يطرح الناقد العراقي مجموعة من الأسئلة حول الشعر العربي المعاصر، وما طرأ عليه من تغيرات. ويتناول التيارات الثلاثة: شعر الشطرين، وشعر التفعيلة، وقصيدة النثر البارزة فيه. ثم يطرح سؤاله الجوهري حول كيفية التعامل مع كل تيار، وما هي الأدوات الضرورية لتحليل النص الشعري في كل منها.

الشعر العربي الآن: ديمقراطية الإبداع والتلقي

باقر جاسم محمد

 

ترى كيف يمكن النظر إلى الشعر العربي المعاصر؟ وكيف يمكن استجلاء صورته الكلية، في شتى تجلياته الشكلية والفكرية التي تميزت بصيغ إبداعية متغيرة ومتغايرة؟ وهل هناك من نزعة إبداعية وذوقية أدبية واحدة وموحدة تنهض بمهمة منح الشعر هويته وطاقته في الاستمرار من خلال التفاعل بين جمهور المتلقين المتنوع ونصوص الشعر المختلفة شكلاً ورؤيا؟ أم أن التجربة الأدبية الفعلية قد أفرزت واقعاً شعرياً متنوعاً يمنحنا الحق في الحديث عن تعددية على مستوى صيغ الإبداع والإنشاء الشعري توازي التعددية الذوقية على مستوى التلقي؟

بداية، لا بد لنا أن نبين الرأي في مسألة أن المعاصرة غير الحداثة؛ فالمعاصرة ذات جوهر زماني لأنها تتعلق بالتعاصر الزمني؛ أعني أن كل ما يكتب من شعر عربي في زماننا الراهن والماضي القريب الذي يعود إلى مرحلة الأحياء فهو معاصر مهما كانت صيغته الفنية وطبيعته الفكرية والرؤيوية التي ينطلق منها؛ أما الحداثة فهي تأتي من الإحداث أو الابتكار والتجديد والخروج على الأشكال والرؤى الفنية السائدة سواء أكان ذلك في زماننا هذا، أم في أزمنة بعيدة خلت. حتى ليمكننا القول أن كلاً من طرفة بن العبد في العصر الجاهلي (543 – 569 م)، وأبو نؤاس (145 - 199 هـ)، وأبو تمام (188- 231 هـ) كانوا شعراء حداثيين في أزمنتهم لأنهم أحدثوا جديداً على مستوى الرؤيا الوجودية الشاملة للنفس والمجتمع، وعلى مستوى التقنيات الفنية والتوسع في المجاز والاستعارة حتى لقد ضاقت بهم الأشكال الفنية الموروثة، فقيل أنَّ أبا نؤاس وأبا تمام قد خرجا على عمود الشعر العربي أو تقاليده الراسخة السابقة. وكذا الأمر بالنسبة لشعراء الموشحات الذين كان لهم أثر كبير على مستوى الخروج على البنية التقليدية للقصيدة العربية.

أما الحداثة الشعرية العربية الراهنة فهي تيار مهم من تيارات الشعر العربي المعاصر يقوم على عناصر فنية مغايرة، وانحيازات فكرية ومعرفية ورؤيوية، مع شعور شامل بالمسؤولية التاريخية في أن ينهض الشعراء بمهمة كتابة شعر يعبر عن روح العصر ومتغيراته؛ إذن هو شعر يتسم بنزعته لأن يكون ذا ثقافة زمانية قائمة على الصيرورة والتغيير والتحول، فيغادر الحالة السكونية للثقافة المكانية التقليدية التي كانت المهاد العقلي والتصوري للشعر العربي التقليدي. فشعر الحداثة العربية يعبر عن رؤى الشعراء الذاتية وحساسيتهم الذوقية والجمالية المتفاعلة مع الحياة الحديثة؛ لذلك فهو شعر ينماز بصفات فنية وفكرية تجعله مختلفاً عما سواه من أنماط الشعر التقليدية.

وفي تقديري أن هذا الموقف المعرفي والمنهجي الواضح في التمييز بين مفهومي المعاصرة والحداثة مهم في الدراسات النقدية لأنه يمثل مقترباً أكثر موضوعية وإنصافاً؛ موقف يتعامل كل أنماط وتجليات الشعرية العربية المعاصرة والحديثة المختلفة من دون أن يضع شروطاً مسبقة على ماهية الشعر. وهو موقف لا يتورط في قضية الجدال والخلافات النظرية والانحيازات لهذا النمط أو ذاك من أنماط الأداء الشعري. و لعلنا نقترب أكثر من الحقيقة الراهنة للشعرية العربية حين نقول أنها تقوم على ثلاثة تيارات رئيسية:

التيار الأول، ممثلاً بالشعر التقليدي المعاصر الذي قد يطلق عليه البعض (شعر الشطرين) أو (الشعر العمودي)، الذي يستند، في المستوى اللغوي، إلى البلاغة العربية التقليدية، وفي مستوى البناء الشكلي، إلى شكل القصيدة التقليدي المستندة إلى وحدة البيت البنائية والدلالية في القصيدة، وعلى مستوى الإيقاعي، يعتمد على بحور الشعر العربي كما رسم حدودها الخليل بن أحمد الفراهيدي والأخفش وأيضاً على انتظام أبيات القصيدة الواحدة على نسق واحد من حيث القافية.1 وهو يستند، ذوقياً، على إرث راسخ وكبير من ثقافة التلقي الشفاهي والثقافة المكانية التي تتسم بميل راسخ نحو السكون؛ و من شعرائه المعروفين: أحمد شوقي و حافظ إبراهيم والمازني والرصافي وأحمد زكي أبو شادي وشعراء المهجر (جبران وإيليا أبو ماضي ونسيب عريضة وآخرون) ومحمد مهدي الجواهري وبدوي الجبل وأبو القاسم الشابي وعبد الله البردوني وشعراء ما يسمى بقصيدة الشعر،...إلخ. ومن المجلات التي لعبت دوراً مهماً في تعزيز مكانة الشعر التقليدي العربي الحديث نذكر مجلتي (الرسالة) و(الثقافة) في مصر و(الأديب) البيروتية.

والتيار الثاني الذي يُصطلح عليه بـ(شعر التفعيلة) أو (الشعر الحر) الذي عمل، من الناحية الفنية والفكرية، على إعادة تعريف الشعر وتحديد وظائفه على أسس ثقافية مختلفة تماماً، فلم يعد البيت وحدة البناء الفنية إذ حل محله مفهوم السطر الشعري، واحتفى شعراء التفعيلة بتنوع القوافي، وعملوا على جعل الشعر عنصراً جمالياً ينطلق من النفس ليعبر عن رؤيا شاملة للذات وللمجتمع وللعالم، واستثمروا في ذلك خزيناً ثقافية عريضاً من المعارف والأساطير الموجودة في الثقافتين المحلية والعالمية. ومن الناحية الإيقاعية عملوا على الاحتفاظ بالإيقاع العربي، ولكنهم هجروا القوالب التقليدية للبحور الخليلية، وقالوا بوجوب أن تكون التفعيلة هي وحدة البناء الموسيقى في الشعر العربي؛ مما حرر موسيقى الشعر العربي من الضيق والتكرار الممل. وعلى المستوى الذوقي، استطاع شعراء التفعيلة أن يوجدوا لأنفسهم جمهوراً مثقفاً متابعاً واسعاً نتيجة لظهور قضايا وتحديات جسيمة لم يكن الشكل الشعري التقليدي قادراً على التعامل معها من دون أفق من الحرية الفنية والشكلية.

وقد لعبت مجلة (الآداب) البيروتية، التي صدر عددها الأول في العام 1953، دوراً مهماً في دعم تيار شعر التفعيلة وتوطيد أركانه ثم سرعان ما تسيد شعر التفعيلة المشهد الشعري في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. ومن شعرائه: بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ومحمود البريكان وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وصلاح عبد الصبور ومحمد الفيتوري وفدوى طوقان ونزار القباني وشوقي بزيع وأحمد عبد المعطي حجازي وأدونيس ومحمود درويش وسميح القاسم وسعدي يوسف وعبد الرزاق عبد الواحد الذي كتب شعر الشطرين وشعر التفعيلة3 وحسب الشيخ جعفر وممدوح عدوان وأمل دنقل وسلافة حجاوي وحميد سعيد وعز الدين المناصرة وموفق محمد وناهض الخياط وعبد الكريم الكاصد وحسين عبد اللطيف وجبار الكواز الذي كتب نصوصاً في الأنماط الثلاثة.

والتيار الثالث، ممثلاً بما يعرف بـ(قصيدة النثر) التي هجرت، عن قصد ودراية، أغلب مفاهيم الشعرية العربية القديمة والحديثة، ونهضت بمهمة استكشاف جوهر الشعر في التراث العربي وفي الثقافة الغربية بعيداً عن وصاية الأشكال الشعرية القائمة في ستينيات القرن المنصرم سواء أكانت تقوم على محاكاة شعر الشطرين أم على محاذاة شعر التفعيلة. وقد ذهب شعراء قصيدة النثر إلى أن الشعر يمكن أن يحقق وجوداً مؤثراً وذا حيوية بالغة في النثر الخالي من الإيقاعات الشعرية التقليدية أو المحدثة. وقد نجحت قصيدة النثر في إحداث قطيعة جوهرية مع التراث الشعري وفي الكشف عن أن جوهر الشعر لا ينحصر في صيغة شكلية أو إيقاعية واحدة وإنما هو يتمدد إلى النثر الذي يمكن أن ينطوي على طاقة شعرية متجددة في حين أن هناك من شعر الشطرين ما لا ينتمي إلى الشعر إنما إلى النظم السقيم الذي لا يحمل من الشعر شيئاً سوى بعض السمات الشكلية.

وعلى مستوى التلقي، نجحت قصيدة النثر في أن تؤسس لنفسها مكانة مرموقة في الشعرية العربية المعاصرة. وتتجلى هذه المكانة في وجود جمهور واسع لقصيدة النثر؛ وفي حقيقة إن بعضاً من شعراء التفعيلة الكبار وجدوا أنفسهم يكتبون قصيدة النثر، مثل أدونيس ومحمود درويش وسامي مهدي وسعدي يوسف وعز الدين المناصرة وآخرين. أما شعراء قصيدة النثر، فمن الرواد: توفيق صائغ وجبرا إبراهيم جبرا، ومحمد الماغوط، وأنسي الحاج، وحسين مردان وشوقي أبي شقرا، وفاضل العزاوي، وجان دمو وعبد القادر الجنابي وسركون بولص، وصلاح فائق، وعزالدين المناصرة، وسليم بركات، وعباس بيضون،... إلخ، ثم جاء شعراء آخرون رفدوا قصيدة النثر بنصوص مهمة، منهم: خزعل الماجدي وزاهر الجيزاني ورعد عبد القادر وسلام كاظم ورعد فاضل وشوقي عبد الأمير وعبد الزهرة زكي وسلمان داود محمد وأمل الجبوري ونصيف الناصري، وعبد الأمير جرص وعقيل علي وريم قيس كبة ومحمد تركي نصار وفليحة حسن ومنذر عبد الحر ودنيا ميخائيل وعلي نوير وخالد خضير الصالحي وجابر محمد جابر وركن الدين يونس ورياض الغريب و باسم فرات ... إلخ.

وقد نهضت مجلتا (حوار) التي ظهرت في العام 1962، و(شعر) التي صدرت في العام1957، بمهمة التبشير بقصيدة النثر والعمل على نشر نصوص روادها الأوائل وأيضاً نشر الدراسات والمقالات التي تعمل على التأسيس النظري، لها سواء أكانت مترجمة أم كتبها مؤلفون عرب. ثم سرعان ما صار لقصيدة النثر أكثر من منبر وجهة تعمل على نشرها حتى أنها اخترقت حجب الدرس الأدبي الأكاديمي الذي يتسم بالمحافظة فشهدنا تكريس دراسات في الماجستير والدكتوراه للبحث في الجوانب الفكرية والفنية والجمالية التي اتسمت بها قصيدة النثر وأيضاً للبحث في شعريتها بصورة عامة أو لدى شعراء أفراد ممن كتبوا قصيدة النثر وعرفوا فيها على وجه الخصوص.

ولا يفوتني هنا أن أشير إلى ظهور نمط أدبي مهم هو ما يسمى بالنص المفتوح الذي هو، بحكم التعريف، لا ينتمي إلى جنس أدبي بعينه وإن زعم بعض من يكتبونه أو يكتبون عنه أنه نوع من قصيدة النثر. لذلك فإننا نفضل أن نكتب عنه دراسة مستقلة لاحقاً.

وينبغي لنا أن ننوه هنا أن ترتيب تيارات الشعرية العربية الثلاثة الذي اعتمدناه يستند إلى ملاحظة التتابع التاريخي، ولا علاقة له بأي تفضيل لشكل من الأشكال الفنية أو تغليب لنمط على آخر. والحقيقة إن أعداد من يكتبون شعراً في هذه المظاهر الثلاثة تكاد تستعصي على الإحصاء، ففي كل البلاد العربية، هناك أعداد كبيرة من الشعراء التقليديين (شعر الشطرين)، ومثلهم من شعراء التفعيلة، وأيضاً شعراء قصيدة نثر. وفي كل صورة أو مظهر من مظاهر الشعر المذكورة أعلاه، هناك نصوص كتبها شعراء مبدعون حقيقيون مما يجعل من نصوصهم حجة لمن يريد أن يتحمس فيزعم أن هذا النمط أو ذاك هو الشعر الحقيقي، وهناك نصوص أخرى أقل أهمية كتبها شعراء آخرون يمكن أن تعدُّ حجة على ضعف وركاكة الشعر الذي يكتبه شعراء هذا النمط أو ذاك. لذلك نقول إن المقارنة لا تجوز إلا بين نصوص الشعر الممتازة أياً كان منهج الإنشاء الشعري الذي يلتزمه الشاعر. ونجد أن من المهم، أيضاً، أن نقرر أن لكل من هذه المظاهر الثلاثة شعراءه المعروفين و جمهورهم الذي يتابعهم، و إن لم تخلُ الساحة ممن يكتب الشعر في أكثر من صيغة شعرية واحدة فيجد صدى لما يكتب، و قدراً من القبول لدى الجمهور.

إذن، فإننا نعيش في حالة خاصة من تداخل المستويات الفنية والإبداعية والذوقية مما يمكن أن أطلق عليه تسمية (الديمقراطية الإبداعية والذوقية). ومن أهم ظواهر هذا التعايش الإبداعي والذوقي أن الدراسات الأكاديمية والكتب والمقالات ما زالت تكتب في الإشادة بـ(شعرية) هذا النص أو ذاك سواء أكان من شعر الشطرين أم من شعر التفعيلة أم من قصيدة النثر أم من النص المفتوح؛ و ما زالت دور النشر تطبع دواوين الشعر ومجاميعه في ضروبه المختلفة، وكذلك ما تنشره المواقع الألكترونية التي تهتم بالثقافة والأدب. ولعل الحقيقة المهمة التي ينبغي لنا أن نؤكد عليها أنَّ الشعر الحقيقي كان، وما زال، يتجلى في أكثر من مظهر أو صيغة شكلية أو أسلوبية، إذ لا يمكن سجن الشعر في صيغة شكلية ثابتة.

ولكن هل يعدُّ هذا التسليم بوجود الديمقراطية الإبداعية والذوقية تخلياً عن الموقف الشخصي للناقد؟ أقول إن هذا الرأي يأتي استجابة لأهمية الإحاطة المعرفية الواصفة للواقع الشعري، وأيضاً لضرورات المنهج النقدي الموضوعي، أكثر منه تعبيراً عن موقف ذاتي؛ فأنا ممن يعتقدون بضرورة أن يعبر الشكل الشعري عن صيغة جمالية وفنية وفكرية تتناسب والعصر الذي يعيش فيه الشاعر نفسه. فما أبدعه الشعراء الجاهليون كان نتيجة تفاعل إبداعي خلاق مع ظروفهم البيئية والثقافية والحضارية التي تكاد تكون ثابتة وذات جوهر مكاني يكاد أن يكون ساكناً؛ لذلك، لا يعقل أن يكون النمط الشعري التقليدي (شعر الشطرين) صيغة أبدية للشعر العربي في كل زمان ومكان؛ لأنه سيكون في هذه الحال نوعاً من الثابت الذي لا يعروه تغيير، والمقدس الذي لا يجوز أن يمس، وليس الأمر كذلك. ومن جانب آخر، لا يعقل أن يجري تجريد الشعر المعاصر المكتوب بالصيغة التقليدية من شعريته انطلاقاً من موقف قبلي. والحقيقة أن تأبيد الشعر التقليدي (و يمكن أن نضيف إليه شعر التفعيلة) يعني، ضمناً، غلق باب التطور والتجديد والابتكار على مستويات الشكل والإيقاع واللغة والمضامين، وحرمان الأجيال اللاحقة من حق الإضافة والابتكار بدعوى أن الأولين قد أنجزوا كل شيء على أفضل وجه، وما على الآخرين إلا اتباع خطاهم.

ولعل القراءة المدققة لتاريخ الشعرية العربية تظهر أن التململ والرفض لهيمنة الأشكال الشعرية التقليدية كان قد سبق محاولات التجديد المعاصرة. ففي العصر العباسي كان هناك خروج على عمود الشعر كما قرره أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي (ت 370 هـ) في كتابه (الموازنة بين شعر أبي تمام و البحتري). وقد استنبط الآمدي بعضاً من سمات عمود الشعر من شعر البحتري أساساً، ثم توسع في هذه السمات القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني (ت 392 هـ) في كتابه (الوساطة بين الشعر وخصومه)، ثم اكتملت الصيغة الشاملة لنظرية عمود الشعر على يدي أبي علي بن أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي (ت 421 هـ) في مقدمته لشرح ديوان (الحماسة) لأبي تمام؛ فقد أجمل السمات الأساسية لعمود الشعر العربي التقليدي مستفيداً ممن سبقه من النقاد وأضاف إليها ما استنبطه هو من خلال قراءته لشعر الشعراء في الكبار (الفحول) في الجاهلية والإسلام.

ولكن على الرغم من وجود نزعة التقعيد الفني المبنية على استلهام الإنموذج الشعري القديم كما تمثلت بنظرية عمود الشعر، فقد كان ثمة شعراء بحثوا عن طرق جديدة للإنشاء الشعري منذ العصر العباسي مثل أبي نؤاس والمتنبي وأبي تمَّام، ثم ظهر لاحقاً نوع شعري اُصطلح عليه بـ(القوما) الذي ابتكره ابو بكر محمد بن عبد الغني المعروف بابن نقطة (ت629هـ)، و نظم فيه أيضاً صفي الدين الحلي، و كان البند أول محاولة لإقامة أوزان النص الشعري العربي على التفعيلة لا البيت التقليدي بشطريه، ولقد اشتهر كثيرون في نظم البند مثل شهاب الدين ابن معتوق الموسوي (ت1087هـ) وعبد الرؤوف الحسين الحسني (ت1113هـ) و محمد بن احمد الزيني (ت1216هـ) وعبد الغفار الأخرس (ت1290هـ) و احمد بن درويش علي البغدادي الحائري (ت1339هـ) ومحمد بن إسماعيل المعروف بابن الخلفة (ت 1227هـ). وفي المشرق، ثم في الأندلس، ظهرت الموشحات التي كان لها دور كبير في الخروج على قالب القصيدة العربية التقليدية من حيث البنية الإيقاعية فظهر تعدد القوافي في الموشح الواحد أو ما يصطلح عليه بالتسميط.

وقد تضمنت الموشحات شيئاً من التساهل في استخدام كلمات من اللهجات المحلية، فكأنه إنما كان يكُتِب لكي يُغنى، وهذا ما حدث بالفعل إذ كانت الموشحات المادة الكلامية الأساسية في الغناء العربي في الأزمنة القديمة وفي بعض الغناء العربي المعاصر. بيد أن موجة التغيير الجذري في الشعرية العربية لم تتوقف ولم تكتف بما أنجزه الأولون. وقد وقع تغيير جوهري في النظر إلى الشعر من حيث الرؤيا والموضوع والكيفيات الفنية في منتصف القرن العشرين، وتمثل ذلك التغيير بالانتقال من شعر الشطرين إلى شعر التفعيلة، فشكل منعطفاً حاسماً أسهم في تغيير الأسس الفنية والذوقية والفكرية للشعر العربي الحديث. ولم يتوقف مَدُّ التحديث والتغيير فظهرت قصيدة النثر التي احصى عز الدين المناصرة لها (45) اسماً، وظهر أيضاً النص المفتوح2. ومن أمثلته: نص أدونيس "الكتاب: أمسِ المكان الآن" ليكون استجابة واعية لتموجات الواقع الموضوعي وتحولاته السياسية والاجتماعية والثقافية والزمنية العميقة والسريعة التي لا تكاد تنتظم في صيغة واضحة أو مستقرة؛ وقد أسهمت هذه التموجات والتحولات إلى تغيير جوهري في الحساسية الشعرية على مستوى الإنشاء وأيضاً في الذائقة على مستوى التلقي.

من الواضح أن العرض السابق للشعر العربي المعاصر يثير مشكلة يعبر عنها السؤال الآتي: ترى، كيف للناقد أن يتعامل مع تجليات الشعرية العربية الثلاث آنفة الذكر؟ من الناحية التقنية، يمكن أن يكون ذلك من خلال الاستحضار الواعي والمتمكن للشروط الفنية التي اعتمدها النقد الأدبي لكل تيار من التيارات الثلاثة على حدة (شعر الشطرين، شعر التفعيلة، قصيدة النثر) حين يشرع الناقد في تحليل النص الشعري وينظر فيه مستكشفاً خصائصه الإجناسية ليقول بشأنه قولاً نقدياً ينطوي على قدر كبير من الحياد المعرفي. ومن ناحية الرؤية المنهجية، يمكن أن يلتزم الناقد بموجهين اثنين: أولهما، حضور النماذج العليا أو النصوص الشعرية المؤسسة لكل تيار على حدة حتى يقيس عليها قيمة الإنجاز الشعري المتحقق في النص الشعري المنقود، من دون النظر إلى هذا القياس على أنه نوع من الدعوة إلى التقليد الأعمى لنصوص الشعراء السابقين؛ إنما هو نوع من الدعوة لتجاوز النصوص الشعرية المؤسسة والعمل على الإضافة النوعية إليها؛ و ثانيهما، أن تكون لدى الناقد القدرة على الكشف عن الجديد الذي أضافه النص إلى رصيد النماذج العليا السابقة أو حتى عن مدى اقترابه منها.

وبهذا يجمع النقد بين القيمة القياسية (المعيارية) النوعية لتراث النوع الشعري من جهة، وطاقة التجدد والتجاوز التي تحققها بعض النصوص الشعرية الجديدة التي تنجح في تقديم إضافة جديدة مهمة من جهة أخرى. فالناقد لا يستطيع أن ينكر على نفسه وعلى قارئه إمكان وقوع التجديد في صلب الأنماط والأشكال الشعرية القديمة والحديثة مهما كان ذلك التجديد ضئيلاً، وذلك من خلال اتخاذ موقف سلبي قبلي إزاء النصوص التي تكتب و تنشر في شتى المضان. وفضلاً عن ذلك، فإن مثل هذا الموقف النقدي يعبر عن وعيٍ عميق بأن للشعر تجلياتٍ ووجوداً لا يستوعبها شكل فني واحد، سواء أكان هذا الشكل مستمداً من التراث ومن الأقانيم التي وضعها النقد العربي القديم، أم أنه يشكل خرقاً لهذه الأقانيم وثورة عليها. ولعل قراءة نقدية حصيفة لنصوص مختارة، مثل معلقة طرفة بن العبد، وبعض قصائد أبي تمام، وقصائد السياب وأدونيس عبد الصبور وأمل دنقل، ونصوص محمد الماغوط وعباس بيضون وخزعل الماجدي تقدم دليلاً ناصعاً على أن وجود الشعر، من الناحية الموضوعية، يتجاوز الأشكال الفنية هو أمر يقع في صلب حقيقة الظاهرة الشعرية منذ القدم وحتى الآن.

 

ملاحظة خارج المتن: لقد سبق لي أن نشرت صيغة أخرى لهذه المقالة في جريدة (الأديب الثقافية)، ولكنني قد أجريت عليها تغييرات مهمة مما اقتضى التنويه.