يخلق القاص العراقي في نصه المكثف مشهدا سرديا يشبه ضاجاً يرمز بعمق لتوق الإنسان إلى الحرية والسلام لقول أنبثق من أعماق جندي يصرخ في ليل الجبهة (أنتهت الحرب) ليلقي تجاوب وقبول من كل الجهات الرفاق والأعداء فيتحول النص إلى نشيد يمجد السلام والإنسان.

ليلة الحرب الأخيرة

زهير كريم

 

في لحظة يأس، أو ربما لحظة كشف، قال أحد الجنود، بينما كان الآخرون ينامون:

- أيها الرفاق.

وكان صوته يتردد في العتمة صافيا بدون أي شوائب:

- سنموت هنا، هنا تحت هذا التراب، وفي هذه الليلة بالذات، سوف نموت مثل الحشرات!.

نطق بهذه الجملة وكان متأكدا أن الموت لن يحتاج ليكون مرعبا وحقيقيا، سوى أن ينطق المرء بالكلمة التي تدل عليه وحسب، وكان القصف قد اشتد في تلك الليلة، قصف شديد اهتزت الأرض مئات المرات لقوة عصفه، ولم يقم الرفاق رغم ذلك بأية حركة تدل على الإهتمام، ربما لأنهم كانوا مستسلمين لأقدارهم، حيث تمركزت ذواتهم في نقطة الحياد، لكن كلمة الموت كانت تتردد في فضاء الملجأ المعتم، تتردد مثل سؤال ملحّ ومصيري يحتاج لإجابة عاجلة. ثم صعد الجندي الشاب الى الأعلى، كان لوحده بينما النجوم البعيدة تتلألأ في السماء، في الواقع، لم يكن هناك الكثير منها، نجمة وحيدة، استطاعت أن تظهر من خلف الغيوم مثل علامة على الأمل أو دليلا يقود التائه الى تخوم الحياة، وكانت الريح الباردة تعبث بكثبان الرمل، ريح كما لو أنها سمفونية من عواء متواصل، قال: انها رسائل الطبيعة التي تعلن للضحايا عن اقتراب لحظة النهايات، بالنسية لي لن أنتظر هذه النهاية التي لا استحقها اطلاقا.

وهكذا وضع يده على فمه بطريقة من يمسك بوقا كونيا، كانت الساعة حينها الثالثة صباحا:

- لقد انتهت الحرب، انتهت الحرب، انتهت الحررررررب .

صاح بيقين كامل أنها بالفعل قد انتهت، ساعده في النداء سائق شاحنة كان يتبول في العتمة، وعريف يعمل في وحدة الهندسة العسكرية، والمخابر اللاسلكي، حيث حطم الجهاز الذي كان على ظهره، ثم نهض الجنود جميعا، صعدوا من تحت الملاجئ وكانوا يصيحون:

- انتهت الحرب، انتهت الحرب.

عبرت هذه الجملة الى وحدة أخرى مقذوفة في هذا العراء الذي لاحدود له، سمعها جنود على الخط الطويل للحدود ثم صعدوا وصاحو:

- انتهت الحرب.

سمعها جنود الأعداء في الجانب الآخر، رددها واحد منهم، ساعده رفيق له، ثم اختلط نداء الجانبين فلم يعد أحد يعرف بالضبط من أين ياتي هذا الصدى الذي تدفعه الريح في جميع الاتجاهات، وكان الشاب قد ترك سلاحة، ملابسه ومعداته الحربية، ثم عاد عبر الصحراء الى أمه التي تنتظره في العاصمة، تبعه فصيل كامل من الرفاق، ثم حدث الأمر نفسه مع فصائل كثيرة على خط الجبهة الطويل، وعند شروق الشمس، كان الهواء كله يردد جملة واحدة متناغمة تتضمن أن الحرب انتهت، في الطرف الآخر أيضا، كانوا يرددونها بلغة اخرى ، وكان الهواء ينقلها فيسمعها جنود من أجناس مختلفة في القارات الخمس، جنود كانوا يحرسون الجبهات وينامون في الملاجئ مثل الجرذان خوفا من الشظايا التي كانت مثل مطر معدني متوهج، لكنهم رددوها في النهاية، كلّ بلغته وطريقته قبل أن ينسحبوا، تاركين المطر الغزير يغرق الملاجئ الفارغة الا من الذكريات الحزينة، والاسلحة التي سوف ياكلها الصدأ.

الحرب انتهت، ولكن.... من قال انها انتهت ؟، القادة الميدانيون، وضباط الوحدات، تساءلوا ، كان ذلك قبل انتصاف النهار. من أعطى الأوامر بايقاف الحرب؟. قالوا ذلك باضطراب، وخوف، ثم تركوا نجومهم تسقط على الأرض، دفنوا أوسمتهم، تخففوا من ثقل الاسلحة، قالو:

- لقد انتهت الحرب.

ثم انسحبوا.