تتناص هذه الرواية مع رواية (أليس في بلاد العجائب) في تقنيتها الواعية لأسلوب تداخل القصص والحكايات وتشعبها بما يشكل بنية اساسية في الروي، فضلا عن أن السرد الروائي لا يهدف في تراتبيته الى بناء حكاية تقليدية انما يحاول ان يلم بحالة من فوضى الاقاصيص في بوتقة سرد واحدة لا تعير اهتماماً لقصة محورية واحدة من دون سواها وانما ترتكز على حوارات ومواقف تثري الحالة النفسية للشخوص وتتقصى تحركاتها.

التناص وتقنية البناء

في رواية «موت صانع القبعات» لعلي حداد

رنا صباح خليل

 

كثيراً ما نسمع ممن هم اكبر منا سناً بأن العراق لم يذق طعم الأرتياح منذ العهد الملكي ولحد الآن، وحين نقرأ هذه الرواية نجد أننا نقول ذلك بقوة وبرسوخ أكبر على الرغم من انها ليست رواية سياسية ولا هي بالرواية التاريخية الا ان الكاتب الذي يمتلك القلب النابض والذي له القدرة على جعل الحياة تملأ الوجدان بهجة وفضولاً وترقباً، من الطبيعي أن يكون ذلك القلب النابض هو الموزع الجوهري لدماء ثيماته ومن الطبيعي أن يقنعنا بفكره من خلال المظاهر الفنية التي ترتكز على وميض الصور والدلالات، التي ما تفتأ تخاطبنا على الدوام وتفرض علينا انتباهاً وتطلب منا أن نتنفس النص وفق درجة ابداعيته القصوى ارتباطاً بفحواه وطريقة ادائه، وهذا ما فرض علينا التساؤل عند قراءة رواية (موت صانع القبعات) لعلي حداد، الرواية الصادرة عن دار الشؤون الثقافية عام 2017، تساؤل مفاده من هو صانع القبعات وبمن ارتبطت هذه الشخصية على مستوى الاعمال السردية العالمية؟ فمن يمتلك وعياً ثقافياً لا بد أن يرن في سمعه وهو يفتتح الرواية بعنوانها ما شاهده في طفولته عن تلك الشخصية الخيالية الفنطازية التي كانت ترافق (أليس في بلاد العجائب) الرواية التي جاءت لتتناسب في طرحها ومخيلة الأطفال وهي رواية لـ (كارل لويس)، إذ ان هناك اعمالاً تصنع تعالقاً نصياً من خلال الثيمات (الأفكار) مع النصوص الأخرى الغائبة وهذا ما فعلته رواية (موت صانع القبعات) مع رواية (أليس في بلاد العجائب) حيث اتبع فيها المؤلف التناص الأشاري وهو شكل من اشكال التناص الذي يعمد اليه صانع النص ليكثف عملاً ادبياً غائباً على شكل اشارات ثقافية أو عن طريق لفظة، وقد تكون هذه اللفظة دالة على تراث كبير أو فلسفة قديمة أو علم أو دين(1).

قلنا ان المؤلف التزم التناص الأشاري وهذا التناص قد يعمد الى لفظة أو لفظتين وهذه اللفظة هنا هي مسمى (صانع القبعات) وهي تحتم علينا استكناه ورودها في الروايتين واستكشاف الية التناص بينهما فصانع القبعات في رواية (موت صانع القبعات) انسان طبيعي لم يؤذ نملة في حياته، يحب الطيور والاسماك والورود ويستمع الى الاغاني العراقية القديمة ويعشق القراءة ويكتب وينشر ما يراه حقا حتى وان خالف الحكومة فضلا عن انه مرتب الهندام، جميل الهيأة يلبس اربطة عنق انيقة وفوق عينيه نظارة طبية ويحمل حقيبة تشبه حقيبة المحامين الا انه غريب عن أهله لا يسمح لاحد ان يسبر اغواره ويصل الى اعماقه، عاش منفرداً مع لميعة ورسائلها وحياته الخاصة.

اما صانع القبعات في رواية (أليس في بلاد العجائب) فكان لبقاً ذا شخصية مثيرة للاهتمام وساحرة وهو شخصية فنطازية الامر الذي يتيح ان تكون لديه عين خضراء وأخرى صفراء وله شعر رمادي وقد يبدو برتقالياً بعض المرات وهو جذاب على الرغم من انه قصير القامة وشبه اصلع ولديه فراغ بين سنيه الامامين ويعد من معارضي السلطة بعدما غنى اغنية لم تعجب الملكة.

مما سبق نستطيع ان نخرج بأن هناك صفات كثيرة متناقضة بين الشخصيتين الا ان وجه التشابه بينهما أو نقطة التعالق النصي التي تصنع التناص تكمن في تبني الاعتراض على السلطة والجرأة في طرح الأفكار وابداء الرأي، وقد يتساءل قارىء ما ـ حين يطابق بين الشخصيتين ويجد ان الاولى اعدت بصفتها الانسانية الموائمة للطابع العام بينما الثانية وهي محل اشتغال التناص جاءت خيالية تتناسب وعقلية الأطفال ـ ما الهدف من اعادة الاشتغال على الخيالي بصبغة الواقعي؟ وللأجابة يجب على المتلقي ادراك الثيمة المتمخضة عن الروايتين والتي تدلي بدلو الفكرة القائلة بأن السلطة اللامحدودة في اي دولة لا يسود فيها الا الدكتاتورية وخراب الدساتير بفعل حاكم ظالم وحاشية جبانة تنتج شخصيات من هذا النوع وما للتناص في مثل هذا الروي الا وظيفة الدعم والاسناد لمنطق النص فللتعالق النصي غايات منها تثبيت لفكرة وايضاح لمغزى وخلق بعض التأثير الذي يعمق رؤيا أو يثري موقفاً، فبإنكشاف لعبة التعالقات النصية تتغذى المثاقفة الجمالية بين النصين وبذلك تتعزز القيمة الفنية للتناص فيبدو اثر النص السابق في النص اللاحق ويرتدي النص الجديد وشاحه المنمق بنتف من نصوص مغايرة تزيده غنى معرفياً وسعة أفق تؤصل الاشتغال على النص المولود حديثاً وتفسره.

التناص عن طريق تشعب القص وتداخله:

 

للتناص انواع متعددة يستطيع الكاتب اتباعها إغناءً لعمله الفني ونتيجة لذلك نجد ان رواية ( موت صانع القبعات) تتناص مع رواية (أليس في بلاد العجائب) في تقنيتها الواعية لأسلوب تداخل القصص والحكايات وتشعبها بما يشكل بنية اساسية في الروي ولم تكن خياراً فنياً فحسب لدى الروائي بل انها شكلت عماداً تكوينياً ليس بوسع (علي حداد) ان يعتمد طريقاً مخالفاً له في اسلوبه، بعدما نحا منحى صياغة الحكاية داخل المبنى النصي، فضلا عن أن السرد الروائي لديه لا يهدف في تراتبيته الى بناء حكاية تقليدية انما يحاول ان يلم بحالة من فوضى الاقاصيص في بوتقة سرد واحدة لا تعير اهتماماً لقصة محورية واحدة من دون سواها وانما ترتكز على حوارات ومواقف تثري الحالة النفسية للشخوص وتتقصى تحركاتها ما سوغ ان نجد الشخصية المحطمة مثل رزوقي اخو عطا والشخصية المثقفة مثل سيد زغلول والشخصية المشردة السلبية مثل جاسم ليلو والشخصية البسيطة مثل عيدو سلولي وخداداي وامل اخت عطا وعبود راحة هذا غير جيقو تلفون واموري وهميان الحمال واحمد الهبل وغيرهم الكثير في الرواية فتكاد الرواية تتصف بالافراد المهمشين والبسطاء والمقهورين وهم أناس لا دور لهم في قيادة الحياة او تغيير مسارها هذا غير ان حيواتهم يدونها السارد وهي اشبه بأردية قص ممزقة وقد لا تكتمل احياناً فضلا عن انهم على كثرتهم داخل الرواية يخيل للقارىء وكأنهم كائنات خلقوا لمنطقة الدهانة في بغداد بلغة تحاورهم وطريقة معيشتهم التي يغلفها البؤس وتعمّها البساطة والتي تتشابه مع الشخصيات الورقية الكثيرة في رواية أليس في بلاد العجائب اولئك الذين يخضعون لنظام وقوانين عبثية تابعة لأهواء الحاكمة ( ملكة القلوب) المطلق هذا غير أن كل شيء في بلاد العجائب تلك مهما بلغت درجة جنونه هو كما الواقع المعيش فعلياً، فإن له ما يدعمه ويؤهله من القواعد المتراكبة، ونحن هنا لا نخالف الصواب ان ادعينا ان هذا النوع من التناص هو ما يطلق عليه بالتناص الامتصاصي الذي فيه يتم استلهام مضمون نص سابق أو فكرته او مغزاه ويقوم صانع النص بإعادة هذا المغزى او الفكرة او المضمون من جديد بعد امتصاصه وتغييره من دون ان يكون في النص الجديد حضور لفظي أو ذكر صريح للنص السابق وفي هذا الشكل من اشكال التناص تبدو عملية امتصاص النصوص السابقة غير محددة بقواعد أو ضوابط يمكن اكتشافها اذ ان معالم النصوص السابقة تتناول جدلية الخفاء والتجلي وذلك بسبب قوة ذوبانها في النصوص اللاحقة (2).

وفي اطار الحديث عن التناص الامتصاصي لا بد من الاشارة الى ان هناك فلسفة خفية اكتنفت رواية (أليس في بلاد العجائب) يدلي بها صاحب القبعات مفادها ان الوقت لديه ليس مفهوماً مجرداً تمثله ساعة كما تقول أليس بل هو يشخصن الوقت ويجعل منه كائناً متغير الأهواء، صاحب نزوات ولا يعجبه العجب فضلا عن انه يصدر الأحكام الجائرة على من لا يحترمه وهذا ما حدث فعلا عندما طلبت ملكة القلوب من صاحب القبعات وصديقه ان يغنيا لها أغنية فلم تعجبها وبالنتيجة ادخلتهم في جرم قتل الوقت مدعية انها كانت غايتهم عند القاء الاغنية فحكم عليهم الوقت بأن جمدهم، وهذه الفكرة أو الفلسفة نجدها تتناص مع احدى الشخصيات الرئيسة في رواية (موت صانع القبعات) وهو(عطا الحلو) الذي كان يشعر وكأن حياته تدور في حلقة مفرغة من الرتابة والضياع حين رضخ لإرادة والده وتزوج من ابنة عمته بعدما كان يحب وداد المعلمة التي لم يوافق والده تزويجها له بل انه رضخ لإرادة والده حتى بأختيار اسم ولده الذي انجبه من فاطمة زوجته وكان ان عوقب بجمود حياته بسبب سلبيته ورضوخه المستمر، وهذا يقودنا الى ترميزية دلالية تتناص بفكرتها مع عقاب الوقت المزعوم في رواية (أليس في بلاد العجائب) و نحن هنا لا نختلق التناص اختلاقا انما جاء اشتغالنا على مبدأ رولان بارت إذ يقول:(إن كل نص هو تناص، والنصوص الأخرى تتراءى بمستويات متفاوتة وباشكال ليست عصية على الفهم بطريقة أو بأخرى، اذ تتصرف فيها نصوص الثقافة السالفة والحالية)(3).

 

 

الروي وتقنية بنائه:

 

أن هذه الرواية لدى علي حداد هي أشبه بلوحات مملوءة بالمشاهد و تماسك الأحداث غايتها الوصول لأكتمال المبنى الحكائي ضمن

خط زمني متصاعد وهذه ميزة تميزت بها بنية الرواية، هذا غير ما قلناه سابقاً عن انها تعتمد على بث العديد من القصص والحكايات بين اتون الروي لتثبت وتسلط الضوء على المهمشين بحيواتهم البسيطة والفقراء وذوي الدخل المتوسط وجميع تلك الحكايا تعتمد في اشتغالها الفني على التداخل والتنويع مع المحافظة على عدم خلخلة ذلك السطوع الأسلوبي في خلق رواية توثيقية تغترف من تاريخ غير رسمي وتهيكله ضمن مدونة روائية شاملة مع اضفاء روح الحكاية الواحدة التي تنثرها بين فصول الروي مثل شبكة خيوط تلتف حول شرنقة الحكي ويتحكم الراوي باستجماع ثيماتها من وقت لآخر من دون الوصول بها الى خاتمة الامر الذي يصعب على المتلقي احياناً استيعاب الانتقال من قصة لأخرى فما ان تنتهي قصة او ربما ماتزال منقوصة الادراك لدى القارىء، إذ انه ما ان يبذر بذورها الأولى في مخيلته واذا بآليات الحكي المتعددة تأخذه الى قصة اخرى وتطالبه بانبات مياسمها في ذهنه لتكتمل الهيكلية الروائية وصولا للنهاية وبذلك يصبح القارىء جزءاً منها لأن روح الحياة واساليب العيش واسرار المواقف تتشظى في كل نائمة من نائمات الشخصيات التي باحت بمكنونها الذي استثمره (علي حداد) لبناء التوافق النسبي مع خط سير الشخصية الرئيسة (احمد) أو صانع القبعات كما اسماه المؤلف وهي هنا نراها امام اعيننا متحاورة، متصارعة، متحابة مكونة جدارية روائية متميزة.

إن تداخل الحكايات جاء في الرواية وفق منطق داخلي خاص إذ نجد السارد ينتقل بالقارىء من ظروف قصصية مألوفة لديه متمثلة بحيوات منطقة الدهانة في حي من احياء بغداد الى ظروف قصصية مغايرة عندما يتطرق الى قصة سفر البطل الى اوربا ومن ثم يعمل على ترسيخ تلك الأجواء بما يجعل لها مقبولية تقنعنا بانصهاره في بوتقة يومياتها وهذا يحتم على المتلقي تخيل فضاءات متعددة ومتداخلة على مستوى الزمن أو الحدث أو الشخصيات والراوي في هذه المرحلة من مراحل الروي لا يهمه ان يساير المتلقي في ادراكه للزمان أو ترسيخ الأطار العام للمكان بل هو لا يشبه الروائي التقليدي فهو حر يداخل بين الأزمنة تارة ويبتكرها بشكل جديد تارة اخرى فهو المتحكم في عملية القص الأمر الذي يجعله قد يقطع السرد ليحكي عن شيء آخر ويعود بنا لاحقاً لما كنا قد شحذنا أذهاننا عليه ومن ذلك قصة مقتل صديقه والكلب في اوربا التي يعود اليها البطل بطريقة فلاش باك باستذكارات متباينة ومشوشة عاطفياً أو في قصته مع لميعة ورسائله اليها وهو في السجن إذ ينقلنا الروائي اليها بانتقالة خاطفة عقب حديثه عن أحمد الهبل وملوك ام الباكلة وقصة فراشها القطني الذي في بيتها واشتهائه لها وفي الصفحة نفسها وهي صفحة 90 من الرواية ينتقل الى قصة ملك كالة ودخوله خان الحلو لينام فيه وكل هذا يضعنا امام بداهة ذلك السعي الصريح من لدن الراوي لألتقاط اكبر قدر ممكن من المشاهد الحية التي تثري النص وتشد من أزره .

وقد يأتي الروائي بتقنية واعية يستخدمها السارد لينظم عملية السرد فيعمد الى تشويش الحكاية الأصلية باحضار حكاية دخيلة من خارج المبنى الحكائي لتتخلل المتن الحكائي ضمن سيرورة الأحداث وتدفق السرد الذي يخلق لحظات غايتها الأدانة لأفكار بالية وموروثات مجتمعية مستهجنة لدى الراوي ومن ذلك قصة (رشك) الذي احب زوجته ونهبها وفقاً للاصطلاح المتعارف عليه في الوعي الجمعي عندما يرفض أهلها تزويجها له فيأتي بها الى منطقة الدهانة ويسكن حارسا في مدرسة مع زوجته وأبنائه الذين يقتلون بطريقة بشعة بعد عثور أهل الزوجة عليهم، وهنا تأتي موهبة (علي حداد) في ربط الخيط بين قصة واخرى أذ يهرب (رشك) بعدما يلاحقه قاتلوه وهو يحمل أحشاءه بيديه مستنجدا بالحاقاني الذي يغلق الباب في وجهه وتكون هذه الحادثة سببا في موت الحاقاني نتيجة تأنيب الضميرالذي لازمه بعدما تخلى عن (رشك) وهو الذي عرف عنه مناصرته للحق اباً عن جد.

 

 

التسريع الزمني للحكي داخل الرواية:

 

انطلق الأحساس بالزمن من الواقع المعيش ببؤسه متجها نحو الجانب النفسي المأزوم ليصف لنا ذاتاً موجوعة تشعر بالأضطراب والتشضي والضياع بين أزمنة ضاغطة اختمرت في ذهنية الروائي ليقدمها لنا بمذاقها الجديد بعدما مرت به من خيبات تتوافق ونتائج التجربة القاسية التي خاضها الوطن عبر مراحله التي يبتدؤها السارد منذ فترة الحكم الملكي في العراق إبان حكم الملك فيصل الاول وسطوة الباشا نوري السعيد في الحكم وهذا يتضح من خلال المقطع الذي يتم فيه التحقيق مع (أحمد) أو صانع القبعات حين يؤلف مسرحية لا تتوافق وتوجهات الحكومة فيحقق معه علوان ابو سن الذهب قائلا له: ابن عطا من رئيس الوزراء .. نوري السعيد ؟

ولا يخفى مالهذه الأوضاع من أسى يؤدي بالشخصية الى تلمس تخوم الحلم للبحث عن المستقبل من خلال بعض من كتابات كان يسجن بعدها (احمد) الشخصية الرئيسة في الرواية، ولم يكن هذا المستقبل إلا الأبن الشرعي لفوضى انتجت حاضراً ضبابياً يتوج بآتٍ اشد قسوة وضراوة ولأجل ايضاح نتاج الروي في هذا المضمار نتطرق الى تقسيمات (ميشال بوتور) أحد رواد الرواية الجديدة في فرنسا حيث قام باحصاء ثلاثة انواع من الأزمنة في الخطاب الروائي وهي" زمن المغامرة وزمن الكتابة وزمن القراءة وكثيرا ما ينعكس زمن الكتابة على زمن المغامرة بواسطة الكاتب"(4) فالروائي اراد اثبات هذه الفكرة في نصه الذي تشعرنا فيه الصفحتان الآخيرتان من روايته حين يلخص عمله بذكر الفترات الزمنية التي اكتنفته والتي بمجملها تزكم الأنوف موتاً وتعسفا يتوج بمقتل (أحمد) صانع القبعات الذي كانت جريرته انه كان مثقفاً اعدم بانقلاب عام 1963 باعتباره من انصار الزعيم عبد الكريم قاسم الذي جاء حكمه بعد انتهاء فترة الحكم الملكي، ومن ثم لا يتوانى المؤلف من ذكر مقتل عبد الاله الوصي الذي منعت السيارات في شارع الرشيد بعد مقتله من المرور من دون دهسه لمدة اسبوع كامل، بعد ذلك يختصر الراوي زمنه بانتقالات سريعة تتضمن مقتل زغلول المسيحي وهو من مثقفي منطقة الدهانة وصولا الى الموت العجيب لخداداي وعيدو اسلولي اللذين سفِّرا خارج العراق إبان تسفيرات الأيرانيين فالروائي هنا لجأ الى تسريع الزمن بعدما وجد نفسه امام زمن أقل ما يقال عنه انه فجائعي وبدأ بالأرتقاء تدريجياً الى الذروة فموضوع تسفيرات الايرانيين من العراق كان في ثمانينيات القرن المنصرم وبصورة خاطفة يأخذنا الى قضية اعدام التجار العراقيين في فترة الحصار الأقتصادي عام 1992 ومن ثم اشار الراوي بطريقة ذكية الى ضحايا الحملة الأيمانية التي خاضها الرئيس صدام حسين، على ان ما ذكره الراوي في عمله من خلال بعض القرائن والفقرات الدالة على سياق هذا التاريخ الذي يعد مرجعنا الذي تتمحور من خلاله الأحداث لتمثل احلك الفترات التي عاشها الكاتب ليكابد مع شخوصه صراعات الموت والحياة وهو هنا عمل على تسريع الحكي بتجاوز التفاصيل الدقيقة وتلخيص فترات طويلة او قصيرة بذكر ما يهم من الأحداث وتلك تقنية أجادها الروائي جاعلا من المتلقي عارفا ومشاركاً في تمحيص ما جرى في حقبة معينة بإيجازها من لدن الراوي في بضعة أسطر، وبالعودة الى تقسيمات ميشال بوتور يبدأ زمن المغامرة من فترة الحكم الملكي الى ما قبل نهاية نظام صدام ببضعة سنين أما زمن الكتابة فقد جاء به الراوي وهو ينظر من فوق الى الأسفل بعدما اكتملت لديه المسببات فاتضحت عنده النتائج أي أنه يرى الرواية كمن يرى اللوحة بالمقلوب فيحاول استدارتها كي تستكمل لديه الرؤية اما زمن القراءة فهو الزمن الحالي الذي تكون فيه الرواية بين ايدينا خاضعة للاشتغال بعدما اكتمل المشهد أمامنا للأفراد حين يعيشون تحت حكم دكتاتوري قمعي يشبه الخبل في علاقته المستديمة معهم هذا غير ان السلطة وتشوهاتها قد جعلت من المثقف الخاسر الأمثل بعدما كان هو من بيده التغيير، وذلك باتاحة الفرص لمن ليس هو الأكفأ .

الهوامش:

(1) ينظر: الحلبي، احمد طعمة، التناص في شعر عبد الوهاب البياتي .

(2) ابراهيم، د. جودت، التناص والتلاص في الشعر العربي الحديث والمعاصر، ص76

(3) بارت، رولان، نظرية الرواية، مجلة العرب والفكر العالمي، مركز الإنماء القومي، ع3، بيروت، 1988، ص 96

(4) مها القصراوي، الزمن في الرواية العربية، المؤسسة العربية، بيروت، ط1، 2004، ص49