حفل التراث الجزائري بصنعة الكتابة، ورفع لواءها أدباء خاضوا في إنشاء القريض خوضهم في الديباجة النثرية العربية بنسقها الموكول إلى عصرها، من حيث طرائق الصّوغ الفنّي في صناعة الكتابة.
والحديث عن الأدب الجزائري لا ينبغي أن ينطلق من أقرب فترة، أي من فترة النهضة العربية الحديثة، أو من فترة الحركة الاستعمارية بشكل عام، وإنما يكون من الإنصاف لهذا الأدب، أن نؤرخ له منذ عصوره الغابرة، شأنه شأن التأرخة للأدب في المشرق العربي.
ولا شك أن الباحث في جذور هذا الأدب سيقف على نتاج متنوع، ويجمع بين التركة الأدبية والتركة اللغوية، في مسيرة متأنية، حسب البيئة التي احتضنت هذا الأدب وحسب الذهنية المنتجة.
لا نبالغ إذا قلنا إننا لم نكن أقل شأنا من المشارقة في فضاء الأدب، ولا نبالغ إذا حكمنا على موروثنا الأدبي في الجزائر بأنه ذلك الشبح الذي يتوارى كلما حاولنا الاقتراب منه، ونفض الغبار عنه، والعلّة في ذلك تكمن في التهميش من جهة، وفي قلة المصادر، إن لم أقل غيابها، من جهة أخرى.
لقد وُجد الأدب العربي في الجزائر منذ القديم، كما وُجدت الذات الجزائرية على هذه الأرض، ورافق ما تمخض عنه التاريخ من إيجابيات وسلبيات، فاختلط الأصيل بالوافد، وهو الإشكال الذي يواجه الباحث في الأدب الجزائري القديم، فكثيرا ما قطن الجزائر أدباء وعلماء من بلدان مختلفة، كالمغرب وتونس والأندلس، واستوطنوها طوال حياتهم، وانصهروا في مناخها، وأثروا وتأثروا بحياتها العلمية والأدبية، فكان النتاج متشابكا متداخلا، يتطلب كثيرا من الدقة للفصل بين الأصيل والوافد.
وإذا كان المعلوم أن "الكمال إنما يتحقق في الماضي" كما قال أبو عمرو بن العلاء، فإن أدبنا برهن حسب ذهنيات أصحابه على أنه مرجعية ثقافية مميزة، لا يمكن تجاهلها، حتى وإن زهد الباحثون في الاهتمام بها. وسأحاول تتبع محطات هذا الأدب حتى يتسنى الانطلاق من قاعدة صلبة، تجلو هوية الأدب العربي في الجزائر. ولن يتم ذلك إلا برصد نماذج من أبنية نصية متنوعة.
الدولة الرستمية
ظهر أول جيل من الأدباء الجزائريين على عهد الدولة الرستمية (160-299هـ؛ 676-911م). وكانت عاصمة الرستميين مدينة تيهرت، المعروفة باسم "عراق المغرب" أو "بلخ المغرب"(1) وقد شهدت انتشار المعرفة بها وازدهارها.
ومن الشخصيات البارزة في هذا الطور:
1- الإمام أفلح بن عبد الوهاب بن عبد الرحمن، الذي ترك خطبا ورسائل ذات طابع سياسي ديني، بالإضافة إلى مقتطفات شعرية كقوله مثلا:
العلم أبقى لأهل العـلم آثارا * * يريك أشخاصهم روحا وأبكارا
حتى وإن مات ذو علم وذو ورع * * ما مات عبد قضى من ذاك أوطارا(2)
لله عصبة أهل العلـم إن لهم * * فضلا على الناس غيابا وحضارا(3)
2- أبو سهل، وله مصنفات احترقت في الفتن التي أصيبت بها تيهرت في أواخر الحكومة الرستمية.
3- أبو الفضل أحمد بن القاسم البزار.
4- ابن الصغير الذي خلف كتابا تراكيبه أقرب من العامية منها إلى الفصحى.
5- يهودا بن قريش التاهرتي: وهو واضع أساس النحو التنظيري، وقد اهتم بالبحث في اللغات (العربية والعبرانية والبربرية والآرامية).
6- أحمد بن فتح التاهرتي: انتقل إلى المغرب الأقصى وكان أديبا وشاعرا. ومن شعره: "ساكنات البصرة":
ما حاز كل الحسن إلا قينة * * بصرية في حمرة وبياض
7- بكر بن حماد: ولد بتيهرت سنة 200 هـ (816م) وكان حافظا للحديث ونابغة في الشعر مما جعله يصاحب أدباء تصدروا الطليعة في ميدان القريض كأبي تمام، ودعبل الخزاعي، وعلي بن الجهم، ومسلم بن الوليد.
خلف الرجل ديوانا شعريا بعنوان "الدر الوقاد"، وتزعم الحركة الزهدية في الأدب المغاربي، كما كان يتزعمها أبو العتاهية في المشرق.
ومن شعره في الزهديات:
لقد جمحت نفسي فصدت وأعرضت * * وقد مرقت نفسي، فطال مروقها
فيا أسفـي من جنح ليل يقودها * * وضوء نهار لا يـزال يسوقها
إلى مشهـد لا بد لي من شهوده * * ومن جزع للموت سوف أذوقها
ستأكلها الديدان في باطن الثرى * * ويذهب عنها طيبها وخلوقها(4)
ومن شعره في رثاء ولده:
بكيت على الأحبة إذ تولوا * * ولو أني هلكت، بكوا عليا
فيا نسلي بقاؤك كان ذخرا * * وفقدك قد كوى الأكباد حيا
كفى حزنا بأني منك خـلـو * * وأنك ميت وبقيت حيـا
ولم أك أيسا فيئست لمـا * * رميت الترب فوقك من يديا (5)
خلص إلى أن ميلاد الأدب العربي في الجزائر كان مع أمراء بني رستم، وأن أول دولة جزائرية مستقلة عن الخلافة العباسية في بغداد، بعد اعتناق الجزائريين الإسلام، كان قادتها مثقفين، متعلمين بل أدباء مبدعين(6).
والجدير بالذكر أن الدولة الرستمية تمثل صدر الإسلام بالجزائر (القرن الثاني هجري/الثامن الميلادي). مؤسسها عبد الرحمن بن رستم عاشق المذهب الإباضي الذي كان داعيته سلامة بن سعد.
وعبد الرحمن بن رستم بن بهرام بن كسرى من سلالة الفرس، ولد بالعراق، في البصرة، وفيها التقى التلاميذ من بلدان مختلفة (القيرواني، والمغربي، والعماني، واليمني، والحجازي، وغيرهم) يدرسون جميعا على يد الشيخ أبي عبيدة مسلم، المعروف بـ: "القفاف"، وذلك لتظاهره بصناعة "القفاف" أثناء إلقاء دروسه السرية المحظورة وتظاهر تلاميذه بتعلم الصنعة منه.
كان عبد الرحمن بن رستم رجل علم، وأحد حملة ذلك العلم من البصرة إلى المغرب العربي المتعطش إلى العلم والمعرفة. وعلى نفس الطريقة سار ابنه الإمام أفلح بن عبد الوهاب، المذكور آنفا.
لقب عبد الرحمن بن رستم بـصقر فارس مثل عبد الرحمن الداخل الذي لقب بصقر قريش(7). بقي أن نشير إلى أن عبد الرحمن بن رستم هرب من بطش العباسيين، فغادر تونس إلى الجزائر وأسس بها أول دولة مستقلة، كما سبق الذكر.
نختم عهد بني رستم بخاتمة الشاعر بكر بن حماد. يحكى أنه لما أشرف على الموت، حاول النهوض فعجز، فقال متألما:
أحبو إلى الموت كما يحبو الجمل * * قد جاءني ما ليس لي فيه حيل
توفي بكر بن حماد سنة (296هـ، 907م) شمال مدينة تيهرت.
فترة الأغالبة
بعد الفترة الرستمية، ننتقل إلى فترة الأغالبة (184-296هـ؛ 296-800م). اتخذ الأغالبة "طبنة"، الواقعة وسط إقليم الزاب الجزائري عاصمة لحكمهم. وأصبحت "طبنة" قاعدة الجزائر الشرقية في الحركة العلمية والأدبية (...) ويجدر بالتسجيل أن الفقه طغى على الفنون الأخرى بحيث نجد الفقهاء أكثر عددا من الأدباء، وهؤلاء أنفسهم لهم إلمام كبير بالفقه، لأن الحالة الاجتماعية كانت تدعو إلى تعاطي العلوم الدينية أكثر من سواها(8).
ومن الأسماء البارزة على عهد الأغالبة محمد بن حسين الطبني، وأحمد وعلي وهما إخوة. كان الأول منهما "أديبا بليغا وشاعرا مُقَدَّما، قصد الديار الأندلسية ودخل قرطبة في عهد الناصر وسكنها"(9). ومما قاله في وصف ربوع خلت من أحبابه:
وأصبحت بعد أشواق ربوعهم * * مثل السطور إذا ما رثت الكتب
فقرا يبابا، كأن لم تغن أهلة * * تبكي على حتفها غربانها النعب
كأن باقي مغانيها وأرسمهـا * * منابر نصبت والطير تَخْطُب(10)
وظهر إسحاق الملشوني، نسبة إلى "ملشون"، وهي قرية من قرى بسكرة؛ وأبو الفضل عطية الطبني؛ وأبو العباس محمد البريدي المتوفى سنة 276 هـ، وهو أحد كتاب الدولة الأغلبية(11) وأحسن ظرفائها، ومن شعره وهو في السجن:
هبني أسأت، فأين العفـو والكرم * * قد قادني نحوك الإذعان والنـدم
يا خير من مدت الأيدي إليه أما * * ترثي لمن بكاه عندك الإذعان والندم
بالغت في الصفح، فاصْفَحْ صفح مُقتدرٍ * * إن الملوك إذا ما استرحموا رحموا(12).
الفترة الفاطمية
بعد الأغالبة، نشط الفاطميون (296-361هـ؛ 909-972م) واتخذوا من "المسيلة" عاصمة لهم، فقصدها أرباب الثقافة من كل فوج وصوب. والفضل في ذلك يرجع إلى مؤسسها وواليها علي بن حمدون(13).
يمثل هذه الفترة خير تمثيل الشاعر الكبير بن هانئ الأندلسي الذي هاجر إلى المغرب وبالذات إلى منطقة الزاب. ومن شعره في الأمير جعفر بن علي:
خليلي، ما الأيام إلا بجعفر * * وما الناس إلا جعفر، دام جعفر!
وقوله في يحي:
فلا تسألاني عن زماني الذي خلا * * فو العصر، إني قبل يحي لفي خسر(14)!
الفترة الصنهاجية (405-547هـ، 1014-1153م)
زعيم الصنهاجيين، بلقين بن زيري بن مناد، كان واليا على الجزائر، واستطاع أن يحقق للمغرب العربي ما لم يستطعه حكام المغرب قبله، وواصل المشوار بعده، ولده المنصور، وبعد المنصور، بويع ابنه باديس، فكلف عمه حماد بن بلقين بإدارة أمور المغرب الأوسط. ولم يلبث أن أصبح حمّاد صاحب النفوذ المطلق بالجزائر وغدت الدولة الحمادية أول دولة بربرية بالجزائر الإسلامية، وكانت عاصمتها القلعة. وكانت العربية هي اللسان الرسمي للدولة الحمادية مع أن رؤساءها برابرة لكون العربية لغة القرآن والدين(15).
وقد ازدهر الأدب في فترة الحماديين من حيث الكم، وأما من جهة الكيف فظل يتسم بسمات المدرسة الشرقية، وإن كان قد ضاع نتاج هذه الفترة بسبب الاضطرابات، إلا أن هناك رجالا جزائريين عاشوا في تونس وصل إلينا شيء من آثارهم الأدبية ومن هؤلاء:
1- ابو الحسن علي بن أبي الرجال الشيباني، ومن شعره:
خليلي، إن لم تساعداني فاقصرا * * فليس يداوى بالعتاب المتيم
تريداني مني النّسك في غير حينه * * وغصني ريان ورأسي أسحم(16)
2- ابن رشيق القيرواني: لقب بالقيرواني لطول مكوثه بالقيروان، وقد خلف ما يربو على ثلاثين كتابا، منها "الشذوذ في اللغة"، و"العمدة"، وهذا الأخير كتاب نقدي متصل بقضايا الشعر.
والجدير بالذكر أن ابن رشيق كان أول شاعر جزائري نظم في المجون والخمريات، ونحا نحو أبي نواس. ولابن رشيق كتاب هام عنوانه: "أنموذج الزمان في شعر القيروان". ولفظ "الزمان" في هذا الكتاب يعني أن ابن رشيق قد خصص كتابه للشعراء والأدباء المعاصرين لعهده، والذي كان يعج بالكثير منهم بلاط معز ابن باديس الصنهاجي.
ومن شعره في رثاء القيروان:
أمست وقد لعب الزمان بأهلها * * وتقطعت بهم عرى الأقـران
فتفرقوا أيدي سبأ وتشتتوا * * بعد اجتماعهم على الأوطان(17)
3- عبد الكريم النهشلي: هذا الناقد الجزائري هو أستاذ الحسن بن رشيق القيرواني، وهو كاتب وشاعر بارع، ولد بالمحمدية التي نسميها اليوم "المسيلة"، ورحل إلى القيروان واشتهر بكتاب في النقد عنوانه: "الممتع" طرح فيه قضايا هامة كمسألة القديم والجديد، ومسألة اللفظ والمعنى، والسرقات الأدبية، والطبع والصنعة.
4- ابن قاضي ميلة: شاعر انتهج منهج عمر بن أبي ربيعة في الغزل فاعتمد الحوار القصصي في شعره. يقول في أحد المطالع: بذيل الهوى دمعي وقلبي معنف(18).
5- ابن الربيب: كتب في النثر والشعر، ورسالته عن ابن حزم الأندلسي أكبر شاهد على تفوقه في النثر الفني. كما تدل هذه الرسالة على أن الجزائريين كانوا على بينة من أخبار الملوك والأمراء والكتاب والوزراء.
6- يوسف أبو الفضل بن النحوي: تفنن في شعر التوسلات والابتهالات واشتهر بقصيدته المعنونة بـ: "المنفرجة". ومن حلو شعره:
لبست ثوب الرجاء، والناس قد رقدوا * * وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد
وقلت: يا سيدي، يا منتهـى أملي * * يا من عليه بكشف الضر أعتمد
أشكـو إليـك أمـورا أنت تعلمهـا * * مالي على حملها صبر ولا جلد
وقد مددت يدي للضر مشتكيـا * * إليك يا خير من مدت إليه يد(19)
7- أبو عبد الله بن محرز بن محمد الوهراني: بذكر الوهراني نتذكر بديع الزمان الهمذاني. لقد شكل الوهراني ظاهرة فريدة في الأدب الجزائري على عهد الموحدين، وانتهج منهجا هزليا في أدبياته. من آثاره: "رسائل الوهران، و"جليس كل ظريف"، و"المنامات".
وعلى ذكر "المنامات"، اشتهر الوهراني بـ "منامه الكبير" الذي سلك فيه مسلك أبي العلاء المعري في "رسالة الغفران". والكتاب مطبوع في مصر، سنة 1968 بعناية وتحقيق إبراهيم شعلان ومحمد نغش.
والذي يطالع آثار الوهراني تبدو له براعته في التهكم والتصوير الهزلي، وقد يصنف أدبه ضمن الفن الكاريكاتوري. توفي الوهراني عام 575هـ.
الفترة الحفصية (627-943هـ؛ 1229-1526م)
من الأسماء البارزة في هذه الفترة:
1- محمد بن حسن القلعي: كان شاعرا سخي الدمع، سخي الجيب، ويده ويد الطلبة في كتبه سواء، لا مزية له عليهم، كان جيد الشعر، يسلك فيه مسلك أبي تمام. من شعره في الزهد:
تنافس الناس في الدنيا وقد علموا * * أن المقام بها كاللمح بالبصر
أفناهم أولاهـم وآخرهـم * * لم يبق منهم سوى الأسماء والسير(20)
2- أحمد بن أبي القاسم الخلوف: شاعر الحفصيين دون منازع. انتقلت أسرته من فاس إلى الجزائر واستوطنت قسنطينة وبها ولد سنة 829هـ/1465م.
له ديوان شعري خاص بالمديح النبوي. وله كتاب: "تحرير الميزان لتصحيح الأوزان في العروض"، وكتاب: "مواهب البديع في علم البديع".
عرف الخلوف بـ"ذي الصناعتين" لاشتهاره بجودة الشعر والنثر.
دام حكم الحفصيين 378 سنة، وقد قال أبو الحسن عندما دارت به الدائرة مع نهاية الحكم:
وكنا، اسودا والرجال تهابنا * * أتانا زمان فيه نخشى الأرانبا(21)
مع القرن السابع الهجري، بدأ الأندلسيون في الهجرة إلى الجزائر، وكان حظ تلمسان من المهاجرين الأندلسيين أوفر من غيرها، فكثر النتاج الأدبي، وازدهر فن التوشيح الذي تعود أصوله في الجزائر إلى القرن الخامس هجري مع الشاعرين الكبيرين الأريسي وابن فكون. وأما في القرن السابع، فاشتهر شمس الدين محمد بن عفيف التلمساني المعروف بالشاب الظريف. توفي وعمره سبع وعشرون سنة.
له ديوان شعر ومقامات العشاق. ومن موشحاته:
قمر يجلو دجى الغلس * * بهر الأبصار مذ ظهرا(22)
في أواخر القرن السابع هجري، ولد الشاعر الكبير محمد بن خميس بتلمسان سنة (650هـ، 1252م). وكان صاحب براعة في التعبير، ومتانة في السبك. ومن آخر أقواله:
لمن المنازل لا تجيب هواها * * مُحيت معالمها وصم صداها(23)
ومن حكمه:
وإن ظلمت فلا تحقد على أحد * * إن الضغائن فاعلم تنشئ الفتنا
يأبى ثراء المال علمي وهـل * * يجتمع الضدان علم ومال؟(24)
توفي الشاعر قتيلا يوم عيد الفطر سنة 1309هـ، وذلك بعد الانقلاب الحكومي الذي أودى بصديقه الوزير أبي عبد الله بن الحكيم، ورمي الشاعر بباب الفخارين.
وعرف الأدب الجزائري القديم شعر التصوف (حب الحقيقة والفناء في طاعة الله). ومن شعراء الصوفية في الجزائر آنذاك أبو مدين بن شعيب، الذي "ولد بإشبيلية، وتعلم بفاس، ثم حج، وعند أوبته توطن بجاية. توفي قرب تلمسان سنة (594هـ) ودفن بقرية العباد في تلمسان وضريحه بها مشهور مزار"(25).
ومن حلو شعره:
لألطافك الحسنى مددت يد الرجا * * وحالي كما تدري، وأنت المؤمل
قصدتك ملهوفا فؤادي لما طـرا * * وأنت رؤوف محسن متفضل(26)
من شعراء الصوفية أيضا الشاعر أبو حمو موسى الثاني الذي عرف بشعر المولديات (الاحتفال بليلة المولد النبوي). ومن أشهر مولدياته (سنة 760هـ):
نام الأحباب ولم تنم * * عيني بمصارعة الندم(27)
فترة المرينيين
ومع انتقال الحكم إلى المرينيين من (647-814هـ)، برزت أسماء جديدة كالملياني وهو أديب شاعر. توفي عام (715هـ، 1315م). ومن شعره:
العز ما ضربت عليه قبابي * * والفضل ما اشتملت عليه ثيابي(28)
وبرز محمد ابن مرزق الخطيب، وأحمد بن قنفد القسنطيني، صاحب الرحلة المشهورة: "أنس الفقير، وعز الحقير". طبعت هذه الرحلة بالرباط سنة 1956 م. وله كتاب الوفيات.
فترة الجزائر العثمانية (930-1246هـ، 1514-1830م)
كان الأتراك رجال حرب، وليس رجال أدب، لذلك لم يهتموا برجال الثقافة. وسرى الضعف في مفاصل الأدب على عهدهم، فغلب عليهم طابع الجفاف. ولم يظهر أدباء حقيقيون إلا في القرن الحادي عشر، ومنهم:
1- أحمد المقري الذي ولد في تلمسان سنة 986هـ، وخلّف ثروة أدبية منها "أزهار الرياض" و"نفح الطيب".
ومن جميل شعره:
لكن قدرة مثلي غير خافية * * والنمل يعذر في القدر الذي حملا(29)
ومن روائعه أيضا:
فقل لجديد العيش لا بد من بلى * * وقل لاجتماع الشمل، لا بد من شت
هو القدر الجاري على الكره والرضى * * فصبرا وتسليما لما قدر الله(30)
وفي موضع آخر قال:
سبحان من قسم الحظو * * ظ، فلا عتاب ولا ملامة(31)
2- عبد الكريم بن محمد الفكون:
عاصر هذا الأديب الرجل السابق، أحمد المقري. ومن مؤلفات عبد الكريم، رسالة من نوع الإخوانيات وشرح على أرجوزة "الماكودي" في التصريف وجزء في تحريم الدخان. توفي الفكون سنة 1073هـ/1663م.
لعلّ أوْسَع حركة أدبية شهدها عصر الدّايات بالجزائر؛ هو عصر الدّاي التاسع المدعو: محمد بكداش الذي تولى السلطة عام 1707م، ثمّ أزيح عنها عام 1710م (قتلا). وقد رفع الأدباء إليه قصائدهم مادحين.
كان هذا الدايُ عالِماً فقيها، مُشارِكا في عدة فنون، ماهِراً في علم اللسان، وعَنْهُ ألف محمد بن ميمون الجزائري كتابا بِعُنوان: التحفة المرْضية في الدّولة البَكداشية في بلاد الجزائر المحمية". احتوى هذا الكتاب على ست عشرة مقامة، تشهد على نبوغ الجزائريين في فن المقامات، وتُسجّلُ تأثرهم بالطريقة الأندلسية في التحبير والتدبيج (حسن السبك) وهذا مقتطف من إحدى المقامات في كتاب التحفة:
"صعد المنبر، ووعظ الناس فيه وحذر، يقذف لسانه لؤلؤه المكنون، ويصرف من بدائعه الأنواع والفنون، فلا يُجارَى في مِضمار إحْسان، ولا يُبارى في بلاغة وبرَاعة لسان"(32).
ويظهر أن هذا الأديب كان يُعاني من حسد العلماء، فنجدُه في المُقدّمة يقول:
"على أنّ أبْناء العصر، اُبْتلوا بالحسد، ويطلقون ألسنتهم بالفحشاء في كل مرصد، ومن كانت له ملكة فليُصَنِّفْ وإلا فلْيُنْصِفْ، ولكن كما قال المجنون:
وكلٌّ يدّعي وصْلاً بليْلى * * وليْلىَ لا تُقرُّ لهم بذلك
والله ولي التوفيق فيما قصدتُ، والكافي من الخطل فيما سردتُ فعليه كان معولي، وبه حسُنَ تأويلي، لا إله إلا هو، وهو حسْبي ونِعْمَ الوكيل"(33).
بقي أن أشير إلى أن مُحقق كتاب التحفة المرضية لابن ميمون الجزائري هو العالم الجليل الدكتور محمد بن عبد الكريم الجزائري، رحمه الله، وهو أيضاً صاحب ديوان: "كشف الستار".
إلى جانب محمد بن ميمون الجزائري، تميزت كوكبة من الشعراء، نذكر من بينهم الشاعر الكبير أحمد بن عمار الجزائري وهو من أجلاء علماء القرن 12هـ/18م في الجزائر، وكان يستمد من أصوله الأندلسية الأدب والفن، وحب الطبيعة والجمال. ومن حلو شعره:
نشدتك الرحمن يا هاجري * * عذِّبْ فؤادي بِسِوَى الهجْر
كمْ ليلة قطعْتُها حسرة * * وأنتَ في تيهك لا تدْرِي(34)
وله في النثر رحلة حجية بعنوان: "نِحْلة اللبيب".
كان أحمد بن عمار صديقا لشاعر آخر، جمع بين وظيفة الفتوى وقول الشعر، ذاك هو أبو عبد الله محمد بن محمد المشهور بابن علي، ومن شعره:
إنْ أنْكروا فضْلي لِخُبْثِ طِباعِهم * * فالدُّرُّ ليس يُعَزُّ في أوْطانه
وكذلك الياقوت ما بعُدوا به * * إلا وزاد البُعْدُ في أثمانه(35)
كان ابن عليّ أو سيدي بن علي، كما يُنادونه، يُعاني بين مكانته الاجتماعية والدينية، وبين طموحاته الشعرية، وكان مُحْتارا من ثورة هواه:
لولا، وحقك؛ خُطة قُلّدتُهـا * * زهرتْ بها في الخافقين شُموعي
ومنابر فيها رُقّيتُ إلى العُلى * * وقد استدار بها كثيفُ جموع
لَنحوْتُ منْحى العامرِي صبابة * * ولكان من حرق الجوى مشفوعي(36)
وتشمل هذه الفترة أسماء أخرى كيحيى بن أبي راشد، الذي قال مادحا محمد بكداش، داي الجزائر التاسع، والذي ألف فيه محمد بن ميمون مؤلفه التحفة المرضية، يقول يحيى:
ملك تفرد بالكمال ولم يكن * * لكماله في السالفين مثال(37)
ثم الشاعر أبو عبد الله محمد البونصي، مادحا محمد بكداش أيضا:
بشارة خير قد أتت عقب المسا * * بفرقد سعد في السعادة قد رسا(38)
ويظل محمد القوجيلي أبرز شعراء الجزائر خلال القرن الحادي عشر الهجري (17م)، وله وقفات نقدية كقوله:
أهلَ الفصاحة غِبْتم لا فصيح يُرى * * يُجيد نظم الكلام يُذهل الفِكَرا
بكتْ لهم ولنظم الشعـر باكيـة * * وحُقَّ أن يندب الأطلال والأثرا
مصيبة الجهل أدهى محنة نزلـت * * بالمرء لما غدا قد أشبه البقرا(39)
وعرفت الفترة العثمانية بالجزائر فن الموشحات، وممن أجادوها محمد بـن رأس العين الذي اشتهر بالمجون والهزل، وكان يُلقب بالرئيس، ويُلقب بالبليغ، ومن مطالع موشحاته:
غزى فؤادي بمقلتيْه * * وصاد قلبي بقده(40)
قصارى القول إن الأدب في ظلال الجزائر العثمانية قد تأرجح بين السطوع مرة، وبين الانتكاسة مرات، وذلك بسبب عدم التشجيع من الحكام العثمانيين، وبسبب عدم استقرار الأدباء في الجزائر، فأغلبهم إما هاجر، وإما انغمس في التصوف الخرافي الذي شكل أحد مظاهر التدهور الثقافي بالجزائر العثمانية (الدروشة وما في حقلها).
يقول أبو القاسم سعد الله بعد حديثه عن آراء" الفكون" في البدع الصوفية: "حتى أصبح كل شيخ مجذوب يُعتبر بركة وصالحا، وكل درويش مغفل يُعتبر وليا وصاحب كرامات، وكلّ مُستغل للعامة بِاسم الدّين ومتقرب للسلطة باسم الطريقة؛ يُعتبرُ قطبا تأتيه الجبايات ويقصده الناس ... بالقرابين"(41).
كانت هذه جولة خفيفة لرصد بعض العينات من الموروث الأدبي في الجزائر، وقد حاولت من خلال عرضها تحريك جزء من الذاكرة الجزائرية المنسية، واستدعاء أنماط تفاوتت قدراتها الإبداعية، بتفاوت بُناها المكونة وتمحورت رؤاها حول قضايا معينة تسلك مسلك الارتباط بالذات والواقع، وتشتغل على فعاليات السلطة التقليدية في الكتابة، والامتثال للأبنية النصية السلفية.
ويبقى الجزء الآخر من هذه الذاكرة المنسية مشعا بإعلام وعناوين غنية عن كل تعريف أمثال الغبريني صاحب مؤلف عنوان الدراية، وابن مريم صاحب البستان وابن هطال التلمساني صاحب رحلة محمد الكبير، وابن حمدوش مؤلف لسان المقال في النبأ عن النسب والحسب والحال وغير هؤلاء كثير.
وليس يصح في الأفهام شيء * * إذا احتاج النهار إلى دليل
آثرت أن أعود في هذه القراءة إلى العهد الموحدي، مع شخصية الوهراني في عجائب أدبياته. ففي التفافة إلى الأدب العربي القديم في الجزائر، تُصادف الباحث عيّناتٌ تستوْجب التأمل، وتلقى هوى في النفس فينشد التقرب منها، ويحاول استنطاق مداليلها بصورة أو بأخرى، يحفزه فضول المعرفة، والتوْق إلى إحياء عوالم ماضوية، غائبة برحيل أصحابها، حاضرة بمناوشة الإبداع في زمانها وفي غير زمانها؛ حافلة بتراكمات البنية الذهنية السائدة في أوَانِها.
من هذه العيّنات أدبيات رُكن الدّين أبو عبد الله محمد بن محرز بن محمد الوهراني. زار مصر أيام السلطان صلاح الدين، وتوفي سنة 575هـ بقرية على باب دمشق تدعى (داريا) بعد أن تولى الخطابة بها لمدة غير يسيرة، وسلك طريق الهزل في كتاباته خاصة في منامه الكبير(42). وهو صاحب المنامات الغريبة، والمقامات العجيبة والرسائل اللطيفة.
جُمعت هذه الأدبيات في مُجلد بعنوان: "منامات الوهراني ومقاماته ورسائله" تحقيق ابراهيم شعلان ومحمد نغش، مع مراجعة عبد العزيز الاهواني.
ومما وقع عليه الاختيار في هذه البسطة، وصفه لبغداد حين نزوله بها واستئناسه بالمقام فيها، يقول الوهراني في البدء:
"لما تعذرت مآربي واضطربت مغاربي، ألقيت حبلي على غاربي وجعلت مذهبات الشعر بضاعتي، ومن أخلاف الأدب رضاعتي، فما مررت بأمير إلا حللت ساحته واستمطرت راحته، ولا وزيرا إلا قرعت بابه، وطلبت ثوابه، ولا بقاض إلا أخذت سيبه، وأفرغت جيبه، فتقلبت بي الأعصار، وتقاذفت بي الأمصار، حتى قربت من العراق، وسئمت من الفراق، فقصدت مدينة السلام، لأقضي حجة الإسلام. فدخلتها بعد مقاساة الضر ومكابدة العيش المر، فلما قر بها قراري، وانجلى فيها سراري، طفتها طواف المفتقد، وتأملتها تأمل المنتقد، فرأيت بحرا لا يعبر زاخره، ولا يبصر آخره، وجنة أبدع جنانها، وفاز باللذة سكانها، لا يميل عنها المتقون، ولا يرتقي إلى صفتها المرتقون، (كمثل الجنة التي وعد المتقون)، فأرحت نفسي من سلوك الغور والفج، وجلست انتظر أيام الحج، وتاقت نفسي إلى محادثة العقلاء، واشتاقت إلى معاشرة الفضلاء، فدلني بعض السادة الموالي إلى دكان الشيخ أبي المعالي"(43).
في ملاحظة أولية، يمكن رصد مقولات الخطاب عند الوهراني على هذا النحو:
تتجاذب هذه التوزيعة الثلاثية سلطة الانتقاء لآليات الكتابة السلفية، حيث يلمس القارئ توظيف الناص لأدوات الأداء التقليدي كاعتماد نظام الفواصل، وتقصي محسنات القول، وتعزيز المعنى بالاقتباس القرآني، مع اصطناع السرد كبنية شمولية تتساوق ضمنها المكونات المؤسسة لهذا الخطاب، وعلى رأسها الكلمات الآخذة بتلابيب التشكيل الأدبي الذي يهيمن على كتابات محمد بن محرز الوهراني، باعتبار أن "العمل الأدبي تصنعه الكلمات"(44)، وذلك حين ينزاح بها منشئها عن مسارها المعجمي، إلى مسار دلالي تأويلي، تستقيم معه كل الرهانات المعنوية الممكنة، وربما المستبعدة، يختار الوهراني سلسلة كلمات مثل:
فتتضح تلك المزاوجة بين الحمولة المعنوية، والمقصدية الفنية، وتسير الدلالة نحو الإشعار بنفاذ صبر الكاتب تجاه وضع معين، والإعلان عن النية الجادة في الانفلات من قبضة جو معتم، قد تكون العتمة فيه وليدة تشابك علائقي، أساسه القهر الإنساني الذي، غالبا، ما يكون وراء نفاد الصبر، وبالتالي نشدان الانطلاق إلى فضاءات مغايرة، من شأنها توفير حياة جديدة، لا أقول مثالية، ولكن حياة أضأل قهرا، وأقل غبْنا. وتلك، لعمري، طموحات مشروعة، يشرئب إليها الفرد حتى وإن لم تسلم في بعض الأحيان من تسلل تدخلات المجموع، وما تنطوي عليه من كدر ونغص.
وإذا كانت هذه السلسلة من الكلمات التي بُني عليها المقتطف، مشحونة بغُصّة القهر، موسومة بالتدبير العقلاني للمغادرة، فإنها وفي نفس الوقت مَدْعاةٌ إلى الفحْص الفنّي، إن صحّ القول، إذْ لم يغفل صاحبها تلك المسحة الجمالية المطلوبة، بل حرص على تلوينها بنغمة إيقاعية إن على مستوى الحروف أو على مستوى الصيغ، وكلاهما يَصُبُّ في وعاء التفاعل اللغوي المُؤسّسِ على التنضيدية المهيمنة لِحَرْفيْ: الباء (مآربي، مغاربي، غاربي) ثم الرّاء (الضر، المر) فمن دلالات حرف الباء: الاتساع والامتلاء، ومن دلالات حرف الراء: الفزع والخوف، فيكون الربط بينهما وبين الحالة النفسية للكتاب واضحا، مناسبا: امتلأت نفسه قهرا، واتسع عنده الشعور بالاضطراب، فتولد عن ذلك الإحساس بالخوف والفزع، وراح يضرب في الأرض قاصدا بغداد بعد أن أعياه طرق الأبواب، واستجداء ذوي المناصب، ألمْ يُصرِّحْ فيما بعد:
"فما مررتُ بأمير إلا حللت ساحته أتمطر راحته، ولا وزيرا إلا قرعت بابه، وطلبت ثوابه، ولا بقاض إلا أخذت سيبه، وأفرغت جيبه"(45).
إنها نفثة صدر مكلوم، وخاطر مهموم، يُغَلفُها قناع اليقين بجدارة الذات الحاكية، (ذات الكاتب) وبِحتْمية الاستجابة لها وتلبية احتياجاتها وفي هذا ما فيه من الإحساس، ربما، بالتعويض عن تلك العلة التي استدعت مغادرة الديار، والجنوح إلى الأسفار.
يحُط الوهراني الرحال ببغداد، فيجري قلمه في وصفها، وينقلها عبر الحرف مشهدا رائقا، تهفو إليه القلوب، وتتوق إلى رؤيته الأبصار، كيف لا؟ وبغداد جنة على الأرض بشهادة جامع الشبه بينها وبين الجنة السماوية.
إنها الاحتفالية المختزلة بطبيعة بغداد وساكنيها، الذين سيختار الوهراني واحدا منهم ويخوض معه الكلام في جلسة، يثريها الحوار وتتنوع فيها الأخبار. وسأقتصر على خبر بداية الجلسة. يروي الوهراني خبر جلسته مع الشيخ أبي المعالي في الدكان، فيقول:
"... حتى جلست عنده. فحين نظر إلي، ورأى أثر السفر علي، بدأني بالسلام، وبسطني بالكلام، وقال: من أي البلاد خرجت؟ وعن أيها درجت؟ فقلت من المغرب الأقصى، والأمد الذي لا يحصى، ومن البلد الذي لا تصل إليه الشمس حتى تكل أفلاكها، وتضج أملاكها، ولا القمر حتى يتمزق سرجه، ويتداعى برجه، ولا الرياح حتى يحجم إقدامها، وتحفى أقدامها، قال: كيف معرفتك بدهرك، ومن تركته وراء ظهرك؟ فقلت: أما البلاد فقد دستها وجستها، وأما الملوك فقد لقيت كبارها وحفظت أخبارها، وقد كتبت في ذلك مجلدا وتركت ذكرهم فيه مخلدا. فأي الدول تجهل؟ وعن أيها تسأل؟ فقال: أول ما أسألك عن دولة الملثمين وأبناء أمير المسلمين، فقلت هيهات، يا بُعْدَ من مات خمدت نارهم، وبادت آثارهم، واسْوَدّ نادِيهم، ومَلكَتْهُمْ أعادِيهِم:
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم * * بعد الممات جمال الكتب والسير
أفِلتْ بُدورُها، فتعطلـت صدورهـا * * وطلعت نحوسها، فغابت شموسها
أمست خلاءً، وأمسى أهلها احتموا * * أخْنَى عليْها الذي أخْنَى على لُبَدِ(46)
يتموقع هذا المقتطف بين بِنْيتيْ: الوصف والإخبار، ويمتطي صاحبه صهوة لغة عصره، فيُحَلّقُ في أجواء من الكثافة التعبيرية في شكل مساءلة موزعة على محورين: محور الاستبدال؛ ومحور التوازنات الصوتية. والمحوران يُطَعِّمان النص بتشكيلٍ مُتميز، لا يمكن تجاهل انتظامه، ولا التغاضي عن مُؤهِّلاتِ أدبيته.
من محور الاستبدال مثلا، أنتقي عبارة: "ولا الرياح حتى يحجم إقدامها، وتحْفى أقدامها" إذ يظهر التشكيل الاستعاري المعتمد في بنية الألفاظ المستعملة والدالة على طبيعة العلاقة بين المستعار، والمستعار له في قالب تصويري، يساهم الخيال في بنْينَته، لقد نسب الكاتب أفعالا إلى الرياح باعتبارها صدارة الشّخْصَنة والتّجسيم، فإذا بها وهي العنصر الطبيعي المشاكس، إن صح القول، لا تصل المغرب الأقصى حتى تستكين، واستكانتها وليدة تقهقر عُتوّها، وكأنها تفقد بين المحطة والمحطة قوتها بالتدريج، حتى إذا وصلت، حدث عندها ما يعمق معنى الشّخْصَنة والتّجْسيم: يحجم إقدامها/ تحفى أقدامها.
إن صورة الإحجام عن الإقدام، كصورة أولى، تنتقل بالدلالة من المعنى العادي إلى المعنى المتخيل، يمنح الرياح خصائص كائن حي، أنهكته الانطلاقة، لأنه استثمر فيها كل جهده، ولم يحسن توزيع هذا الجهد على المراحل المتبقية للوصول إلى نقطة الهدف المنشود، فتسلل إليه الضعف، وانقلب حماسه إلى إحجام، وإقباله إلى نكوص.
وقد تكون هذه الصورة إنما أنشئت للدلالة المؤكدة على بعد المسافة بين المشرق والمغرب الأقصى وعلى تحمل الكاتب مشاق التنقل إلى بغداد وكأني به ينقل معاناته، واشتداد الأمر عليه، ويسبغهما على الرياح، وهو ما يسمح بخلق نوع من التوحد بيْنه وبيْن أحد العناصر الطبيعية المعروفة بقلب الأجواء، وتسليط الاضطراب، وخلخلة الاستقرار. إنه الوجه الجامع بين ما يتولد عن التنقل وبين ما يتولد عن حركة الرياح، وتلك هي الصورة الثانية التي ستأخذ برقاب صورة مكملة حين يقول الكاتب عن الرياح: "وتحفى أقدامها"، إذ بهذه الصورة، تتعزز دلالة الإنهاك واشتداد الأمر على طالب الوصول إلى هدف معين حين يشمر عن ساعد الجد، ويخوض غمار الكدح، وتتقاذفه الصعاب، وتدحرجه الهزات إلى أن يصل وقد نفد ما عنده، وحفيت قدماه، وخارت قواه، بعدما كانت عاتية مجلجلة تمتلك مؤهلات الإقدام قبل بأن تحفى الأقدام.
أخلص إلى أن الوهراني أجرى نشاطا استعاريا، وظف من خلاله عنصر الاستبدال كطريقة صوغ جمالية تنبئ عن ارتباط العلاقة بفعالية السياق، حيث يبرز نوع من التناسب المنطقي بين فعل تنقل المسافر من مكان إلى مكان بعيد داخل زمن معين، وبين ما ينجر عن ذلك من تذبذبات وانزلاقات، تقلب وضع الاستقرار، وتحيله إلى وضع من الاضطراب والمناوشة، إن صح القول، خاصة إذا كان هذا التنقل خاضعا لشروط تنقلات القرن السادس هجري (استعمال الدابة كوسيلة مواصلات معتمدة) وتلك، لعمري، إحدى مواصفات الاستعارة المقبولة في نقدنا العربي القديم، ألم يقول ابن رشيق: "وخير الاستعارة ما بعد وعلم في أول وهلة أنه مستعار، فلم يدخله لبس"(47).
فعلا من أين يأتي اللبس إذا جمعنا بين صورة اضطراب المتنقل وبين صورة اضطراب الطبيعة في شكل رياح؟ كلاهما يغادر من محطة إلى أخرى، كلاهما يجعل (الحركة) ديْدنه، كلاهما انطلاقته قوية، وتوقفه دلالة تعب وفقدان لقابلية المضي. إنه السكون الذي يعقب الحركة، والاستقرار الذي يعقب الاضطراب، وبعبارة مختزلة، إنها تجليات الدورة الحتمية لثنائية البدء والختم لمختلف المجسمات الكونية.
ومن التوازنات الصوتية، الضاربة في أعماق النغمية، أنتقي قول الكاتب في الحديث عن دولة المرابطين (الملثمين): "خمدت نارهم، وبادت آثارهم، واسود ناديهم، ملكتهم أعاديهم" ولإبراز النغمية في هذه الفواصل، قد يجدر توضيحها في الترسيمة الآتية:
هذا التوزيع المُبنْينُ على التوَازُنيْن الصوتي والكمّي، ساهم في تشكيل إيقاعي داخلي منتظم، ينبئ عن نية جمالية مشرئبة إلى عرضٍ موسيقي باعتبار أن "الموسيقى في العمل الأدبي، شعرا كان أم نثرا، ليست عنصرا ثانويا، بل هي من عناصره الجوهرية التي لا تكتمل أدبيته من دونها"(48).
ولعله يمكن القول وبعد محاولة القراءة لهذا النموذج من كتابات (الوهراني) أن الرجل حافظ على ذوق عصره، وبنى طقوسه التعبيرية على نسيج لغوي منسجم؛ يجمع بين تصوير المتخيل وعرضه في قالب فني، مُؤسَّس على المُعاودة الإيقاعية والتي يُمَظهرُها نظام الفواصل، وتكرار الحروف كالراء (نارهم/ آثارهم) وكإبدال (نايهم/ أعاديهم) عِلْماً بأن "جبروت الحرف يذهب بعيدا، وبسبب طغيانه (...) فإنه يؤثر في اللغة ويبدلها، وهذا لا يحدث إلا في اللغة الأدبية المتألقة"(49)، التي تعتمد أسلوبا منمقا مختلفا عن الأسلوب العادي، منفلتا من المعيار إلى فضاء الوظيفة الجمالية الخاضعة لقانون انتهاك المألوف وإسقاط خصائص المحسوس على خصائص المجرد في تلوينات أدائية دالة على دربة ومران عند منشئها.
* * *
الإحالات
(1) الأبلخ: هو العظيم في نفسه، الجريء على ما أتى من الفجور. ينظر محمد بن منظور، لسان العرب مادة(بلخ)، ج3، ص9.
(2) أوطارا، مفرد وطر، حاجة وغرض.
(3) محمد الطمار، تاريخ الأدب الجزائري، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981، ص30.
(4) المرجع السابق، ص36.
(5) بكر بن حماد التاهرتي الدر الوقاد، تقديم وجمع وشرح محمد بن رمضان شاوش، ط1، المطبعة العلوية، مستغانم، 1966، ص87.
(6) عبد الملك مرتاض، الأدب الجزائري القديم: دراسة في الجذور، دار هومه، ص71.
(7) ينظر بحاز إبراهيم: عبد الرحمان بن رستم، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1990، ص18 وما بعدها.
(8) محمد الطمار، تاريخ الأدب الجزائري، ص43، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1981.
(9) المرجع السابق، ص47.
(10) المرجع السابق، ص48.
(11) مؤسس دولة الأغالبة: إبراهيم بن سالم التميمي.
(12) رابح بونار، المغرب العربي تاريخه وثقافته، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1986، الطبعة الثانية، ص105.
(13) ينظر محمد الطمار، تاريخ الأدب الجزائري، ص60، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981.
(14) المرجع السابق، ص61.
(15) المرجع السابق، ص71.
(16) رابح بونار، المغرب العربي تاريخه وثقافته، ص301.
(17) المرجع السابق، ص318.
(18) محمد الطمار، تاريخ الأدب الجزائري، ص90، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981.
(19) رابح بونار، المغرب العربي تاريخه وثقافته، ص271.
(20) ينظر محمد الطمار، تاريخ الأدب الجزائري، ص147.
(21) عبد الله حمادي، دراسات في الأدب المغربي القديم، دار البعث، ط1، 1986، ص107.
(22) محمد الطمار، تاريخ الأدب الجزائري، ص157، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981.
(23) المرجع السابق، ص197.
(24) المرجع السابق، ص180.
(25) مختار حبار، شعر أبي مدين التلمساني، مطبعة اتحاد كتاب العرب، دمشق، 2002، ص9.
(26) المرجع السابق، ص130.
(27) محمد الطمار، تاريخ الأدب الجزائري، ص213، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981.
(28) المرجع السابق، ص252.
(29) المرجع السابق، ص295.
(30) المرجع السابق، ص305.
(31) المرجع السابق، ص307.
(32) محمد بن ميمون الجزائري، التحفة المرضية تقديم وتحقيق الدكتور محمد بن عبد الكريم الجزائري، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الجزائر، 1972، ص121 (المقامة الثانية).
(33) المصدر السابق، ص114.
(34) أبو القاسم سعد الله، أشعار جزائرية، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1988، ص65.
(35) المرجع السابق، ص40.
(36) المرجع السابق، ص20-21.
(37) محمد الطمار، تاريخ الأدب الجزائري، ص312، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981.
(38) المرجع السابق، الصفحة نفسها.
(39) أبو القاسم سعد الله، أشعار جزائرية، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1988، ص139.
(40) المرجع السابق، ص132.
(41) أبو القاسم سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي من القرن 10 إلى القرن 14، ج1/482، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1988، ص139.
(42) أبو القاسم محمد الحفناوي، تعريف الخلف برجال السلف، 2/343 موفم للنشر، 1991.
(43) الوهراني، مناماته ومقاماته ورسائله، ص1-2، تحقيق إبراهيم شعلان، محمد نغش مراجعة عبد العزيز الأهواني، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1968.
(44) تودورف، الشعرية، ص38، ترجمة شكري المبخوت ورجاء سلامة، الدار البيضاء، المغرب 1987.
(45) الوهراني، مناماته ومقاماته ورسائله، ص1.
(46) المصدر السابق، ص2.
(47) ابن رشيق المسيلي القيرواني، العمدة في صناعة الشعر ونقده، 1/270 تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية، القاهرة، 1955.
(48) عبد القادر هني، نظرية الإبداع في النقد العربي القديم، ص220-222، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1999.
(49) فرديناند دي سوسير، محاضرات في الألسنية العامة، ترجمة يوسف غازي ومجيد النصر، ص47، المؤسسة الجزائرية للطباعة، 1986.