في بطني، فألتفت إلى الطاولة التي تنتظرني بشغف كبير، وقد زينتها بكل ما أشتهيه من الطعام والحلويات... تنغمس شراهتي في التهام ما صنعته يداها، لكن أنسلّ من طقس الأكل لأتوجه إليها من جديد، أقبل رأسها، خديها كفيها... أوغل كامل وجهي في عمق صدرها أتمسّح برحابه، أتحسس ثديها الطافح بالحليب، ولولا حاجز الملابس، لترشّفته من حلمتها أرتوي من شهدها، فأنتعش كثيرا وأحلق بعيدا.

ليل دامس، وبرد قارس يسكن ظلمته يتسلل إليّ من تحت الباب والنافذة، صقيع الصمت يدوّي ويفرض سلطانه على المكان، يتكسر أحيانا بشخير أبي المتقطع في الغرفة المجاورة، شخير يؤنسني أحيانا وقد أنام على سرير إيقاعه. تصطك أسناني، أرتعش من زمهرير شرير لا يعرف رحمة ولا شفقة، هي وحدها تحس بي، تحس بدبيب هذا البرد يسري في عظامي، يكوّمُني، يُجمّدني وقد يقتلني، فأموت كما ماتت بائعة الكبريت. لا تريدني أن أموت أبدا، فتحث خطاها محضرة غطاء ساخنا يبث دفء الحياة في جسدي، أو قل في روحي أولا. هي تعرف أني ولجت فراشي بمعدة فارغة تعوي عواء الذئب، فلا تنسى طعامي الشهي، وقد وضعته هذه المرة في عمق خبزة كاملة، مسقية بالمرق الساخن اللذيذ الذي أحب... تلفّفني، تدثرني، تغلق كل الكوّات التي يتسرب منها البرد، تتأكد من تمام ارتياحي ثم تنصرف، لكن الصقيع الأسود لا يبرح مكانَه ولا الجوع الضاري.

على ورقة بيضاء بالكامل يتلهّف قلمي على تشكيلها، هي الوحيدة التي تستحق نسج هذه الخطوط التي سأطرز بها بياضي. لا أفلح هذه المرة أيضا، فكلما حاولت التخطيط تكسر الرصاص، خاصة عند رسم وجهها الذي أتوق إلى رؤيته الآن، في هذه اللحظة وأنا في القسم، فلا أعثر على محيا ولا قسمات، أحاول وأحاول لكن دون جدوى، فيجرفني سيل من الهم والغم.

أستيقظ من تكرار محاولاتي عندما تستقر على وجهي صفعة ساخنة، يصيبني إثرها دوار عميق وحالة من الغثيان، فيتفجر القسم صدى صراخ وضحكات وقهقهات. وعلى مقربة من مكتبه، يهبّ على وجهي كلامه ريحا عاتية هوجاء:

- لم أرك يوما مهتما بالدرس... لماذا لا تنتبه أيها الشقي..؟

أجيبه بصمتي المطبق، وبدموعي المنسكبة من عينيّ الملتصقتين بالأرض. يجرني من أذني و يردف في صراخ:

- سأستدعي أمك هذه المرة... اِختف عن وجهي، هيّا تحرك...

أغادر القسم وحيدا غارقا في دموعي، يلفني الحزن والألم من كل جانب، يحيرني السؤال المضني: لماذا يتكسر الرصاص كلما هممت برسم أمي !؟

البيت مقبرة، لكن بها أحياء تدب فيهم الحياة بهيّة مشرقة ناعمة، يتراشقون بالضحك، بالصراخ، بالمخدات وبكل الأشياء المحيطة بهم. أتظاهر باللعب، فيتضاعف حماسهم أكثر فأكثر، لكني وحدي ميّت، شارد داخل ظلماء عمقي، أبكي وألطم وجهي الصغير النحيف بيدين صامتتين باردتين، لا أدري أهُما يداي...

أغادر المكان مهرولا نحو الحمام، بسرعة أوصد الباب، لا أهتم بإشعال النور، أرتمي في إحدى الزوايا، وألقي بوجهي بين كفيّ...