يسلط الشاعر التونسي الضوء على الفنية السردية التي تميز القصة القصيرة جداً. يموضعتها على تخوم الشعريّة، ويبحث في تجلياتها التاريخية، ويدل على أن لحظة ازدهارها جاءت مع سقوط السرديات الكبرى وتعزيز مشهدية الفرد في حياته اليومية العابرة.

القصة القصيرة جداً: شعرية مُغامرة

عبدالوهّاب الملوّح

سوف يذهب في اعتقاد البعض أن زكريا تامر ينهج طريقة الدادائيين، يُغمض عينيه، يفتح القاموس، يضع سبابته بشكل عشوائي على كلمة يقيم عليها قصة. والحقيقة إنه يعيد إلى الأذهان ما درج على فعله بعض الشعراء العرب القدامى من مثل : أبي العبر؛ أبي الشمقمق، فلكأن صاحب «النمور في اليوم العاشر» يريد أن يؤكد أن القصة القصيرة جداً هي أدب عربي صرف في طريقة تشكيلها وفي شرعيتها كأدب أصيل.

لقد قال غسان كنفاني ذات مرة: "لنتفق أولاً (على) أن مصطلح القصة القصيرة جداً وما يندرج تحت هذا العنوان لا يعني أن من طرحوه يبتدعون لوناً أو منهجاً أو جنساًً أدبياً جديداً. ولو عدنا إلى كثير من النصوص القديمة بدءاً مما جاء في (القرآن الكريم)، وكتب السلف، ومواقف الظرفاء، والشعراء، وأصحاب الحاجات في بلاطات الأمراء، وما تمخّض عنها من حكايات، لم تكن تتجاوز الجمل القليلة، ولعل كتاب "المستطرف في كل فن مستظرف" لمؤلّفه الأبشيهي خير مثال.. وكذلك بعض النصوص التي جاءت في كتب الخلف وأكثرهم من الكتّاب الكبار محلياً وعالمياً، لوجدنا عشرات من النصوص أمثلة تصلح لتكون قصصاً قصيرة جداً، سمعناها أو قرأناها، وقبلناها، لأنها ببساطة حملت إلينا متعة القصّة مستوفية الشروط الفنيّة، ووصلتنا سهلة.. من دون أن يفرضها علينا أحد تحت عنوان "قصّة قصيرة جدّاً"، وكأنه مصطلح يوحي بابتداع جنس أدبيّ جديد.. ولعل الكلمة الوحيدة المبتدعة، التي أثارت جدلاً بدأ ولم ينته هي كلمة (جداً)(1) غير أن هذا النوع الأدبي سيعمل على تجديد مفهومه من الداخل ومن الخارج أيضاً، إلى درجة تستدعي إعادة النظر في مقوماته الجمالية، ذلك أنه وهو يعتمد على توظيف الحذف والاسترجاع والاستباق ويُعوِّل على الانزياح التعبيري؛ يتحول إلى فضاء متعدد الأبعاد يستدعي أكثر من نص، مما سيؤدي إلى إذكاء الدلالة الشعرية ومن ثم توليدها أيضاً، فيتحول هذا الضرب من الكتابة السردية إلى ما يشبه كرنفال تتباين فيه الأصوات والألوان والفنون كذلك، رغم وفائه لشرطه الأول، الذي ينبني على عنصرين أساسيين وهما: الإيجاز والتكثيف؛ لقد ذكر عبد القادر الجنابي مرة كيف أن بشر فارس وهو يحاول صياغة مفهوم للقصة القصيرة وجد نفسه يحدد شروط قصيدة النثر.. وهو ما سيؤكده الدكتور جابر عصفور حين قال: "لا يبرع فيه سوى الأكفاء من الكتاب القادرين على اقتناص اللحظات العابرة قبل انزلاقها على سطح الذاكرة، وتثبيتها للتأمل الذي يكشف عن كثافتها الشاعرية بقدر ما يكشف عن دلالاتها المشعة في أكثر من اتجاه"(2)

وهو ما يؤكد أن ثمة قاسماً مشتركاً بين القصة القصيرة جداً وقصيدة النثر، وهو الإيجاز والتكثيف ووحدة العضوية، وهي من مكونات الشعرية الحداثية؛ فالقصة القصيرة جداً هي هذا النمط من الكتابة الذي يمشي على الأسوار بين الأجناس الأدبية: الخبر، الشعر، الأحدوثة، القصة، أدب الحكم، أدب الطرائف والنشرة الصحفية البرقية، التي تستمد مادتها من الواقع المباشر، وعلى القاص أن يحولها تشكيلاً فنياً ينقذها من المباشرتية والمناسبتية، فتنجح في الإفلات من الزمن ولا تبلى بمجرد مرور الحادثة المعنية، وهو ما عبر عنه زكريا تامر بقوله: "ما يشغلني هو كيفية إنجازي لنصّ يعبّر عن واقع راهن ويستطيع القارئ بعد خمسين عاماً أن يقرأه ويشعر أنّه يعبّر عن واقعه أيضاً.. وهذا هو التحدّي الحقيقي الذي يواجهه الكاتب"(3)

فالقصة القصيرة جداً نثر سردي يأتي به القاص من القمامات ويلتقطه من قاذورات اليومي؛ يستنطق الواقع من خلال رصد مظاهر التهميش وتصوير حالات العيش وإبراز وجهات نظر مكتومة.. هو نثر سوف ترويه شعرية سرية حددت لها خياراتها ككتابة شذرية تعتمد الإيحاء من أجل دمقرطة المعنى وشيوعية الحقيقة الفنية، سوف يأتي هذا النص مفخخاً بالبياض يتأسس على منطق الفجوات والوقفات المباغتة، لنسف كل ما هو يقيني، من أجل خلق قارئ نوعي هو بالأساس شريك في كتابة النص وليس مستهلكاً فقط.

ليست القصة القصيرة جداً إلا محاورة فنية مع الآخر، ربما هي ميساج مومض يختزل العالم والتاريخ، دونما باروكيّة بلاغيّة أو فخامة أسلوبيّة أو استطراد لغوي؛ تذهب مباشرة نحو الداء تسلط عليه المجهر من جميع الجهات بحثاً عن أسبابه وسبل معالجته، سوف يعمل القاص فيها على الاقتصاد اللغوي وهو اقتصاد مدروس مشحون متعدد الدلالات. وعلى القارئ أن يذهب في التأويل شتى ما يرى؛ والمهم هو أن يعيد كتابة النص مجدداً، ولعل القصة القصيرة جداً تذهب إلى هكذا اتجاه من أجل استنفار حواس القارئ، لذلك سوف لن تخلو من الساركازم أقصى درجات التهكم، بل سوف تستدعي شخصيات عرفت بهبلها وغبائها في التراث العربي، فتتحول إلى كائنات كاريزمية تبحث فيها انطولوجيا وتكشف علاقتها بالواقع، من خلال تحاورها مع الآخر/ السلطة؛ والآخر/ المقهور، لذلك سوف يجيء القص مربكاً يخلخل حالات اليقين والاطمئنان ويدعو إلى مراجعة السجالات الفكرية بأسلوب مختلف تماماً عن أسلوب القص المعتاد؛ إذ أن حقيقة القص هنا أنه مقاربة نقدية للواقع تحلل مكوناته وترصد تحولاته، بغية الكشف عن عناصر العطالة فيه، منطلقة من مبدأ أن الجوهر الإنساني نبيل، على الرغم مما يتبدى من دونيته وخساسته وأشكال القذارة التي تتلبسه أحياناً؛ فهو نبيل إزاء ما يواجهه من أشكال الاستبداد والقهر والتهميش وسوف تأتي هذه المقاربة شعرية، رغم عنوانها السردي فلا تعوّل كثيراً على المكونات السردية، بل ستعمل على تحريف وسائل توظيفها وربما إلغائها تماماً كما هو الشأن بالنسبة للفضاء السردي، الذي تدور فيه الأحداث، فهو ليس مجرد مكان جغرافي إنما هو عقد بين الكاتب والمتلقي، عقد سري لإزالة حواجز الخيالي وتنزيل الأحداث منزلة الوقائع الفعلية؛ لذلك سوف لن يحفل النص بنوع المكان وخصائصه ومميزاته الجغرافية، بل سيتم نسف كل وظائفه المعتادة، فهو المكان كفضاء غير محدد؛ إنه الوجود ككل، وسيعمد الكاتب وكما قال باشلار: "إلى تكثيف الوجود في حدود تتسم بالحماية"(4) بإفساح المجال للتخييل أن يصبح بدوره مقولاً واقعياً، من خلال التأشير على ما يحدث في الواقع كأعمال قد تبدو غرائبية، أقول التأشير عليها بل وجعلها مدار الحكي، بل الإعلاء من شأنها فهي الواقع الفعلي رغم عجائبيتها: "بكل ما في الخيال من تحيز"(5). وهو ما سيمنح خيال الإنسان المقهور بعده الأنطولوجي، بحيث يطالب بأحقيته في الوجود كفاعلية أكيدة، غير أن المكان سيأخذ بعداً آخر بوصفه تشكيلاً طوبوغرافيا على بياض الورقة، مما سيجعل من النص وطناً في منفى الكتابة؛ فالبياض مقول في القصة القصيرة جداً، كما أن التوزيع البصري للكتابة وطريقة تنضيد النص تؤسس من الفضاء الدلالي معنى له مكوناته، وبالتالي مشروعيته، على الرغم من لاحدودية هذه الإمكانية - وتقتضي المغامرة عدم تحديد المكان - ولعل هذه المحدودية هي التي أبرزت عناصر جمالية ليست من جنس السرد ولكنها من نوع الشعري، تعضد عملية توليد المعنى المتعدد من خلال ابتكار صور شعرية بكر، "فالصورة هنا ما ينجزه الفضاء"، كما يؤكد على ذلك جيرار جينات، بما يدل على شعرية النص بحكم ميله إلى الانزياح أكثر من الحكي. وكما أدى غياب المكان في بعده المادي/ الفيزيائي وتعويضه بالفضاء الدلالي إلى التخفيف من منسوب الحكي على حساب التكثيف والانزياح، جاء كذلك دور الشخصية وكيفية أدائها وتقنيات رسمها وفلسفة تكوينها.

ليس من شك إن الشخصية هي العصب الحي لكل عمل قصصي، فهي واحد من المكونات الأساسية لكل عمل ينشد القص، فهي جزء لا يمكن التخلي عنه في كل بناء سردي، كيفما جاء ووفق ما كان معماره- وأنماط البناء السردي في القصة القصيرة جداً متباينة ومختلفة ومتعددة، بل إنها أحياناً لا تستجيب للشروط المألوفة للبناء - ودور الشخصية حيوي جداً لإخصاب نمو السرد وهندسة مسارات عبوره نحو الاكتمال؛ على أنه رغم التطورات التي لحقته فزحزحت مقامه من بطل نموذجي ملحمي يُدير دفة الأحداث، ثم إلى شخصية لديها بعض المقومات الواقعية من دون أن تتخلى عن جيناتها المتخيلة كمركز بيده الحل والربط، إلى شخصية عادية، وانتهى الأمر إلى تلك الأنماط المهمشة وصولاً إلى الشخصية الإشكالية، المبتورة؛ المهزوزة التي تفتح المجال لكل التأويلات وتتنكب الدور الرسولي لتعكس حقيقة الفرد في صراعه مع ذاته ومصيره، ومع تحولات الواقع، ولقد أدى هذا التطور في النظرة إلى دور الشخصية ووظائفها إلى اعتبارها أقرب إلى العلامة النحوية، على نحو ما ذهب إليه تودوروف وديكرو في المعجم الموسوعي لعلوم اللغة؛ فهل هي فعلاً مجرد إشارة لسانية ضمن سياق نحوي بلاغي، أم حقيقة فعلية بتناول تخييلي، كما هو الشأن في القصة القصيرة جداً التي وإن قلصت من فاعلية عدة مكونات سردية، مثل المكان، لكنها حرفت من أدوار الشخصية وركزت على الفرد الفاعل رغم سلبيته أحياناً، لكن سوف يتم تجنب الاستطراد في وصفه والتوغل في رسمه، وإذ يتم اللجوء إلى شخصيات تاريخية أو أسطورية أو دينية فإنما لتوظيفها واستثمار دلالالتها الرمزية، التي تضفي على القص عمقاً إيحائياً متعدداً ينقذ الكاتب من الاسترسال والمحطات الوصفية المسهبة، كما الشأن في هذه القصة القصيرة جداً لإبراهيم الدرغوثي:

بغلة ابن خلدون

ذهب عبد الرحمان بن خلدون يطلب الإذن من تيمورلنك بمغادرة دمشق بعدما أهداه مخطوطاً يصف فيه حال بلاد المغرب، كان الغازي قد طلبه منه عند مقابلته الأولى، فأذن له. لكنه استوقفه عندما هم بامتطاء بغلته، وسأله بلسان الترجمان:

ـ بكم تبيعني بغلتك يا علامة العرب؟(6)

أما الشخصيات العادية فهي في الغالب بلا هوية ولا صورة ولا ملامح، إنها شخصية غائمة بلا اسم أحياناً هي حرف على الطريقة الكافكاوية أو صوت أو رقم على الأورويلية، أو هي فكرة ربما تجيء حالة أيضاً أو هي مجرد شيء؛ كرسي؛ طاولة حجرة؛ بصقة؛ بقعة حبر.. الخ؛ يبدو الأمر أشبه بالسريالية غير أن مهارة كاتب القصة القصيرة جداً تكمن في قدرته على إبراز ما في الواقع من غرائبية بشكل تهكمي يختلط فيه الأمل بالسخرية بالضحك، بل وستتخذ بعض الشخصيات، رغم دونيتها، بعداً كاريزمياً وهو ما سيضخها بعناصر هي بالأساس مراقي جمالية ذات توهج شعري؛ تعضدها في ذلك فلسفة القاص في صنع الحدث وإدارته ومنابت تشكله ومسارات نمُوّه، ولعل ما سيميز القصة القصيرة جداً هنا ارتكازها بالأساس على الفكرة كحدث، فهي لن تعتمد أحياناً على الحدث، كما هو مألوف، حركة ونمواً وتصعيداً، بل إنها تحتفل بالحالة وتنوع عليها، كما هو الشأن في قصة نقصان لطارق الطوزي:

نقصان

قال: أنت صفة النقصان.

تحوّل نظري إلى مصدر الصوت، لم أتبيّن صاحبه، لكن مع هذا أجبته: لن أعير ذاتي بشبهة كمالك.

أحسست نظرته تخترقني بتقزز ومقت، رغم عدم تبين ملامحه التي تخفت خلف سمة الظلام. قال لي بلهجة متهكمة: ألست مسلما؟

أجبت على الفور: كان بودّي أن أصارحك بإلحادي، ولكن لن يسرك غير اعتقادك بأنّي صفة النقصان التام، نعم، أنا مسلم، أو ربما أنا التركي، أو ربما أنا الزنجي، أو ربما أنا عبدك المبارك... أتعرف يا صديقي لا أعتقد أنك تعي كمالك إلا باحتقاري فلعل هذا سبب يجعلك تتدرب على بعض احترامي.

مزقت الضحكة حجب الرؤيا، فكان ظلّي محدثي(7).

أو كما هو الشأن في هذه القصة القصيرة لسعيف علي

متكئ الشمس

استطعت أن أكون اليوم عند المنحنى. أن أخبر المدينة عن اتجاه الريح. أن أرمم بعض سورها القديم بمِلاط بنِّي وأشرب قهوتي. كانت الشمس فقط تقْهرني. لم ترد أن تقبل عذراً، أن توقد في سمتي وجه الدفء: سمعتني أقدح في نسل مجرَّتنا وأمسك الظِّل في حنَق لأنه رفض رسمي على مدِّ رصيف خطوطا بيضاء لعبورٍ مُتَرجِّل(8)

ففي هذه القصة ليس ثمة مكان ولا زمان ولا حدث أيضاً إنه حوار تأملي يتسم بالدينامية من الداخل والفاعلية الدرامية دونما تصعيد لها إلى حدود الانفعالية، وفي المقابل وحين ستعتمد القصة الحدث فإنما هو ذلك الحدث العادي، البسيط تلتقطه من الحياة اليومية، من الأزقة المزدحمة بحركة النهار المفتوحة على أكثر من شراع، على اعتبار أنها بؤرة سردية مفتوحة على أكثر من تأويل؛ هو حدث يتم التقاطه من الأرصفة من ملفوظات المارة وما تهجس به من أسئلة بسيطة أو معقدة أو بلا أهمية أحياناً؛ إنه واقعة مما يتكرر يومياً وفي كل لحظة، لكن إبراز عنصر المفارقة فيه هذا من ميزاته، ومن ميزات القص البرقي، كما هو الشأن في هذه القصة القصيرة بعنوان فضيلة للقاص محمد سعيد الجندوبي:

فضيلة

كانت فضيلة محلّ حنق نساء الحيّ.. والسّبب في ذلك جمالها الصّارخ ولباسها الفاضح.. أفاقت ذات صباح وقد غمرت قلبها موجة نور إيمانيّة.. قرّرت التّديّن، فتحجّبتْ، ولم ينقص هذا من حنق نساء الحيّ.. "الإيمان في القلب".. هكذا تحدّثت إحداهنّ وقد نفخت صدرها الضّخم، وعلكة الكلوروفير تطقطق بين أسنانها..

في معهدها رفض المدير قبولها بزيّها الجديد:

ـ هذه بدعة مستوردة.

ـ بل هذا أمر إلهي.

ـ أمامي قرار حكومي.

ـ وطاعة الله؟

ـ أنا أنفّذ القانون..

تركت الدّراسة، ولم تجد عملاً..

مرّت سنوات عادت خلالها فضيلة إلى جمالها الصارخ وإلى لباسها الفاضح.. وأصبحت عندها محلّ إعجاب نساء الحيّ(9).

أو كما هو الشأن في هذه القصة القصيرة جداً لفاطمة بن محمود

لحظة الكتابة

كان على جوع وظمأ شديدين..

ولم يكن لديه مال قليل يخفّف به ألمه قليلاً.. لذا رسم على الصفحة البيضاء للورقة أطباقاً شهيّة وشراباً لذيذاً..

ازدرد الورقة ثم مصّ أصابعه من مرق الطعام المتقاطر..

ما ألذّ الحياة.. لولا زخّات الفقر(10)

لكن براعة القاص سوف تظهر في تركيز الحدث وتكثيفه والارتقاء به إلى درجة الإدهاش، من دون الوقوع في فخ الانفعالية الدرامية، ربما من هنا جاء الاسم الذي أطلقه الأمريكان على القصة القصيرة جداً "صادن فيكشن" "التخيلات الصادمة" "فالكتابة الشذرية، المومضة كخيار جمالي تتأسس على الإيحاء والرمز في معالجة الحدث، مع المحافظة على عنصر المباغتة والمفاجأة الذي من شأنه أن يحدث الدهشة، وهو المشروع الجمالي للقصة القصيرة جداً.

إن الانزياح في مفهوم السرد، بتوسيع فكرة المكان من مجال محدود إلى فضاء دلالي متعدد الأبعاد، ونسف مقومات الشخصية الكلاسيكية بتعطيب دور البطل الدونكيشوتي، وإعطاء المبادرة للفرد البسيط ولمفردات اليومي من خلال الإنصات إلى نبض الأشياء في جميع أشكالها وتشخيصها، والضغط على الحدث واعتصاره بالتنويع عليه من الداخل، من دون الوقوع في إغراءات التصعيد الدرامي التي سوف تؤدي إلى تكاثر وحداته وتناميها إلى أحداث أخرى، كل هذا أنتج نصاً مغايراً يتميز من جهة بالإيجاز وما يتطلبه من تقشف لغوي واقتصاد في مكونات الجملة مع ما سيلحقه من انحرافات في درجة النحوية. ومن جهة ثانية يتميز بالتكثيف، الذي سيعززه اللجوء إلى الإيحاء والتعويل على الرمز والاستعارة، مما سيخلق صوراً هي في الأصل صور شعرية.

لقد ازدهر هذا الفن على إثر سقوط الايديولوجيات الكبرى والعودة إلى مشاغل الإنسان البسيط في أدق تفاصيل يومه، وهو ما جعله يعرِّي قسوة العالم الذي يقوم أساساً على الفوارق والتراجع القيمي والخسارات التي مُني بها الفرد في تطلعاته من أجل حياة أفضل، فلم تأت القصة القصيرة جداً كموضة من موضات العصر لذي يتسم بالتسارع والريتم اللاهث والنزعة الاستهلاكية والرغبة في الامتلاك بأسهل الطرق؛ ولم يأت قصرها انعكاسا لهذا الريتم لتقديم مادة سهلة وسريعة للقارئ، بل هي عودة للفرد في المجتمع؛ الفرد كلحظة يتم تحويلها إلى ديمومة من خلال تكبيرها وتشريحها بأدق الأدوات، وهي عودة أيضاً إلى المفردة والاشتغال على مكوناتها وتلويناتها وتأويلاتها المختلفة ومخزونها الدلالي على اعتبار أنها كون.

لعل مستقبل السرد في القصة القصيرة جداً؛ يبقي السؤال قائماً كما طرحه ذات يوم جيمس توماس في مقدمة انطولوجيا القصة القصيرة جداً في أمريكا، "إلى أي حد يمكن أن تقصر القصة القصيرة جداً ولا تفقد مشروعية اعتبارها قصة؟"

هوامش:

(1) عدنان كنفاني: القصّة القصيرة جدّاً، إشكالية في النصّ أم جدليّة حول المصطلح!، موقع عدنان كنفاني على الإنترنت.

(2) د. جابر عصفور: "أوتار الماء" عمل يستحق التقدير، الأهرام ـ العدد 42470، في 17/3/2003م.

(3) من حوار روزالين الجندي معه، جريدة البعث، ع.  11836، 18/7/ 2002.

(4) غاستون باشلار: جماليات المكان ترجمة غالب هلسا مؤسسة الدراسات والنشر.

(5) نفس المصدر السابق.

(6) ابراهيم درغوثي: "بغلة ابن خلدون"، ق. ق. ج، موقع دروب 30/اوت 2009.

(7) طارق الطوزي "نقصان"، ق. ق. ج، مركز النور 05/10/2009.

(8) سعيف علي: "متكي الشمس"، ق. ق. ج، موقع دروب 20/04/2010

(9) محمد سعيد الجندوبي: "فضيلة"، ق. ق. ج، موقع نشيج المحابر 25/01/2007.

(10) فاطمة بن محمود: "لحظة الكتابة"، ق. ق. ج، مركز النور 05/10/2009.