ملاحظة عامة: يستخدم الباحث مصطلح اللغة بمعنى الكلام.
في النقد الأدبي التطبيقي، لا بد من منطلق نظري، موجز ودقيق، تسترشد به العملية النقدية في تحليل النص الأدبي. وسيكون هذا المنطلق النظري نفسه عنصراً أساسياً في عملية قراءة النص النقدي وتقويمه من القراء حين تتم مقارنة المنطلقات النظرية بالعمليات الإجرائية المتحققة في المتن النقدي. ومن هنا، فإن علينا أن نقرر أمرين أساسيتين: الأول، إن وظيفة النص الأدبي ترتبط ارتباطاً وثيقاً ومتداخلاً مع المعاني التي يعبر عنها، ومع الآثار النفسية والجمالية التي يروم منشئ النص الأدبي وقوعها في نفس المتلقي؛ والثاني، إن لغة النص الأدبي هي منطقة الاشتباك والتفاعل العظمى التي تتمظهر فيها مكونات النص الأدبي الشكلية والفنية والدلالية والثقافية كافة. واستناداً إلى سبق، يمكننا القول إن دراسة النص الأدبي ونقده ينطلقان أساساً من اللغة وذلك لمعرفة سلوكها النصي وتقدير حاجة النص من المادة اللغوية بالاستناد إلى اللغة نفسها. وهذه مسألة في غاية الأهمية لأن وجود فائض لغوي في أي نص أدبي ينال من أهمية شكله الفني وقيمته الفكرية، ويخفض من قدرته على الإيحاء الدلالي في المتلقي والتأثير عليه جمالياً، وهو بذلك يقلص من شعرية ذلك النص كائناً من يكون قائله وكيفما كان الشكل الفني الذي صيغ فيه.
وفي حالة الشعر عموماً، والشعر الغنائي على وجه الخصوص، فإن وجود الفائض اللغوي في النص الشعري يلحق به ضرراً بليغاً. فالشعر، في أحد تعريفاته، هو فن عرض الرؤيا المجازية المكثفة للتجربة الذاتية والاجتماعية من خلال اللغة المكافئة الموجزة. وهكذا نعثر على سمة جوهرية، أو قل ترابطاً سببياً، يتمظهران في التناسب الدقيق والحساس بين طبيعة التجربة وفعل التخييل الانفعالي والعقلي المرتبط بها من جهة، والأسلوب اللساني المعبر عنها الذي يتخذه الشاعر وسيلة وغاية في الوقت نفسه من جهة أخرى. ولم يكن هذا الموقف النقدي إلا نتيجة قراءة واعية في آليات الخلق والتشكيل الأدبيين وكشف عن مبدأ أدبي حيوي وفعال في مجال تلقي الأدب. ولا نغالي إذا قلنا إن رحلة الشعر الغنائي عبر التاريخ إن هي إلا رحلة نحو مزيد من الإيجاز والكثافة التعبيرية، واختزال الزوائد والابتعاد عن الفائض اللغوي لتحقيق أقصى طاقة تعبيرية في النصوص الشعرية.
ومن الناحية التاريخية، بحث النقاد والبلاغيون العرب القدماء في مصطلحات الإيجاز والاطناب والمساواة، وهي ثلاثة مصطلحات مترابطة، في قسم من البلاغة القديم أطلقوا عليه اسم (علم المعاني). فقالوا في تعريف الإيجاز إنه أداء المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة، كما ذهب بضعهم إلى التسوية بين البلاغة والإيجاز فقالوا:" البلاغة الإيجاز" لأن الأخير يدل على فصاحة المتكلم إذ يثير عقله ويحرك ذهنه ويدفعه للإسهام الإيجابي في إعادة تخليق التجربة. وهو رأي يقترب إلى حد ما من مفهوم حديث هو مفهوم (الفجوة مسافة التوتر) عند الناقد كمال أبو ديب، ذلك المفهوم الذي ينطوي على تحريض ضمني لتخليص النص الشعري من فائض اللغة.1 إذن، فإن الإيجاز "ظاهرة لغوية عامة، تشترك فيها اللغات الإنسانية حين يميل الناطقون بأية لغة إلى حذف بعض العناصر المكررة في الكلام أو حذف ما يمكن للسامع فهمه اعتماداً على القرائن المصاحبة، حالية كانت أو عقلية أو لفظية."2 وهذا يعني أن الإيجاز ظاهرة لسانية لا تقتصر على الأدب لأن الإيجاز مبثوث في كل استعمال للغة. وعلى الضد من الإيجاز هناك مصطلح الاطناب، وهو زيادة اللفظ عن مقتضيات التعبير عن المعنى. ويمكن القول إن الاطناب وفائض اللغة من رواسب الإنشاء الشعري التقليدي التي تنبذها النزعة الحداثية في الشعر وإن وقع فيها كثيرٌ من شعراء الحداثة. أما المساواة فهو تكافؤ اللفظ والمعنى فيما لم يكن فيه داعٍ فني أو فكري للإيجاز أو الاطناب.
وينبغي لنا أن نشير إلى أمر مهم، ألا وهو اختلاف دلالة مصطلح "الفائض اللغوي"، الذي نستخدمه هنا لأول مرة، عن مصطلح الاطناب كما فهمه البلاغيون القدماء؛ فالمصطلحان لا يتطابقان في الدلالة تماماً، ولا يشتركان في الوظيفة، فليس الفائض اللغوي مرادفاً للإطناب؛ فإذا كان الاطناب "زيادة اللفظ على المعنى لفائدة" كما يقول ابن الأثير،3 فإن الفائض اللغوي يعني وجود مادة لغوية (قد تكون كلمة أو عبارة أو حتى مقطعاً كاملاً) من دون فائدة وظيفية أساسية أو علاقة عضوية تستلزم وجود هذه المادة اللغوية؛ وبذلك يكون الفائض اللغوي ذا وظيفة جوهرية تتعلق بمفهوم الشاعر فيما يخص طبيعة الإنشاء الشعري. ولا يعد الفائض الدلالي الذي يحدثه الفائض الكلامي ذا فائدة إن لم يؤدِ إلى إحداث تأثيرات فنية وفكرية وجمالية أخرى ترتبط بوظيفة النص الأدبي وبآليات توليده ونموه. لذلك فإن هذه المادة اللسانية الفائضة تمثل عائقاً أمام النمو العضوي والدلالي للنص؛ وتضيف إلى بنيته زوائد مما يجعل منه مترهلاً ومثقلاً ما يمكن الاستغناء عنه. وهذا مما يئدُ هدف الشاعر أو المؤلف في تصاعد وتيرة صيرورة التجربة الأدبية، وتعميق مسارها، وإثراء ما تنطوي عليه من كشوف حدسية ومعاني وصور مبتكرة من أجل تفعيل أثرها الفني والجمالي الشامل عند القارئ. ومن الآثار الضارة العميقة لوجود هذه المادة اللغوية الفائضة أن تنتقل آليات بناء النص من النمو العضوي الفعال والمتدرج والمتصاعد إلى حالة من التكرار والنمو الكمي السكوني. والحقيقة أن التجربة الشعورية في الشعر الغنائي والمعبر عنها شعرياً- وبحكم طبيعتها الزمنية اللحظية- تستلزم نمواً عضوياً متسارعاً في الإيقاع الداخلي من أجل تحقيق معانقة لحظة معاناة التجربة، وبهذا فإن التجربة الشعورية نفسها، ومن حيث كونها تجربة معيشة، تأنف من النمو الكمي والتراكم والامتداد في وتيرة واحدة. ولذلك يمكن القول إن الفائض اللغوي يقدم دلالة ضمنية على غياب رؤية واضحة أو فلسفة متكاملة للبناء الفني في الشعر.
وقد تحدث الشعراء والنقاد والمفكرون في شتى العصور والثقافات مؤكدين أهمية الإيجاز في الشعر وفي سواه من فنون القول. ويدفعنا توكيدهم على أهمية الإيجاز إلى استنباط نوع من الرفض الضمني للفائض اللغوي وإن لم يرد هذا المصطلح صراحة فيما قالوا أو كتبوا؛ فتصريحاتهم تنطوي، وفي تلميح هو أفصح من التصريح، على أن الفائض اللغوي يمثل عبئاً على النص الأدبي عموماً وعلى النص الشعري على وجه الخصوص. فهذا الكاتب والخطيب الروماني شيشرون Marcus Tullius Cicero يقرر أن "الإيجاز هو السحر الأكبر في البلاغة"، ويقول الشاعر الإنجليزي شكسبير "الإيجاز هو روح الطرافة والإبداع"4، ويذهب الفيلسوف نيتشه، وهو أحد أهم مفكري الحداثة، إلى توكيد أهمية الإيجاز حتى في الكتابات الفكرية والفلسفية والنثرية حين يقرر أنه "يطمح إلى أن يقول في عشر جمل فقط ما يقوله الآخرون في كتاب كامل"، ويرى الشاعر الأمريكي أدغار ألان بو أن للشعر مستلزمات أساسية أربعة هي "الإيجاز والموسيقى والمعرفة واللا عاطفيّة" فنلاحظ هنا أن الشاعر قد جعل الإيجاز أول هذه المستلزمات توكيداً على أهميته.5 وقد أنكر بو وجود القصيدة الطويلة مبيناً أنها ليست سوى عدد من القصائد القصيرة التي ألصقت مع بعضها على نحو متعسف. ويرى أنطون تشيخوف، وهو أحد كبار كتاب القصة والمسرح، "أن الإيجاز قرين الموهبة". ويكتب أحد الباحثين العرب عن فن الكتابة النثرية قائلاً إنها فن الإيجاز، فإذا كان المرء يجيد الكتابة، فهذا يعني أنه يجيد الاختصار.6 وإذا كان الأمر كذلك في الكتابة النثرية، فإن كتابة الشعر الغنائي تستوجب، على نحو أكثر إلحاحاً، الالتزام الدقيق بفن الإيجاز والتخلص من الفائض اللغوي. والحقيقة إننا لم نعثر إطلاقاً على قول واحد يمتدح الاطناب أو يجعله شرطاً من شروط البلاغة. والاطناب، كما نعلم، هو المصطلح الذي استخدمه القدماء، الذي قد يشترك دلالياً بشكل محدود مع مصطلح الفائض اللغوي لكنه لا يتطابق معه تماماً ويختلف عنه وظيفياً للأسباب التي ذكرناها. ومن هنا نستنتج أن الإيجاز أمر جوهري في كل أنواع القول في حين أن الفائض اللغوي من عيوب الكتابة الأدبية في الشعر والنثر. وبناءً على ذلك فإن مسألة تأرجح كثير من النصوص بين مزايا الإيجاز ومضار الفائض اللغوي تشير إلى اضطراب في وعي شروط الكتابة الأدبية في الأجناس الأدبية كافة لأنها لا تختص بجنس دون سواه، أو بتيار أدبي معين أو مرحلة أدبية معينة؛ فالإيجاز هدف يسعى له الشعراء والكتاب كافة في كل العصور والثقافات وإن كانت الأدلة المتحصلة من الفحص الدقيق لنتاجاتهم الأدبية تظهر لنا أنه يكاد يتعذر وجود نص شعري أو نثري لا يحتوي على فائض لغوي؛ بيد أنه، وفي مجال النقد التطبيقي، لا يمكن اتخاذ القول بوجود الفائض اللغوي في السواد الأعظم من النصوص الأدبية مسوغاً لتمرير كل ما يكتبه الشاعر أو الناثر؛ كما لا يمكن أن نقبل زعم الناقد بوجود هذه العلة في النتاجات الأدبية من دون ما يكفي من تحليل معمق للنصوص وأدلة نصية حاسمة. وبهذا الصدد، فإننا نعلم من تاريخ الأدب الحديث أن قصيدة الشاعر تي. أس. إليوت الشهيرة "الأرض اليباب"، التي تعد واحدة من أهم نصوص الحداثة الشعرية، قد خضعت لعملية مراجعة وتحرير على يد الشاعر إزرا باوند الذي حذف منها ما يقارب نصف النص الأصلي.7
إذن، نعود لنؤكد مرة أخرى على أن خطورة الفائض اللغوي تزداد في حالة الشعر الغنائي لأنه، من حيث الجوهر، شكل تعبيري وجداني عن لحظة عاطفية وحراكٍ نفسي وتوهج انفعالي قصيرة الأمد، لذلك فهي تستلزم التكثيف والإيجاز في التمثيل اللساني ولا تحتمل التمطيط والإطالة. فإن تحرينا تجليات هذه الظاهرة في بعض من النصوص الشعرية، نجد أن التجربة الشعرية العربية، قديماً وحديثاً، أظهرت بوضوح، ومن خلال نصوصها المختلفة (شعر الشطرين، شعر التفعيلة، قصيدة النثر)، ما يرقى إلى مستوى الأدلة على أهمية التكثيف والإيجاز؛ ويمكن لهذه النصوص أن تبين بجلاء ما يمكن أن يلحق بالنص من خسارات فنية وتعبيرية وفكرية نتيجة الوقوع في حبائل الفائض اللغوي وإغراء المطولات الشعرية. فمن أمثلة الشعر الغنائي المكثفة، قول الراعي النميري (ت 90 هجرية) في نص قصير من بيتين فقط:
وَحَديــثُها كَالقَطرِ يَســمَعُهُ راعٍ سِنينَ تَتابَعَت جَدبا
فَأَصاخَ يَرجو أَن يَكونَ حَياً وَيَقولُ مِن فَرَحٍ هَيا رَبّـــا
فنلاحظ هنا أن الشاعر، في البيت الأول، قد استثمر الكناية التصويرية المستمدة من بيئته البدوية حتى يحقق لنصه طاقة الكشف عن بعد نفسي دقيق هو لحظة استجابة الذات العاشقة لحديث المعشوق، ومن خلال هذه الكناية نفسها، أوجد الشاعر رابطاً بين الذاتي والموضوعي، أو الداخل والخارج. وفي البيت الثاني، أوجد الشاعر رابطاً لسانياً هو الفاء في (فَأَصاخَ ...) فمنح نصه تماسكاً نصياً cohesive tie من خلال الربط بين البيت الأول والبيت الثاني، مما أسهم في توسيع دائرة الأثر النفسي والجمالي للبيت الأول في القارئ وفي تعميقه أيضاً من خلال تصوير حركية نفس الراعي وما ينتابها من فرح وجودي وما ترجوه من ربها حين تصغي إلى صوت المطر كاشفاً عن أن التشابه الكنائي بين حالة العاشق في عشقه وحالة الراعي في تأملاته يسمو بالعشق والعاشق إلى مستوى التهجد الصوفي! وفي رأينا أن هذا هو المعنى التأويلي الأعمق لنص الراعي النميري الذي انماز بالقصر والكثافة والقدرة على الكشف والاستبطان، ومن ثم فقد حاز على مقدرة نصية كامنة في التأثير في المتلقي حتى ينقل حساسية التجربة المعبر عنها وأيضاً مداها الزماني القصير إلى مستوى جسد النص أو لغته وبالنتيجة إلى مستوى التلقي.
وهناك مثال آخر لأبي صخر الهذلي (ت 80 هجرية) يتمثل في قصيدة من 25 بيتاً حافظت على رشاقتها الأدائية من خلال وجود عنصر حكائي مستمد من التقاليد الشعرية العربية في الوقوف على الأطلال من جهة، ومن خلال عمق الصورة المتخيلة وطرافتها التخييلية من جهة ثانية، وإن لم تخل من علة الفائض اللغوي. ومن الأبيات التي اشتملت على الإيجاز المفضي إلى تعميق التعبير عن الحالة الوجدانية ثلاثة أبيات لم ترد متوالية في النص الأصلي يقول فيها:
تكادُ يدي تندى إذا ما لمستُها وينبتُ في أطرافِها الورقُ الخضرُ
وإني لتعروني لذكـراكِ هـزة8 كـما انتفضَ العصـفورُ بلله القطرُ
عَجِبْتُ لسعي الدهرِ بيني وبينها فلـما انقضى ما بيننا سـكنَ الدهـرُ
فالصورة الشعرية في البيت الأول فيها صيرورة تخييلية ذات نزعة موغلة في الطرافة حتى ليمكن أن تعد صورة سوريالية جاءتنا من أكثر من ثلاثة عشر قرناً من الزمان. ونلاحظ أن هذه الصورة نابضة بالحياة والغرابة فهي بالنتيجة مثيرة للدهشة، والدهشة كما نعلم إحدى أهم مزايا الشعر الحقيقي. وقد ولَّدت الصورة معادلاً موضوعياً لحالة عاطفية ونفسية يتعذر التعبير عنها، ومن ثم نقلها للمتلقي، بغير هذه الطريقة التخييلية المتفردة؛ فتحقق بذلك أحد أهم شروط الشعر في كونه تعبيراً عما لا يمكن التعبير عنه إلا في صيغة الشعر. وجاءت صورة البيت الثاني الطافحة بالجمال والحركية لتؤكد حضور العلاقة الجدلية بين الذات والطبيعة، أو الداخل والخارج. فصدر البيت الثاني يعبر عن حركة الذاكرة النفسية الداخلية للشاعر بالارتباط مع حضور صورة الحبيبة ليأتي التشبيه الصوري في عجز البيت ليعبر، موضوعياً، عن ارتباط هذه الحركة النفسية بصورة انتفاضة العصفور حين تبلله قطرات المطر. ويعمق البيت الثالث كل هذه الدلالات ويمنحها بعداً كونياً حين يحولها إلى حالة من الدهشة الذاتية والتعجب الميتافيزيقيين من سعي الدهر، وهو من المفاهيم الفلسفية الشاملة، بين العاشق والمعشوق، وهما يعيشان حالات العشق العينية الملموسة، فإذا انقضى ما بينهما، سكن الدهر! ورغم ذلك ، فإن هذه القصيدة لا تخلو مما يمكن حذفه من الأبيات؛ فعلى سبيل المثال، هناك ثلاثة أبيات في نص القصيدة الأصلي غير التي ذكرناها سابقاً تقع بين البيت الثاني والبيت الثالث أعلاه، وهي:
تمنيتُ من حبي علية أننا على رمث في البحر ليس لنا وفرُ
على دائم لا يعبر الفلك موجه ومن دوننا الأعداء واللجج الخضرُ
فنقضي هموم النفس في غير رقبة ويُغرق من نخشى نميمته البحرُ
ونجد أن هذه الأبيات البينية قد اشتملت على شيء من التفاصيل الخبرية لكنها قللت كثافة شعرية البيت الثاني كما أنها مما لا يرتبط عضوياً مع البيتين اللذين جاءا قبلها وكانا متحدين في التعبير بصورة شديدة الإيجاز والكثافة عن لحظة عشق حسية وعاطفية استثنائية وصريحة، ثم ذلك الارتقاء بالعلاقة بين العاشق والمعشوق إلى مستوى الدلالة الكونية حين جعل الشاعرُ الدهرَ محض ساعٍ بينهما، فمن الواضح أن هذه الأبيات البينية الثلاث تنزل بعلياء التعجب من سعي الدهر بين الشاعر وحبيبته إلى حضيض تفاصيل ما هو أقل شأناً وأهمية. ومن هنا يمكننا القول أن الأبيات البينية الثلاثة لا ترتقي إلى مصاف ما ذكرنا من أبيات عزلناها من النص الكامل للقصيدة، فهي تغرق في تفاصيل تقلل من كثافة التجربة ومن تأثيرها في المتلقي؛ لذلك فهي مما يمكن عدُّه فائضاً لغوياً والاستغناء عنه من دون أن تفقد القصيدة شيئاً من قيمتها الفنية والجمالية والفكرية إن لم تكسب، من خلال هذا الاستغناء، شيئاً من الرشاقة والفاعلية التعبيرية والجمالية.
وقد ارتبطت علة الفائض اللغوي بنهج المطولات كما مثلتها المعلقات أساساً،9 وهذا مما أدى إلى أن تعاني التجربة الشعرية العربية الحديثة من وهم المطولات الشعرية؛ فكتب جبران خليل جبران مطولته المعروفة (المواكب) في بداية ثلاثينيات القرن الماضي وفيها رؤيا فلسفية غنائية وجودية وفيها أيضاً تكرار لا نفع فيه. وكذلك فعل السياب في مطولاته (الأسلحة والأطفال) و(المومس العمياء) و(بورسعيد). ونلاحظ هنا أن المطولات، بطبيعتها، تخلق بيئة مناسبة لازدهار الفائض اللغوي المستند إلى التكرار الكمي لأن آلية توليد النص الشعري في القصائد الطوال آلية كمية في جوهرها؛ فتنشأ، نتيجة ذلك، ظاهرة النمو الكمي في النص مما يرهق التجربة/القصيدة بالزوائد أو الأبيات أو السطور أو حتى المقاطع الفائضة فيدخل النص الشعري في حيز التمحل والافتعال والوقوع في الترهل؛ ومن هنا، يمكن القول أن حذف هذه الزوائد الكلامية سيجعل النص الشعري أكثر رشاقة ومقدرة على التأثير في القارئ الحصيف والناقد.
وفي منتصف القرن الماضي، كانت تجربة شعر التفعيلة مرتبطة بإزاحة الفائض اللغوي في النص الشعري الغنائي أو الوجداني. وحين كتب السياب مطولته (أنشودة المطر) كانت وسيلته الأساسية في التغلب على مشكلة الفائض اللغوي تكمن في تنويع الموضوعات بين مقطع وآخر حتى ليمكن القول أن القصيدة عبارة عن مجموعة من القصائد القصار في حين كانت قصيدة (النهر والموت) أكثر كثافة وتأثيراً لأنها قصيدة قصيرة.
وبعد ذلك، جاء ظهور قصيدة النثر ليؤشر مرحلة جديدة من مراحل اكتناز النص الشعري وتخلصه من وهم المطولات كما في قصائد أنسي الحاج ومحمد الماغوط وسركون بولس وبول شاؤول ... إلخ. ولما كان المشهد الأدبي يحتوي دائماً الظاهرة الأدبية الإيجابية ونقيضها، وبسبب من تأثير المعلقات، فإن القصائد الغنائية المطولة لم تختفِ تماماً من المشهد الشعري العربي الحديث، فقد ظهرت بعض القصائد المطولة على يد شعراء كبار مثل أدونيس في (هذا هو اسمي)، وهي من قصائد النثر العربية المهمة التي حققت كثافة تعبيرية كبيرة اعتماداً على ذكاء الشاعر وطاقته الفكرية والتخييلية والثقافية مما جعله يتجنب كثيراً من عيوب الفائض اللغوي للتجربة الشعرية الغنائية المبنية على العاطفة الذاتية المحضة، وأيضاً من خلال التحول إلى مزيج من التجربة الذاتية/النفسية والثقافية والاجتماعية والفلسفية مما أتاح للشاعر المقدرة على بناء نص شعري مركب ومكثف في الوقت نفسه وإن احتوى على شيء من الفائض اللغوي. ويمكن أن نجد ظاهرة الفائض اللغوي ماثلة بقوة في واحد من أهم مؤلفات أدونيس، وهو (الكتاب) الذي سنفرد له دراسة مستقلة.
واستناداً إلى هذا المهاد النظري الموجز، سوف ننهض بمغامرة قراءة مجموعة الشاعر جبار الكواز (أراكِ حيث لن تكوني هناك) التي صدرت في العام 2017. 10 وسوف نبدأ بالعنوان المكون من خمس كلمات فقط. فنقول إن كلمة/جملة (أراكِ) تنطوي على إيجاز فرضته اللغة لأن من طبيعة اللغة العربية أن تسمح بصوغ كلمة واحدة هي في الوقت نفسه جملة مكونة من الفعل (أرى) وفاعله (الضمير أنا) والمفعول به (كِ) المخاطبة، وهذا النوع من الإيجاز لا يحسب للشاعر أو الأديب لارتباطه بطبيعة اللغة نفسها. ولما كان مفهوماً أن العنوان يمثل جزءاً ذا أهمية خاصة في أي نص أدبي حديث،11 ونظراً لقلة كلمات العنوان فإننا سنفاجأ أن هذا العنوان لم يسلم من علة الفائض اللغوي؛ والحقيقة أن العنوان برمته فائض لغوياً لأنه يكاد يكون تكراراً لعبارة وردت في مجموعة سابقة للشاعر هي (أقول أنا وأعني أنت) حيث نقرأ "وأنا أراكِ /// حين لم تكوني هناك".12 وإذا أقررنا بحق الشاعر في أن يكرر ما يشاء ويغير ما يشاء، فما وجه قولنا أن العنوان الجديد يعاني من علة الفائض اللغوي؟ في الحقيقة، نجد أنه كان على الشاعر أن يحذف الكلمة الأخيرة (هناك) ليصبح العنوان (أراكِ حيث لن تكوني)، فلو فعل ذلك لكانت الدلالة أكثر شمولاً وبالتالي فهي أكثر عمقاً وتأثيراً لأن حضور المخاطبة سيكون شاملاً لكل مكان يراه الشاعر حتى في حالة غيابها من كل الأمكنة، ولكن كلمة (هناك) الموجودة في العنوان لم تفد النص شيئاً، بل على العكس، فهي ظرف مكان محدد، وقد أدى وجودها في العنوان إلى تضييق الدلالة المكانية المشار إليها أصلاً في كلمة (حيث) الرابطة حين حصرت الرؤية في مكان بعينه (هناك). ولا نحسب أن الشاعر أراد لدلالة العنوان أن تكون بهذا الضيق! وسنلاحظ أن الشاعر سيصرح بما اقترحناه من حذف حين يقول في موضع آخر قائلاً: "بتُّ أراكِ في كلِ مكان" ص41؛ وهذا مما يقع في نقض دلالة العنوان المركزي الذي نجده يتكرر مرة أخرى في آخر الصفحة 40 حيث نقراً "لأراكِ حيث لن تكوني هناك"!
وحين نلتفت للمجموعة، نلاحظ أن الشاعر قد أنجز إجراءين فنيين مهمين: الإجراء الأول يتمثل في أنه استثمر الطباعة فأوجد مستويين تعبيريين استخدم الحرف العادي في بدايات بعض النصوص ثم أعقب ذلك باستخدام الحرف الأسود. وإذا كان هذا الإجراء الفني يقترح قراءة كل نص من هذه النصوص على أنه متصل ومنفصل في الوقت نفسه، فإن ذلك لم ينجح في منع الفائض اللغوي من التسلل إليها كما سنبين لاحقاً؛ والإجراء الثاني تمثل في أن الشاعر أدمج العنوان بمتن النص الأول الطويل الذي شغل 121 صفحة من المجموعة، فجعل القسم الأول الذي شغل (110) صفحات تحت لافتة أو عنوان داخلي هو كلمة (أراكِ) وهي الكلمة أو الجملة المكونة من الفعل والفاعل والمفعول به وترتبط بالذات الباثة للرسالة الشعرية، ثم وضع القسم الثاني من النص الذي شغل (9) صفحات فقط تحت عبارة (حيث لن تكوني هناك) وهي الجزء الثاني من العنوان لترتبط بالأنثى المخاطبة. ويمكن تفسير هذا الإدماج العضوي بين العنوان والمتن، وهو إجراء فني شكلي، على أنه تعبير كنائي عن الانفصال بين الذات الباثة للرسالة الشعرية، وهي ذكر، والذات المخاطبة، وهي أنثى؛ وأيضاً يمكن عدَّه نوعاً من الانحياز للذات الرائية والباثة للرسالة الشعرية التي استحوذت على أغلب المادة اللسانية للنص (حوالي 91% من النص)، بينما لم يترك النص للذات للمخاطبة الماثلة في قوله (حيث لن تكوني هناك) سوى ما نسبته حوالي أقل من 9%. والحقيقة إن حضور المخاطبة سلبي في الغالب الأعم، فهي لا تتحدث إلا قليلاً. وهذا يؤشر نوعاً من الهيمنة الذكورية التي هي أحد أهم أسباب إنشاء المطولات الشعرية في الشعر العربي الحديث لعلاقته الواضحة بمفهوم الفحولة الشعرية القادم من رحم التراث الشعري العربي القديم. ومما يدعم القول بالانحياز ضد الأنثى في النص أن الذات الباثة للرسالة الشعرية، حين فصلت العنوان إلى جزأين، اختارت الاستحواذ لنفسها على الفعل (أراكِ) وهو جملة تامة ويمكن أن تكتفي بذاتها، وتركت للذات الانثوية العبارة الظرفية (حيث لن تكوني هناك) وهي عبارة لا تتمتع بالاستقلال ولا تعدو عن كونها من المتعلقات التي لن تفهم من دون العودة إلى الفعل؛ وهذا نسق ضمني ذكوري عميق ومهيمن في النص. على أن تحليلنا هذا وما ترتب عليه من تفسير للنص يستند إلى قياس ظاهري مستمد من معاينة طريقة توزيع المتن بين جزئي العنوان وذلك بوصف أن أفعال المنشئ الأدبي ذات غايات محددة؛ فكيف هي الرؤية الداخلية في المضامين الماثلة في المتن؟ نلاحظ هنا أن أغلب مادة المتن مكرسة للتعبير عن رؤيا الذات الذكورية الباثة للرسالة الشعرية في حين تم تغييب صوت الذات الأنثوية المخاطَبة بصورة شبه كاملة. فالذات الذكورية هي المتحدثة في متن النص الأول الطويل وفي بقية النصوص. وبذلك يمكن القول إن هناك فائضاً لغوياً ذكورياً واضحاً بإزاء شح لغوي أنثوي لا يمكن تجاهل دلالاته الثقافية.
في المتن، وتشمل كلمة المتن هنا النصوص المبثوثة بين دفتي المجموعة فضلاً عن النص القصير المطبوع في صفحة الغلاف الأخير، نجد أن النصوص جميعاً تنتمي إلى الشعر الغنائي الذي تعبر فيه النفس عن حالات وجدانية معينة باستثمار المخيلة. وهذا الأمر تثبته حقيقة أن التجربة المطروحة في أغلب نصوص المجموعة تعتمد على التأمل في العلاقة الثنائية بين الأنا الذكر والآخر الأنثى أساساً. وقد يظهر الآخر الذكر في لمحات تعبيرية قصيرة مثل (الأصدقاء الخلب) و(الأصدقاء الجوف) اللتين ظهرتا في مواضع عدة في تكرار ذي دلالة أسلوبية ونفسية جلية.13 ونلاحظ هنا أن عبارات من مثل: "أصدقاء جوف لا حول لهم إلا بخذلانك" ص 21، أو "أصدقاؤك المنتشرون كالجراد" ص.17 تقدم لنا قضية حجاجية تقتضي سماع حجة هؤلاء الأصدقاء؛ وهذه منطقة اشتغال ليست شعرية! وتذكرنا عبارة (أصدقاء جوف) بعنوان قصيدة تي. أس أليوت The Hollow Men"" أو (الرجال الجوف) التي نشرها في العام 1925، وعبر فيها عن هجاء التجربة الوجودية والحضارة الغربية برمتها من خلال استثمار الخطاب الجمعي "نحن الرجال الجوف" "We are the hollow men"، فلم يفصل الشاعر نفسه عمن يصفهم بالجوف، وهذا يختلف تماماً عما فعله شاعرنا الكواز حين استخدم هذه العبارة ليفصل نفسه عما تنطوي عليه صفة (الجوف) من معنى سلبي وليطلقها شتيمة لهجاء أصدقائه وللتعبير عن خلافات ذاتية مع الآخرين؛ وهنا يكمن الفارق الرؤيوي الجسيم بين شاعر وآخر. ومن الواضح إن هذه الإشارات المتكررة لـ(الأصدقاء الخلب) و(الأصدقاء الجوف) هي من الفائض اللغوي لاعتبارين أساسيين: الأول إنها دخيلة على الثيمة الأساسية للنصوص التي وردت فيها، والثاني إن قيمتها الفنية والفكرية قد سقطت بالتكرار. ومن مظاهر الضرر الذي يلحقه التكرار لثيمة معينة مع مقتضياتها من المفردات الفائضة، أن الشاعر يلتقط لحظة خصبة متفردة وموحية هي لحظة التقاط الصورة الشمسية حين ينفرد من يأخذ صورة مع المصور، فلا يكتفي باستجلاء ما تنطوي عليه من طاقة شعرية موحية وفاعلة حين يعمد إلى إثارة قضية الأصدقاء الجوف بألفاظ جديدة أشد قسوة، وباستخدام البنط الأسود قائلاً:
(ثمة نثار من أصحاب خونة/ شعراء مرد/ كثيرون ممن/ علمتهم الرماية فثقبوا عيني بحسدهم/ وهجوني بقوس غيرتهم) ص 121
وفي ظني أن هذه النمط التعبيري وشيء مما سبقه، وشيء مما وليه على الصفحة 122 الذي يتحدث فيه عن التلاميذ الذين علمهم الشعر واكتشف أنهم (مخلصون للخيانة) وعن "المدنيين الذين يتمتعون بلذائذ الغلمان" تكرار لثيمات حجاجية لم ينجح الشاعر في معالجتها فنياً على نحو يجعل منها تنتسب للشعر الحديث وليس إلى شعر الهجاء التقليدي، لذلك فهي فائض لغوي بامتياز.
يمكن القول إن الفائض اللغوي قد يظهر في نص واحد بعينه، ففي النص (36) الصفحات 96-99، تتجلى ظاهرة الفائض اللغوي حين يعمد الشاعر إلى استخدام واو العطف، وهي الأداة التي تستخدم عادة في الإضافة الكمية، أربعاً وعشرين مرة، ويتبع ذلك باستخدام ثلاث واوات متتابعة قائلاً:
(عفواً نسيت أشياء أخرى ما زالت في/ قبضة شفتي ../ آسف جداً لنسياني المتكرر في نصوصي)
ومن الواضح أنه يمكن إنقاص عديد العبارات والصور، وهو 24 عبارة وصورة، إلى الثلث أو أقل من ذلك، ويمكن أيضاً تغيير تسلسل العبارات تقديماً وتأخيراً من دون أن يتأثر النص سلباً، وكذلك يمكن أن يزاد في عددها لتزداد بدانة النص. وتكون هذه الإجراءات الثلاثة ممكنة لأننا لا نعثر في النص على أسباب واضحة تمنعنا من أحداث تغيير في النص بالنقص أو الزيادة أو تغيير الترتيب، وهذا يجعلنا نقرر أن نمو النص كمي وليس نوعياً. بمعنى، إن بناء النص يفتقر إلى تصور فني أو فلسفي يحدد طاقة النص الإيحائية ووظيفته الجمالية بالارتباط مع حجم المادة اللغوية المكونة له، ولنتذكر هنا مقولة نيتشه عن شبقه لأن يقول في عشر جمل يقوله الآخرون في كتاب كامل.
وتبقى القصيدة القصيرة المطبوعة على الغلاف الأخير ولم تظهر في المتن ولم يضع الشاعر لها عنواناً أو رقماً، متفردة بكونها حافظت على شروط البناء الشعري المكثف، فكان أن أنتجت هيكلاً فنياً مكافئاً لهدفها التعبيري والجمالي من دون فائض لغوي يذكر.
ونعود مرة أخرى إلى الثيمة الأساسية الخصبة للعلاقة بالأنثى؛ تلك الثيمة التي تعبر عن عاطفة متأججة ولوعة وقلق وجودي نجدها ماثلة في النصوص، وقد اغتالها التكرار والدوران في موضوع واحد فكانت النتيجة أن آلية توليد الصور الشعرية وتوليد النصوص كانت ذات جوهر كمي في الغالب الأعم. فلو عدنا للنصوص الموجودة في القسم المعنون (أراكِ)، وعددها (42) نصاً، فسنجد أن الطاقة التعبيرية للصور تقوم على التراكم الكمي الناتج من اللعب باللغة ولأجل اللغة. ومن أمثلة هذا التكرار الكمي أن الشاعر أعاد تدوين جزء كبير من النص ذي الرقم (1) الموجود في الصفحات 5-6-7 في نص آخر يحمل الرقم (38) والموجود في الصفحات 104-105، وذلك بعد اختزل المادة اللغوية المطبوعة بالبنط الأسود، المكونة من (11) سطراً، الموجودة في النص (1) وحور في بعض العبارات الأخرى. فنقرأ:
ها قد مضت سنوات
وأنت تفركين السلوى بالخوف
تتعثرين بحجارة في طريق نمل
أو
بظلال خاتل في قوس قزح
لم تتهجي أسراري بعد
أسئلتي العطشى تقلب رزنامة الموتى
لتعين نفسها على الإجابة
وما عادت
تنفك في الهروب من جنة اصطياد الوقت
أريد الآن
أن أوضح ما لم يكن في حسباني
فسنواتي التي مضت ولم تسألني يوماً عنك
فهلا سألت:
(هنا يبدأ النص بالبنط الأسود)
(جداراً متى اتكأت عليه؟
قدحاً حطمته في عاصفة جنون
ورقاً_الأوراق كثر_ ألوانها تمسح أيام الأسبوع
بلا عطلة أو جنون
دفتراً أسنت كلماته فصار حقلاً لبكاء أصم
مقهى غادره المطر نكاية بالأوهام
بيت شعر له الاسماء الحمقى كلها
جيرانكم وهم يترصدون خطى خيالاتهم بخطى
الغرباء
أمي فقبرها دارس في حديقة البلدية
أبي الذي بح صوته وهو يبكي كربلاء)
والآن
الآن فقط
هل عرفت من أنا؟
لقد ديف عمري بالخسران
ولم يعد لائقاً لملاعب الرياح
كل ما أكتبه في هذه الأيام
لا طعم له في هذه الأيام
بسواك
ونقرأ في النص رقم (38) في الصفحتين 104 و105 الآتي:
سنوات مرت
وأنت تفركين السلوى بالخوف
تتعثرين بحجارة في طريق سراب
أو. ...
بظلال خاتل في قوس قزح
لم تتهجي أسراري
ولم ألقنك عَلَني ما أورثه ابتعادك عني
الأسئلة العطشى
تقلب (رزنامة) الموتى لتعينني على الإجابة
الإجابة . ...
ما عادت ... ما عادت تنفعك في
الهروب من جنة اصطياد الوقت
هل عرفت من أنا؟!
رجل ديف عمره بالخسران
لم يعد لاعباً في مروج الرياح
كل ما كتبه في أيام محنته
لا طعم لهُ
بسواك13
فالملاحظ هنا أن التشابه الذي يكاد يصل حد التطابق بين النصين (1) و(38) يظهر بجلاء أن الشاعر نفسه قد قام بإجراءين نصيين يتمثلان في الآتي: أولاً أنه كرر أغلب المادة اللغوية المدونة في المقطع (1) فأعاد تدوينها في المقطع (38) ، وهو ما يمثل فائضاً لغوياً لا جدال فيه، والثاني أن الشاعر نفسه أثبت وجود مادة لغوية فائضة حين عمد إلى حذف الجزء المدون بالبنط الأسود، الموجود بكامله في المقطع (1)، من المقطع (38)، فيكون بذلك قد أقر أن هذا النصيص فائض لغوي. وقد يقول أحد أن إعادة التدوين أمر مقصود فلا تبخس الناس أشياءها وابحث عن مسوغات نصية لما فعل الشاعر! فأقول: إن وجود النصين شبه المتطابقين مع الحذف في (38) والتغييرات الطفيفة الأخرى التي وقعت12 تدل دلالة جلية على الخروج بالمدونة الشعرية من صيغة التعبير الغنائي وجمالياتها إلى صيغة المقارنة العقلية ومحاولة فك شفرة الألغاز المبثوثة فيها؛ وهو الأمر الذي يزري بالطبيعة التخييلية للشعر الغنائي وينزل بالتجربة الشعرية إلى مستوى من التمحل ويخرج بها من التعبير الوجداني والجمالي إلى التعبير الحجاجي والعقلي.
ولسوف يكرر الشاعر الثيمة الأساسية التي هيمنت على النص الأول (أراكِ حيثُ لن تكوني هناك) في النص الأخير بين دفتي الغلاف، وعنوانه (أين أنت الآن؟)، بعد أن تركها وانتقل للكتابة عن (محاولة البصير في لا عين ترى)، و(محاولة مع ابن سيرين) و(محاولة في إرسال نداء أخير) و(محاولة في ترميم ذاكرتي)، و(سيرح) اليهودية الأخيرة التي لم تغادر الحلة وتوفيت فيها، ونصوص أخرى، فيكتب في في (مطر في الذاكرة) قائلاً "وأنا أوقد حروفي لمرآك /// حين لن تكوني هناك" ص 167، وأيضاً في (أين أنتِ الآن؟) فيقول: "كيف لي أن أراكِ في ذاكرة نافذتي المثقوبة /// أو أصعد إليك /// لألمسك حيث لن تكوني هناك" ص 183. وهذا دليل نصي لا مراء فيه على الفائض اللغوي الذي هو نتيجة تكرار ثيمة شعرية تم استنفادها في القسم الأول من المجموعة فضلاً عن كونها تكرار لعبارة شعرية في مجموعة سابقة!
ومن أدلة الفائض اللغوي إنه يمكن حذف بعض النصوص في المجموعة النصية (أراكِ) المكونة من (42) نصاً قصيراً، ويمكن أيضاً تغيير مواضع بعضها وإعادة ترقيمها من دون أن يفقد النص شيئاً من طاقته الغنائية التعبيرية. وفضلاً عن ذلك، يمكن إدماج النص الشعري القصير المكثف المطبوع على الغلاف الأخير في أيما موضع من مجموعة نصوص (أراكِ) وإعطائه رقما تسلسلياً مناسباً، وليكن (6) أو (29) أو (40)، من دون حدوث مشكلة في بنية النص أو في التلقي لأن العلاقة بين هذه النصوص علاقة كم وليست علاقة نوع! ومن المعلوم أن العلاقة الكمية، وهي من لوازم الشعر التقليدي، تتحمل الحذف أو الإضافة من دون أن يطرأ تغيير جوهري على العناصر المكونة لهذه العلاقة، فمن الممكن أن نتحدث عن (12) كتاباً أو (21) كتاباً أو (29) كتاباً وتبقى العبارة سليمة لأنها تعبر عن مجموعة كتب بصرف النظر عن الزيادة أو النقص الكميين اللذين لا يحدثان تغييراً نوعياً في العبارة؛ ولكن، ماذا لو حذفنا عيناً من وجه شخص ما، كما هو الحال في الكائن الأسطوري (السيكلوب) في الأوديسة لهوميروس؟ أو أضفنا له عيناً ثالثة؟ مما لا شك فيه أن خللاً جسيماً سيحدث نتيجة تشويه وجه هذا الشخص. ولكن قد يقول أحدٌ إن الأثر الضار للفائض اللغوي أقل جسامة في حالة النص الأدبي، فنقول، نعم، هو كذلك لأنه أكثر خفاءً، لكنه يظل علة لا يستهان بها في آليات بناء النص؛ ومن ثم فهو يؤثر سلباً على الأثر النهائي للنص في المتلقي. وهذا لا يقلل من قيمة بعض النصوص المكثفة التي تخففت من عبء الفائض اللغوي، ومنها النص غير المعنون المدون على الغلاف الأخير؛ ولكننا نلاحظ أن هذه النصوص المكثفة قد فقدت شيئاً من أهميتها نتيجة وجودها مع نصوص تعاني من آفة الفائض اللغوي في مجموعة واحدة.
الهوامش والإشارات
- يرى كمال أبو ديب أن الشعرية "ليست خصيصة في الأشياء ذاتها, بل في تموضع الأشياء في فضاء من العلاقات" وهذه العبارة ليست سوى إعادة صوغ لنظرية النظم عبد القاهر الجرجاني. ولكنه يستثمرها لما يصطلح عليه بـ(الفجوة - مسافة التوتر) داخل النص الشعري. ينظر كتابه "في الشعرية" مؤسسة الأبحاث العربية، 1987. ص 135.
- محمد الأمين خويلد، "الإيجاز بحذف الاسم وشواهده من القرآن الكريم" بحث منشور في مجلة (الأثر) العدد 4، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ورقلة، مايس 2005، ص 89.
- ضياء الدين ابن الأثير "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" تقديم د. أحمد الحوفي ود. بدوي طبانة. دار نهضة مصر. (د.ت) القاهرة. ج2، ص 344. وللفائدة نشير إلى دراسة د. ياسين الأيوبي "الاطناب في اللغة والبلاغة – أقسامه وأغراضه" المنشورة في موقع شبكة الفصيح:
http://www.alfaseeh.com/vb/showthread.php?t=5173
- وردت عبارة "الإيجاز روح الطرافة والإبداع" على لسان بولونيوس، في المشهد الثاني من الفصل الثاني من مسرحية (هاملت) لشكسبير. ونصها باإنجليزية "Brevity is the soul of wit"
- نقلاً عن مقالة "أدغار ألان بو ونظرية الشعر" ينظر:موقع سعدي يوسف،
- ينظر كتاب ربيع مفتاح، "زوايا الرؤية: قراءات في القصة القصيرة" وكالة الصحافة العربية (ناشرون) القاهرة، 2016.
- ينظر (ت. س. إليوت يتحدث عن فنه الشعري) في مجلة (حوار) العدد الأول، نوفمبر 1962، وهو نص مقابلة أجراها معه الشاعر الأمريكي دونالد هول في العام 1959. وقد سأله إن كان باوند قد حذف أجزاءً من قصيدة (الأرض اليباب) فأجابه قائلاً: "أجل، مقاطع بكاملها ..." الصفحات 40-51. وكذلك ينظر: Eliot, T. S. (1971) The Waste Land: A Facsimile and Transcript of the Original Drafts Including the Annotations of Ezra Pound Edited and with an Introduction by Valerie Eliot, Harcourt Brace & Company, ISBN 0-15-694870-2
- هناك قراءة أخرى لهذا البيت إذ يكون على النحو الآتي:
وإني لتعروني لذكـراكِ فترة كـما انتفضَ العصـفورُ بلله القطرُ
- تتسم المعلقات والقصائد الطوال القديمة كافة بظاهرتين مرتبطتين على نحو وثيق بالفائض اللغوي؛ وهاتان الظاهرتان هما: إمكان حذف بعض الأبيات من دون أن يفقد النص شيئاً من قيمته الفنية والفكرية، والثانية هي ضعف العلاقة العضوية الترابطية بين كل بيت والبيت الذي يليه مما يفسح المجال لإعادة ترتيب أبياتها وتغيير مواضع بعض الأبيات، ولن يفقد النص شيئاً ذا أهمية.
10. جبار الكواز (أراكِ حيث لن تكوني هناك) دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة، 2017.
11. جبار الكواز، (أقول أنا وأعني أنتِ) دار الفرات للثقافة والإعلام، الحلة، 2015. ص 44.
12. نلاحظ أيضاً أن المتن أورد لفظة (نكاية) مكررة لأكثر من 22 مرة مما يمثل ملمحاً
أسلوبياً ذا دلالة نفسية جديرة بالدراسة.
13. هناك ملاحظة كتابية هي أننا أحصينا (مئات) من الأغلاط في كتابة الهمزة أو الألف اللينة أو التنوين أو بعض الحركات في النص ألأساسي (أراكِ حيثُ لن تكوني هناك)، وفي النصوص الأخرى كافة باستثناء نص "نكاية بـ(عين ميم)" المؤلف من جزأين (1) و(2) في الصفحات 171-176 الذي جاء مشكلاً بدقة متناهية. فإذا كان تشكيل النصوص وتحرى الدقة في تدوين الحركات وسواها من لوازم التدوين الشعري الصحيح، فلماذا جاءت أغلب نصوص المجموعة غفلاً من هذه المزية؟ وإذا لم يكن ذلك مهماً، فلماذا الاهتمام بنص واحد فقط؟ وأرجو ملاحظة أنني حين نقلت شواهد من المتن قمت بمعالجة هذا الخلل. وهناك أيضاً خطأ إجرائي يتمثل في عنوان نص "نكاية بـ(عين ميم)" فتتساءل: من هو (ميم عين) هذا؟، وتقول في نفسك: ربما كان الترميز لاسم المخاطب بـ(عين ميم) مقصوداً لغايات فكرية أو جمالية أو أية غايات أخرى، وإذا بك تفاجأ بان النص سرعان ما يكشف الاسم الصريح لـ(عين ميم)، فإذا هو (عزرا مناحيم)!
14. من هذه التغييرات التي لم تفلح في إخفاء ملامح التراكم الكمي في هذه المدونة الشعرية، على سبيل المثال لا الحصر، قول الشاعر في مفتتح النص (1): "ها قد مضت سنوات ..." وفي مفتتح النص (38) "سنوات مرت ..."حيث تبدو العبارة الثانية أكثر رشاقة من العبارة الأولى؛ وفي موضع آخر من النص (1) نقرأ قوله: "تتعثرين بحجارة في طريق نمل" التي تحولت في النص (38) إلى "تتعثرين بحجارة في طريق سراب"، وأيضاً قوله:: "لقد ديف عمري بالخسران، ولم يعد لائقاً لملاعب الرياح" فتحول هذا الكلام في النص (38) إلى "رجل ديف عمره بالخسران، لم يعد لاعباً في مروج الرياح" في خروج بالكلام من صيغة (أنا) المتكلم إلى صيغة الآخر (هو) الموصوف من الخارج مع تغيير طفيف في العبارات؛ وهو تغيير يثير مسألة ثبات المادة اللغوية المعبرة عن تصورات ذاتية في النص رقم (1) وبقائها على حالها في النص رقم (38) مع اختلاف البؤرة النفسية في كلتا الحالتين. وهكذا يبقى نشوز هذا الفائض اللغوي واضحاً تماماً؛ ولم نجد له مسوغاً فنياً أو فكرياً.