جريت بأقصى سرعة. وصعدت درجات السلم ثلاثا في كل قفزة. فتحت الباب وأغلقته بقوة ستفزع أسرتي كلها لو كانت موجودة في الشقة.
أسرعت نحو البلكونة. لم أرها. ظلالها فقط واضحة، وفكرت في أنها تقف في مدخل البيت. ثلاثة كلاب سمعت أصوات ركضها ما أن وصلت إلى أول شارعنا. التفت نحوها. واندهشت من كثافة الغبار الذي تثيره بأقدامها، وتحوله إلى غلالة أحسست بها تلفني وأنا أجري. الظلال بدت جسد كلب واحد بثلاثة رؤوس. رميت بعدة مشابك غسيل لعلها تتحرك من مكانها أو تنبح . سكبت جردل ماء طال كل ظلالها. أنزلت السبت حتى نهايته ورحت أؤرجه يمينا ويسارا، مترقبا أن تنشب أظافرها فيه. كل ما أردته أن تبتعد قليلا عن المدخل لأقدر على التصويب نحوها بدقة أو على الأقل لأراها.
لا أتذكر مطاردة ثلاثة كلاب لي من قبل. غالبا ما كان يطاردني كلب واحد يتوقف بعد مطاردة قصيرة، تبدو مجرد تمرين لعضلاته أو اختبار مدي سرعتي.
سرحت في أن تشبثها بوقفتها لإعجابها بالظلال التي تكون جسدا واحدا بثلاثة رؤوس. مثلها كنت لا أمل من تكوين الأشكال بظلال أصابعي على الحائط. وصار من السهل علي إظهار كلب يحرك فكيه. لو رأته الآن لظلت تنبش الحائط لافتراسه أو لإبعاده عنها.
مرت عدة عربات. وسار في الشارع كثير من الأشخاص، توقف اثنان منهم تحت البلكونة وانهمكا في الكلام بصوت عال وتقاطع ظلاهما مع ظلالها. ورغم كل ذلك لم أسمع أي نباح أو حتى نظر أحد نحو الكلاب الرابضة في المدخل. أخيرا ظهر عدد من أصحابي عائدين من المدرسة. طلبت منهم أن يهشوها أو يضربوها بأي شيء.
- ما فيش حاجة
وسيغيرون ملابسهم وينزلون للعب الكرة.
- ماشي
لم أخبرهم أنني مازلت أرى الظلال. بل وقفوا فوقها وهم يكلمونني. فقد نستطيع خداع بعضنا في أي شيء إلا في التظاهر بالثبات أمام مثل هذه الكلاب.
نزلت السلم درجة درجة، وفي يدي عصا جدي التي سمعت حكايات كثيرة عن قدرتها على القتل من أول ضربة. وتمنيت لو كانت أخف قليلا لأوجه الضربات بسرعة في كل الاتجاهات. لم أجد الكلاب في المدخل. فقط ظلالها واضحة لي. لمستها بطرف العصا متوقعا انقضاضها علي فجأة. اقتربت. وقبل أن انهال عليها بالضرب شل صوت أبي حركتي. أمرني بإعادة العصا إلى مكانها. ولم يسمح لي بالنزول للعب مع أصحابي.
عدت إلى البلكونة التي ظللت أتابع منها المباريات طول أيام معاقبتي. وظلالها جسد واحد برؤوس ثلاثة لا تغيب إلا بحلول الليل. وفي مجيئي وذهابي اعتدت على ركل الحصى نحوها راغبا في أن تتحرك أو تفعل أي شيء، فلا يكفي انفرادي برؤيتها، ولابد من أحداث جديدة حتى لو كانت مطاردات لا تنتهي. جربت دفنها تحت كومة تراب فارتفعت كما لو أنها تتهيأ للقفز. وحينما حددتها بالطباشير استغرب أصحابي فلم أرسم بهذه الدقة من قبل، وشاركوني في ركل الحصى نحوها، واعتبرنا الفائز أكثرنا تسديدا داخل الرسم، وصرت كلما محيت الخطوط أعيد تحديدها. كأنني أحافظ على سر بإعلانه للجميع.
وفي يوم أتى عمال وحفروا الشارع لإصلاح مواسير المياه. انفصلت الرؤوس الثلاثة في قطعة من الإسفلت، وبقية الجسد تفرق في قطع كثيرة. حاول أحد العمال إبعادي لكنني نجحت في أخذ تلك القطعة. وأسرعت بها إلى السطح. خبأتها خلف جبل من الكراكيب. ويوميا كنت أصعد للاطمئنان عليها وحملها بين يدي، تخيلتها حيوانا أربيه، لا يتضح منه سوى ثلاث رؤوس حددتها بالطباشير. تدريجيا أحسست بثقل القطعة يزداد حتى عجزت عن زحزحتها من مخبأها، وتصورت جسدها بدأ ينمو، وترقبت افتراشه السطح كله.
في يوم آخر كنت عائدا من المدرسة. رأيت جيرانا بينهم أبي متجمعين عند مدخل البيت. كتمت ضحكتي وأنا ألمح ظلالهم تكاد أن تكون جسدا واحدا لا تكف رؤوسه عن الحركة والتصادم. فهمت من جملهم المتناثرة أن عمالا أتوا لتنظيف السطح لبناء دور جديد. وما أن بدؤوا في حمل الكراكيب حتى هاجمتهم ثلاث كلاب ضخمة، فروا منها إلا واحدا عقرته في ساقه وأسرعوا به إلى المستشفى. وغير معروف سبب توقف الكلاب أمام باب شقتنا ونباحها المتواصل كأنها تريد الدخول أو تنادي على أحد. ثم بعد دقائق ظنها الجميع لن تنتهي هبطت السلم وتوقفت عند المدخل، وهم كل شخص بالجري إلا أن الكلاب تلاشت كأن الأرض انشقت وابتلعتها.
صعدت بسرعة إلى السطح. قطعة الإسفلت اختفت منها الرؤوس مخلفة ثلاث حفر، ورجعت خفيفة يسهل تخبئتها في مكان آخر. ممكن تحت سريري لو نجحت في التسلل بها إلى الشقة. وقف في طريقي عامل غاضب يسب السطح والكلاب وكل من في البيت، وهوى بقبضته على قطعة الإسفلت. تهشمت إلى شظايا صغيرة. راحت تتقافز قفزات عالية كادت تصيب وجه العامل قبل أن تسكن تماما.
انتظرت تعليق ابني على الحكاية، فرأيته يحدق في الحائط مبتسما. رؤوس ثلاث كلاب شكلتها ظلال أصابعي دون أن أنتبه. ظلت واضحة رغم ابتعادي عن الحائط ووضع ذراعي خلف ظهري. فكرت في إحضار عصا جدي تحسبا لأية مفاجآت بينما انشغل ابني بالمناداة عليها بالأسماء التي اختارها. وراح يتخيلها تركض نحوه أو تعود إلى الحائط كلما أمرها. غضب من إضاءتي الغرفة واختفاء الظلال. وبعدما تأكد من عدم قدرتي على إظهارها مرة أخرى ، عاود النداء عليها، وظل فترة طويلة يلعب ويركض مع الكلاب في كل أنحاء الشقة. ويقلد قفزاتها العالية فوق قطع الأثاث، وينهرها لو كادت أن توقع شيئا أو أصرت على النباح أمام باب غرفتي المغلق.