كتبَ عشرات القصص القصيرة. أرسل بعضها إلى الصحف والمجلات الثقافية، فلم يُنشر منها شيء، ولم يصله أي اعتذار. أعاد الكرة مرَّة ومرَّتين وأرسل نصوصاً أكثر جودة، فلم تُنشر أيضاً.
واصل الكتابة دون انقطاع، وكتب مجموعات قصصية وروايات ومسرحيات ودراسات أدبية ونصوص نثرية، عرضها على بعض دور النشر، فاشترطت أن يتحمل هو كلفة الطباعة، فهي لا تستطيع أن تغامر بالنشر لكاتب غير معروف!
رفض أن يدفع قرشاً لنشر ما يكتب، فهي إهانة له ولقلمه، وحالة عبثية مخالفة لكل منطق، فكيف يكتب ويدفع؟! إنه يسمع أن الكاتب في الغرب يعيش من ريع كتبه ومقالاته، ولكن الناشر هنا يعيش على ما يكتب المبدع، الذي يبقى جائعاً محروماً، فهي حالة أشبه بالتطفل المقيت، أو كأن الناشر مصاص دماء!
لم يكن لخالد الفرج خُلطة بالمجتمع الثقافي، ولا معرفة بأحد يذكر من الأدباء. أشفق عليه أحد زملائه في العمل، فعرض عليه أن يقرضه مالاً لينشر أحد كتبه، فرفض بإباء، فهو لا يستسيغ هذا المبدأ، أما النقود فأمرها ميسور، إنه لا يقبل أن يهدر كرامته من أجل أن يرى اسمه على غلاف كتاب ورقي فوق أرفف المكتبات.
كان ذلك قبل ثورة الإنترنت والنشر الإلكتروني، حيث ركن خالد الفرج إلى عزلته، وأكبَّ على القراءة والكتابة، وتوقف عن محاولات النشر، فما يهمه أن يكتب ويتخلص مما يؤرقه ويشغل باله من أفكار ومشاعر وهموم.
ذات صباح، وهو يقرأ صحيفة يومية، وقع بصره على مقالة نقدية تشيد برواية له. فرك عينيه بقوة، وعاود النظر، فقرأ العنوان نفسه، إلتهم المقالة بسرعة، وأعادها مرة أخرى، إنها تتحدث حقاً عن رواية له، ولكن كيف؟ ومَنْ نشرها؟
قام إلى أرفف مكتبته الممتلئة بما كتب، فوجد مخطوطة الرواية في مكانها، فلم يستطع تفسير ما حدث. نادى على زوجته يسألها عن الأمر، فابتسمت بسعادة قائلة: وأخيراً!!
لم يفهم ماذا تقصد، فنظر إليها مستفهماً، فقالت: الحمدلله، وأخيراً صدرت لك أول رواية.
سألها مستغرباً: ومن الناشر؟
أجابت بدلال: أنا.
- أنت؟! كيف؟! ولماذا؟!
- ألم تكن تبحث سابقاً عن ناشر يُعطي ولا يأخذ؟ لقد تكفلت بنشر روايتك على حسابي، والأرباح مناصفة بيننا.
- لم لم تسأليني أولاً؟
- أعرفك جيداً... لن توافق.
- تضعينني تحت الأمر الواقع إذاً؟
- لم يخطر ذلك ببالي قط، وإنما فعلت هذا حباً لك، وطمعاً بابتسامة مشرقة منك.
لم يدر ما يقول، فهو في أعماقه يشعر بالسعادة، ولكن ...
أحست بما يمور في أعماقه، فقالت: أنا متفائلة بالرواية، والمقالة التي نُشرت اليوم تبشر بالخير.
- وما أدراك بفحوى المقالة؟!
- لم أقرأها بعد، ولكن أهديت نسخة من الرواية للناقد كاتب المقالة، وتمنيت عليه أن يكتب عنها إن وجدها تستحق أن يخط من أجلها سطوراً، فهاتفني قبل أيام معجباً بالرواية والكاتب.
شكرتها عيناه، ثم ضمها إلى صدره معبراً عن امتنانه لها. تملصت منه، ثم قالت: سأتصل بالمطبعة لتوزع الرواية على المكتبات من خلال شركة توزيع نشطة، فلا شك أن كثيراً من القراء سيبحثون عنها قريباً.
نجحت الرواية، وراجت بين القراء، وفازت بجائزة وطنية محترمة، مما رفع أسهم خالد الفرج، وأصبح اسماً لامعاً في سماء الأدب، وتسابقت الصحف والإذاعات لإجراء مقابلات معه. وقام بتوقيع الرواية عدة مرات بدعوة من أندية ومؤسسات ثقافية.
اتصل به محررو الصحف والمجلات يطالبونه أن يخصهم بجديد إنتاجه من قصص أو فصول من روايات، لتتزين بها صفحاتهم الثقافية. فلم يتردد، فأرسل لكل منهم ما طلب، فتوالى نشر قصصه في الصحف والمجلات. وكان يقرأها وهو يبتسم ساخراً، تسأله زوجته عن سبب ابتسامته الساخرة، فيجيبها أنه أرسل لكل مطبوعة ما رفضته سابقاً، لم يغير أو يعدل شيئاً، والمضحك أن كل منها تنشر قصته، وتكتب كترويسة فرعية (حصرياً... آخر ما كتب خالد الفرج).
تشاركه زوجته الابتسام، وتقول: هذا لا يعيبك، وإنما يدينهم، فهم يتعاملون مع أسماء رنانة، لا نصوص مستحقة. لا عليك، واصل الكتابة، ولا تحمل هم الناشر، فأنا موجودة!
يضحكان بسعادة، ثم يقول: لم يبق عندي أي رواية أو مسرحية أو مجموعة قصصية مما كتبت سابقاً، فكلها بين أيدي الناشرين، الذين تسابقوا للاستئثار بها، حتى أن بعضهم عرض عليَّ توقيع عقد احتكار لأعمالي القادمة.
تسأله: وهل وافقت؟
- كيف أوافق، وأنت ناشرتي الأولى والأثيرة لدي، يكفيهم قديمي، ولن أوقع عقد احتكار لكل جديد إلا معك.
يضمها إلى صدره بحب وحنان، فقد أنقذته من إحباطه وعزلته وسوداوديته، والأهم من تجاهل الوسط الثقافي وإقصائه.