يكتب الناقد أن ما يطرحه تابوكي في الحقيقة هو سؤال الهوية، في عالم يسوده الاغتراب والالتباس، لأناس ضائعين بين عوالم يقودها الأقوى ويتسيَّد فيها الأشرار، لكأننا هنا في «سراب» أمام عالم مافيوي، لا قيمة فيه للإنسان الضعيف والغريب والمهاجر، والباحث عن معنى لحياته ومعنىً لوجوده، والباحث أيضاً عن مصيره وعمله ورزقه في محيط تتناهشه الضباع.

رحلة البحث عن الوجود

في رواية «سراب» للإيطالي أنطونيو تابوكي

هاشم شفيق

 

يبدو أن الكاتب والروائي الإيطالي أنطونيو تابوكي قد استغرقته مسألة البحث الوجودي، في جلِّ أعماله، وكرّس لهذه المسألة أكثر من عمل روائي، فروايته «إيزابيل» تقع ضمن هذه الدائرة التي تدور حول الكون والوجود الإنساني فيه، والحياة وما تتركه على الوجود البشري. إنه سؤال أبدي دائم، ويتجدّد مع سياق الزمن ودورته الأزلية حول العالم والوجود، سؤال كوني، ميتافيزيقي وأرضي معاً، وهو السؤال ذاته يتكرر منذ جلجامش، وحتى هذه اللحظات المغموسة بضوء الواقع، عن مصير الإنسان على هذه الأرض، عن الحياة ودوافعها، مع الكائن الإنساني الذي تتهدّده قضيتان ثنائيتان، وهما الحياة والموت، الولادة، ثم النهاية والخاتمة المُحتَّمة للإنسان الذي يولد ليواجه مصيره مع هذا العالم المُعقَّد والمتشابك والمليء بالتشظيات الحياتية والزمنية والكونية. إنه سؤال لطالما أرَّق الفلاسفة العظام منذ الأكروبول، أي منذ أرسطو وسقراط وأفلاطون، مروراً بالفلاسفة العمالقة، فلاسفة القرنين الخامس عشر والسادس عشر وصولا إلى بدايات القرن العشرين. سؤال أرق سبينوزا وشوبنهاور ونيتشه، وكانط وديكارت وهيغل، وصولاً إلى ماركس وسارتر وكامو، السؤال هو نفسه يدور بصيغ مختلفة، يدور ليتمنطق، ويتفلسف، عبر أفكار مثالية وميتافيزيقية، وجدلية، لاهوتية ودينية، علمية تارة، وطوباوية تارة أخرى.
ولكن رغم الذي تقدم، بقي لغز الوجود دائراً، ومستمراً، في كل فكرة وعمل فني وجمالي، أو في نص فلسفي وفكري ونظري وأدبي، وأنطونيو تابوكي يسير على خطى البير كامو، وغيره من الروائيين المبدعين الذين ابتلوا بسؤال الوجود، وهو هنا، أي تابوكي، يُدلي بنصِّه هو، نصُّه المغاير والمختلف والذي يدلف فيه من زاوية شخصية، جعلته يتبوأ هذه المكانة الروائية التي وضعته في مصاف الروائيين الباحثين عن معنى الوجود الإنساني، راسماً مصائر شخصياته، كما حدث مع المناضلة البرتغالية إيزابيل التي اختفت في ظروف غامضة إبان حكم الديكتاتور البرتغالي سالازار.

1
أما روايته «سراب» فهي تدور في دائرة الماندالا ذاتها، من دائرة صوب أخرى، وذلك يأتي عبر أجواء شبه بوليسية، كاشفة خبايا الشخوص الذين يتحرّون حول قضية أحدهم، بطريقة تحمل أسئلة وأفكاراً ومعانيَ، حول مصير لكائن مجهول الهُوية. إنّ ما يطرحه تابوكي في الحقيقة هو سؤال الهوية، في عالم يسوده الاغتراب والالتباس، لأناس ضائعين بين عوالم يقودها الأقوى ويتسيَّد فيها الأشرار، لكأننا هنا في «سراب» أمام عالم مافيوي، لا قيمة فيه للإنسان الضعيف والغريب والمهاجر، والباحث عن معنى لحياته ومعنىً لوجوده، والباحث أيضاً عن مصيره وعمله ورزقه في محيط تتناهشه الضباع، وفيه الغريب والضائع والمطارد يبدو تائهاً، لا أحد هناك من يحميه ويدافع عنه، إنه كائن منسي، فلا جدوى من تضييع الوقت في البحث عن جذوره وهويته وأرومته، ما دام هذا الكائن الذي سقط ضحية لفعل وحادث وواقعة ما، لا أصل له، وليس ثمة من يسأل عن مصيره المأساوي، ومآلات حياته التي انتهت، كما هو حال الضحية التي سقطت في رواية «سراب«.

تصل للمشرحة التي يعمل فيها سبينو، جثة مثل أي جثة، فيلفها ويُرقمها ويحشو البطن بالنشارة، إذا كانت مُشرّحة، هذا هو عمله، يحفظ الجثث في أماكنها الباردة المُخصّصة، بغية الاطلاع عليها، وهو منهمك ومُجدّ في عمله، يبتكر أحياناً أسماء خاصة للجثث، أسماء ممثلين، كونها تشبه أحدهم، ثم يأتيه خبر بأن جثة ستصله لفتى في الثالثة عشرة، وهو عامل يعمل بالسر، سقط من سقالة، الأب مفقود، والأم تعيش في سردينيا ولا يمكن لها أن تحضر أو تعود.

يعمل سبينو في منطقة قديمة، كلّ شيء فيها آيل للسقوط، المباني المتهرِّئة، والدكاكين العتيقة، والمقاهي والمطاعم المُرمّمة، والمنطقة الساحلية هذه، كلها تخضع للترميم والدراسات والأبحاث الأركيولوجية، كونها تشكل موقعاً تاريخياً، والمشفى القديم هذا الذي يعمل فيه سبينو لم يبق فيه سوى قسم التخدير والمشرحة.
جاء بالفتى أربعة فتيان من رجال الشرطة، يحملون الميت على نقالة، خامسهم كان جريحاً وينزف، في المشفى طبيب في الطابق العلوي مناوب، حدثه سبينو عبر جهاز التلفون ليعاين الجثة، الشرطي الجريح يُنقل إلى مستشفى آخر، عبر أمر من الطبيب، فالمكان الذي هو فيه لا يتوفر على الأدوات والإمكانات التي ستفي بعلاجه.
أنجز سبينو عمله، و«شعر بالإرهاق يغلبه، كما لو أنه يحمل على كتفيه تعب كل من حوله، وعندما خرج إلى الرواق، وجد انّ الرواق مرهقٌ أيضاً، وجدران ذلك المستشفى القديم مرهقة، بل حتى النوافذ، والمدينة، وكلّ شيء، وعندما حوّل نظره نحو الأعلى بدا أن النجوم كانت مرهقة».
هذه هي لغة الرواية، ولقد اجتزأت هذا المقطع لأدلل على اللغة الشاعرية التي يمتلكها تابوكي، لغة لها مفعول سحري باعث على الغرابة والإدهاش والشعرنة.
من هنا تتمتع الرواية بلغة دافئة، مرنة، تجنح إلى المتخيَّل لتمزجه بالحادثة الواقعية. كما تكشف الرواية عن ميزة ثانية، هي حسها الإثنولوجي الذي يهتم بالمجاميع البشرية الغريبة والوافدة، والمهاجرة والعاملة بطرق سرية، ومتخفية عن الأنظار، هرباً من الشرطة السرية، ومن الملاحقات والمضايقات التي تلاحق الكائن الأعزل والذي لا يحمل أوراقاً قانونية.
وبذا الرواية تسعى إلى كشف عالمها الغرائبي، العوالم المخبوءة، والأماكن السحرية للمدينة وما يحيطها من رموز حياتية وواقعية، ولكأن تابوكي يريد أن يكشف لنا جماليات المدن الساحلية، في رحلة البحث هذه، ولكأننا أمام أدب وسرود لها علاقة بفن الرحلة، رحلة الغور من أجل العثور على هُوية الشخص الذي قُتل بطريقة غامضة، ولم يسقط من السقالة، كما أخبرته الشرطة.
ولهذا تجد سبينو مرة في الميناء، ومرة في مبنى الصحيفة يتابع مع صديقه الصحافي شأن الجثة الغريبة، حتى يأخذه اللغز إلى محطات كثيرة، يُرينا فيها عوالم تلك الأماكن التي زارها، والتقى فيها من لهم علاقة ولو عابرة بتلك الجثة.

2
لهذه الشخصية والمقصود سبينو، صديقة وعلاقة شبه غرامية مع سارة، وسارة هذه تحب الأسفار، وترغب في رحلة طويلة، على متن إحدى السفن العابرة للقارات، لتنسى العالم، وتنغمس في عالم المتع الأرضية، شراب وطعام، وإمتاع النظر في المدن والجزر والمرافئ والأماكن الجديدة.
بيد أنّ سبينو المنهمك في عالمه، عالم الموتى والحوادث والمصائب البشرية، ليس لديه ذلك الوقت الرومانسي، لكي يتناغم مع أحلام وأفكار ومشاريع سارة الرومانسية، ولذا تجده شارداً، مشغول التفكير دائماً بمصيبة الفتى الغريب، ولذا تراه يجوب الموانئ والجمارك، ويراقب الحياة والزمن كيف يتدفق ويجري، يذهب إلى مطعم اعتاد تناول الطعام فيه، وبُعيد ذلك يتصل بصديقه الصحافي كورادو، ويدعوه إلى المطعم ولكن كورادو اعتذر بسبب انشغاله بمواد الجريدة، وحدثه عن إرسال صحافي إلى موقع الحادث، عله يستطيع الفوز بخبر عنه، ولكن كورادو أوضح بأن الكل يتملص من توضيح حادثة الفتى، ولم يستطع سوى الحصول على وثيقة مزورة له، ولم يتوصل حتى إلى معرفة اسمه الحقيقي.

في اليوم التالي، تظهر الصحيفة، ومن ضمن الأخبار المحلية، برز مقال لشاب صحافي يود الحصول على قصب السبق، فكتب مقالاً يوضِّح فيه أن شرطة مكافحة الشغب وتتكون من ستة عناصر، حاصرتْ شقة المجرمين، وفاجأت من يشغلها بكسر الباب، من أجل التحقق من أمرهم، ولكن الموجودين في الشقة بادروا بإطلاق النار عليهم وجرحوا شرطياً، ومن ثم أطلقوا النار على فرد منهم، وهو شاب في الخامسة والعشرين من العمر، ولاذوا بالفرار عبر الأسطح.
مضى سبينو إلى مبنى الصحيفة، فوجد بعض المعارف، لكن أحداً لم يهتم بمجيئه إلى هناك، حينها «فهم سبينو من هذا كله، أن ذلك الميت الذي كان يفكر فيه، لم يكن يهم أحداً في شيء، لأن تلك كانت ميتة صغيرة داخل بطن العالم الكبير».
رغم ذلك لم يعدم سبينو الأمل، فعاد يبحث عن أصل الميت من جديد، من هو؟ ومن أين أتى؟ ولماذا أطلق أصحابه عليه النيران؟ وسط تلك الأجواء الفاسدة والمجرمة، من عالم الميناء في ذلك الحي الشعبي، البحري المليء بالحوادث والفواجع المبهمة.
إن البحث عن هوية المقتول، شابه نوع من البحث الميلودرامي الذي ينحو مناح بوليسية، سيسجلها سبينو موظف المشرحة، في رحلة البحث هذه بعد غياب سارة في رحلة ما، سيجتهد هنا وهناك، ويذهب إلى مدن لها صلة بالموضوع، ينطلق من سان مارتينو إلى الخوري وإلى الخياط بويريو والمحاسب فالديني، ومن ثم إلى أناس لهم علاقة بصورة فوتوغرافية يظهر فيها الضحية، وهو صغير يرتدي سترة مفصَّلة، سيطارد سبينو اللغز، وكلما توصَّل إلى حل تلك الشيفرة، تتعثر رحلة البحث وتطول، فيعود لينكفئ، من رحلة البحث الوجودية هذه، تلك التي تكللت بالأسئلة الكثيرة عن معنى الحياة والموت في آن، وعن معاني الكائن الغريب، في أرض ليست أرضه، داخل عالم كبير تتحكم فيه قوى عليا بمصائر أناس بسطاء، باحثين عن الأمان والعمل والعيش في مدن غريبة وبعيدة.
لذا تبدو رواية «سراب» لتابوكي كأنها نص طويل، إنها رواية نوفيلا، مكثفة، وموجزة، وغير ثرثارة، وجاءت عبر ترجمة ناصعة ومقتدرة لنبيل رضا المهايني، في نقل العوالم والأجواء والتفاصيل الإيطالية التي حفلتْ بها الرواية.

أنطونيو تابوكي: «سراب»
ترجمة نبيل رضا المهايني
دار الساقي، بيروت 2017
110 صفحات.

جريدة القدس العربي