عتبات القراءة:
"رماد اليقين"عتبة ثلاثية الأبعاد؛ فهي من جهة دالة على الديوان الثالث للشاعر المغربي محمد بلمو، وهي من جهة أخرى دالة على قفل هذا الديوان بما أنها خاتمته .. فهل في هذا التنظيم ما يدل ويميز ويضيف؟ مما يحمي وطيس الأسئلة، بعدما تغمر الدهشة الوعي القارى، فتستحيل نشوة الشعر شهوة من الأسئلة؛ فما الذي يرفع قصيدة ما إلى منصة العنوان ثم يحيلها ويؤجلها إلى آخر الديوان؟ أهنالك استراتيجية ما -واعية أو غير واعية- اقتضت من الشاعر "محمد بلمو" أن يؤجل هذه القصيدة إلى آخر الديوان ويعنونه بها في نفس الآن؟ أم إن الأمر كله محض توضيب وتنظيم اقتضاه منطق الإخراج والطبع.. لا أكثر؟
وهي من جهة ثالثة، محفل استمالة، ومبعث قلق، وموئل أسئلة ومدرج إرباك.. ولعلها بهذه الأبعاد الثلاث، حققت لنفسها فتنة الجمال، بما أن الجمال يربك.. الذات الواقفة أمامه..وفتنة الغواية بما أن الشعراء يتبعهم الغاوون، فما الذي تنماز به عن غيرها..؟
"رماد اليقين" الديوان:
القارئ لديوان "رماد اليقين"، ينتهي إلى خلاصة واضحة هي؛ أن الديوان تنتسج قصائده الطوال، التي تغطي القسط الأكبر من الصفحات،[i]على منوال الأسلوب الخبري، بغض النظر عن ضربه وفائدته، مع بعض الأساليب الإنشاىية الطلبية -خصوصا الاستفهام- العابرة لبعض قصائد الديوان[ii] مدرجة مرة أو مرتين هنا وهناك، وهي معدودة على أصابع اليدين.. في الوقت الذي لا تنبعث فيه قصيدة "رماد اليقين" إلا من جمار الأسئلة المسترسلة، والاستفهامات المتواصلة، بغض النظر عن دلالاتها الاستلزامية، وكأن الذات الغاصة بالأسئلة فاضت -ذات لحظة- لغة على جنبات ديوان..
"رماد اليقين" القصيدة:
يفتض بياض الصفحة سؤال/سطر "أمتيقن"[iii] الذي يقرع الأذان، فيسيخ له الوعي قبل السمع.. ثم يتوالى على طول القصيدة بترداد عال جدا،إحدى عشرة مرة/سطرا بين ثمانية وأربعين سطرا شعريا، وتستدعي تداعياته الشعورية، ما يعادل أربعة أسطر شعرية، تستتبع السؤال، حتى يبلغ مداه/ توتره .. عند نهاية كل مقطع، يتحدد بصريا بعلامة استفهام من جهة، وببياض أسفله من جهة أخرى، ويبلغ عدد هذه المقاطع تسعة مقاطع من جهة ثالثة، وهي الجهات (الثلاثة مرة أخرى!) التي لها دلالتها في سياق إنتاج فائض دلالي وفيض جمالي..
بناء المقطع في "رماد اليقين":
فانتهاء المقطع بعلامة استفهام بدل السطر أو الجملة الاستفهامية، تنزاح بالأسلوب عن حدوده المألوفة والمشتركة والتقريرية، إلى ضفاف إيحائية، تؤكد شساعة دائرة الأسئلة من جهة، واتساعها لتشمل المألوف واليومي (أمتيقن أن النقر على هذا البياض الكهربائي يطهو خبزا لجوعك؟/ أمتيقن أن الشموس التي طلعت ليست سرابا وأنك ستؤدي فاتورة الكهرباء في موعدها؟/ أمتيقن أنك لن تتسلل بين دروب ضيقة كي لا يجرك صديق إلى مقهى رديء../ أمتيقن.. وأنك لن تقف أمام بائع السردين بلا أمل؟ أمتيقن..وأن ماء عنيفا لن يجرف مدنا أخرى؟) ويتوغل في ثناياه إلى أكثر التفاصيل اليومية بداهة (أمتيقن أن لك أحبة وأصدقاء وأن الحب ليس سحيقا وأن الصياح سيهدي إليك غير الذئب) بل تغمر بقعة الأسئلة المناطق الأكثر صلابة والتصاقا بوعي الإنسان ووجوده (أمتيقن أنك أنت، وأن البلاد بلاد، وأن الأرض تدور كما كانت، وأن الشمس طالعة كل صباح؟).
مما يكشف عن انزياح (ثلاثي الأبعاد) بلاغي وتركيبي ودلالي، يشكل عملة تداول الديوان/ القصيدة، بوجهيها الجمالي والدلالي، ذلك أن مساءلة الرتيب واليومي والمكرور، واستعادته من عمق البداهة والهشاشة التي يطويها الزمن بسرعة في ثنايا تكراره وتدفقه، لإعادة صياغة الوعي به والتعرف عليه من جديد، لهو أصل العمل الإبداعي، الذي ينم عن تزاوج رفيع بين شاعرية جامحة وشعرية طافحة، أنزلت من رحمها وليدا/قصيدة تفيض بالجمال النابع من مدى توغل الخيال في تفاصيل الواقع لدرجة أسطرته، ومن مدى اتساع دائرة السؤال وشساعته في مقابل الإجابة، لدرجة احتوائه. فالقراءة البصرية للتوزيع الهندسي يكشف عن استبداد الكتابة (حجم المقطع) وتسيدها مقارنة بالفراغ (البياضات الفاصلة)، وقد أسلفنا أن المقطع كله سؤال، مما يدل على اشتعال وطيس السؤال واتساع قطره، مقابل ضآلة الجواب وهشاشة يقينه.. ولعل في ذلك جمال مضاعف بما يخلقه من متعة تأويلية لسيروراته، المتشكلة من ثنائيات: بصري/لغوي، واقعي/أسطوري، منفلت/مستعاد، عابر/مؤبد، مستشكل/بدهي، سؤال/إجابة تختزلها ثنائية أنطولوجية كبرى هي: حرقة السؤال/ رماد يقين، أو بالأحرى لهيب السؤال "رماد اليقين"، لأنه محرك الوجود والتاريخ لا نهايته، ومولد المعنى ومنتج الدلالة لا مستهلك الهش والمشترك والرتيب، إنه مبتدأ كل نهاية، ومبعث كل مآل، فالسؤال كينونة ووجود وفاعلية وطاقة، وتأبد، بينما اليقين، لحظي، عدمي، منفعل، إلى أفول، ومن أتاه اليقين لم يبق له إلا رماد الموت.
فقيمة المقطع في رماد اليقين زوجية: دلالية بما تنتجه من مضافات معنوية إلى لغة يومية، بسيطة، سهلة.. ومن معاني تبنيها من جديد خارج الحس المشترك، فتوسع من سيرورة الدوال وتغنيها. وجمالية، تتمثل في الهندسة المقطعية والشكل الطباعي والقراءة البصرية التي تنسجم مع المقروء مع التحيز، فتنتج الجمال على أكثر من مستوى وتتلذذ بها أكثر من حاسة.
وتجدر الإشارة إلى أن "رماد اليقين" وهو يطرح أسئلته الملتهبة، المتطايرة شواظا من أسطر القصيدة، لا يخرج عما هو يومي، ومتحيز، ومدرك، ومعطى، أي لا يخرج عن حدود الواقع المشروط بالحيز المكاني (الجبلي، الشوك، أمام بائع، مدنا أخرى، في الغابة) أو الإطار الزمني (موعدها، بداية، سياقات النزول، أول الحريق، كل صباح)، مما يؤكد انصباب اهتمام القصيدة على طرح الأسئلة الوجودية لا العدمية، واحتفائها بلهيب السؤال الفاوستي أكثر من الجواب الدوغمائي الغنوصي، فالأجابة تنسى بينما السؤال يبقى، والأجابة ممكنة في حدود وجود السؤال الذي يطرح عنها..
بنية السؤال في مقاطع "رماد اليقين":
السمة المميزة لبنية السؤال في مقاطع قصيدة "رماد اليقين" (عنوان الديوان وآخر قصيدة فيه) أنه ينحو نحو النفي (أمتيقن.. وأن بردا قارسا لن يجرك./ أمتيقن أن الشموس.. ليست سرابا/أمتيقن أنك لن تتسلل.. لن يخذلك في بداية../ أمتيقن أن الحروف لن تتهيب من.. وأن الصبح لن يتألم../ أمتيقن.. لن تتمادى في أحراقك.. وأنك لن تتيه.. لن تضيع.. وأنك لن تقف../ أمتيقن.. وأن ماء عنيفا لن يجرف../ وأن الجب ليس سحيقا) فهو،عدديا، يجتاح القصيدة عبر سبعة من مقاطعها(الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس والثامن) بينما تطغى بنية الإثبات على مقطعين اثنين فقط ( السابع والتاسع..) مما يؤكد دائما غلبة وهيمنة انتفاء اليقين الذي يترهن في السؤال ويتحين فيه، مقابل ثبات اليقين وكماله، الذي يغيب طوال سبعة مقاطع، أي طوال أيام الأسبوع، ولعل الرقمين سبعة وتسعة اللذان ساوقا هذين المقطعين (مصادفة على ما يبدو..) يدلان على الكمال والإطلاق والكلية.. لأنهما تضمنا دلالات استشرافية رؤيوية (سيمضي، سيهدي) وهي دلالات ليست من طينة العالم الإنساني، فالوعي الانساني لا يستطيع أن يخرق جدار الزمن نحو المستقبل، فهل يفعل شاعر ذلك!؟ لا،لأنه هو الأخر ابن تسع ويعيش ضمن سبع.. لذلك ارتدت به حرقة أسئلته الوجودية إلى النظر إلى نفسه (أمتيقن أنك أنت) وإلى الأفاق -ويخبرنا الفلكيون أن عدد كواكب مجموعتنا الشمسيةتسعة- (أمتيقن.. وأن الأرض تدور كما كانت.. وأن الشمس طالعة كل صباح؟).
ذلك كله يقود إلى القول بانتفاء اليقين وترمده على جمار واقع يذكي لهيب السؤال، ويطلقه في المدى الزمني (دلالات السبعة) والمكاني، (دلالات التسعة)، وإذا كانت كل مقاطع هذه القصيدة تنحو بالسؤال نحو النفي، نفي اليقين من حصول نفس التفاصيل الصغيرة (يطهو خبزا لجوعك، ستؤدي فاتورة الكهرباء.. وأن الحذاء.. لن تقف أمام بائع السردين..) يوميا، فإن هذه الرؤيا تتسع لتشمل الوعي بالذات (أمتيقن أنك أنت..) والوعي بالمكان (وأن البلاد بلاد..) والوعي بالزمان( وأن الأرض تدور.. وأن الشمس طالعة كل صباح؟) لتدك قلاع الدوغمائية، وتنفض رماد اليقين عن جمار الشك الواعي/الرؤيوي المغيبة.. بفعل تسارع اليومي وتكرار تفاصيله..
حصيلة القراءة:
إذن لا غرو، أن نجد الشاعر، "محمد بلمو" قد عمد ديوانه باسم "رماد اليقين" لما يفصح عنه هذا العنوان من موقف شعري، يمكن اختزاله في رؤيا وجودية تسائل تفاصيل الواقع اليومي، المعاد والمكرور، الذي بات يقينا، لكن من رماد، وتنفخ في جمار الشك الخابية لتشتعل من جديد.. فيكون هذا العنوان منطلق مختلف الممكنات الدلالية ومنتهاها.. ولاغرو كذلك، أن نلفي الشاعر يجعلها خاتمة عقد قصائده، التي وجدناها موسومة بطابع التقرير والخبر الذي مؤداه اليقين، صدقا وكذبا، لاحتكامه إلى الواقع، مطابقة ومنافرة.. ويختتم بالقصيدة "رماد اليقين" مساره النصي وسيرورته الدلالية والجمالية، فإذا كان الواقع ينطلق من السؤال وينتهي عند إجابة ما.. فإن الشعر ينطلق عندما انتهى إليه الواقع، لينهال عليه بمطرقته النتشوية، فيبين أن أقدام الرتيب والبدهي والمسلم به من صلصال، وأن يقينه هش قابل للإشعال والاشتغال، وما على الشاعر -الحق- إلا أن يكون كالفينيق أو كالرجل الفاوستي..أو أقرب من ذلك، يلبس نظارة"كارل بوبر" ويفنذ أقاويل الاستقراء شعريا "أمتيقن.. وأن الشمس طالعة كل صباح". ولذلك جاء "رماد اليقين" ممتدا على شكل ديوان يغلب عليه الخبر والتقرير والتيقن، وحدًّا على شكل قصيدة، متسائلة نفيا وإثباتا،يحدث شروخا في نهاية المطاف في هذا اليقين، لتعيد التفكير في العادي وتستعيد الوعي بالمكرور وتعاود صياغة إدراك المسلم به.. وتنفخ في جمار الشك الخابية تحت رماد اليقين اليومي، شعريا (على مستوى الديوان) وشعوريا(على مستوى الواقع)..
- كاتب وباحث في الجماليات وتحليل الخطاب