يكتب محرر (الكلمة) هنا عن هذا الكتاب الجديد، وكيف تتضافر فيه خيوط التاريخ الإنساني مع التاريخ الاجتماعي والثقافي والسياسي، وكيف يتبدى عبره المسكوت عنه في الواقع المصري، وهو يكتب ما جرى لمصر من خلال روايته لمسيرة حياة تلك «المولودة» في مفترق الطرق والمراحل والروافد الاجتماعية والفكرية معا.

وإذا «المولودة» سُئلت، بأي ذنب؟

صبري حافظ

طوال قراءتي لهذا الكتاب الجميل (المولودة: رواية نائلة كامل المولودة ماري إيلي روزينتال، القاهرة، الكرمة، 2018) لنادية كامل، كان يتردد في داخلي مع كل ضربة من الضربات الكثيرة والقاسية التي تتعرض لها طوال مسيرة حياتها، سؤال الآية الكريمة الاستنكاري «وإذا الموءُودة سئلت، بأي ذنب قُتلت» (سورة التكوير،8) ولكن بالصيغة المفتوحة التي جعلتها عنوانا لهذا المقال، وينبثق معها كل مرة سؤال جديد! بأي ذنب تتلقى كل هذه الضربات المصمية أحيانا، والمجانية دائما؟ ولماذا هذا التضييق عليها والتنكيل المستمر بها؟ وبأي ذنب تعاني الراوية في السجن، وفي الحياة معا؟ أهو حبها لمصر التي آثرت البقاء على أرضها والتزامها بقضاياها؟ أم تراها قيم الحق والعدل وغيرها من القضايا النبيلة التي آمنت بها ودافعت عنها؟ ولماذا هذا الغباء الذي يسعى لتبديد كل ما هو جميل ونبيل في مصر؟ أسئلة عديدة تنبثق عند كل منعرج من منعرجات هذه الحياة الثرية الخصبة.

لكن ما كان يمنع هذه الأسئلة من أن تصيبني بالغم والكدر، في هذا الزمن الردئ الذي تتنامى فيه دواعي الإحباط والاكتئاب، هو أن الكتاب يطرح في مواجهتها تلك القدرة الإنسانية على امتصاص الضربات ومقاومتها. والأهم من ذلك على النهوض بعدها ببراءة وعفوية، ودون ضغينة للاستمرار في الطريق.(1) وكأن مسيرة تلك الحياة الناصعة الجميلة في بساطتها وجلدها ترفدها بثقة في إنسانية الإنسان، وفي أنه لا يصح إلا الصحيح في مواجهة التردي والهوان! وبرهان على مقولة همنجواي الشهيرة «من الممكن سحق الإنسان، ولكن هزيمته غير ممكنة». لأنه برغم تعاقب الضربات وتلاحقها، ظلت «ماري/ نائلة» المناضلة المؤمنة بمسؤولية الإنسان عن مواقفه، وبقدرته على التصدي لكل ما هو خطأ من حوله منذ كانت في السادسة عشرة من عمرها، تتسم بصلابة نادرة يمكن دعوتها بالصلابة العفوية الهشة التي تستعصي برغم هشاشتها على ما يحيط بها من انكسارات.

بل إن الحكاية نفسها في سلاستها وتدفقها تشكل هي الأخرى ردها على ما يعج به الواقع من غباء وسلبيات؛ لأنها وقد انشغلت بدوافع كل حكاية وسياقاتها، تنطوي على قدرتها الخاصة على الاستمرار الناجم عن الوعي بصيرورة الحياة، وبما تتطلبه من اختيارات صعبة في بعض الأحيان. وهي اختيارات يبدو بعضها الآن، من خلال استراتيجيات تجاور الحكايات والسياقات عبر السرد المستعاد، وقد مر عبر مرشح الذاكرة وهدهدة الزمن وهو ترياق الأوجاع، وكأنه من أهم وثائق تاريخنا الاجتماعي والإنساني في السبعين عاما التي عاشتها صاحبة تلك السيرة. لأن نادية كامل تكتب، تحت سطح تدفق قصة الأم وعرامتها، قصة الأب في الوقت نفسه، وما تلقاه هو الآخر من ضربات متلاحقة، تلقاها بصبر وجلد ونزاهة وترفع عن التدني والصغار. أو بالأحرى قصة جيل تفانى في حب بلاده وكافح من أجل مستقبلها، وقدم لها أفضل ما لديه، ولكنه تلقى من نظم العسف العسكرية التي تلاحقت عليها الكثير من الظلم والجحود. ومع ذلك لم يدفعه هذا الظلم إلى التخلي عما يؤمن به، أو الانخراط في جوقة المثقفين الخونة الذين ينقلبون على مبادئهم من أجل ما يقدمه لهم النظام الحاكم من فتات عطايا مسمومة.

شكل الكتابة وبنيتها:
ولأن شكل أي كتابة وبنيتها لا تقل عندي أهمية عما تطرحه من رؤى وقضايا، فإنني أود أن أبدأ بتناول شكل هذا الكتاب وبنيته. فنحن هنا بإزاء كتاب يتعامل بشكل حر مع الزمن، دون أن يتخلى كلية عن تتابعه. حيث يبدأ تمهيده بصوت الكاتبة، وبعام 2001 العام الأول في الألفية الجديدة، والذي تواقت مع بلوغ صاحبة قصته السبعين، وابنتها/ كاتبة القصة الأربعين من العمر. ويعلن عن دافع الكتابة البسيط، وهو استنقاذ الحياة من براثن الضياع، لأن آفة حارتنا النسيان كما يذكرنا نجيب محفوظ. ولا ينتهي هذا التمهيد قبل أن نعرف أن صاحبة الحكاية قد ماتت، بعد أن أفرغت حمولة ذاكرة خصبة عامرة بالتجارب والحيوات في حجر ابنتها، وتركتها لها كي ترويها للحفيد الصبي، الفنار والهاجس وضابط نغمة الكلام: «نبيل على نبيل شعث»، الفلسطيني الذي تصب فيه كل الروافد التي جعلت فلسطين قبلتنا ومستقبلنا معا، كي يجد الحكاية حينما يحتاجها.(ص9)

هكذا تستهل نادية كامل هذا الكتاب الذي يكاد يكتب لنا جانبا بالغ الأهمية من قصة مصر في القرن السابق على لحظة القرار/ الكتابة تلك: لحظة بداية القرن الجديد عام 2001. ثم تمضي بعد ذلك في تقسيم الكتاب إلى ستة أقسام يوشك كل منها أن يكون كتابا قائما بذاته بتشابكاته وتداخل سياقاته وعرامة تدفقه؛ وإن تكاملت كلها في خلق هذا النسيج الذي تتضافر فيه خيوط عدد من العائلات التي تنحدر كلها من مجموعة من روافد متعددة وتتلاحم عبر زيجات مختلفة؛ يرودها الحب ويدفعها الإيمان بالقدرة على قهر العقبات لجعل المستقبل أكثر إشراقا من الراهن، ولجعل الحياة جديرة بأن تُعاش. حيث يعود بنا القسم الأول إلى ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته، ثم تواصل التقدم في الزمن إلى الخمسينيات في القسم الثاني، والستينيات في القسم الثالث، وصولا إلى السبعينيات في القسم الرابع، والثمانينيات في القسم الخامس. وإن كان استئثار أي عقد بفصل من الفصول، لا يحول دون تحرك الفصل في الزمن بحرية للوراء تارة، وللأمام أخرى. لكنها ترتد في القسم السادس والأخير، وهي تروي كثيرا مما دار في التسعينيات، إلى القرن التاسع عشر، حيث توافدت الجذور الأولى التي تفرعت عنها الأسرة من أربعة أركان الأرض. جذور أسرة راويتها «ماري/ نائلة» التي جاءت من أوديسا وإيطاليا، وجذور اسرة زوجها «سعد كامل» الذي جاءت جدته من القوقاز، وتزوجت في مصر وأنجبت أمه وأخواتها وأخوها فتحي رضوان، الذي كان في فترة الخمسينيات وزيرا في حكومة عبدالناصر، ولكنه لم يستطع مساعدة اخته التي كانت «تتلطم» على أبواب السجون كي توصل الغذاء لابنها المحبوس دون ذنب أو جريرة، سوى حب بلده والتعبير عن أشواقه لأن يكون لها مستقبل أفضل.(2)

هكذا تتحرك نادية كامل في هذا الكتاب في الزمن، صعودا وهبوطا، بحرية سلسة، هي بنت عمل الذاكرة المراوغ في تداعياتها وترابطاتها الحميمة. وهي تكتب هذا الكتاب الفريد والجديد في ثقافتنا العربية. لذلك يصعب تصنيفه أو إدراجه في أي جنس أدبي. وإن كان أقرب ما يكون إلى جنس السيرة الذاتية، أو السيرة التأملية التي تكتب حياة، أقرب الشخصيات إلى كاتبتها، ألا وهي أمها. وتكتب وإن بطريقة غير مباشرة سيرة سنواتها هي الأخرى معها، وسيرة حرصها على معرفة جذورها وهويتها. وأهم من هذا كله ماذا تعني لها مصريتها! صحيح أن نادية كامل حرصت على أن تترك أمها تتحدث في معظم أجزاء الكتاب بضمير المتكلم، وأتاحت لها أن تشير إلى ابنتها/ كاتبة سيرتها، نادية، بضمير المخاطب مرة، وبضمير الغائب أخرى. إلا أن التداخل بين الصوتين، صوت الأم، وهي صاحبة السيرة بلانزاع، وصوت الأبنة، كاتبتها، منح النص فرادته، وأثراه بزخم شديد الخصوصية والحميمية. فغرابة اللغة وارتباكاتها وتهشماتها في بعض الأحيان، هي بنت غرابة الحكاية، أو بالأحرى خصوبتها وغناها الذي تتراكب فيه اللغات كما تتراكب الأجناس والأعراق.

ففي الكتاب برغم لغته الخاصة التي تمتزج فيها الفصحى بالعامية وببعض المفردات الأجنبية، حميمية من نوع فريد، وفرت له قوة مدهشة على شد القارئ والتأثير فيه. وفيه أيضا «خفة دم» مدهشة لا تتوانى عن السخرية من الذات، أو رواية الكثير من القصص بطريقة تهكمية تعمق من دلالاتها وتوسع أفق تلقيها. لأنه يكتب لنا حياة تتسم بالثراء والتدفق والعرامة. ولكنها تكتب معها ومن خلالها قصة مرحلة غنية في تاريخ مصر، لم تكتب من قبل بهذا القدر من الحميمية والتفاصيل. تمتد من منتصف القرن التاسع عشر، وسيولة الحركة في الدولة العثمانية المترامية الأطراف وقتها، والحاوية للكثير من الأجناس والأعراق والديانات، وحتى نهاية القرن العشرين. وتكتب على مد هذه الرقعة الزمنية الطويلة شريحة اجتماعية أو بشرية أثرت المجتمع المصري وأغنت فسيفساءه المعقدة؛ من خلال التركيز على شجرتي عائلة الأم «ماري/ نائلة» وعائلة الأب «سعد كامل» والتي تمتد جذور كل منهما بطريقتها الخاصة إلى سيولة الحركة في تلك الدولة العثمانية. وتكشف من خلال كتابة تاريخ الشجرتين عن بعض الأدواء المتأصلة في الثقافة المصرية، وعن شيء من العنصرية التي جلبتها النزعة القومية من ناحية، وضيق أفق حكم العسكر وغبائه من ناحية أخرى.

تضافر المصائر وتشابك الحيوات:
وحتى لا يبدو هذا الحكم بتمييز ديني، أو عنصرية مضمرة أو متأصلة في الثقافة المصرية صادما، دعني أبدأ بذلك التوازي الذي تعقده الحكاية في قسمها السادس بين قصة أسرة الأب «سعد كامل» وكيف جاءت جدته لأمة «منيرة رضوان» شقيقة فتحي رضوان الشهير، هي الأخرى من القوقاز. حيث يقدم لنا النص قصة الأختين «حفيظة وصفية» اللتين جاءتا على ظهر حمار من أبخازيا، بعد أن دفعهما أبوهما للسفر إليها هربا من الحرب، فـ«هربوا بجلدهم» كما يقول المثل، من الحروب المستعرة بين القيصر الروسي والسلطان العثماني وقتها. ووصلتا إلى مصر وتزوجتا فيها، وأصبحت إحداهما بعدما تزوجت من عثمان رضوان، والدة المحامي والمناضل الوطني فتحي رضوان، وجدة سعد كامل.(3) لكن لأنهما مسلمتان وتزوجتا مسلمين، لم يتعرّض أي من أبنائهما، «منيرة والدة سعد كامل وشقيقها فتحي رضوان وبقية اخوتهما» لأي تساؤل عن مصريته! بل وصل الأمر بأحد أبنائهما، وهو فتحي رضوان إلى أن يصبح سياسيا شهيرا في الحزبين الوطني ومصر الفتاة، ثم وزيرا في إحدى حكومات عبدالناصر حتى اختلف معه واستقال عام 1958. وتزوجت شقيقته «منيرة» من كامل أحمد الذي جاء من بني سويف، وعمل في التدريس وتدرج من مدرس، إلى ناظر مدرسة، إلى مفتش، حتى أصبح «كامل بك أحمد». واستقر بعد المعاش في الشواشنة بالفيوم حيث اشترى 30 فدان بها، ثم باعها واشترى بثمنها 100 فدان كانت في حاجة للإصلاح في منطقة أرخص، هي سيلا!

ولأن أحد ابنائه سعد كامل وقع في غرام «ماري إيلي روزينتال» وتزوجها فقد كشفت القصة عن عنصرية الثقافة المصرية حينما يتعلق الأمر بالمختلف دينيا، في مواجهة تسامحها مع الأجنبي والمماثل دينيا كما هو الحال مع «حفيظة وصفية». لأن موسى روزينتال المهاجر الآخر الذي جاء، في نفس الوقت تقريبا ولكن من أوديسا، وهي ليست بعيدة جدا عن أبخازيا. وقد تركها وحيدا، ليس بسب الاضطهاد الديني، وإنما هربا من قسوة زوجة الأب بعد موت امه في صباه. فما أن بلغ الثامنة عشر حتى سافر إلى تركيا؛ حيث تزوج هناك «سارة» التركية التي تنحدر من جذور عائلة يهودية أندلسية، هربت من إسبانيا في القرون الوسطى. ثم جاءا إلى مصر في أواخر القرن التاسع عشر، أو أوائل القرن العشرين. «ليه جم مصر؟ أبويا نقلا عن جدي، ناس كثيرة كانت بتيجي مصر في الوقت ده! مصر كانت بلد Coccagnia كلمة طلياني معناها الخير الكثير؛ كان فيه موجة هجرة لمصر. وناس كتير بيجوا عشان فيها شغل، ويمكن يعيشوا أحسن هنا. أنا باتساءل هل ده لأن ماكنش فيه حروب في مصر في الوقت ده؟ دا تفسيري أنا» (ص479) وهو أيضا تفسير فتحي رضوان وهو يحكي عن أصول أسرته. ألا يعني هذا أن زرع بذرة الحروب البغيضة في تربتنا، أعني دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وتحولها إلى شرارة لإشعال الحروب المستمرة في المنطقة، هو الذي أحال مصر من منطقة جذب إلى منطقة طرد لأبنائها؟!

لكن تضافر خيوط العائلتين وتقاطع مصائرهما، هو الذي كشف لنا عن تلك العنصرية المضمرة حيث أدى دين موسى اليهودي المختلف إلى تعرض ابنهما «إيليا» الذي ولد في مصر، برغم عدم اهتمامه بديانته، وزواجه من مسيحية إيطالية كاثوليكية، للكثير من المضايقات. فعانى وأُنكرت عليه مصريته أكثر من مرة برغم تمسكه بها، حتى أضطُر في نهاية الأمر إلى مغادرة البلاد. وامتد هذا الانكار لابنته «ماري» برغم ولادتها في مصر من أب مولود بها، وتمسكها بمصريتها، رغم كل ما تعرضت له من محن. وبرغم أن امها التي جاءت إلى مصر هي الأخرى من إيطاليا مسيحية كاثوليكية. ولم تلتزم البنت بأي من الدينين المختلفين، بل انضمت منذ مطلع شبابها إلى المناضلين ضد الفاشية أثناء الحرب العالمية الثانية أو بعدها مباشرة، وانخرطت في الحركة الشيوعية المصرية. ومع هذا عانت الأمرين في الحصول على حقها البسيط في الجنسية المصرية، التي ولدت في سياقها، ولم تعرف لنفسها جنسية عيرها. ألا يكشف هذا التوازي عن تمييز وعنصرية؟!

لكن دع هذا الأمر جانبا، لأنه من الإضاءات العرضية الكثيرة التي يكشف عنها هذا الكتاب الجميل. فالرواية تكتب لنا قصة التفاعل بين عائلتين تضرب جذورهما في مناطق بعيدة، بعد اوديسا عن أبخازيا، وبعد تركيا عن إيطاليا، وبعد كل تلك البلدان عن مصر، وقربها منها في الوقت نفسه. فقد كانت مصر البلد الطاردة لأهلها الآن في مراكب الموت والغرق في المتوسط، كانت في القرن التاسع عشر، بلدا جاذبا للأجانب. كانت بلد الخير الوفير والأمان، كما تقول الراوية على العكس من أوروبا التي كانت تدمرها الحروب التي كانت تلتهم الملايين. كانت سمعة مصر أنها بلد الأمن والرخاء (ص480) فماذا جرى يا ترى؟ وما هي مسؤولية العسكر، لا استثني منهم زمن جمال عبدالناصر نفسه، عما لحق بها من تردي وهوان؟ ولماذا تبدلت المواقع الآن فعم الرخاء أوروبا وأصبحت جاذبة للمهاجرين من أبنائنا الذين انسد أمامهم الأفق، بينما تعصف الحروب ببلادنا، وتطرد أبناءها إلى قوارب الموت والدمار؟!

يوشك الكتاب في مستوى من مستويات القراءة والتأويل أن يكون جوابا على هذه الأسئلة الملحة والمقلقة. لأنه يقدم لنا من خلال تركيزه على رواية سيرة نائلة كامل المولودة ماري إيلي روزينتال مدى ما عانته تلك المرأة الجسورة الصلبة من أجل الحفاظ على القيم النبيلة التي آمنت بها، ورادت كل خطوات حياتها، كيف عصف استبداد حكم العسكر منذ البداية بالحرية، أي الأساس الذي تنهض عليه بقية القيم: قيم الحق والخير والعدالة الاجتماعية، منذ مطالع الخمسينيات. وهي القيم التي آمنت بها، وحاربت من أجلها. منذ أن كانت صبية في الخامسة عشرة من عمرها، استهوتها اجتماعات شباب «البيك» وجمعية إيطاليا الحرة التي تناضل ضد الفاشية، وتعلي قيم جاريبالدي والحرية. وكيف شاركت بشكل يوشك أن يكون عفويا وطبيعيا في التنظيم اليساري الذي تولد عن اتحاد تنظيم هنري كوريل حركة مصرية «ح. م.» مع تنظيم «الأيسكرا» أي «الشرارة» باللغة الروسية الذي اتخذ من عنوان جريدة لينين الشهيرة اسما له، بزعامة هلال شورتز، لتكوين «حدتو» الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني التي كانت تنادي بتحرير مصر من نير الاستعمار الانجليزي على أسس اشتراكية. (ص75)

وكيف أدى هذا كله في زمن حكومات الأقليات في أواخر الأربعينيات إلى دخولها السجن لأول مرة، لمرارة المفارقة يوم عيد ميلادها الثامن عشر في 30 مايو 1949، ولم تخرج منه إلا بعد أن ألغت حكومة (الوفد) الأحكام العرفية، فحوكمت وحكم عليها بعام، وخرجت يوم الحكم نفسه عام 1951، لأنها كانت قد أمضت بالسجن أكثر من مدة العقوبة المطلوبة. بعد تجربة السجن الأول هذه والتي كانت مدرسة أولية لها بشكل من الأشكال، زادتها إيمانا بما ناضلت من اجله؛ أدت فترة الاضطرابات التي تلت إقامة دولة الاستيطان الصهيوني، وهزيمة الجيش المصري في فلسطين، ثم إقالة حكومة الوفد عقب حريق القاهرة في 26 يناير 1952 إلى مغادرة الكثيرين من الأجانب الذين كانوا عماد هذه التنظيمات الشيوعية الأولى. وقد غادر كثير منهم مصر بسبب تضييق الشرطة المصرية عليهم من ناحية؛ وتذرعهم بضرورة النضال في صفوف مناضلي بلادهم الأصلية من ناحية أخرى. لأن الدولة المصرية أصرّت على أن تصنفهم كأجانب برغم مصرية كثيرين منهم.

لكن «ماري» رفضت خيار ترك مصر إلى إيطاليا أو فرنسا كما فعل كثيرون، وتمسكت بمصريتها، فهي مولودة في مصر لأب مولود بدوره فيها، وطُلب للتنجنيد بها، ودفعت أمه «سارة روزينتال» عنه الفدية المقررة وقتها، وكانت مبلغا كبيرا بمقاييس تلك الأيام في مطالع القرن العشرين. وقد كانت وثيقة دفع الفدية وقتها، تعادل شهادة تأدية الخدمة العسكرية، وهي بدروها المعادل الرسمي للجنسية هذه الأيام، ومع ذلك عانى «إيليا» وعانت أسرته. بالرغم من أنه كما تقول عنه ابنته، لم يكن متدينا، كان حر التفكير منطلقا، ولم يكن منجذبا لأي ديانة.(4) وقد عانى هو الآخر، ورفض السفر خارج مصر، حينما منح تأشيرة خروج في اتجاه واحد، لا تتيح له العودة لمصر.

ولما رفضت «ماري» مغادرة مصر برغم كل الضغوط التي مارستها الشرطة ضدها وأسرتها؛ قررت الخلية التي كانت بها، وترك معظم أفرادها مصر، تسليمها لخلية مصرية كان يشرف عليها عبدالستار الطويلة، الذي كان من المحترفين الثوريين الذين يتفرغون للعمل السياسي اليساري وقتها. ومع إن النادي الإيطالي اللي دخلته أواخر 1946 كان بداية انفتاح على حياة أوسع وأفكار سياسية وثقافية أخصب، «لكن برضو كانوا شباب ضد الفاشية بعد الحرب العالمية الثانية، ومحصورين في جانب واحد: إن الماركسية والشيوعية تتقدم في العالم. بعدهم عشت فترة شديدة السرية أيام التهرب من البوليس مع عبدالستار الطويلة، تجربة مظلمة كدا. فترة توزيع منشورات بلا مناقشات ولا متابعة للأحداث ولا إثراء فكري ثقافي. وانتهى الأمر إني رحت السجن. الحمد لله في السجن عشت نسبة إثراء فكري وثقافي. لكن لما خرجت وبعدت عن السجن، وعن جو – مش الخوف – جو الرهبة، السرية، ابتديت أكون سعيدة زي لما دخلت النادي الإيطالي. لقيت المجتمع المصري مليان تقدميين، مش بالذات شيوعيين، تقدميين قريبين من الفكر الماركسي والاشتراكية عموما. كنت أعرف شوية عن الشعر والفن في المجتمع الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية، لكن ما كانش عندي فكرة إن مصر مزدهرة بالطريقة دي، شعراء وكتاب ورسامين وسياسيين، معارض واجتماعات ولقاءات. حياة ثقافية إنسانية أنا حضرت منها كثير. علاقتي بسعد اتطورت في الجو دا». (ص 139-140)

التاريخ الثقافي المضمر في النص:
في هذا الجو المفتوح الذي بدأ مع آخر حكومات الوفد، تطورت علاقتها بسعد كامل. حيت يتحول فيها الشخصي إلى أهم تجليات الهم العام، إذ تتشابك مسيرة حياتها مع تيار مهم من التاريخ الطويل من النضال ضد المستعمر والقصر والفساد. وهو المناخ الذي تولد فيه الزخم الثقافي الذي ميز هذه المرحلة في كثير من مجالات الأدب والفن والإبداع. والمناخ الذي تفتح فيه وعي الراوية وتبلورت فيه مشاعرها، وعلاقتها الحميمة مع زوجها من خلال مشاركتها في الكثير من النشاطات التي كان يقوم بها، بشكل علني مفتوح، وبعيدا عن مناخات السريّة وتوزيع المنشورات القديم، الذي جرى فيه القبض عليها ومحاكمتها لأول مرة. وأصبحت ماري بسبب اهتماماتها الثقافية والسياسية العامة جزءا من المناخ الثقافي التقدمي المفتوح، الذي تخلق في مصر طوال فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. وكان سعد كامل من أبرز نجوم نشاطاته العلنية. حيث كان يرأس تحرير مجلة (الكاتب) لسان حال حركة أنصار السلام وقتها. والتي تبلور حولها تيار حيوي من الفكر اليساري المفتوح حتى «خضعت للرقابة بعد الثورة بست شهور». (ص424)

وضمن هذا السياق الثقافي بمعارضه الفنية ومجلاته الثقافية المفتوحة تعرفت على سعد كامل، وتخلقت بينهما علاقة حب انتهت بالزواج بالرغم من كثرة العقبات التي واجهتهما. ويوشك هذا النص في مستوى آخر من مستويات قراءته أن يكون تاريخا لما أهلمه تاريخ بعض جوانب الثقافة المصرية، وخاصة في فترة أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي بل وجزء من ستينياته، ودور اليسار المصري في توسيع افقها، وإدخال العديد من الاهتمامات الحيوية إلى ساحتها. حيث نعرف منه كيف بدأ حليم طوسون معارض رسوم الأطفال في متحف الفن الحديث بمبناه الجميل الذي كان يحتل رأس المثلث الكبير الذي يبدأ قرب ميدان التحرير عند التقاء شارع قصر النيل مع شارع شامبليون. وهو المبنى الجميل الذي مازلت أذكر، وأنا اكتب هذه الكلمات زياراتي له واستماعي في مكتبته للموسيقى الكلاسيكية في بواكير الشباب، وكيف أشعر بالحزن لضياعه، فقد انهالت عليه معاول الهدم التي دمرت كل جميل في مصرنا العزيزة. وفي نفس مبنى متحف الفن الحديث هذا، والذي كان قصرا جميلا تحيط به حديقة غنّاء، وكان يضم إلى جانب لوحات الفن المصري الحديث، مكتبة موسيقية غربية ثرية، بدأ لويس عوض ما سماه بجمعية «الجرامافون» للاستماع للموسيقى الكلاسيكية وتذوقها، والدخول إلى عوالمها التي كانت لاتزال مغلقة على ذائقة المصريين.

وبموازاة هذه الجمعية كوّن يوسف حلمي «جمعية أصدقاء سيد درويش» التي كان لها فضل جمع تراثه الموسيقي والحفاظ عليه من التبدد والضياع. وفي الفترة نفسها بدأ فؤاد حداد حركة شعر العامية المصرية، وطورها من العوالم الزجلية الخصبة التي كانت قد أخذتها إليها أعمال بيرم التونسي من قبله. وراد كمال عبدالحليم ترجمة أشعار إيلوار وأراجون وبابلوا نيرودا وجاك بريفير، بمساعدة «المولودة: ماري إيليا روزنتال» التي كانت تفك له شفرات لغتها الفرنسية الأصلية، وتترك له صياغتها العربية، فاتحا الأبواب على لغة شعرية جديدة، وصور حسية متوهجة طازجة، سرعان ما أثرت حركة الشعر الحديث في مصر والعالم العربي من ورائها.

ثم كانت هناك وفي تفاعل مستمر مع تلك الجماعات، مجموعة فناني القلعة من رمسيس يونان وجمال كامل ووليام اسحق حتى عبدالغني أبوالعنين وجمعية «أنصار السلام» التي كان سعد كامل هو الدينامو الفعلي المحرك لها، بينما كان البنداري باشا، الذي كان يدعى وقتها بالباشا الأحمر، لتبنيه الأفكار الاشتراكية أثناء عمله سفيرا لمصر في موسكو لسنوات، رئيسا شرفيا لهذه الحركة. وكيف نجح سعد كامل في استقطاب عدد كبير من الكتاب والفنانين للانضمام لها، وعلى رأسهم يوسف إدريس وصلاح أبوسيف وتحية كاريوكا وبهجت عثمان وحسن فؤاد. وكيف أسست سيزا نبراوي «الحركة النسائية التقدمية» التي تجاوزت رؤى هدى شعراوي وأفكارها الجنينية إلى حركة نسوية ذات أبعاد اجتماعية واضحة، وكانت فيها الرسامة أنجي أفلاطون والممثلة هدى زكي وتحية كاريكا وغيرهن كثيرات.

لكن القبض على سعد كامل، والذي كان العقل المحرك لعدد من هذه المجموعات الإبداعية المختلفة، ثم الزج بالكثير من أفرادها في معتقلات عبدالناصر الرهيبة، عطل تلك الموجة الطبيعية من التقدم والازدهار والإبداع. لأن ما تكشف عنه قصة (المولودة)، أنه لا يكفي أن يكون هناك كاتبا موهوبا في الشعر أو المسرح أو الرواية، ولكن لابد أن يكون بجواره من يخلق السياق الذي تتبرعم فيه الموهبة وتزدهر. وكان سعد كامل على مايبدو هو خالق تلك السياقات الضرورية. بسبب تاريخه الطويل في العمل العام قبل استيلاء العسكر على الحكم عام 1952. فقد كانت له تجربة مع الحزب الوطني، الذي كان خاله، فتحي رضوان من أبرز نجومه، قبل أن ينحاز لليسار، ويتبنى حركة «أنصار السلام» التي بدأت عقب أهوال الحرب العالمية الثانية وضحاياها الذين زاد عددهم عن 30 مليون. ويكشف لنا يوسف إدريس في أحد مشاهد هذا العمل المترعة بالدلالات، عن أهمية دور الفاعل الثقافي، وعن جوهر شخصية سعد كامل في آن. وتستحق الحكاية أن تقرأ بتفاصيلها كاملة، لمعرفة مدى قدرة سعد على التنظيم وتفانيه، بل وأهمية الدور الذي كان يقوم به كدينامو للحركة الثقافية اليسارية التقدمية وقتها، خاصة وأن النص يموضع تلك الحكاية التي يرويها عنه يوسف إدريس في زمن الانهيارات، وانفضاض الكثيرين عنه، وكيف أصاب هذا الزمن الردئ سعد كامل بالانطواء وبدايات الاكتئاب.(5)

كان سعد، كما يبدو من تلك القصة الدالة التي يحكِها عنه يوسف إدريس بعد ما يقرب من ثلاثين عاما من حدوثها، صاحب مشروع فكري وثقافي في آن. لذلك كان من الطبيعي أن يجذب «ماري/ نائلة» له ولعالمه وهو في أوج ازدهاره، حيث كانت اهتماماتها بالنضال والفكر السياسي ثقافية في المحل الأول، حينما وقع في غرامها. وكان قادرا على تحويل رؤاه إلى واقع ملموس كما تكشف لنا حكاية يوسف إدريس! لكن من أبرز ما تكشف لنا عنه حكاية الراوية معه ومع الحياة في مصر معا، هو كيف أنه كان وراء الكثير من الأفكار الثقافية النيّرة التي تبلورت في كثير من سياسات وزارة الثقافة في عهد أشهر بناتها: ثروت عكاشة.

لأنها تحكي لنا عن كيف تعرف سعد على ثروت عكاشة وهو في السجن. عندما نقلوه من سجن الواحات من أجل العلاج في مستشفى الدمرداش، ليكون قريبا من الأسرة في القاهرة وتتمكن من زيارته. وفي قسم أمراض نفسية مرّ عليه دكتور شاب وقتها، عاد حديثا من لندن هو أحمد عكاشة، وكان مليئا بالرغبة في المعرفة، فتكرر مروره على هذا المريض السجين الذي كانت ثمة حراسة على غرفته في المستشفى، أي سعد كامل. وقد شاقته أحاديثه معه، وما فيها من رؤى وأفكار لامعة، ودفعته لأن يحكي عنه وعن أفكاره لأخيه، ثروت عكاشة. ومع أن ثروت عكاشة كان وزيرا للثقافة في هذا الوقت فإنه قرر زيارة سعد في المستشفى، تقول الراوية «في اعتقادي الشخصي إنه لازم استأذن من جمال عبدالناصر قبل ما يزور مسجون سياسي من الشيوعيين في مستشفى الدمرداش، وخاله يبقى الوزير فتحي رضوان. ثروت جه لسعد في المستشفى، اتكلموا واتفقوا إن سعد يكتب أفكاره واقتراحاته لإنعاش وزارة الثقافة، ويبعت التقرير عن طريق أخوه أحمد. بعد السجن العلاقة استمرت مع أحمد عكاشة، وثروت عكاشة استمر يستشير سعد ... يعني اشتغل مستشار للوزير، غير رسمي وغير معترف به، وغير مدفوع الأجر.» (ص 242)

والواقع أننا نعرف من الكتاب الكثير عن دور سعد كامل وشخصيته المستقلة، كما نعرف من خلال ما تحكيه زوجته عنه نوعية المثقف الذي كانه، وكيف تلقى هذا المثقف المستقل الذي لا يوظف إمكانياته ومواهبة لخدمة السلطة، كما يفعل كثيرون في مصر، وإنما قد يتذرع بالسلطة كي ينفذ مشروعه الثقافي، الكثير من الضربات المتلاحقة. فمنذ أن جاء العسكر إلى الحكم في مصر عام 1952 استعر العداء بينهم وبين أي مثقف مستقل له مشروعه الثقافي الخاص. وبدأ النظام العسكري الذي آثر أهل الثقة على أهل الخبرة كما برهن محمد حسنين هيكل، المتحدث بلسان النظام في مرحلته الأولى، في كتابه (أزمة المثقفين) الذي صدر عام 1961 وحرص فيما بعد على ألا يعيد طبعه.(6) ونعرف من الكتاب أيضا، بالرغم من أنه لا يتيح لسعد كامل أن يتحدث كثيرا فيه، أن مشروعه الثقافي كان ينطوي على الارتقاء بالثقافة المصرية والوصول بأفضل ما في جعبتها إلى أوسع قاعدة جماهيرية، لأن الثقافة الجادة هي بحق سبيل أي مجتمع إلى النهوض والرقي.

وقد بدأ سعد كامل مشروعه الثقافي بالأنشطة الثقافية التي فعّلها عبر حركة (أنصار السلام) ثم تبلورت بعد ذلك في تلك الاستشارات العديدة التي كان يوجه فيها مسار حركة الثقافة الجادة، ويقترح على ثروت عكاشة، إبان فترة وزارته، الكثير من الأسماء الجديدة والمشروعات. وتنامى تأثيرها وبشكل أكبر عبر عمله في الثقافة الجماهيرية، وهو المشروع الذي بلور فيه الكثير من تصورات حياته الفكرية والثقافية. ويكشف لنا الكتاب عن كيف كان سعد كامل بحق دينامو عملية الازدهار الثقافي التي بلغت ذروتها بعد الإفراج عن مثقفي اليسار في الستينيات.(7) وكيف نهض بمجلة (نهضة أفريقيا) ثم بالجريدة السينمائية. ثم قام بتنظيم رحلة للمثقفين للنوبة لرسمها وتسجيل معالم الحياة فيها على غرار (وصف مصر) قبل أن تغرق في بحيرة السد العالي الذي كان يشيّد وقتها. لكن أنجازات سعد كامل لم تتوقف عند هذه المشروعات العديدة برغم أهميتها، ولكنها كُللت بإنشائه للثقافة الجماهيرية، وتعيينه مديرا لها عم 1966، حيث حقق عبرها هدفه الأساسي بأن تصل الثقافة الجادة إلى كل مكان في مصر. وأن يتولى مثقفون وفنانون قيادة عملية توصيلها تلك، في نوع من التفاعل الخلاق بينهم وبين جمهورهم الذي حرم من الثقافة من قبل.

تقول نائلة كامل وهي تتذكر فترة الثقافة الجماهيرية تلك: «فنانين كثير، من برة وزارة الثقافة انضموا بحماس لحركة الثقافة الجماهيرية وقصور الثقافة، وحطوا فيها روحهم، وعملوا حاجات جميلة. الفنانين والمثقفين انتشروا في أرجاء مصر، يعرضوا شغلهم ويتعرفوا على الناس ويتعلموا منهم. بالنسبة لسعد التجربة دي كانت بلورة لرؤيته للمشهد الثقافي، الدور اللي كان بيقوم به من سنين من ساعة ما طلع من السجن في 1959، وبالذات بعد انفراجة 1964، كان زي الدينامو في الحياة الثقافية» (ص342) وكيف بدأت قوافل الثقافة تجوب القرى بعد وصول «كارافان» هدية من دولة اشتراكية وقتها، فحول سعد الأمر إلى مبادرة، وكرر الفكرة بشكل محلي، وأحالها إلى نسق لممارسة ثقافية ثابتة توصّل الثقافة إلى القرى والدساكر. وما أن هلت بشائر أول رمضان له مديرا للثقافة الجماهيرية حتى أسس شادر الثقافة والفنون الشعبية في ميدان الحسين، في قلب القاهرة المعزّية، وهو تقليد احتضنته الجماهير بعدها، فاستمر حتى بعدما غابت وزارة الثقافة عنه. واستمر ازدهار الثقافة الجماهيرية حتى أصابتها، ضربة هزيمة 1967 القاصمة، وبدلا من استخدام الثقافة في الرد على الهزيمة وتصحيح المسار، بدأ الهجوم على المشروع كله وتم وأده، حتى انتهت تلك التجربة المهمة مع بدايات عام 1968. وجرى بعدها تهميش سعد كامل والتضييق عليه حتى أصابه الغم والاكتئاب.

السجن وتجفيف منابع السياسة:
وتتكشف تحت سطح قصة الراوية مع الحياة، وبشكل عفوي وربما غير مقصود مما يعزز من أهميته، كيف قام عبد الناصر، ثم سار على نهجه كل من خلفوه، بتجفيف منابع السياسة التي كانت مزدهرة في مصر، ومترعة بالفوران الثقافي والنشاط الفكري معا. وكيف صادر العسكر الحريات وحكموا بالأحكام العرفية وقوانين الطوارئ فيما بعدها. فقد أغلق مجلة (الكاتب) الأولى التي كان يرأس تحريرها سعد كامل، وكانت لسان حال حركة أنصار السلام التقدمية في مطالع الخمسينيات. ولم تكن الحركة تقوم بأكثر مما يدعى بنشاط المنظمات غير الحكومية الثقافي في هذه الأيام، وأقصى ما كانت تقوم به هو مجموعة من النشاطات التي تضع شباب مصر على خريطة النشاط الدولي للسلام والحرية. وبعد أن حقق سعد كامل نجاحا كبيرا في تنظيم وفد مؤتمر المرأة الذي أحدث تأثيرا إيجابيا واسعا، وأخذ ينظم المشاركة بوفد أكبر في مؤتمر من مؤتمرات أنصار السلام في بوخاريست، بدأ تضييق الحكم العسكري عليه. «لأن حركة الجيش والمخابرات بتاعتها اشترطوا على سعد يقدم لستة بأسامي أعضاء الوفد والمخابرات لازم توافق على كل اسم ... وافقوا على الكل وشطبوا اسمه هو، منعوه من السفر هو اللي منظم الموضوع كله» (ص161) هكذا بدأ التنكيل بمن يتصور الحكم العسكري قيامه بتوجيه بعض النقد له، لا المعارضة بالمعنى الحقيقي للمعارضة في النظم الديموقراطية. ثم اعتقل سعد نفسه بعد تلك الواقعة بقليل، وسوف نعود لقصة سعد كامل، وكيف أنه يتبدى تحت سطح الحكي في هذا الكتاب نموذجا راقيا للمثقف الحر المستقل، الذي يأبى أن ينخرط في جوقة النظام السياسي أو يخضع له.

هكذا بدأ العسكر يضيّقون على من يقوم بنشاط يمثل مصر، أو يرفع رايتها في الخارج بشكل مستقل وبعيدا عنهم. فسعد كامل كان مهتما بالسياسة من صغره، وكان في الحزب الوطني بسبب خاله، «فتحي رضوان» الذي كان من أعمدة الحزب الوطني، وفي فترة دخل مجموعة الاغتيالات والتي كان بها أنور السادات وقتها، ثم اتجه إلى أنصار السلام، ثم انضم للحزب الشيوعي المصري. فألقى النظام العسكري القبض عليه. ويقدم لنا الكتاب صورة لافته لكيفية تجفيف منابع السياسة في مصر منذ ذلك الوقت المبكر، وكيف تخلقت بذور القهر والاستبداد الأولى، حينما رأي فتحي رضوان اخته تحمل عمود الأكل لابنها، وتنتظر على باب السجن، دون أن يستطيع أن يفعل لها شيئا غير أن يبكي كمدا! وحينما عرف أن ابن اخته الذي سار على خطاه، خطى خاله، في الاهتمام بالهم العام والالتحاق بداية بالحزب الوطني يعتقل ظلما دون أن يستطيع الدفاع عنه، وهو المحامي مهنة قبل أن يكون وزيرا!

والواقع أن بذور هذا القهر والظلم سرعان ما تتبرعم حينما تحكي لنا الراوية كيف حُكم عليها بخمس سنوات دون أي استجواب أو محاكمة أمام قاضيها الطبيعي كما جرى أثناء الحكم الملكي؛ اللهم إلا محاكمات العسكر الجائرة. «ما اعرفش لحد النهاردة الحكم أخدته على أساس إيه. كانت محاكمة عسكرية، وما كانش فيه محامي وأنا ما اتحققش معايا» (ص224) وهو الأمر الذي تضاعف بوضعها، مع زوجها طبعا، بعد الإفراج عنهما تحت المراقبة ولمدة خمس سنوات أخرى، من مضايقات الشرطة المستمرة.

وكان عدد كبير من أصحابهم قد تم القبض عليهم في 1959 بالعشرات ليلة رأس السنة، وقبل شهرين من الإفراج عنه. فقد أدت التناقضات السياسية في العراق وقتها، بين عبدالكريم قاسم والقوميين العرب الموالين لعبدالناصر، إلى قبض عبدالناصر على أعددا كبيرة من الشيوعيين في مصر ردا على ما جرى للقوميين في العراق! فهل ثمة تجفيف لمنابع السياسة أكثر من هذا الخلل؟! لمجرد الانتقام من فشل عبدالناصر، وعميله سيء الصيت، عبدالحميد السراج في حماية القوميين الموالين له في العراق، وعلى رأسهم عبدالوهاب الشوّاف حينما حاولوا الانقلاب على عبدالكريم قاسم! ثم بلغت ذروتها حينما قُتل شهدي عطية الشافعي تحت التعذيب وعبد الناصر في يوغوسلافيا، ولما واجهه تيتو بالأمر، «عبدالناصر بعت يعزل المأمور اللي حصلت الحادثة دي تحت إدارته، وشالوه من السجن. ما عملش مراجعة لجهاز التعذيب والمباحث». (299)

وما زاد الطين بلة بالنسبة لسعد كامل وأسرته، وأصبح فيما بعد من ممارسات العسكر في الحكم، رفض الضابط الذي عينوه مسؤولا عن قسم التعيينات في (أخبار اليوم)، التي كان سعد صحفيا ناجحا بها منذ عام 1945 وحتى القبض عليه عام 1954، وكان مرتبه قد وصل بها إلى 35 جنيها، أن يعيده للعمل في الصحيفة التي كان يعمل بها، إلا كصحفي مبتدئ، وبمرتب 20 جنيها؛ بينما كان مرتب زملائه الذين عينوا معه من قبل قد بلغ 100 جنيه. كنوع من التنكيل به، وقد عرفوا مدى معاناته من الفقر مع أسرته. وإذا كنا جميعا نعلم أن اتجاه السادات في الحكم كان عكس اتجاه عبدالناصر، فإن موقفه من التعامل مع الثقافة واليسار المصري، كان شديد الاتساق مع موقف سلفه، إن لم يكن أشد منه قسوة عليهم.

تقول لنا الراوية: «من أوائل الإجراءات إللي خدها السادات لما جه الحكم فيما يخص الصحافة منشور إن سعد كامل ممنوع من الكتابة، هو ويجوز صلاح حافظ. سعد كان يدوب رجع يكتب في الأخبار بعد ماشالوه من الثقافة الجماهيرية .. واستمر المنع لغاية السادات ما توفي» (ص377) ذلك مع أن «سعد كان قد اشترك في قصية اغتيال أمين عثمان مع أنور السادات في الأربعينيات، الإعلام كان بيروج لصور بطولات السادات، وإنه قاوم الانجليز والاستعمار في شبابه زمان. فالناس كانوا متصورين إن فيه نوع من الزمالة القديمة بينه وبين سعد. .. بس حصل العكس». (ص377) وبعد الانفتاح والصلح مع إسرائيل «السادات بعت لسعد ينضم لمؤيدي النظام، وسعد رفض. كان مطلوب منه الانضمام بشكل مش محدد، ومن غير حساب. مطلوب إعلان تأييد السادات شخصيا وخلاص. فسعد قال لأ! ورفض يروح يقابله، وانتهى الأمر إنه أُبعد أكثر وأكثر». (ص389)

ولم يكن حال سعد أفضل مع نظام مبارك. «مبارك كان صديق صلاح حافظ. اتعرف عليه لما كان نائب للسادات، وانبسط من شخصيته، وقعد ياخده مستشار خاص. صلاح كان رجع للصحافة، وكان بيكتب باب اسمه "قف". لما مبارك يسافر ياخد صلاح حافظ معاه. وفضل يستشير صلاح حافظ لفترة بعد ما بقى رئيس للجمهورية ... عبدالرحمن الشرقاوي وصلاح حافظ وضبوا مقابلة لسعد مع مبارك! غرضهم إيه؟ أعتقد تصورهم إن سعد يقول لمبارك عاوز يعمل إيه، يختار مجال ويقدم مشروع، زي الثقافة الجماهيرية مثلا. سعد اشتغل على مشروع الثقافة الجماهيرية أكثر من عشر سنين ... صلاح وعبدالرحمن اصحاب سعد وبيحاولوا يساعدوه يوضب وضعه. عارفين إنه كان منبوذ أيام السادات، وعارفين إن سعد عنده رؤية وأفكار، وعارفين الدور اللي لعبة في وزارة الثقافة، وإنه ضروري حايكون مفيد كمستشار. يمكن مش مستشار سياسي، ولكن في أي مجال من مجالات المجتمع والثقافة بالذات». (ص425) وفعلا اتصل به مكتب مبارك، وكان في الفيوم وقتها. وطلبوا منه العودة للقاهرة لمقابلة الرئيس، وأرسلوا له سيارة أخذته إليه، ولم تكن المقابلة مثمرة بالرغم من أن مبارك وبعد حديث ممل عن نفسه ومطامحه للشعب، سأله «إيه مشاريعك؟ إنت عاوز تعمل إيه؟ فرد عليه سعد: أنا مش عايز حاجة. إنت كويس كده! آه أنا كويس كدا، أنا مش عاوز أي حاجة» (راجع تفاصيل ما جرى ص 426-427)

ورفض سعد بتعفف نادر أن يقبل منه شيء أو حتى أن يتعامل مع نظامه. فلم يكن باستطاعة مثقف من طراز سعد ونزاهته، أن يفعل غير ذلك. فهو لا يقبل إلا أن ينهض بمشاريعه هو، بما يؤمن به وما يعتقده، وليس بمشاريع الآخرين، مهما كانت سلطتهم. لذلك كانت المقابلة بينه وبين مبارك نموذجا للمثقف المترفع عن أن يكون أداة في يد السلطة، بدلا من أن يوظف السلطة في تحقيق مشروعه هو كما كان الحال أيام الثقافة الجماهيرية. لإنه ليس صلاح حافظ، الذي برغم أنه أمضى عشر سنوات في السجن، «خلص 8 سنين حكم ومطالعهوش، فضل معتقل سنتين فوق البيعة»(ص304)، لم يكتف بالعمل مع مبارك، ولكنه عمل بعد ذلك، لمرارة المفارقة، مع سميرة خاشوقجي في مجلتها التافهة، وكان يتبعها وهي تتباهى بمشروعها في مؤتمر المرأة العالمي. (راجع ص 444)

أوجاع تجربة السجن ودروسها:
تتحدث الراوية عن فترة السجن، فنكتشف أنها تميز دون قصد أو تخطيط مسبق بين فترة السجن الأولى، التي جرت عام 1949 أيام الملكية، وهي سنة ونصف، وبين المرات التالية التي تمت أثناء حكم العسكر. وتؤكد أنها تعلمت في المرة الأولى، حيث كانت في الثامنة عشرة من العمر، الكثير «باقيّم مرحلة السجن الأولى على أنها انفراجة، اكتسبت خبرات ذهنية وثقافية ونفسية. دخلت وأنا مش فاهمة كثير عن الدنيا، واتصالي بالناس دي (تقصد المعتقلات الشيوعيات اللواتي قابلتهن فيها من أمثال إجلال السحيمي وميمي كانيل، وأسماء البقلي وبرت وجانيت) فتح لي طاقة، واتعلمت إللي ما كنتش أقدر اتعلمه برة السجن أبدا. مصر كانت تحت الاحتلال الانجليزي، كان لسه الملك موجود». (ص183)

وعلى عكس فترة السجن الأولى التي اتسمت بالايجابية واكتساب الخبرات الثقافية والنفسية والتعلم، تقول إن «الفترة الثانية كانت تحت حكم جمال عبدالناصر، الملك مشي والانجليز بيلموا حاجاتهم وماشيين. الفترة التانية دي جزئين داخلين في بعض في ذاكرتي، لأن المرتين ورا بعض، نفس القضية تقريبا، نفس المحبوسين تقريبا، والمسافة بينهم شهور: نوفمبر 1953 أربع شهور، خرجت اتجوزت، ودخلت القبضة التانية في يونيو 1954، بعد ما تجوزنا بشهرين اتحكم عليّ فيها بخمس سنين.» (ص184) في هذه الحبسة الثانية، أو بالأحرى الثانية والثالثة، نجد أن البداية شديدة الاختلاف، ومن هنا شديدة الدلالات. فقد وجدت بمحض المصادفة بعض اللواتي تركتهن في السجن عام 1951 مثل «لي لي دايان» ذات الأصول الجزائرية، فهي ربما من يهود الأندلس، و«فيا ياناكاكيس» وغيرهن من مجموعة «م.ش.م» لازلن هناك. ولكن قرار ترحيلهن القسري من مصر كان قد صدر، وكان اليوم التالي لوصولها للسجن هو يوم ترحيلهن. وتتذكر كيف قاومت «فيا» عملية طردها من بلد ميلادها مصر بكل ما تستطيع: «مش عايزة امشي. إجراء غير قانوني. أنا مكافحة من أجل الشعب، بأكافح عشانكم. أنا مصرية، عايزين يطردوني من البلد، دا غير قانوني، أنا مصرية، دا غلط، دا ظلم» (ص185) وانتهى الأمر بأنهم «جرجروها على السلم، شالوها من إيديها ورجليها لغاية ما حطوها في العربية، ما مشيتش برجليها، شالوها شيل، واستمرت تقول هتافات وشعارات مجموعة «م.ش.م»: تحيا الطبقة العاملة.» هكذا بدأ الغلط والظلم من خلال تلك التفاصيل الدقيقة يتنامى حتى أصبح هو القاعدة تحت حكم العسكر.

في هذا المرة الثانية أيضا التقت بثلاث شخصيات نسائية اختارت أن تحكي لنا عنهن بالرغم من أنهن «مسجونات مش شيوعيات، قابلتهم في سجن مصر. تحية كاريوكا، وعلية توفيق زوجة يوسف صديق عضو مجلس قيادة الثورة، وزوزو ماضي الممثلة. ما كانش لها أي علاقة بالسياسة، لكن إيه حتة شخصية! إحنا الشيوعيات كنا أصغر منهن في السن، نفهم أكثر منهن شوية في السياسة، وأكثر منهن بكتير في الماركسية والشيوعية، ولكن كخبرة اجتماعية حياتية، كنا عيال كتاكيت جنب الستات دول». (ص185)

ومع أن حديثها عن هذه الشخصيات النسائية الثلاث، وكيف تركت كل منهن انطباعها الخاص على ماري/ نائلة كامل الشابة الصغيرة حديث شيق يستحق التأمل، إلا أن ما يهمني هنا هو التوقف إزاء علية توفيق، زوجة يوسف صديق، الذي لولا مبادرته بالتبكير بالحركة يوم 23 يوليو 1952 لفشلت حركة الضباط الأحرار برمتها، وأنتهى المصير بعبدالناصر نفسه مودعا بالسجن الحربي. وهي أخت محمود توفيق الشيوعي المصري الذي قبض عليه مع سعد كامل وآخرين. لكن القبض عليها لمجرد أن زوجها عارض جمال عبدالناصر في أزمة مارس 1954، «رفض قرار الأغلبية داخل مجلس الثورة بكبت الحريات. الموضوع كان فيه مساومة معاه، مش عايزين يحبسوه، يفضّلوا يبعدوه، وهو رافض الإبعاد.» (ص191) فكان الحل فيما يبدو هو الضغط على زوجته، لعله يستسلم لما يريدونه منه. فقد رفض أن يترك البلد، كما فعل خالد محي الدين الذي عارض كبت الحريات مثله، وذهب إلى سويسرا حينما طلب عبد الناصر منه مغادرة البلد. والواقع أن قبض عبدالناصر على زوجته وإيداعها في السجن، عله يستجيب للضغوط بمغادرة البلاد، وهو الأمر الذي رفضه يوسف صديق فبقيت زوجته في السجن طويلا، يكشف لنا كيف أنه كان مستبدا مطلقا، لا يطيق حتى أن يبقى معارض واحد بمصر ممن شاركوا معه في الانقلاب العسكري.

وما أن أمضت «ماري/ نائلة» أسابيع قليلة بعد الإفراج الثالث عنها حتى تم القبض عليها للمرة الرابعة من أجل الضغط عليها وترحيلها من مصر. وأنا أشير هنا إلى محاولة ترحيلها القسري بعدما أفرج عنها في نهاية مدة السنوات الخمس التي قضتها في السجن ظلما. ورفضها قرار ترحيلها من مصر، وإصرارها «معنديش أي جنسية غير الجنسية المصرية» أمام رفض الضابط «لأ ما عندكيش الجنسية المصرية»، «كلامه دخل فيّا زي المطوة» «أبويا مولود في مصر، وأنا مولودة هنا وما عنديش جواز سفر أصلا، عمري ما خرجت من مصر، ما عنديش حد في أي حتّة! متجوزة وجوزي مصري» (ص221) كانت قد غيرت اسمها إلى نائلة كامل وأسلمت عام 1954، لكنها لم تحصل على الجنسية إلا عام 1966، بعد طلب الجنسية اكثر من مرة، أولاها حينما أكملت 21 سنة، أي عام 1952، وهو الحق المخول لكل مولود على أرض مصر عند بلوغه سن الرشد، ولكن الداخلية لم تمنحها إياه. ثم طلبتها مرة ثانية كزوجة لمصري بعد زواجها، وعاشت في مصر بالإقامة حتى عام 1966 حينما حصلت عليها بسبب الزواج.

وكلما واصلنا قراءة هذا النص الجميل، وتعرفنا أكثر على نائلة كامل وعلى سعد كامل معها، ندرك كيف تتفوق الدماثة والموقف الأخلاقي الأعلى على الانحطاط والفظاظة والغدر. لأنها تقول لنا قرب النهاية: «يمكن أهم حاجة عملتها، إن حتى لو دخلت في سكك غلط، وسكك مش غلط، في النهاية اتصرفت دايما بإخلاص شديد، بأواجه نفسي واللي باشوفه لازم يتعمل عملته من غير ما أفكر حيجري لي إيه، ما كنتش حذرة، أعتقد كنت عفوية. رجعت أعمل إللي شايفاه صح كل مرة. تصرفاتي كان فيها passion عاطفة، مفيش برودة أو قلة اهتمام!» (ص478)

الصدق مع الذات والشرائح المهمشة:
يكشف لنا هذا الاعتراف عن أهمية الصدق مع الذات في هذا الكتاب المهم. لأن أبرز ما نخرج به منه أننا بإزاء شخصين، الراوية نائلة كامل وزوجها سعد كامل، يعتصم كل منهما على حدة بالصدق مع نفسه، ومع شريك حياته، قبل صدقه مع الآخرين عموما. وأنهما عانيا كل بطريقته بسبب هذا الصدق والترفع عن الدنايا وعن العطايا المسمومة في الوقت نفسه. ولأن الكتاب هو كما يقول لنا عنوانه الفرعي «رواية نائلة كامل المولودة ماري إيلي روزنتال» فإنه يقدم لنا في المحل الأول قصة صدقها مع نفسها، وإن كانت قصة زوجها وشريك حياتها بكل ما تعنيه كلمة الشراكة من معنى، تنبض بتفاصيلها الدالة تحت سطح روايتها تلك. ومن أبرز تجليات صدقها مع نفسها ما نكتشفه من أنها لم تر اثناء فترة طويلة من حياتها أي مبرر لكتابة «روايتها» أو سيرتها. فهي لم تجد من قبل أي داعٍ لكتابة سيرة ذاتية، لأنها لم تنجز إنجازا كبيرا يستحق أن تكتب من أجله سيرة ذاتية.

لكن الانعطافة الهامة التي جرت في حياتها، حينما تزوجت ابنتها الصغرى «دينا» المولودة في أكتوبر 1966، من شاب فلسطيني هو «على نبيل شعث»، وأصبح لها حفيد فلسطيني، «نبيل شعث» الصغير، غيرت الوضع كله بالنسبة لها. لأن وجود هذا الحفيد وفلسطينيته خلق دافعا أكبر لأن تروي سيرتها، كي يفهم الحفيد، وكي يواصل حبه لها! وما تقوله في هذا المجال يذكرني برد جابريل جارسيا ماركيز الجميل والمركز على استطلاع ملحق جريدة (ليبراسيون) الباريسية الشهير: عن لماذا تكتب؟ حينما كان جوابه المركز كي يحبني أصدقائي أكثر! لأنها تقول: «يمكن أهم حاجة تهمني دلوقت في قلبي هي رأي نبيل، حفيدي، لما يكبر في نونّته دي، جدته إللي هيّ أنا، حا يكون أثره إيه لما يعرف في يوم من الأيام ويكبر إن نونّته – وأنا باحبه قوي وهو بيحبني – لها علاقة بالشعب دا إللي بقينا نكرهه بسبب الممارسات إللي بيعملوها. قلت يمكن يبقى كويس إن أسيب له الأحداث زي ما حصلت لي، أسجلها» (ص478)

في هذا التسجيل تكتب لنا جانبين مهمين في تلك الأحداث التي عاشتها: يكشف أولهما عن حياة تلك الشريحة المهمشة من تاريخ مصر الحديث. ففيه الكثير عن الحياة الاجتماعية لشرائح الأقليات في مصر أوائل القرن الماضي، سواء الإيطالية منها أو اليهودية. وكيف أن أباها «إيليا»، وهو ابن موسى روزينتال الخياط الفقير الذي كان مجرد «قمصانجي» في حي شعبي، تعلم تعليما أجنبيا أتقن فيه الفرنسية مجانا في مدرسة مؤسسة «نقطة اللبن» الخيرية، التي كان يمولها أثرياء اليهود المصريين من أسر موصيري أو قطاوي وغيرها، لتعليم أبناء الفقراء من جاليتهم، أو لمداواتهم في المستشفى اليهودي التابع لنفس المؤسسة في غمرة، والذي أصبح فيما بعد المستشفى العسكري، بعد استيلاء العسكر عليه. (ص496) وكيف تعاملت هذه العائلة البسيطة مع ضربات الزمن التي أصابت داود بنفس سرطان المخ الذي أودى بحياة أبيه موسى قبل الأوان، وترك داود أطفالا صغارا تكفل عمهم الأصغر سولومون بتربيتهم، أو كيف أقعد الشلل النصفي بنيامين، فقامت العائلة كلها، الزوجة والبنت بالمسؤولية بعمل عربية فول وطعمية وتشغيلها على رأس الحارة.(8)

وقد كانت هذه الشريحة، كما يتبدى من حكايتها جزءا من النسيج المصري برغم اختلاف الدين. لكن تصاريف السياسة ومؤامرات بريطانيا الاستعمارية على المنطقة بزرع الكيان الصهيوني الاستيطاني في منطقتنا هي التي أدت إلى استعار العداء لها، خاصة بعد العدوان الثلاثي عام 1956، والمناخ الطارد الذي دفع كثيرا من أفرادها للهجرة. «حصلت هوجة بمناسبة الحرب، وانطردت فيها أعداد من العائلات اليهودية. واتضح إن بعض الضباط شاركوا في الطرد، واستولوا على شقق وأملاك المطرودين بأثمان رخيصة تعتبر ببلاش. يعني نوع من الاستيلاء والنهب». (ص475)

وإلى جانب هذه الشريحة بل ومن خلالها، تكتب عبر قصة أمها، ليناندرا كارداليللي التي ولدت في إيطاليا عام 1902 في قرية «ريباترانسوني» الإيطالية، قصة شريحة أخرى من المهاجرين الأوربيين الذين وفدوا إلى مصر، حينما كانت بلد الخير والأمان، هربا من بلادهم التي تتناهشها الحروب. فهي ابنة فران القرية لم تتح لها فرصة التعليم إلا ما هو أساسي منه، وتركت المدرسة مبكرا لتعمل مع أبيها في الفرن. ومع هذا حينما وقعت في غرام شاب لم يوافق أبوها على ارتباطها منه، هربت إلى مصر، وعملت بها مربية لدى أسرة ثرية. وفي مصر وقعت في غرام «إيلي روزنتال» وتزوجته رغم بعض العراقيل، وانجبت منه بطلة كتابنا وأخاها «برتو» وهو على العكس منها لم يتمسك بمصريته، و«هاجر من مصر وراح إيطاليا وأنا جوه السجن أو بعد ما طلعت على طول، واتجوز إيلينا بنت خالنا سنة 1960، ولكن أهلي ما حضروش الفرح.» (ص280) فلم تكن امكانياتهم المادية تتيح لهم السفر بسهولة من ناحية، كما أن السلطات المصرية من ناحية أخرى لم تكن تتيح لأبيها الحصول على أي تأشيرة خروج، غير تأشيرة السفر دون عودة، وهو الأمر الذي رفضه لسنوات طويلة.

كما أنها وهي تكتب تصاريف أقدار هاتين الشريحتين الهامشيتين في المجتمع المصري، لا يفوتها أن تسجل لنا في بعض ملاحظاتها العابرة، والدالة معا، ما جرى للشريحة الأساسية من الطبقة الوسطى المصرية والتي تمثلها خير تمثيل أسرة زوجها سعد كامل. حيث ترصد لنا كيف زحفت عليها أطياف التخلف الذي جلبته إلى المجتمع المصري سياسات أنور السادات الخرقاء، وتحالفاته مع الهجمة الوهابية على مصر. حينما تروي لنا تلك القصة الدالة الكاشفة عن التغير للأسوأ في المجتمع المصري، ومآلات تمثال المرأة العارية الجميل الذي كان يحتل مكانا بارزا على البوفيه لتزيين البيت أيام «نانا منيرة» وجدو كامل، وكيف أصبح يثير الارتباك ويُدفع إلى الوراء، أو يغطى بقماشة في زمن زحف الوهابية الكئيب وتحجيب الوجوه والعقول. (ص478)

أما الجانب الثاني فإنه يعمق وعينا بصدق الراوية مع نفسها؛ حيث تقول لنا «فيه حاجتين مش عارفة أفسرهم في نفسي: مواقف مهمة؛ الحاجة الأولى إن أنا ماسألتش ولا مرة عن أسرتي اليهودية اللي كانت كلها مولودة في مصر وساكنة في القاهرة. عرفت عن سفرهم كدا عالماشي. أبويا وأمي قالوا لي إنهم مشيوا، آه راحوا إسرائيل. ... وكأن أنا نفسي اسمي مش روزينتال، ومش حاسة إن ليّا أي علاقة أو انتماء غير لمصر.» (ص266) وفي مكان آخر من روايتها تعود إلى هذه المسألة: «الموضوع إللي مش عارفه أفسره في نفسي وشاغل بالي، وعايزة أتأمل فيه هو إزاي أنا ما سألتش ولا مرة عن أسرتي اليهودية إلي كانت كلها ساكنة هنا في مصر؟ وعرفت كده ع الماشي من أبويا وأمي إنهم مشيوا راحوا إسرائيل! إزاي أسقطهم؟ أنا ما كنتش باعمل مجهود، أنا بطلت أفكر فيهم أو أحس بيهم. حصل لي نوع من البلادة في الموضوع» (ص522)

«ذكرياتي القليلة، وشوية المعلومات عن طريق أبويا وأمي بتقول إنهم ناس طيبين وما فيش حد منهم اهتم بالسياسة. الاهتمامات كانت بتنصب على الأكل والشغل والدخل ومواضيع ثقافية شعبية ... في الأول زي ما سمعت اختفت أسرة إيزيدورو، انفصل عن العيلة وسافر. وإيزيدورو دا ما كنش له في السياسة خالص. بيحب الحياة والضحك والمرح ومعندوش فلوس وبيلقط رزقة كدا زي ما تيجي. وأكيد سافر مش عن اقتناع أو عقيدة، مجرد مغامرة أو محاولة. أما عيلة دافيد إللي مات هنا في مصر، وعيلة بنيامين إللي جاله شلل هنا في مصر برضه، دول الكتلة الأساسية إللي قرروا السفر والهجرة إلى فلسطين. والعيلتين عندهم مشاكل اقتصادية، ما كانوش مرتاحين بالمرة.» (ص523)

والواقع أن عمل ذاكرتها المراوغ في هذا المجال يكشف لنا أن درجة إخلاصها للفكر الاشتراكي، ويقينها بأن المشروع الاستيطاني الصهيوني مشروع استعماري في المحل الأول، أدى إلى إسقاط هذه الشريحة الكبيرة من أسرة أبيها من اهتماماتها، ومن وعيها، وحتى قرب النهاية من ثقوب ذاكرتها. نعم! لقد «أسقطتهم من دماغها» كلية. حيث تخبرنا: «أكيد السفر حصل في فترة بعد ما أنا ابتديت أهتم بالسياسة، وانفصلت وجدانيا عن أخبار البيت والعيلة .. أنا ما انشغلتش بسفر العيلة. أنا أيامها كنت في ملكوت تاني، أعرف طشاش إنهم راحوا إسرائيل، وما كنتش باتعاطف معاهم. أنا خلاص دخلت في فكر الاشتراكية وإن إسرائيل صهيونية، والصهيونية همّا إللي عملوا إسرائيل مشروع استعماري، والاشتراكيين ضد الفكرة من أصلها. وكنت اديت نفسي وجسمي وروحي للفكر الشيوعي الماركسي المصري الوطني هنا.» (ص525)

لكن تراكم الضربات من ناحية عليها وعلى أسرتها الصغيرة، خاصة بعد ضربة نكسة 1967 المصمية، والتي ترافقت مع بداية سفرها إلى إيطاليا لزيارة أبويها فيها، بعدما هاجر الأب إلى إيطاليا مع الأم، ولحقا بالابن الذي كان قد استقر فيها، بدأ يفرض تغيراته عليها. بعد 1967 «ابتديت آخد بالي من الدعاية الصهيونية في إيطاليا. (ص476) وكانت تقول لأمها التي أثرت عليها تلك الدعاية والأفلام التي تشاهدها عن الهلوكوست وعن اضطهاد اليهود في نقاشها معها أثناء زيارتها لها: «إللي حصل لهم في الحرب ما يدّهُمش حق يروحوا ياخدوا بلد مش بلدهم» (ص476) هكذا كانت تحاول إقناع أمها بأن الصورة التي يقدمها الإعلام الإيطالي لا تعكس حقيقة الوضع. تقول حول موقفها الصارم هذا من اليهود والصهيونية «ده غير إن ماكانشي عندي الإحساس، ولا واخدة بالي إن أبويا نفسه يهودي. كنت أسقط الموضوع ده كله من ذهني، أبويا كان بيسمع المناقشات دي من غير ما يتدخل.»(ص 476)

لكن الأمر بدأ في التغيير حينما تزوجت ابنتها من على نبيل شعث. «رحت فلسطين عشان أزور على شعث ودينا لما كانوا هناك، والسلطة الفلسطينية كانت دخلت قطاع غزّة، رايحة أزور بنتي والفلسطينيين إللي دخلوا العيلة، وما فكرتش آخد عنوان سارينا (ابنة عمها داود) معايا، ولا فكرت إن دي فرصة وممكن أروح أشوفهم» (ص530) «ما كنتش با اقاطع أبويا وأمي، بس ما كنتش باسأل على باقي الأسرة إللي موجودة في إسرائيل، كل اللي في إسرائيل ما يخصنيش» (ص543). لذلك لم تدخل إلى دولة الاستيطان الصهيوني بل إلى فلسطين، فقد أصبح حفيدها فلسطينيا بحق! يعود إلى فلسطين، فلسطينيا هذه المرة، وليس يهوديا مغرر به، كبعض أفراد أسرة أبيها الذين اندرجوا تحت لواء الأيديولوجية الصهيونية الاستيطانية المقيتة. وها هي تروي له ولنا القصة! كي نعرف أن الدوائر تدور في حياتها دورتها الصحيحة، وسوف يعرف نبيل حينما يكبر أن «نونته» قد أخذت الموقف الإنساني الصحيح، لأنه في حقيقة الأمر الموقف الفكري والأيديولوجي الصحيح أيضا!

تبقى ملاحظة أخيرة، وهي أنه برغم وعيها بانتشار الاستهتار والغدر من حولها، حينما تنكرت الظروف لها ولزوجها. «مش كل الناس اتصرفت كويس لما الأمور تغيرت» ص 458 وأن يوسف إدريس كان من القلة التي تصرفت مع أسرتها، ومع سعد كامل بنبل وتعاطف. «كان عنده نوع من الولاء، مش كل الناس كانت بالعذوبة دي معانا». (ص 423) فإنها تروي قصة غريبة عنه من الذاكرة، وهي بطبعها خؤون، وهي قصة غير حقيقية بالمرة. كنت أود لو دققت فيها نادية كامل قبل كتابتها. حيث تقول «عدد كبير من المثقفين واليساريين راحوا اشتغلوا في العراق. والعراق كان بيكسب المصريين ويدعمهم في موقفهم المعارض، بإنه يدخل أولادهم في جامعاته مثلا. فاكرة على سبيل المثال إن حد من ولاد يوسف إدريس كان عايز يخش كلية الطب، وباعتبار يوسف إدريس من المعارضين لنظام الانفتاح ومش محبوب من نظام السادات فأولاده دخلوا كلية الطب في العراق.» (ص381) هذه القصة في حدود معرفتي بيوسف إدريس، الذي كان صديقا عزيزا عرفت أسرته عن قرب، لا أساس لها من الصحة. فلم يدخل أي من ولديه كلية الطب لا في العراق ولا في غيرها.

هوامش:

(1) إلى الحد الذي لم تفكر فيه مثلا ولفترة طويلة في أنها قضت خمس سنوات في السجن بلا ذنب أو جريرة، إلا لمجرد تشابه في الأسماء، بالرغم من أن الشاهد الرئيسي فشل في التعرف عليها أكثر من مرة، حينما قبض عليها في القضية المسماة «قضية الجبهة الوطنية» التي اتهم فيها زوجها سعد كامل عام 1954، وبعد أسابيع من زواجها منه. (ص 174 و176 حيث يقول الشاهد صراحة أنه لا يعرفها). فقد كان هناك 3 ماري هي، وماري بابادوبولو وماري ليفكي، ولكن المخابرات قبضت عليها هي، بالرغم من أنها ليست ماري المطلوبة في تلك القضية. وع ذلك حكم عليها بالسجن خمس سنوات مع الشغل. «ساعات سألت نفسي السؤال ده: أنا اتحكم عليّ بخمس سنين له؟ غلط؟ طلم؟»(ص180)ثم تستطرد «كان فيه أحكام عرفية، إللي هي اسمها قانون الطوارئ دلوقت، ما خضعتش لأي تحقيق بالمرة في قضية الجبهة الوطنية، ولا أثناء اعتقال الأربعة شهور الأولانيين قبل الزواج، إللى ما كانش فيها زيارات للأهالي ولا اتصالات بين المسجونين وبعض، وما كانش فيه قضية واضحة، ولا اتحقق معايا في القضية الثانية بعد الجواز. خدت حكم خمس سنين بدون تحقيق» (ص181)

(2) تحكي نائلة كامل هذه الواقعة البالغة الدلالة، على مدى عسف وغلظة حكم العسكر وتناقضاته الغبية، وهو يؤسس دولته الاستبدادية، وكيف أن فتحي رضوان كتب في مذكراته، أنه لما كان وزيرا، مر في سيارة الوزارة ورأي امرأة واقفة عند باب السجن «شايلة زيارة ومستنية الإذن بالدخول صعبت عليه، لما قرّب بالعربية اكتشف إنها أخته «منيرة» شايلة الزيارة لابنها سعد. المنظر ده خلاه يعيط». (ص179)

(3) يحكي فتحي رضوان نفسه عن الأمر في عمليه (خط العتبة) و(الخليج العاشق) وتأخذ عنه الراوية وهو يتحدث عن أ/ه التي جاءت صبية إلى مصر، «ماكانش فيه أمان في بلدهم، فحطوا البنات على حمار، وبعتوهم على مصر... دي كانت سمعة مصر بلد الأمن والرخاء في عين الجد الكبير لفتحي رضوان في أبخازيا. وفي عين موسى وساره جدودي في أسطمبول، وبعد كدة بشوية في عين لياندرا، أمي من قرية ريبا في إيطاليا» (ص 480)

(4) «أبويا من ناحيته ما كانش منجذب خالص ولا لإسرائيل ولا للديانة اليهودية ولا لأي ديانة. افتكرت إن في شبابه اهتم باتجاه منتشر في العالم اسمه les libres pensuers أي المفكرين الأحرار، فلسفتهم إن التفكير في الدين يبقى بحرية وإن الأديان السماوية زي بعض، لها رب واحد وإن الإيمان جوة القلب ةمش ضروري متابعة طقوس دينية بشكل دقيق. أبويا كان كده، وبيقول على نفسه كدا. وأنا افتكر كويس إن عمره ما كان متدين ولا متعصب لأي دين ولا لأي حاجة. عمري ما سمعته بيقول تعليق على المجتمع المصري كأنه مش منه.» (ص513).

(5) هكذا يحكي يوسف إدريس عن سعد، وكيف نظم الرحلة لشبان في مقتبل العمر، ضمن نشاطات جمعية أنصار السلام للسفر لأول مرة في حياتهم لحضور مؤتمر للشعوب في النمسا فيه هدى زكي ويوسف إدريس وزهدي الرسا وغيرهم. «سعد كان صغير ورفيّع ورئيس تحرير مجلة (الكاتب) وأحنا كلنا حواليه. كوّن مجموعة مننا نروح نحضر مؤتمر للشعوب في النمسا. تمن شبان مصريين ما شافوش إوروبا قبل كده. وحنتجنن نسافر. في بداية حياتهم ماعندهمش فلوس، وسعد نظم الرحلة وسبقهم عشان يرتب حايسكنهم فين، وحا يستقبلهم أزاي والبرنامج إيه، وهما حا يحصلوه. ياخدوا مركب وينزلوا في جنوا في إيطاليا، ومن هناك ياخدوا قطر للنمسا. نزلوا من المركب في جنوا ما لقوش حد مستنيهم في المينا. ما يعرفوش طلياني، وما عندهومش فلوس، وما معاهمش حتى عنوان مكتوب. يوقفوا الناس في الشارع ويقولوا Partiggiani della pace، يعني أنصار السلام بالطلياني. ما يعرفوش أي كلمة تانية، ومستنيين إن الجملة دي تنقذهم بأي شكل. الناس في جنوا ما يعرفوش إيه أنصار السلام دي. يا عيني مشيوا في الشوارع يائسين، وفاتهم القطر إللي مفروض ياخدوه علشان يقابلوا سعد. في الآخر سوّاق تاكسي وقف من غير ما يشاورولوا. يظهر لقى شكلهم غريب، الدنيا برد ولابسين صيفي جايين من مصر زي ما هم كدا بالهدوم اللي عليهم، ماشيين مبلولين في المطر، دراعاتهم على صدرهم حاجة مأساوية خالص: إنتم عايزين إيه؟ بارتيجياني ديلا باتشي! ركّبهم كلهم معاه في التاكسي واتصرف. يسأل ويدوّر هو على بارتيجياني ديلا باتشي دي لحد ما لقى المقر. وفعلا أنصار السلام فرع جنوا استلموهم، وجابولهم تذاكر، ووصلوهم المحطة، وركبوهم القطر، وقالوا لهم اسم المحطة اللي لازم ينزلوا فيها في النمسا. وهناك بقى المفروض إن سعد يكون مستنيهم. في القطر استمروا جعانين وبردانين! خايفين ما يلحقوش يقروا اليافطة وينزلوا لأن القطر كان بيقف مدة قصيرة في المحطات. أو ودا الكابوس يوصلوا وما يلاقوش سعد، ويحتاسوا في النمسا. سعد في الوقت ده كان راح يستناهم في المحطة مع شاب مصري اسمه محمد برادة يعرف سعد من أيام (الحزب الوطني) وفتحي رضوان قبل حركة السلام. بيدرس فيزيا في النمسا، بعد كدا بقى واحد من العلماء المشهورين بتوعنا. لما الشباب ما وصلوش حصل لسعد وبرادة ذعر: يادي المصيبة! جرى لهم إيه؟ حنلاقيهم إزاي؟ استنوا القطر اللي بعده والدنيا برد. محمد برادة ابتدا يفقد الأمل: مش حا ييجوا! ما عندهمش فلوس وما يعرفوش حد، حاييجوا إزاي؟ سعد قال جايين جايين يوصلوا يلاقوني مستنيهم! رفض يمشي من المحطة، واستنى ساعات وساعات. دخل الليل، ومع كل قطر يوصل يطلع من الاستراحة يقف ع الرصيف. يوسف إدريس بيحكي إن من ناحيتهم كل ما القطر يهدّي يطلعوا كلهم رؤوسهم من الشبابيك يقروا اسم المحطة، لحد ما يوسف إدريس طلع يبص م الشباك وشاف راس يعد من بعيد واقف مستنهيم على الرصيف لوحده بيرتعش: لحد النهاردة ما شفتش وش أحلى من وش سعد في اليوم ده. نزلوا وحضنوا بعض وسكنوا وأكلوا واتدفوا! سعد اتصرف، جاب لهم جاكتات والبرنامج مشي، وحضروا المؤتمر وزاروا أوروبا ورجعوا. يوسف إدريس حكى القصة وهو منفعل، وخلانا كلنا ننفعل معاه وننبسط ونضحك. هيصنا وسقفنا لما وصل للحتة إللي بيقول فيها إن شاف وش سعد في المحطة! وبصينا لسعد وحسينا إن وشه حلو فعلا! سعد استغرب وقال: آه فعلا! أنا كنت نسيت الحكاية دي خالص! أنا حبيت يوسف إدريس لما حكى القصة دي. أصل كان فيها إعجاب بسعد. قصة قديمة لما كانو كلهم لسه صغيرين وسعد كان الدينامو! عرف بحدوته صغيرة زي دي يحيي اعتبار سعد إللي كان أصبح منطوي قوي في الثمانينات. يوسف كان كويس معانا دايما ولطيف ويحبنا. كان عنده نوع من الولاء، مش كل الناس كانت بالعذوبة دي معانا.» (ص421-423)

(6) أثار كتاب (أزمة المثقفين) حينما كان ينشر عام 1961 على شكل مقالات في (الأهرام) وقبل أن يظهر ككتاب الكثير من الجدل والنقاش. ليس فقط لأنه كتب موقف الدولة الناصرية من المثقفين ورغبتها في احتوائهم، وعدم ثقتها فيمن لا ينضوون تحت سلطتها منهم بطريقة فجّة إلى حد ما، ولكن أيضا لأن الشريحة الكبيرة من المثقفين الذين تناولهم الكتاب، أي مثقفي اليسار خاصة، كانوا في المعتقلات الناصرية وقتها. وكانت ثمة رغبة من النظام في أن يتخلوا عن أجنداتهم الثقافية أو السياسية المستقلة وأن ينخرطوا كلية في مشروع النظام. وهو أمر لا يختلف كثيرا عما دعاه فاروق حسني بعد ذلك بعدة عقود بضرورة إدخال المثقفين إلى الحظيرة. ولأن الكتاب وثيقة دامغة تكشف عن عداء النظام العسكري، حتى في أفضل مراحله وطنية وهي مرحلة عبدالناصر، للحرية وللمثقفين بشكل عام، فقد اصرّ محمد حسنين هيكل فيما بعد على ألا يعيد طبعه. لأن الأزمات التي يناقشها، وهي الأزمة التي بدأت بمطالبة الجيش بالعودة إلى ثكناته، بعد قيامه بالثورة على الملك والفساد لأنه ليس سلطة حكم؛ والأزمة التي اندلعت في مارس عام 1954 مطالبة بالحياة النيابية الحرة، وبأن تنهض السلطة على شرعية ديموقراطية؛ ثم الأزمة الثالثة التي تجلت عبر المفاضلة بين أهل الثقة وأهل الخبرة حينما بدأ النظام في تعيين العسكر لإدارة أمور ليس لهم أي خبرة حقيقية بها، فتعطلت عجلة التنمية. ناهيك عن تلك الأزمة الناجمة عن اعتقال جل مثقفي اليسار المصري، ووضع خطة خمسية ذات طبيعة اشتراكية، بينما كل من نادى بتلك الاشتراكية خلف القضبان. هذه الأزمات كلها تدين النظام الناصري الذي أصبح هيكل رمزا له بعد رحيل عبدالناصر، وتفاقم الأزمات بينه وبين خلفيه: السادات ومبارك.

(7) نعرف من سياق السرد كيف أن الأوبريت الغنائي (الشاطر حسن) لحسن فؤاد كان يتخلق ويتبلور في بيت سعد كامل، وكذلك اوبريت صلاح جاهين الشهير (الليلة الكبيرة) وكيف وجدت مسرحيات ألفريد فرج (حلاق بغداد) و(سليمان الحلبي) ويوسف إدريس (جمهورية فرحات) و (اللحظة الحرجة) و(الفرافير) طريقها للمسرح عبر تشجيعه.

(8) لمؤلفة الكتاب محاولة سابقة في تقديم قصة أسرتها من خلال الفيلم الوثائقي (سلطة بلدي) والذي تعقبت فيه زيارة نائلة كامل لأسرة ابيها لأول مرة في دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، يكشف لنا بطريقته البصرية الخاصة كيف تعيش امتدادات أسرة أبيها في شقق تشبه كثيرا الشقة التي تعيش نائلة كامل نفسها فيها بالقاهرة، والتي عاشت بها مع أسرتها المصرية. ويمكن مراجعة الفيلم على الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=JoAJ-9DRySM