هناك بعض الأعمال اﻹبداعية تظل فى ذاكرة الناس والثقافة والتاريخ لأسباب مختلفة، منها الحكي المبتكر واللافت والمثير.. الموضوع الجديد غير المستهلك.. المعالجة الفنية الجديدة.. ثم تجيء بالضرورة تلك الروايات التي تتعارك مع الواقع السياسي واﻹجتماعي واﻹقتصادي للجماعات أو المجتمعات المختلفة.
بتلك الكلمات أقدم رواية "مدافن الدار" للروائي السوري "أدهم مسعود القاق"، والصادرة عن دار ليفانت للدراسات الثقافية والنشر (ط ت 2018م)، ولا أدعي القول بعمومية المعنى الذي أشرت إليه فى البداية، أن الرواية التي بين أيدينا جمعت بين طيتها كل تلك المواصفات والمحاور، ولكنه المدخل لتناول وفهم دلالات الحاح ملامح تاريخية لعهد سياسي بذاته في دولة تم تحديدها بالاسم وذكر اسم رئيسها وبالأحداث المشار إليها دون إصدار حكم أخلاقي ما على كل حال، وبعيدا عن الصوت الايدولوجى الزاعق.
أحيانًا يبدو من المناسب البحث بين طيات ما كتبه الروائي للتعرف على رؤيته ومشروعه الثقافي، وأحيانا أخرى يكتفي بقراءة العمل الأدبي والتنقيب فى ثناياه، وهو ما سوف نتناوله حالا، معتمدين على دلالات الشخصيات والأماكن والأزمنة، والبحث في دلالات الأحداث التي أفرزتها الأزمنة والأمكنة من خلال تلك الشخصيات المحددة المعالم والتوجه.
تقع الرواية فى 216 صفحة/ قطع كبير، يعلو عنوان العمل "مدفن الدار" مصطلح نقدي معاصر "تخييل سردي" ثم تحته مصطلح "رواية".. وهو أول ما يثير القاريء أيضا للتعرف عليه قبل قراءة الرواية.
ربما عمد الكاتب إبراز المصطلح للتفرقة بين ماكتبه أدبيًا، وما شاع مؤخرًا من الكتابات التى تتناول السيرة الذاتية بشكل تقريرى (تقريبا) على أنه "تخييل" خاص بالسيرة.. وربما أراد الكاتب إزاحة العمل من الرؤية المباشرة فى قراءة التاريخ، خاصة أن الأحداث التى شكلت مضمون وموضوع الرواية تاريخي الظاهر والباطن!
تنقسم الرواية إلى ثلاثة أقسام هي: "إغماض عن ولاده مبهمة"، "موبقات.. موبقات"، "موت فوق المقابر".. لعل تلك العناوين تبرر الخط الزمني المستقيم الذي عالج به الروائي أحداثه المتتالية والمتتابعة وربما مع البداية، إن كانت إشارات إلى الميلاد الفيزيائي أو العضوي الذي يقدمه الكاتب نفسه.
بداية الرواية كلمات تفيد باسماء لم نتعرف عليها بعد، وبأحداث تشي بملامح معتمة وحزينة لأحداث لم تبن بعد، حيث بكى "عمر" وسأل ظلام الليل وهو وسط عائلته: أين أحمد، هل تشهد على وطن ينزف طائفية وموتًا وتهجيرًا وإعتقالا وتغييبا وإعاقة وجهلا وفسادًا؟.. هكذا تعرفنا على أجواء العمل الروائي وما يرد الروائي أن يبوح به.. ليبقي السؤال: لماذا؟! وهكذا تتشكل الأحداث داخل الرواية لبيان اﻹجابة على السؤال الذي يحير القاريء.
تبدو شخصية "أحمد" هي الأكثر حيوية وشفاقية وعلي وعي لما تريده من الحياة الخاصة مع حبيباته ومع أحداث بلدته وبلاده.. في المقابل "الذيب ابن شطمة" الذي وجد ذات يوم ولدًا للمخبولة أمه التى تهيم فى الشوارع والحارات، فهو ابن سفاح وتبناه الحاج "الدغرى"، وقال عنه فيما بعد مفتخرًا به لوصوله إلى أعلى المراتب الحكومية على عكس أبنائه الحقيقين الذين أخذوا درب العلم والتدين!.. ولم يستفسر كيف بلغ تلك المكانة وأصبح من رجال السلطة هكذا.. وهو ما سوف يعرضه الروائي في مقابل ما يفعله أحمد المنتمي المخلص لوطنه، بل وما يفعل بأحمد المحب لوطنه اليساري الذي يدعو إلى الحرية.
يتساءل القاريء مع القسم الثالث حيث يقتل "أحمد" داخل سجون اﻹعتقال، بعد رحلة لسنوات تمكن فيها من ممارسة حريته مع عشيقته تاره وزوجته تارة ومع شباب مثله فى جنوب لبنان لمهاجمة القواعد الاسرائبلية بالقرب منه.. وكما المعتاد نقلته سلطة المخابرات للدفن ليلا بكامل ملابسه داخل كيس بلاستيك.. وهو ما آثار "سليمان" والأصدقاء أيضا للبحث عن دليل يوضح أسباب موت أحمد أو قتله.
كانت المحاولة ناحجة ووصل سليمان إلى حافظة أحمد وما أن حاول الخروج من المدافن كانت المعركة بين "الذيب" ورجاله ممثل السلطة في البلاد، ضد "سليمان وشباب القرية.. دارت معركة كبيرة وقتل فيها الكثير حتى علت آنات الموتى! وهو ما برر به الكاتب عنوان الرواية "مدفن الدار" حيث مكان الصراع بين رجال السلطة وشباب القرية، ونهاية المطاف.
********
.. وبعد لا يمكن إلا أن يقول القاريء أنه قرأ رواية يمكن تصنيفها ضمن إبداعات أدب المقاومة، فليست المقاومة بالرصاص والنيران فحسب، بل هناك مقاومة القهر والفساد من أجل الحرية.
هي الحرية إذن، ما يمكن أن نقول أنها البوصلة الظاهرة/ الخفية وراء السلوك المقاوم لشخصيات الرواية النسائية والذكورية..
بدت مع شخصية "أحمد" فهو ابن لأب له مكانة مرموقة ومقدرة بين الجميع، ويمارس مناقشة القضايا السياسية على خلفية اﻹقتناع بآراء "عبدالناصر".. في المقابل تحير الجميع من نسب "الذيب" هل من أبيه الجن أم من زعيم الثعالب أم من "الشيخ وصفي" الذي يغافل الجميع ويسقى أرضه ويزيد ليلا حتى نقصت مياه النهر!
بدت الجميلة "ثريا" التى تكبر أحمد بخمس سنوات، الشيوعية، على قدر من الهمة لتحقيق كل رغباتها بحرية، وهو ما توافق مع فوران وشباب أحمد الباكر، نالت منه ونال منها ما جعلهما يمارسان قدرًا من الحرية لا تعرفها أهالي القرية والمدينة.
الذيب عبر عن الشخصية اﻹنتهازية وبدأ عنفه مع أحمد حيث الذيب مدرس التربية القومية وضابط مادة الفتوة التى تلزم الطلبة بارتداء الزي العسكري.. وفي المقابل ثار بقية طلبة الفصل وإمتنعوا عن حضور المادة التى يدرسها الذيب حتى يكف عما يفعله مع أحمد. وأصبح الذيب بعد التحاقه بدورات المخابرات سببًا لحبس البعض بعد كتابة التقارير عنهم وقيد حريتهم.
جعل الكاتب من فكرة حمل العاشقات من أحمد تعبيرًا عن التخلص من المحرمات أو بحثاعن المزيد من الحرية، وهو ما حدث مع ثريا التى حملت دون إيلاج، ونجحت عملية إجهاض بما يعني تلك الطموحات والآمال المنتظرة المجهضة.
كان من المتوقع أن يشير الأحداث إلى محاكمات لبعض المثقفين المتنورين لبيان مظاهر القهر والفساد الأمني، وهو ما تم مع "د.محمد الفاضل" رئيس جامعة دمشق الذي أغتيل فى ساحة الجامعة. فقد كان شجاعًا فى محاضرة له وحدد معالم مرحلة جديدة فى النظام السياسي العربي تأسيسًا على الحقبة النفطية ومهادنة النظام اﻹسرائيلي وإنهاء المقاومة الفلسطيتية!
عادت "ثريا" وطلبت الطلاق من زوجها القريب الذي يكبرها لأنه قريب من السلطة ورجال المخابرات.. أما وقد الح أن تنجب طفلا ما كان الرد إلا أن طلبت الطلاق، وهكذا تم نوظيف اﻹنجاب بدلالة سياسية.
تابع أحمد نشاطه ومارس حريته بالهجرة إلى بيروت وتعرف على شباب حركة المرابطين، وهناك تعرف على "ميسون" وأعلن لها تمرده وإنقطاعه عن كل نشاطات السابقة. لكن جاء اﻹعتداء اﻹسرائيلى على لبنان عام 1982م، وإشترك أحمد وميسون فى المقاومة ونزع حرية البلاد. وثانية برفض فكرة اﻹنجاب في البداية بعد أن حملت ميسون منه.
أما وقد تزوج أحمد من ميسون وسافرا إلى طرابلس لبيت العائلة، يلاحظ رفع صورة كمال جنبلاط ووضع صورة ابنه، فيغضب لكن شقيق زوجته يقول: ".. كان جنبلاط عروبى وليس طائفيا".. ما يعني إنتهاء زمن العروبة وعبد الناصر!
فى المقابل بدت ملامح الفساد والأعمال اﻹستخباراية الحقيرة يمارسها الذيب فى بولندة، حيث سافر فى منحة للحصول على درجة الدكتوراة، مكافأة له من النظام الحاكم.
كما وظف الروائي تطلع ثريا للدراسات العلمية السياسية، ورصدت سلبيات البلاد بالأرقام والتوثيق الأعمال المضادة للحرية مثل: إغتيال يوسف عبيد، سردت عمليات الذيب القذرة، الخوف على مصير طائفي للعلويين نتيجة مشاركتهم فى الجرائم السياسية، عزل مصر عن المحيط العربي وغيرها.
*******
هكذا كانت الأحداث معبرة عن المقاومة بدلالات المواجهة واﻹنفلات من كمائن الأشرار، ومع ذلك لم يكن الأمر هينا، فقد كان الموت فاعلا ومنجزا لدلالات مهمة، حتى أنه يمكن القول أن الجثامين صنعت التاريخ.
هنا نعود ونتوقف أمام مصطلح "تخييل سردي" الذى رصده الكاتب على واجهة الرواية أو الغلاف.. وهو المصطلح الذي شاع مع العقد الأول للقرن الواحد والعشرين، وإعتبره البعض مصطلحًا فاصلا فى نوع الرواية التاريحية.. تلك الرواية تعتمد على عناصر التاريخ (الحقيقية).. وهناك نوعان، تلك الرواية العامدة إلى التوثيق والتأريخ واﻹلتزام بآمانة الحدث/الأحداث التى وقعت بالفعل.. وأخرى تلك الروايات التي إستفادت من من التاريخ وأحداثه حتى وإن سردت تاريخًا ما أو وثيقة ما.. فالسرد الروائي هو الغالب.
بالتالي تعتبر رواية "مدفن الدار" رواية من نوع الرواية التاريخية، لكنها وظفت السرد الروائي بالأساس بكل خصائصه الأسلوبية واللفظية والبناء الفني بصرف النظر عن الحقيقة التاريخية كحقيقة علمية.. وهو يعتبر إضافة إلى قيمة النص الأدبى بصرف النظر عن كونه نصا يهدف إلى فضح القهر والفساد (التاريخي).. ذلك الذي يعلم السارد ونعلم نحن القراء حقيقة الهدف من ورائه.. خصوصًا أن أدب المقاومة الحقيقي هو الأدب الكاشف والفاضح والمنير فى نهاية الأمر..
وهكذا كانت رواية "مدفن الدار" للروائي السوري "أدهم مسعود" راجيًا أن يخط عملا روائيًا جماليا بالرغم من كونه التنويرى المحرض لكشف الفاسد والمنير للحقيقة ولكل ما هو أفضل ولا أفضل من البحث عن طريق "الحرية".