لا يدرك حقيقة هذه الحالة الإنسانية الجمعية العامة التي تعرف باسم مهرجان أفينيون Festival D’Avignon بما تنطوي عليه من حياة مغايرة في تلك المدينة أثناء أسابيع المهرجان إلا من عاشها. فلا يمكن تصور الحالة الوجودية الفعلية لمن يعيشون في تلك المدينة وقد تحللوا من عبء الحياة اليومية، ومشاكل العمل، وجاءوا للاستمتاع إما بمجرد العطلة السنوية التي قابلت كثيرون يحرصون على أن تتواقت مع المهرجان، أو حتى بالمسرح باعتبارها شاغلا مهنيا لعدد من عشاق هذا المهرجان، أو حتى عشاق تلك المدينة وهي في أكثر لحظاتها حيوية وتوقدا، لأن المدينة نفسها تبدو مختلفة كلية بعد انتهائه. أكرر لا يمكن إدراك مدى رقي تلك الحالة الوجودية إلا لمن عاش ما يدور في شوارع أفينيون التي تستحيل طوال شهر يوليو إلى مسرح أو حفل متنقل، ومن تنقل بين فضاءاتها المسرحية المختلفة وشاهد حفنة من تلك الأعمال على الأقل، ومن حضر منتديات الفكر فيها في الصباح، وندوات نقاش العروض التي تدور طوال النهار، أو ما تابع ما يجري في شوارعها من مسرح جوال. إنه خير دليل على ما تفعله الثقافة بالبشر، وكيف أنها تساهم في إرهاف كل الأبعاد الراقية في إنسانيتهم.
فلا يكفّ مهرجان أفينيون المسرحي عن أن يقدم لعشاقه كل عام المزيد من الزاد الفني الذي يبهج العين، ويحثّ المشاهد على التفكير في وقت واحد. وبالرغم من توقعات الكثيرين في العام الماضي بأن يغير المهرجان مديره، وهو المسرحي الفرنسي أوليفييه بي Olivier Py، بعد أن أدار المهرجان لثلاث دورات متتالية، فإنني فوجئت بأنه مازال يدير المهرجان في دورته الثانية والسبعين الجديدة هذا العام، وإن سمعت أنها ستكون الدورة الأخيرة له. والواقع أنني كنت مشوقا لمتابعة المهرجان مع مدير جديد، لأنني لست من المعجبين بأوليفييه بي، لا ككاتب مسرحي ولا حتى كمخرج لنصوص غيره من الكتاب، وإن كنت أتفق مع كثير من آرائه الفكرية ومواقفه السياسية.
كما أنني لاحظت خلال متابعتي للمهرجان في فترة إدارته له أمرين نفّراني من إدارته له. أولهما أنه يستخدم المهرجان لإبراز أعماله في التأليف والإخراج على السواء، ويخصص لها مساحة واسعة كل عام، ناهيك عن أنه ينتقى لها أفضل فضاءات العرض فيه. وهو أمر يثير استهجاني لأنني من الجيل الذي تربى على قيم ثقافية راقية أرساها لنا أستاذنا الكبير يحيى حقي حينما كان رئيسا لتحرير مجلة (المجلة) بالقاهرة، تستهجن أن يستغل من يوكل إليه الإشراف على أي عمل ثقافي عام، منصبه في تحقيق مصالح أدبية لنفسه مثل تسويق أعمال أو تهيئة فرص إضافية له. فقد كان يحيى حقي الذي سعدت بالعمل معه في بواكير الشباب يوصي كل المحررين بحذف اسمه من أي مقال سينشر في (المجلة). وهو الأمر الذي عشت انقلابا كاملا عليه في مصر نفسها. حينما شهدت مدى حرص الكثيرين من المحررين الثقافيين على إبراز أسمائهم، وتريج أعمالهم، واستغلال العمل العام للظهور في المنتديات الثقافية الأخرى، كما يفعل الكثير من المحررين الثقافيين في الزمن العربي الردئ.
وثانيهما أنني لاحظت أنه يحرص على استبعاد ألمع المخرجين الأوربيين الذين أثبتوا أنفسهم في المهرجان، وأصبح لهم عشاق يتابعون أعمالهم، وقد كان بعضهم مثل المخرج اللبناني الكندي وجدي معوض، أو الألماني توماس أوسترماير Thomas Ostermeier، أو الإيطالي روميو كاستيلوتشي Romeo Castellucci أو المخرجة الانجليزية كيتي ميتشيل، Katie Mitchell أو الأسبانية أنجليكا ليديل Angelica Liddell قد أصبحوا من المخرجين الذين يترددون على المهرجان بين العام والآخر. أي أنه حرص على عدم دعوتهم للمهرجان كي تبدو أعماله، وقد سخر لها أكبر إمكانيات المهرجان، أفضل ما هو متاح فيه، وهو الأمر الذي لم يتحقق على كل حال. صحيح أن الغيرة الفنية عمل مشروع، وأنها تحث الفنان عبر الشفافية والمنافسة المفتوحة على تطوير أدواته أو التباري بها مع الآخرين، لكن تلك الغيرة حينما تستخدم سلطة العمل العام تتحول إلى عبء عليه.
بوستر المهرجان في دورته 72 لعام 2018
أقول هذا بالرغم من أنني أتفق كثيرا مع أوليفييه به في رؤيته الفكرية، وموقفه مما يدور في عالمنا المعاصر، وأهمية فتح المجال أمام المسرح لطرح بدائل قادرة على التغيير. والواقع أن الأفكار التي طرحها في تقديمه لبرنامج هذا العام بعنوان التفردات Singularites ترفض بداءة مجموعة الأفكار التي استطاعت المؤسسة السياسية والاقتصادية السائدة في الغرب فرض هيمنتها على العقل الجمعي الغربي وعلى الخطاب الإعلامي السائد؛ ومفادها أنه لابديل عن الوضع الراهن الذي ساد العالم منذ سقوط حائط برلين، وسيادة الوهم الذي يسمى بنهاية التاريخ، وتحول الولايات المتحدة إلى القطب المهيمن على عالم اليوم. هذا الوضع الذي أدى بنا الآن إلى هذا التفاوت الرهيب بين الأغنياء والفقراء في كل بقاع العالم، وبين دوله الغنية والفقيرة بشكل أكبر. ومكن الرأسمالية المالية من إحكام سيطرتها على عالمنا بشكل يفوق في استغلاله وبشاعته مراحل الاستعمار التقليدي السابقة.
إنه يرفض هذا الوضع الغريب الراهن الذي تحل فيه الأرقام محل اللغة كما يقول لنا، لتؤكد الغياب الكامل للبدائل إزاء سيطرة الكمي والرقمي، وهيمنة قوانين السوق. خاصة بعد أزمة عام 2008 المالية التي برهنت على فشل تلك القوانين، وكان ضروريا أن تفضي إلى أنهيار تلك الرأسمالية المالية وبداية مرحلة من الكساد والركود كما حدث عام 1929. لكن الرأسمالية المالية الجديدة، وقد أصبحت أداة الهيمنة الاقتصادية على العالم ونهب ثرواته، نجحت في فرض قانونها الجائر الجديد، والذي أدعوه باختصار بقانون خصخصة الربح وتأميم الخسارة. وبدلا من أن تتحمل تلك الرأسمالية المالية نتائج خسائرها الرهيبة التي كانت تقودها في السابق إلى الكساد الكبير كما حدث عام 1929، نجحت في أن تدفع الدولة الغربية إلى تأميم خسائرها، من جيب دافع الضرائب وعلى حساب كل مدخراته التي تطايرت من أجل الحفاظ على ثروات حفنة قليلة من المتحكمين في النظام الراهن، بل ومضاعفة تلك الثروات.
لكن نجاحها الأكبر بعد فرض خطابها الغريب عن «نهاية التاريخ» و«صراع الحضارات» هو التمويه على هذا القانون الجديد الجائر، بل وتحريم طرحه بتلك الصورة الواضحة التي أطرحه بها هنا: خصخصة الربح وتأميم الخسارة. وهو مقلوب القانون الإنساني القديم الذي ساد في القرن الماضي، حيث كانت الدولة تقوم بتأميم الكثير من الشركات الكبرى الناجحة، وتشغيلها لصالح الجميع. وبدلا من تأميم الأرباح السهلة، أصبحنا نشاهد الأرباح الضخمة وهي تتركز في أيدي حفنة قليلة من البشر، يتناقص عددها باستمرار. وتمت شيطنة أي بدائل، وتكريس مقولة أنه لا بديل لاقتصاد السوق. حيث تستطيع الرأسمالية المالية التحكم فيه، وتكبيل الآخرين بالديون، والإطاحة بأي مؤسسة سياسية لا تنفذ مشيئتها، وتأكيد أنه لابديل ممكن أو محتمل عن هذا النظام الجائر الذي تدعوه مخاتلة بحرية التجارة وسيطرة قوانين السوق.
وينطلق أوليفييه بي في تقديمه لبرنامج هذه الدورة للمهرجان من رفض الاقتناع بهذا العالم الذي يزعم ألا بديل له، والذي نجح في الترويج لمقولاته تلك، وتعميمها وكأنها حقائق لا مماراة فيها. ومن ضرورة طرح الثقافة والفن والمعرفة باعتبارها المجالات التي لا بديل لها، والتي تعبر بحق عن رغباتنا. فالفن عنده لا يقوم بدور تأكيد ليبرالية السوق، أو هدهدة أرواح من أساء لهم الاقتصاد، أو حتى تخفيف وقع إخفاقاتنا؛ إنه بالتحديد ما يفتح أمامنا أفق المستحيل حينما تؤكد المؤسسة المهيمنة استحالته من أجل تكريس سلطتها. فالمعرفة والفن هما بديل القول بأن العالم الحر لا علاج له إلا بالمزيد منه، وهما السبيل لتغيير هذا المنظور السائد باحتلال الموقف الأخلاقي الأعلى، وفتح الأفق أمام الأجيال القادمة والصراع من أجلها. أما بالنسبة لمن لا يؤمنون بالتاريخ، ولكنهم مازالوا يتشوفون لمستقبل مغاير، فإن الفن هو الذي يسمح لهم بالمضي إلى مابعد غياب الأمل، إلى فراديس الحلم وهواء المستقبل النقي.
وبالرغم من عزلة المبدع، وتجريده من كثير من أسلحته في هذا العالم الذي تسيطر عليه خطابات ألا بديل لقوانين السوق، لابد له من البحث عن مصدر للقوة، يتيح له أن يمكّن المعرفة من أن تحقق أولويتها على الاستحواذ وعبودية قوانين التملك، أي أولويتها على الاستغلال والتردي؛ وأن تجعل للتفاعل مع الآخرين الأسبقية على الانكفاء على شاشات الهواتف الذكية، أو الغرق في وهاد العوالم الافتراضية، وتعميق عزلة الأفراد عن بعضهم البعض. فالمعرفة والفن هما البديل الفعلي لما أصبح أسوأ وضع يهدد بدمار الكوكب الأرضي وعزلة أناسه. وهما ما سيتجاوبان مع إرادة الأجيال الجديدة في تأكيد فرادتها.
الفرادة كمصدر أصلي للقوة:
لأن الفرادة هي الكلمة التي يستخدمها علماء الطبيعة لمركز انتاج القوة وأصل الطاقة غير المعروفة في الثقوب السوداء. تلك الفرادة هي مركز القوة في الثقوب السوداء والقادرة وحدها على إيقاف الزمن. هذه الفرادة هي التي يمكن بها وصف الفن القادر على إيقاف مسيرة التردي والتعاسة. الفرادة التي تنبثق عنها الطاقة الخلاقة القادرة على إيقاف هذا الزمن الردئ، وطرح زمنها البديل. إنها طاقة تصدر عن قدرة الفن على إخراجنا من الزمن، وعلى فتح العالم على الاحتمالات والبدائل السياسية منها والمعرفية. فللفن، وفن المسرح خاصة بما فيه من انصات للجمعي وسط الظلمة وانخراط فيه، تلك القدرة على التسامي بالجمعي إلى مستوى تلك الفرادة القادرة على تغيير الزمن. إنه يمكن الأفراد وقد جاءت جماعة منهم كي تتلقى عملا محددا من معايشة نفس التجربة، وربما الانطلاق منها إلى ما هو أفضل. إنه الفن الذي يجعلنا نأمل في تغيير الواقع وتغيير طبيعة السياسة معا، بحيث لاتكون الحتمية الاقتصادية والمالية هي الحكم، وإنما نشوة الإبداع التي تفتح الأفق أمام الأجيال الجديدة. فهل ستفتح لنا أعمال هذه الدورة الجديدة الأفق على التغيير؟ دعنا نتريث عند عمل تلك الدورة الافتتاحي الكبير.
ثييستس: عنف الانتقام وعمى السلطة:
كان العمل الافتتاحي في دورة هذا العام، والذي عرض في أكبر فضاءات المهرجان، وهي قاعة الشرف في القصر الباباوي المنيف والتي تتسع لأكثر من ألفي مشاهد في كل عرض، هو مسرحية (ثييستس Thyestes) للكاتب الروماني الأشهر سينيكا Seneque كما يكتبه الفرنسيون، وSeneca كما يكتبه الانجليز. وهي من إخراج المخرج الفرنسي الطالع توماس جولي Thomas Jolly ومسرح العائلة الصغيرة La Piccola Familia. ولوسيوس سينيكا (4 ق.م – 65 م) أهم كتاب المسرح الروماني، كما أن (ثييستس) هي أبرز مسرحياته وأكثرها تأثيرا في الفن المسرحي من بعده، حيث يعتبرها الكثيرون أصل المآسي الانتقامية Revenge Tragedies التي سادت بعد ذلك في المسرح الإليزابيثي الانجليزي منذ توماس كيد و(المأساة الأسبانية) حتى تراجيديات شكسبير الانتقامية، وخاصة مسرحيته الشهيرة (تايتس أندرونيكس) التي تدين بالكثير لـ(ثييستس). وقد كان سينيكا من أشهر أعلام عصره، وكان معلم الإمبراطور نيرون وأحد مستشاريه في بداية عهده، لكنه سرعان ما غضب عليه، وأمره بإنهاء حياته.
ومسرحيته (ثييستس) من المسرحيات الرومانية التي تعتمد على موضوع إغريقي لأنها إعادة كتابة لمسرحية لم تصلنا ليوربيديز حول الموضوع نفسه. وتعتمد المسرحية على الأسطورة اليونانية التي تقول بأن بيلوبوس، ابن تانتالوس وملك آرجوس، قد نفى ولديه لقتلهما أخيهما غير الشقيق، وصب لعنته عليهما. وعندما مات الأب بيلوبوس عاد الابن آتريوس واستحوذ على عرش أبيه. لكن الإبن الآخر سييستس عاد وأعلن حقه في العرش، وأغوى زوجة أخيه، آيروب، وسرق بمساعدتها الكبش السحري ذي الجزة الذهبية من بين قطيع أخيه، والذي يمنح مالكه الحق في الحكم. وقد نفاه أخوه لما فعله، لكن نفيه له لم يعد السلام الداخلي لآتريوس الذي عذبه الشك في مدى نسبه أبنائه له أو لأخيه. وسرعان ما فكر في انتقام أكثر تأثيرا وفعالية من النفي، فاستدرج أخيه وادعى العفو عنه وصداقته، بل ونيته تقاسم الحكم معه، لكنه بيت النية على أبشع صور الانتقام منه.
هنا تبدأ المسرحية، بفصل أول عنوانه تانتالوس، يحرص مخرج المسرحية على كتابة عنوانه على جدار حائط القصر البابوي المهيب، الذي جعله ظهارا فاعلا في المشهد بتوظيف الإضاءة عليها طوال العرض، وقد انفسح المسرح أمامها، وليس على فضائه الشاسع غير قناع ضخم مائل على جانبه بارتفاع أكثر من دورين من المبنى، لا يقل حجمه عن ثمانية أمتار في خمسة أمتار، في الناحية اليسرى من الخشبة قناع يومئ إلى حال مائل مختل؛ وقبضة يد ضخمة أيضا، ولكنها مرتبكة الأصابع في الناحية اليمنى، وكأنها كناية عن ارتباك السلطة القابضة على الأمر. ولا شيء بينهما غير المساحة الخالية، فضاء كبير يدور فيه العرض، في وسطه فتحة تشع بأضواء غامضة، وحركة رجرجة المياه في نوع من الإشارة إلى العالم السفلي، الذي سينبثق منه تانتالوس، وستحيط به بعد خروجه ربات النقمة الطالعات من ظلمات العالم السفلي.
وقد سعى المخرج إلى تقديم خروجه بمهارة من خلال إضاءة النوافذ الموزعة على حائط المشهد الخلفي بارتفاعه الشاهق ونوافذه الموزعة بطريقة غير سيمترية. لأن تانتالوس، الجد والأسطورة معا، هو من سيؤطر المسرحية، ليموضع كل أحداثها في قبضة اللعنة التاريخية التي تحكم حتميتها الدرامية كل شيء، خاصة وأنه يظهر هنا متبوعا بربات الغضب والنقمة. وليربط بين تلك اللعنة والوعي الجمعي بها من خلال الكورس الذي يسعى لدرء بعض أخطارها، أو للكشف عما تنطوي عليه من أوجاع. وقد حاول المخرج في نهاية هذا المشهد أن يجسد لنا اللعنة بطريقة شاعرية، ربما تعكس أهمية الشعر والشاعرية في مسرحية سينيكا، من خلال مطر من الفراشات الورقية السوداء انهمر من نوافذ حائط القصر الباباوي على المسرح والجمهور على السواء.
أما الفصل الثاني والمعنون «آتريوس» فإننا نواجه فيه من البداية آتريوس وهو يشاور حراسه في خير طريقة لتحقيق انتقامه من أخيه ثييستس. لكنهم ينصحونه بأن يفعل ما يرى أنه الشيء الصحيح، كي تظل المسؤولية على عاتقه وحده، كما هي الحال مع البطل التراجيدي. هنا يقرر آتريوس المضي في تلك الخطة الرهيبة والصادمه لتحقيق انتقامه، ألا وهي قتل أبناء أخيه وطهيهم وإطعام أخيه من لحم أبنائه. فقد شككت خيانة الأخ آتريوس في بنوة أبنائه له، وهو الشك الذي يستحوذ عليه ويبلور قراره. وهو الأمر الذي تتدخل الجوقة لتعلن استهجانها لما قرره آتريوس، وتذكره بدور الحاكم الجيد، وما ينبغي على الملك أن يقوم به لتعزيز القيم السليمة.
أما الفصل الثالث والمعنون «ثييستس» فإنه يبدأ باستدعاء آتريوس لأخيه، عن طريق أبنه كي يعود إلى بلاده. ويعود ثييستس وإن كان لايزال مترعا بالهواجس والظنون، غير واثق من هدف أخيه من وراء هذا الاستدعاء. لكن أخذ آتريوس أبناءه كرهائن لا يترك له أي خيار. ويسعد آتريوس بنجاح خطته في الإيقاع بأخيه، ويوهمه بأنه قد صفح عنه. لكن الجوقة التي لا تعرف الكثير مما يضمره آتريوس سرعان ما تمتدح عودة الوئام الأخوي بينهما، وتثنى على تبدد الكراهية بين الأخوين، في نوع من الهدوء الذي يسبق العاصفة. وقد استخدم المخرج بمهارة خيال أفراد الجوقة، وقد انعكس على الحوائط في نوع من اللعب بخيال الظل، وقد تحولت تلك الخيالات إلى أشباح تحوّم حول المشهد، وتنفث فيه الكثير من المخاوف.
وفي الفصل الرابع والمعنون بالشمس، والتي يحرص العرض على أن يكتبها بكل لغات العالم الممكنة على الخلفية، يدخل الرسول كي يصف لنا أهوال ما دار عادة خارج المسرح من فظائع، ليخبرنا بما فعله آتريوس، حيث قتل أبناء أخيه الثلاثة، واحتفظ برؤوسهم وأذرعهم، وطبخ لحمهم وقدمه وليمة لأبيهم. بينما تتجسد أمامنا وبطريقة صامتة في نوع من البانتومايم المترع بالدلالات، فصول الوليمة الرهيبة. وتلاحظ الجوقة مسألة خسوف الشمس إزاء هذا الفعل اللعين، وما ينطوي عليه من نذير شؤم، حيث لا يتبع فعل شنيع مثل هذا غير الفوضى والتردي والدمار.
أما الفصل الخامس والأخير فإنه فصل تباهي آتريوس بفعله الشنيع، ونجاحه في الانتقام من أخيه، ويكشف له عما فعله به، وعما أطعمه إياه في تلك الوليمة التي استمتع بها كثيرا! وانتصار الشر المطلق الذي يمثله آتريوس على شرور أخيه التي تبدو الآن وكأنها شرور صغيرة. وإن حاول تأويل توماس جولي الإخراجي في النهاية أن يوحي بإمكانية التصالح بين الأخوين، وهو الأمر الذي لم يطرحه نص سينيكا الأصلي بأي حال من الأحوال.
فمسرحية سينيكا تلك، بقوتها الدرامية الصادمة، وشعريتها القوية المؤثرة، مسرحية سياسية في المحل الأول، حتى أنها فُسِّرت أثناء حياته بأنها تجسد إطلاق عنان الشر والدمار، الذي انتهى بنيرون إلى إحراق روما، وإنهاء حكم أسرته. ولا شك أن اختيار افتتاح دورة مهرجان هذا العام بها ليس مصادفة في هذا العالم الردئ الذي يتبوأ رئاسة أكبر قواه العسكرية المدمرة شخص مثل دونالد ترامب. أعمته السلطة مثل آتريوس، تحدو الكثير من تصرفاته تلك النزعة الانتقامية الشريرة، التي لا تراعي في عنفها القيم أو الأخلاقيات؛ حتى مع أكثر حلفاء الولايات المتحدة وجيرانها الأقربين مثل كندا والمكسيك. حيث تتناول المسرحية هذا الجدل المستمر بين العنف والنظام، وهل يفيدنا أن نطرح القيم الإنسانية جانبا حينما ندير أمورنا السياسية؟ وهي قضية فلسفية كبيرة لا تقل أهميتها مع تناول الحاضر السياسي الأمريكي المترع بالتخبط، عن علاقتها بتناول واقعنا العربي وما يدور فيه تردي وهوان.
والواقع أن هذه المسرحية، بتركيزها على صيغتها الشعرية، تفتح الباب أمام الكثير من الأسئلة المحورية. وأهمها أسئلة العلاقة بين المعرفة والسلطة، وأسئلة الصراع بين العقل والهوى، وكيف يطرح الفعل الإنساني على الدوام أسئلته الأخلاقية. فنقل مشهد قتل أبناء ثييستس للكورس وما ينطوي عليه من أسئلة أخلاقية يستدعي إلى الذاكرة المعاصرة مشهد فصل ترامب أبناء المهاجرين، من أصول هسبانية خاصة، عن عائلاتهم على الحدود. وما يطرحه هذا المشهد علينا من أسئلة أخلاقية. ناهيك عن مدى العنف والشر الذي ينطوي عليه فعل المسرحية الانتقامي ذاته.
مأساة انتقامية يابانية من نوع جديد:
أما العمل الآخر الذي شاهدته في دورة هذا العام، والذي يمكن تصنيفه ضمن جنس المأساة الانتقامية الدرامي فقد كان (البعض لا يرى البحر أبدا Certaines n’avaient jamais vu le mer). وهو عرض أعده وأخرجه ريتشار برونيل Richard Brunel عن رواية الكاتبة الأمريكية من أصول يابانية جولي أوتسوكا Julie Otsuka التي ولدت في كاليفورنيا عام 1962 وكرست أعمالها الأدبية لتناول تجربة الأمريكيين من أصول يابانية. خاصة وأن والديها عاشا أثناء الحرب العالمية الثانية، وبعد هجوم اليابان الشهير على بيرل هابر، تجربة وضع اليابانيين في معسكرات اعتقال، لا تخلتف كثيرا عن معسكرات النازية، وتجريدهم من كل حقوقهم، اللهم إلا حق الحياة في المعتقل. ولم يؤثر اختلاف وضع والديها على تجربتهما، فقد كان الأب «إيسي Issei»، أي من الجيل الأول الذي هاجر من اليابان، والأم «نيسي Nisei» أي من الجيل الذي ولد على الأرض الأمريكية وتمتع بالتالي بجنسيتها. وقد نشرت جولي اوتسوكا روايتها الأولى (عندما كان الإمبراطور مقدسا When the Emperor was Divine) عام 2002 عن تجربة اعتقال اليابانيين الأمريكيين في معسكرات اعتقال، وتجريدهم من ممتلكاتهم عقب بيرل هاربر، فنالت الكثير من الإطراء والاهتمام النقدي، لأنها كشفت للجيل الجديد من القراء الأمريكيين عن جانب عنصري مسكوت عنه إلى حد كبير في تاريخ أميركا الحديث.
أما روايتها الثانية (بوذا في العليّة/ الصندرة Buddha in the Attic) التي نشرت عام 2011 والتي أعدها ريشار برونيل للمسرح وجاء بها مع فرقته إلى مهرجان أفينيون هذا العام، فإنها تتناول ما يعرف باسم «عرائس الصور» في تجربة اليابانيين الأمريكيين. وهي تجربة استمرت بين 1907-1924 حينما كانت هيمنة الأسطورة الأمريكية، كأرض اللبن والعسل وفرص الثراء السهلة، حيث شوارعها مرصوفة بالذهب، تدفع الكثيرين إلى الحلم بالهجرة إليها. وكانت الخاطبات اليابانيات ترسلن صور البنات اللواتي يرغبن في الهجرة إلى اليابانيين المقيمين في أميركا، وما أن تحظى الصورة بالقبول من ياباني مهاجر، حتى يتم شحن تلك الفتيات الصغيرات إليهم. وتجسد الرواية الصدمة التي تعرضت لها تلك الفتيات الصغيرات، كان بعضهن لا يزيد على أربعة عشر أو خمسة عشر عاما، حينما سافرن إلى أميركا الحلم، لتواجههن أميركا الواقع كصدمة. كانت الفجوة بين الحلم الوردي والواقع الكابي الرهيب صادمة بل صاعقة. فلم يجدن في انتظارهن عرسانا أثرياء، أو موظفين في البنوك، كما وُعِدن؛ بل عمالا يديويين وصيادين، يعاملونهن بخشونة واضحة. كما وجدن واقعا مغايرا كلية للواقع الياباني الذي تركوه وراءهم. فقد أدهشتهن أحجام البشر والبنايات، في اختلافها عن أحجام اليابانيين الصغيرة، ومنازلهم التي لا تزيد عن الدورين؛ حتى الخيول كانت أكبر حجما من الخيول اليابانية. وصدمتهن أرض كاليفورنيا الشاسعة اليباب، في تعارضها الواضح مع كل شبر من الأرض في اليابان المزروع بالأرز.
كانت أميركا بالنسبة لهم مكانا غرائبيا مترعا بالأحلام، مكان شيق وملئ بالوعود. لكن الواقع كان مغايرا لكل التوقعات. فنحن هنا بإزاء رواية تكتب المسكوت عنه. وتقدم لنا جوانب صادمة من التاريخ الأمريكي الحديث. فلم تقتصر الصدمات التي واجهت تلك الفتيات على التعامل مع خشونة الرجال وهم يأخذونهن عنوة في أغلب الأحيان، وكأنهن عاهرات لا زوجات؛ وإنما اكتشفن في تلك السن المبكرة من حياتهن أن عليهن أن يقمن بأعمال شاقة طوال اليوم من الحفر حتى الانكباب على ماكينات الخياطة في المصانع، ثم العودة لإنجاز كل أعمال البيت بعد يوم مرهق في العمل. لم تكن أميركا أبدا أرض اللبن والعسل، بل أرض العمل الشاق والاستغلال الجسدي المرهق معا. ثم وقعت عليهن الطامة الكبرى حينما أعلنت اليابان الحرب على أميركا، وكان عليهن معاناة الترحيل القسري مع أسرهن إلى معسكرات الاعتقال الجماعية التي حبس فيها اليابانيون أثناء الحرب العالمية الثانية. وفقدان كل ما امتلكوه طوال حياتهم فيها. وتخصص الرواية فصلها الأخير لكيف تعامل الواقع الأميركي مع هذا الاختفاء القسري لليابانيين؟ وهل شعر الجيران بهذا الاختفاء؟ وكيف تعاملوا معه؟ وكيف فسر الذين استولوا على بيوتهم وممتلكاتهم الأمر لإنفسهم؟
هذه هي الرواية التي قرر ريشار برونيل مدير المركز الدرامي في فالانس إعدادها للمسرح، واستضافها المهرجان في دورته هذه للعرض في فضاء «دير الكارم» العتيق. وقد حرص المخرج على الاستغناء عن أي خصائص معمارية لهذا الدير القديم، والتي كثيرا ما استغلها مخرجون آخرون على مر السنين، لأنه أراد أن يركز العمل على الممثل والحدث والسياق. لذلك نصب خشبة مسرح تقليدية فيه، وحجب أقواسه الخلفية بالستائر، وقدم عرضا يعتمد على تقنيات الخشبة الحديثة في تقسيم الأماكن والإيحاء والحركة. حيث يتكون المشهد من عدة أقسام أو غرف متحركة تدور لا على محاورها فقط، وإنما تتحرك إلى مقدمة المسرح أو إلى خلفيته، وتنفتح بعض جدرانها بطريقة الستائر اليابانية في نوع من إسقاط بعض الحوائط بين المشاهد والأحداث. مما أتاح للفضاء المسرحي قدرا كبيرا من السيولة، كما مكنته تلك الغرف المتحركة الصغيرة من تجسيد العزلة وحالة السجن أو الحصار التي تعيشها كل امرأة من بطلاته اليابانيات على حدة. واستخدم معها تقنيات السينما في تحويل بعض جدران تلك الغرف إلى شاشات لعرض منولوجات بطلاته، وكل منهن تروي قسما من خصوصية تجربتها قبل أن تجمعهن المشاهد في أحداث المعاناة الجمعية.
ومن خلال ما يمكن دعوته بالشهادات الفردية المتقاطعة جسد العرض المسرحي مرحلة الصدمة في حياتهن، والمواجهة الصادمة مع رجالهن, ةهي شهادات امتزج فيها التجسيد الدرامي للحالة، بالبوح الفردي لوقع كل منها على الشخصية. قبل أن يجمع النسوة، مع رجالهن، وأحيانا بدونهم، في مشاهد العمل الجمعي في المزارع أو مشاغل الخياطة. ثم يتيح لنا من خلال اختيار لحظات دالة في حياة كل منهن إلى تجسيد حالة الوحدة والحصار، من ناحية، وخصوصية بعض تجاربهن الأسرية أو حتى العملية. وقد بلغ العرض دراميته الشعرية في القسم الأخير الذي بدأ عقب أحداث بيرل هاربر عام 1941، حيث لم ينفع أي منهم الحرص على إعلان أمريكيته أمام تلك النزعة العنصرية التي تعاملهم كأعداء، وتطالب بالقبض عليهم أو طردهم. ويكتب لنا المشهد تواريخ تلك الأحداث المتسارعة التي تتابعت بوتيرة قاسية. وبعد مشهد أو مشهدين من الطرد أو الترحيل القسري لمعسكرات الاعتقال، استطاع العمل تجسيد الغياب، بصورة لا تقل قسوة عما عانته تلك النسوة في صدمة المواجهة مع أميركا.
هنا نعود إلى ما بدأت به في تناولي لهذا العرض من تصنيفه ضمن المآسي الانتقامية، لأن الانتقام البشع من تلك الأسر اليابانية، والتي تجاوز عددها أكثر من مئة ألف نسمة في تلك الفترة، لم يستند إلى أي وقائع صلبة أو مبررات مقنعة. إنه أمر يكشف عن تأصل النزعة العنصرية في الثقافة الأمريكية، برغم كل التبريرات التي تذرع بها العقل الأمريكي في تناوله لما جرى. فما يكشف عنه حكم دونالد ترامب الآن من تعصب مقيت ضد أعراق معينة من المهاجرين، فأميركا كلها ليست إلا بلدا من المهاجرين، ليس جديدا على الذات الأمريكية، ولا على ثقافة رعاة البقر السائدة فيها بأي حال من الأحوال.
الدائرة القطبية وأخطار المتغيرات البيئية:
إذا كانت كل من (ثييستس) و(البعض لم ير البحر أبدا) تتناول السياسة بشكل رمزي أو إيحائي، فإن (الدائرة القطبية Arctique) لآن سيسيل فانداليم Anne Cecile Vandalem والتي جاء بها المسرح القومي البلجيكي إلى مهرجان أفينيون هذا العام، تتعامل مع موضوعها السياسي الملح بشكل مباشر. لذلك تقرر أن تبدأ احداثها عام 2025 كي تكتسب رسالتها التحذيرية قدرا كبيرا من صدقيتها وإلحاحها. حيث نجد أنفسنا في البحر المتجمد الشمالي وسط الظلمة والبرد في قارب تتقاذفه الأمواج، مع مجموعة غريبة من المسافرين السريين بين الدنمارك وجرينلاند، وهم يعبرون وسط بيئة معادية في سياق ذوبان الجليد في زمن التغير المناخي. فماذا تراهم يفعلون في هذا السياق؟ وما الذي جمع هذه الثلة الغريبة من المسافرين: هناك وزيرة سابقة من جرينلاند، ومستشارها السابق، وناشط بيئي، وصحفي، وأرملة رجل أعمال، وقبطان القارب، وفتاة مراهقة يدفعها حب الاستطلاع ، ومعرفة سر تلك الرحلة إلى التسلل للقارب قبل الرحيل. فما الذي دفعهم لهذه الرحلة؟
هل هي السياسات القطبية؟ أم أننا بإزاء نوع جديد من مسرحية (الجحيم) لسارتر، حيث الجحيم هو الأخرون؟ أم أنها سياسات التغير المناخي؟ أم تراه العبور إلى المجهول؟ هذه الأسئلة يطرحها علينا العرض من البداية وهو يموضع أحداثه في عام 2025، وبعد عشر سنوات من رحلة سابقة لمجموعة مشابهة انطلقت إلى جرينلاند عام 2015، وصادفت مجموعة من الصعاب نتعرف عليها وهي تتجلى على مرايا هذه الرحلة الجديدة التي تستخدم تقنية المزج بين المسرح والسينما من ناحية، وبين استدعاءات الماضي وأشباحه من ناحية أخرى. حيث ارتفاع حرارة المناخ هي الوجبة التي تقدمها المسرحية لمسافريها، وهي تبحر بهم في رحلة بين البساطة والتعقيد، بين الوحدة والتمزق. رحلة تبحث عن ممر ملاحي قديم قد يكون التغير المناخي وذوبان الجليد قد أتاحا التعرف عليه من جديد.
ونكتشف عبر أحداث المسرحية التي توشك أن تكون واحدة من مسرحيات الإثارة واكتشاف ما حدث في دورتها الأولى، أن الرحلة السابقة التي مولتها شركة كانت تسعى لاستغلال موارد جرينلاند المعدنية قد تحطمت على رصيف أحد محطات اكتشاف النفط، وأدت إلى موت أحد من كانوا على متنها، وقد عاد شبحه ليطارد من يعاودون الكرة هذه المرة. وإن كانت الرحلة الراهنة/ أو بالأحرى المستقبلية/ لأنها تدور عام 2015 تستهدف تحويل القارب إلى فندق عائم لأثرياء السوّاح. وقد استجاب لدعوة غامضة للمشاركة في هذه الرحلة أرملة صاحب الشركة التي مولت الرحلة السابقة، وقبطان السفينة السابقة، ورئيسة وزراء جرينلاند السابقة وبقية المجموعة التي سرعان ما نكتشف أنه يتهددها الضياع في تلك المنطقة القطبية غير المأهولة كثيرا. صحيح أن المسرحية تدور في سياق واقعي، حيث أدى التغير المناخي إلى فتح المسار القطبي، وأخذت جرينلاند تنفض عنها عزلتها ويهل عليها نوع من الازدهار السياحي في تلك المنطقة البكر بالغة الجمال، والتي تتسم برغم عزلتها بالثراء الشديد في المصادر الطبيعية.
إننا بإزاء مسرحية تتخذ من القطب الشمالي منطلقا للتنبيه إلى اتفاع حرارة المناخ وما يترتب عليه من أخطار على مستقبل كوكبنا كله. هنا تبدو جرينلاند وكأنها الضحية والمسؤول في الوقت نفسه عن المشكلة التي نعاني منها. وبدلا من كونها تلك اليوتوبيا القديمة شبه المستحيلة، وهذا البياض الشعري اللامتناهي، أدى ارتفاع حرارة المناخ إلى تحسين براجماتي في أوضاع سكانها، وساهم في فتح نوافذ الأمل فيها والتبشير بإمكانية استقلالها عن الدنمارك. ومع ذلك فإن تلك التغيرات تجسد خيبة الإنسانية رغم تجليها في اقتصاد جديد يبدو ظاهريا وكأنه نافع للسكان، إلا أنه يدفعهم لحتفهم، إلى حدود الكارثة البيئية. هذا التناقض البادي بين المحلي المحدود بضيق الأفق، والكوني المفتوح على المستقبل المعتم، هو الذي يحكم الدراما في هذا العرض المسرحي الجميل. وقد منحت سينوجرافيا المسرحية المشدودة بين العادي والمدهش، والتي تتمتزج فيها المشاهد السينمائية بتلك المسرحية التي تتجسد أمامنا على الخشبة، مأزق الوجود على قارب تتقاذفه رياح المجهول تلك القدرة الاستشرافية على أخذنا إلى المجهول، إلى عالم مترع باحتمالات لا متناهية. حيث يحيط بنا مناخ من القلق يجسد خوفنا من المستقبل، ويجعلنا نتماهى مع شخصيات المسرحية التي لا تعرف ماذا سيواجهها في نهاية النفق، في تلك الكوميديا السوداء التي تشد الجميع.
أحمد العطار ومسرح الشريحة الاجتماعية التقليدي:
لاشك أن مشاهدتي لعمل المسرحي المصري أحمد العطار (ماما Mama) الذي جاء به إلى مهرجان أفينيون هذا العام، بعد هذين العملين، بل وبعد عمل مدهش آخر للمخرج البلجيكي اللامع إيفو فان هوفا سأتناوله بعد قليل، هو ما جعلني أشعر بخيبة أمل كبيرة في واقع المسرح المصري. والواقع أنني كنت قد شاهدت للعطار في نفس المهرجان مسرحية (العشاء الأخير) عام 2015. ووجدت فيها وعودا بمخرج يدرك أهمية الإيقاع المسرحي، ويتحكم في توقيت مشاهده، وإلى حد أقل في تشكيلها، وهو يقدم لنا بمنظور تهكمي تلك الشريحة الدالة من طبقة البرجوازية المصرية الجديدة، وهي تتعايش مع الفساد المستشري في المجتمع؛ بل تتباهى بمشاركتها فيه. لذلك حرصت على حجز مقعد في مهرجان هذا العام لمشاهدة مسرحيته الجديدة. فوجدت نفسي بإزاء تكرار أو تطريب فج على لحن المسرحية السابقة. يقدم لنا من جديد مسرح نفس الشريحة الاجتماعية التي لا تمثل أكثر من عشرة في المئة من المجتمع المصري؛ ولكنه لا يستطيع أن يرقى باستقصاءاته الجديدة لها إلى مستوى الاستعارة القادرة على إضاءة أي من الأبعاد المهمة لما يدور في مصر الآن، وهي تعاني من التخبط في أحابيل الثورة المضادة والقهر بشكل غير مسبوق.
حيث تبدو تلك الأسرة التي تقدمها مسرحية (ماما) بأجيالها الثلاثة وكأنها تكرار من نوع مغاير لأسرة المسرحية السابقة. تعيش في مجرّة معزولة عما يدور في مصر من توتر اجتماعي خانق وأزمات اقتصادية قاتلة؛ انتجها انصياع مؤسستها السياسية إلى إملاءات صندوق النقد الدولي التي لم تجر على من استجابت لها من دول العالم النامي سوى الخراب. أسرة مهلهلة يلجأ في تكوينه لشخصياتها إلى الكليشيهات المحفوظة في هذا المجال. لايزال جيلها الثاني يعتمد على الأول الذي يوشك قاربه على المغيب، بل يموت ممثله قبيل نهاية العرض. بينما لا يدرك هذا الجيل الثاني ما يفعله الجيل الثالث، وقد بدأ يشب عن الطوق ويتمرد. ولا سبيل لحمايته، في نظر الجيل الأول الذي لايزال يدير أمور تلك الأسرة وبمباركة كاملة من الجيل الثاني المنهار، إلا باللجوء لسطوة المؤسسة البوليسية والتزوير، من خلال اختلاق جريمة وهمية يروح السائق ضحيتها، كي تتخلص الحفيدة من تأثيره ثم البحث لها عن عريس يستطيع انتزاعها من البلد بأكمله.
ناهيك عن اعتماد المسرحية المستمر على مجموعة من كليشيهات الشخصيات المحفوظة، كي لا أقول الممجوجة، مثل ذلك الشاب الصغير الذي نشأ في الغرب بشعره «المنكوش»، وقد استحال إلى كاريكاتير في قبضة «الماما» التي لا تنفك تقبله بين المشهد والآخر كطفل. أو تلك الأم الشكاءة، أو زوجة الإبن المتذمرة المقهورة من تدخل حماتاها في أمور أسرتها. أو الإبن الضائع بين أمه المتسلطة وزوجته الضعيفة. صحيح أن المسرح، بسبب جمعيته وضرورة عرضه، هو أكثر الفنون تعبيرا عن الواقع الذي يصدر عنه. لكننا بإزاء مسرح لا نستطيع أن نعتبره تعبيرا عما يمور به الواقع المصري من قهر وغليان، وإنما بإزاء تجربة تجريدية مولعة بجماليتها التقليدية، تتناول شريحة من هذا الواقع بقفازات صاغتها تقنيات المسرح الغربي التقليدي، لا تضيف شيئا لتلك التقنيات، ولا تثري فهمنا للواقع الذي صدرت عنه.
تقطير إيفو فان هوفا الشاعري للروح الهولندية:
لاشك أن المخرج البلجيكي إيفو فان هوفا Ivo van Hove الذي يدير مسرح تونيلجروب Toneelgroep في أمستردام كان اكتشافا مثيرا في مهرجان عام 2016 حينما قدم فيه مسرحيته (الملعونون) المأخوذة عن فيلم فيسكونتي الشهير. وقد تابعت أعماله بعدها، حيث عرض في لندن ثلاثة أعمال كان كل منها علامة في مجاله. وها هو قد جاء هذه المرة بعمل من انتاج مسرح تونيلجروب، وهو أقرب ما يكون للمسرح القومي الهولندي، إلى مهرجان هذا العام بعنوان (العجائز والأشياء التي مضت De Dingen die Voorbijgaan: Les Choses qui Passent). وأيفو فان هوفا الذي بدأ حياته بكتابة المسرحيات ثم إخراجها، مولع بمسرحة أعمال لم تكتب أصلا للمسرح، كما كان الحال في مسرحته لفيلم فيسكونتي أو لفيلم إنجمار بيرجمان (مشاهد من زواج) أو لفيلم (شبكة الأخبار) الذي فاز بالأوسكار عام 1976 وكانت مسرحته هي آخر أعماله للمسرح القومي الانجليزي قبل شهور.
وقد جاء إلى مهرجان أفينيون هذا العام بعمل مأخوذ عن رواية هولندية لأبرز كتاب هولندا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وهو لويس كوبيروس Louis Couperus الذي لم أكن قد قرأت له شيئا من قبل، أو سمعت عنه بالرغم من أنه كما يقول فان هوفا يعادل في أهميته توماس مان بالنسبة لألمانيا أو مارسيل بروست لفرنسا. ولأنني أعرف منذ اكتشفت أعماله مدى جدية تأويلاته المسرحية وعمقها وجماليتها، حيث شاقني تأويله الإخراجي المدهش لكل من (مشهد من الجسر) لآرثر ميلر و(هيدا جابلر) لهنريك إبسن عند عرضهما في لندن في العامين الماضيين، فقد حرصت على قراءة الرواية قبل مشاهدة العرض. خاصة وأنها متاحة مجانا في ترجمتها الانجليزية التي صدرت عام 1906 بعنوان (العجائز والأشياء التي مضت) ضمن مشروع جوتنبرج على شبكة الانترنت. وقد عرفت أنه عندما صدرت ترجمتها الانجليزية تلك، وقرأها اوسكار وايلد، كتب رسالة إطراء لمؤلفها الذي لم يكن يعرفه من قبل، يبدى له فيها إعجابه بها، وبعث له معها نسخة من روايته الجديدة (صورة دوريان جراي)، ذلك لأن هناك الكثير من التماثل بين منهجيهما في التعامل مع العقل الجمعي وما يتطلبه من انصياع أو مراءاة للقيم، وبين سورات الهوى العاصفة.
ولم تخيب الرواية ظني. فهي بحق واحدة من روايات تلك المرحلة الكبرى، من حيث ثراء العالم وقوة الشخصيات، وأهمية ما تطرحه من رؤى فكرية وسياسية وفلسفية على السواء. واستغربت أنها لم تحظ باهتمام إدوار سعيد في مشروعه النقدي الكبير لتفكيك الخطاب الاستعماري الغربي في (الثقافة والإمبريالية)؛ لأنها بالفعل رواية كاشفة في هذا المجال، وخاصة من حيث دور التجربة الاستعمارية الحيوي في تشكيل الخريطة الاجتماعية في المركز، أي في هولندا نفسها، وليس في مستعمراتها فقط. وقد صدرت طبعتها الأولى في هولندا عام 1901 وكانت تتويجا لسلسلة من الأعمال التي كرست مكانة كاتبها في ثقافته، بسبب قدرتها على سبر أغوار الشخصية الهولندية وخصوصيتها المميزة. وهي كروايات تلك المرحلة في الأدب الغربي رواية عائلة/ أجيال Family Saga بالمعنى النقدي المعروف لهذا المصطلح، والذي بلورته في الرواية العربية ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة. حيث تغطي الرواية حياة ثلاثة أجيال في تلك العائلة الكبيرة.
صحيح أن الرواية تبدأ بالجيل الثالث وهو في أوج الكهولة من خلال بطلها «لوت» (38 سنة) ومشروع زواجه من «إيلي» الصغيرة (23 سنة) لكننا سرعان ما نكتشف أن جذر هذه العائلة الأمومي هو الجدة «أوتلي» التي تبلغ من العمر 97 سنة، ويتوقع الكثيرون أن تكمل المئة. وتوشك الرواية كلما توغلنا في خرائط تفاصيل عائلتها المعقدة، بحثا عن ذلك السر الدفين المرتبط بتلك الجدة وحياتها في المستعمرات الهولندية في «جاوا» أن تكون واحدة من الروايات الأمومية المناهضة للنزعة البطرياركية، حيث تشكل الأم جذر العائلة الأساسي في ثقافات أوروبا الشمالية، ومزاجها السوداوي. ففي الرواية ثلاث شخصيات تحمل نفس الاسم: «أوتلي» الجدة والأبنة الصغرى لها، أم «لوت»، وهي الآن في الستين من عمرها، وحفيدتها شقيقة «لوت» الأكبر منه وهي الآن في الحادية والأربعين من العمر. وإذا كانت الجدة هي الجذر الأمومي المزروع في الوطن والمشرب بتجربة مستعمراته، فإن الحفيدة قد طلقت الحياة الهولندية بالكامل، وتركت الشمال الأوروبي بمزاجه الكئيب، وانتقلت لتعيش في جنوب أوروبا حياة مغايرة لها كلية على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، في مدينة نيس الفرنسية، مع رفيق حياتها الإيطالي «ألدو».
وتحتل هذه الشخصيات النسائية الثلاث التي تحمل كل منها اسم «أوتلي» مكانة محورية في الرواية بالرغم من كثرة الشخصيات النسائية والرجالية الأخرى فيها. ولأن الرواية، كروايات القرن التاسع عشر المحبوكة، تحرص على اقتناص اهتمام القارئ في شبكتها، فإنك لا تتعرف على خريطة هذه العائلة المتشابكة بالكامل، ولا على السر المدفون مع زوج الجدة الثاني، الذي يشاع أنه قد مات غرقا في نهر في جبال تيجال في «جاوا»، إلا بعد الانتهاء من قراءة الرواية. عندها تكتمل خريطة الشخصيات والمكانات والتحيزات الطبقية والمصائر الوجودية لأبناء تلك العائلة الكبيرة. لأننا في رواية تهتم بسيكلوجيا الشخصيات ونزعاتها الداخلية، وأسئلتها الوجودية في زمن سابق على ظهور الوجودية في الفكر الأوروبي. ولكنها في الوقت نفسه رواية عن خصوصية التجربة الاستعمارية الهولندية ودورها في رسم خريطة المكانات الطبقية والاجتماعية في المركز الهولندي، وخاصة في زمن لعبت فيه المستعمرات الهولندية دورها الكبير في رفد المركز بالثروات. وهي أيضا ككثير من روايات القرن التاسع عشر رواية عن البحث المستحيل عن الحب المرتجى، وعن الصراع بين العقل والهوى.
فأوتلي الجدة كانت باهرة الجمال يخطب أفضل الشباب ودها. فتزوجت في شبابها الجنرال «دي لادرز» التي توحي لفظة الـ«دي» السابقة لاسم عائلته بعراقة محتده. ثم صحبته إلى المستعمرات، وأنجبت منه ابنتها الكبرى ستيفيني قبل أن تبلغ العشرين من العمر (فستفيني الآن 77 سنة). وتعتقد ستيفني أنها الأبنة الوحيدة التي أنجبتها الأم من الرجل الصحيح. فقد كان أبوها من طبقة أرقى من تلك التي ينتمي لها زوج أمها التالي. وقد ورثت عنه ثروة جعلتها في مكانة أعلى من بقية أخواتها. وهي لا تتصور أنها في مكانة طبقية أعلى منهم فحسب، بل وفي مكانة أخلاقية/ دينية أرقى لالتزامها بالمعايير الكالفينية التي ترتوي منها صرامة شمال أوروبا الروحية، لأنها تحذر ابن اختها الصغرى بأنه لن يرث شيئا منها إذا لم يتم زواجه في الكنيسة البروتستنطية، إي إذا لم يتبع الطريق التقليدي القويم. لكنها في عزلتها الاختيارية عن بقية أخواتها، تستشرف لنا عزلة تلك الطبقة الارستوقراطية التقليدية التى تنتمي إليها منذ ذلك الوقت المبكر.
والواقع أن وعيها بأن الهوى وعدم الالتزام بالعقل التقليدي هو الذي دفع أمها (اوتلي/ الجدة) إلى تلك المغامرة التي دفعت الأب/ الزوج الأول لطلاقها، قد ترك أثره الذي لا يمحى على حياة ستيفيني، وأدى إلى عزوفخت هم الزواج. وظلت طوال حياتها تنظر من علٍ إلى أصحاب المزارع الهولنديين الذين يمثلهم زوج أمها الثاني «ديركيز»، وإلى بقية أخوتها منه. فقد أنجبت الأم منه أنطون (75 سنة) الذي لم يتزوج ودفن رغباته المستعرة في القراءة الدؤوبة وجمع الكتب السرية، وهارولد (73 سنة) الذي تزوج من هولندية خالصة، أما دان (70 سنة) الذي يعمل الآن في الهند فقد تزوج من أوروبية متهندة، أي اندمجت في المجتمع الهندي، وتيريزا (68 سنة) التي عاشت تجرية ثلاث زيجات فاشلات، فاعتنقت الكاثوليكية بعدها، وهو الأمر الذي اعتبرته ستيفيني نوعا من الكفر، فإنها تعيش في دير راهبات في باريس. تكفّر بصلواتها المتواصلة عن خطايا أمها بعدما سمعت منها أثناء هلوسات حمى أصابتها ما فعلته بأبيها. وأخيرا الأخت الصغرى (اوتلي الثانية) وهي الآن في الستين من عمرها، تعيش حياة نكدة مع زوجها الثالث «ستاين دي فييرت» الذي يصغرها بعشرة أعوام. ومع ابنها «لوت» الذي اعتزم أخيرا الزواج من «إيلي» حفيدة «إيميل تيكما».
وقد ولدت أوتلي الثانية تلك بعد فترة طويلة من غرق أبيها في النهر، ولذلك تحوّم شكوك قوية حول نسبها، وكيف أنها ابنة عشيق أمها «إيميل تيكما» الذي يبلغ الآن من العمر 93 عاما، ولايزال يواظف على زيارة الجدة كل يوم، في بيتها الصغير بأمستردام، هو وعشيق آخر لتلك الجدة الأسطورية هو الدكتور «رولوفز» في التسعينيات من عمره هو الآخر، يواظب كذلك على زيارتها حتى الآن. وتكشف لنا الرواية عن قدرة أوتلي الجدة على إدارة علاقاتها الغرامية بحنكة اجتماعية لعبت فيها الحياة في المستعمرات دورا حيويا. فلا يزال الدكتور يزورها يوميا حتى الآن وفي حضور منافسه اللدود في غرامها، بالرغم من أن علاقته بها تطورت من الإعجاب من طرف واحد إلى التحقق بعد شيء من الابتزاز، إن لم نقل التواطؤ في الجريمة، الذي أتاحته له الظروف حينما أوكل إليه أمر كتابة تقرير وفاة الزوج المقتول.
وبدلا من توريط «أوتلي» و«تيكما» في الجريمة، خلصهما منها بتقرير يفيد بموته غرقا، وبأن الجرح أودى به جاء من اصطدامه بحجر حاد في النهر الجبلي، وليس من طعنه بخنجر محليّ الصنع، قد يجلب للقضية تعقيدات لا لزوم لها ضمن شبكة العلاقات المحلية المعقدة في المستعمرة. وهو التقرير الذي أرضى الجميع: الإدارة الاستعمارية التي لا تريد أن تضفي على السكان المحليين أي بطولة، من نوع الانتقام من الزوج ديركيز الذي قيل أنه كان على علاقة بامرأة محلية أُشيع أن زوجها هو الذي طعنه ثم ألقاه في النهر، ومرتكبي الجريمة الفعليين (الجدة وتيكما وقد فاجأهما الزوج متلبسين)، وأخيرا الطبيب الذي تمكن من إشباع وطره من معشوقته التي كانت مستحيلة عليه قبلها.
وتوشك أوتلي الثانية، آخر العنقود، أن تكون مرآة لأمها، ولكن في مرحلة تاريخية مختلفة بالنسبة للأسرة ولهولندا نفسها وقصتها مع مستعمراتها. فقد كانت مثلها بارعة الجمال، مترعة بالهوى والميل إلى تحقيق رغباتها الحسية، تقودها عواطفها قبل أي شيء آخر، ويستهويها وقوع الرجال في غرامها، وإن افتقدت لقدر كبير من حكمة أمها في التعامل مع من يقعون في غرامها، ناهيك عن قدرتها على الاحتفاظ بهم على مر السنين. صحيح أن زوجها الأول الهولندي، والد «لوت» لا يزال يحبها، ويهدهد ذكرايته الإيجابية معها، لكنه طلقها منذ وقت طويل حينما وقعت في غرام الانجليزي «تريفيلي» الذي هام بدوره بها فتزوجها، وأنجب منها ثلاثة أبناء هم: ماري (35 سنة) وجون (32 سنة) وهيو (30 سنة). وما أن فتر الحب بينهما حتى استغل وقوعها في غرام «ستاين» الذي أغرم بداية بجمالها وما يشع منها من رغبات حسية عارمة، حتى استغل «تريفلي» الأمر وتحدى «ستاين» للمبارزة ودفع بالفضيحة حد الطلاق، وهو الأمر الذي اضطر «شتاين» للزواج منها، في نوع من القيام بالسلوك الصحيح، حتى ولو لم يكن ينوي في بداية الأمر مثل هذا المسار؛ بل أقدم على علاقته بها كمغامرة عابرة.
والواقع أن التقيد بمعايير الواجب الأخلاقي حتى لو خالفت رغبات صاحبها، من الأمور التي توشك أن تكون منبع المزاج الرصين إن لم نقل السوداوي في تلك الشخصية الهولندية، التي تتعايش مع عذاباتها الوجودية مادامت تشعر بمسؤوليتها الشخصية عنها. وقد جالد «ستاين» في تحمل تلك المسؤولية برغم أن فورة الهوى المشبوب في البداية سرعان ما خمدت؛ تحملها لأكثر من عشرين عاما ظلت أوتلي طوالها تشعر بالغيرة من شبابه كلما تقدم بها العمر، وتملأ حياته بالنكد. ولم يتحرر منها إلا بعد أن نالت إرثا كبيرا عقب وفاة «تيكما» وانتقلت للحياة مع ابنها هيو في بريطانيا. وهو أبنها الأصغر، وأقرب أبنائها من الانجليزي إلى نفسها. وقد يمكن تأويل هذا الزواج بالانجليزي، وما ترتب عليه من استغلال مادي دوري لها، واستنزاف ثروتها حتى النهاية على مستوى العلاقة الاستعمارية بين انجلترا وهولندا وما ورثته الأولى من الثانية من مستعمرات. فالميراث الذي يحرص «هيو» على استنزاف آخر جنيه منه هو ميراثها من «تيكما» الذي كون ثروته من المستعمرات.
أما أوتلي الثالثة، شقيقة لوت الكبرى، فقد قررت التخلي كلية عن كل ما يربطها بالشمال الأوروبي والتواريخ الهولندية، وما يتعلق بها من تقاليد وأمراس اجتماعية؛ والتفرغ لعملها الفني، والانتقال للحياة في مدينة نيس على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. ففي روايات كوتيرس يمثل جنوب أوروبا الفردوس المترع بالبهجة والضوء الساطع والملذات الحسية. وقد تفرغت لعملها الفني في عزف الموسيقى والغناء الإوبرالي، وقدم لها التحقق الفني على خشبة المسرح وأمام الجمهور، نوعا من الثقة الضرورية بالنفس. فطرحت وراء ظهرها فكرة الزواج التقليدي كلية. في نوع من تقديم الحب الحر المفتوح كبديل روائي لقيود الزواج، وما يترتب على خمود جذوة الحب فيه من مشاكل عانت منها أمها ولاتزال تعاني حتى اليوم. إنها اختارت مملكة الحرية وقدمتها على مملكة الواجب والضرورة، في نوع من الخيار الوجودي السابق على تبلور أفكار الوجودية الفلسفية. هذا فضلا عن أن هذا الاختيار الحر، وهو يتراءى على مرايا تأمل «إيلي» الشابة له يبدو في مستوى من مستويات تأويل النص الروائي على أنه اختيار بعيد عن عبء تاريخ هولند الاستعماري الذي ترك ظلاله على الجيلين السابقين.
هذه هي الخطوط العريضة لهذه الرواية الثرية التي تستحق المزيد من الاهتمام وأرشحها للترجمة إلى اللغة العربية، فكيف قدمها إيفو فان هوفا على المسرح؟ ما أن ندخل إلى المسرح المنصوب في ساحة «ليسيه سان جوزيف» الواسعة، حتى نجد خشبة كبيرة فارغة، بأرضية رمادية/ بيضاء وحوائط جانبية من مربعات زجاجية ضخمة رسمت عليها بالطين أشكال تجريدية لوجوه مترعة بالرعب أو العذاب، تضفي على المشهد مناخا خاصا. وصُفّ على طول كل منها عدد من الكراسي السوداء. وكأننا في قاعة انتظار واسعة فارغة في الوقت نفسه. وفي عمق المسرح في مواجهة الجمهور تحول الجدار إلى مرآة ينعكس عليها فضاء الخشبة وتليه صورة الجمهور الجالس أمامها. وليس في فضاء المسرح الواسع إلا منضدة صغيرة عليها ساعة ذات بندول يتحرك باستمرار في تجسيد لحركة الزمن التي لا تتوقف.
فلكل شيء في تصميم المشهد المسرحي عند إيفو فان هوفا دوره ودلالاته ووظيفته التي لابد له من تأديتها. وكذلك الحال بالنسبة للألوان وتشكيلات الحركة أثناء تفتح الحدث الدرامي، بإيقاع محسوب يسيطر عليه هذا المايسترو المسرحي البارع. ذلك لأن كل الشخصيات ترتدي ملابس سوداء، باستثناء أوتلي الصغرى وعشيقها الإيطالي ألدو، اللذان يقدمان رقصة البهجة وتألق الحياة وقد ارتديا ملابس بيضاء مرقّشة بورود في هذا العالم الكابي الذي تنتظر أغلب شخصياته التي شاخت الموت وهي موشحة بالسواد. وما أن تتكشف لنا تفاصيل السر الدفين المخبوء في حياة أوتلي الجدة، وتميط الأحدات اللثام عما جرى، حتى يهطل على المشهد مطر أسود من أوراق صغيرة سوداء يغطي معظم مساحة الخشبة وتتخبط فيه جل الشخصيات، بقدر تخبطها في تواريخها التي لا فكاك لها منها، وفي هذا السر معا. فتتكشف بسبب حركتها فيه تشكيلات غريبة كآثار أقدام في الرمال، ولكنها هنا باللونين الأسود والرمادي الفاتح من تحته.
فنحن هنا بإزاء مخرج له لغته الإخراجية المميزة بمفراتها التي تعتمد على التقطير والتكثيف، لا يُترك فيها شيء للصدفة. يُدرك أن المسرح فن بصري حركي، يمتع العين والأذن، لذلك كانت هناك فرقة موسيقية مصاحبة للعمل، ويستثير العقل قبل المشاعر. تتحول حركة الممثلين في المشهد بين يديه إلى نوع من اللوحة المشهدية أو الرقصة الدرامية المحسوبة. وهي لغة قادرة على طرح تأويلاتها للنص الذي يعتمد عليه بصورة تثري معرفتنا به، وتكشف لنا عن طبقات الروح الهولندية التي تتخلل حياة جل الشخصيات. لأن العرض لا يركز على جانب الإثارة في القصة، واكتشاف سر ما جرى ليلة تلك الجريمة في جبال تيجال بجاوا، قبل ستين عاما. ولكن بتلك الحالة الوجودية التي تمخضت عنها تلك الجريمة، وكشف لنا عبرها طبيعة الشخصية الهولندية التي تتخبط في أحبولة الجري خلف مشاعرها المشبوبة، وبين الإحساس الكالفيني المسيحي بالواجب، وبالذنب عما اقترفته يداها في لحظات هذا الهوى التى لا سبيل للسيطرة عليها.
حيوات ملفعة بالرعب والنفي والأسرار:
كان من العروض المثيرة التي شاهدتها في مهرجان هذا العام، والذي استثارني للحجز لمشاهدته أن كاتبه ومخرجه إيراني بلور عرضه وكوّنه ضمن سياقات المسرح الفرنسي. لأن جورشاد شاهمان Gurshad Shaeman ولد في طهران أثناء الثورة، وأمضى طفولته فيها سنوات الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، بل وبالقرب من جبهتها المشتعلة. فقد كُلف أبوه وقتها، وهو مهندس طرق وكباري، بالإشراف على إنشاء طرق سريعة إلى الحدود العراقية، مما اضطره للانتقال هو وأسرته للحياة قرب خطوط التماس، ومخاطر الجبهة المشتعلة، التي عاش جرشاند فترة صباه منذ أن بلغ الرابعة بها. وفي عام 1990 تم الطلاق بين والديه، وأخذته أمه معها للحياة في فرنسا التي قررت الانتقال للعيش فيها. وقد شبّ الصبي في فرنسا، واكتشف، كما يقول لنا فيها انجذابه للرجال، أو بالأحرى مثليته، وما جره عليه هذا الأمر من مشاكل قرر أن يتجاوزها بالتعبير عنها في أعماله المسرحية التي يسعى فيها لبلورة ما يسميه بالمسرح الخطابي Oratorio pour le theatre أو الإفضائي.
وهو نوع خاص من المسرح التعبيري، لا يستهدف تطوير حبكة درامية، ولا يهتم كثيرا ببنية الحدث الدرامي، ولكنه يسعى لأن يتيح للأصوات المكبوتة، أو التي فُرض عليها السكوت لأسباب متنوعة، أن تفصح عما تعيشه أو تعانية، وما يدور في أغوارها. مسرح يكشف عن صعوبة الإفضاء الدرامية والشخصية على السواء وما تصطدم به من كبت وعقبات. مسرح طور جوانب منه في أعماله السابقة حتى بلغ درجة من التراكب والتعقيد في العمل الذي يعرضه في مهرجان هذا العام بعنوان (يمكنه دائما أن يقول أن هذا في حب النبي Il pourra toujours dire que c’est pour l’amour du prophete). وهو عنوان ينطوي على مفارقة درامية مرّة، لأن ضمير الغائب فيه، وقد تبعته حالة الديمومة، أي ذلك الذي يمكنه دوما أن يقول أن كل ما يقوم به هذا في حب النبي، يرمز إلى غائب كلية عن العرض كله، ولكنه يلقي بظلاله الكثيفة عليه. ألا هو كل هؤلاء الذين يتعللون بأنهم يمارسون الاضطهاد ضد المخالفين لهم، سواء في الرأي السياسي، أو الطائفة المعتقدية أو العرقية، أو الممارسة الجنسية مثل المثليين أو غيرهم ممن يعتبرونهم من الشواذ، أي أنهم يمارسون كل هذا القمع الذي ستتجلى لنا مآسيه المروّعة طوال العرض، في حب النبي!
لكن ما أثارني في العمل ليس هذا الغائب الحاضر فيه، والذي يطرح إشكالياته بالتناقض، بقدر ما أدعوه بمحتوى الشكل الدرامي به. لأنه عمل لا ينفصل شكل العرض الدرامي فيه عن محتواه بأي حال من الأحوال، بل يوشك أن يكون التجسيد المرئي والحركي لهذا المحتوى. فهو عمل يعتمد على الرغبة في كشف الأسرار المخبوءة، وكيفية تقديمها على المسرح، وتطوير تقنيات عرض درامية، أقرب ما تكون إلى كريوجرافيا الأصوات المتقاطعة والمتناغمة معا، وهي تقدم رقصتها مذبوحة، حيث يتجسد ألم البوح والإفضاء أمامنا على الخشبة بطريقة تدعو للتفكير والتأمل، وتستثير مرارة المفارقة التي ينطوي عليها العنوان. أصوات تمتزج فيها المعاناة من الحروب الغبية التي تتناسل في الشرق الأوسط، بالتشتت في المنافي الغربية، بالخوف من عيون الأنظمة الباطشة في شرقنا الأوسط المنكوب، وهي تتعقب الهاربين منها من إيران وأفغانستان حتى تركيا والسودان، بإشكاليات مختلف مقارع التحريم التي ترفع في وجه التعبير عن الذات والإفصاح عن رغباتها الدفينة، والتي تحتاج أحيانا إلى جهد للإفضاء بها.
والواقع أننا بإزاء نوع من المسرح التوثيقي الذي يستخرج مادته من الحياة اليومية الحقيقية. فقد أمضى جيرشاد شاهيمان شهرا ونصف في أثينا، وشهرا ونصف في بيروت يسجل شهادات حقيقية عن الهروب، والنفي، واللجوء، والكبت، والتعذيب. وعاد من رحلته بعشرين شهادة حول حياة شخصياته، وصبواتها، ومشاعرها، وتجارب عشقها السرية. إننا بإزاء حكايات بحث عنها المؤلف من الواقع، وسجل شهادات أصحابها: فهناك نور ونوّارة من العراق، ولكل قصتها المتميزة برغم أن الأمر ينتهي بهما في نفس المكان، أثينا. وهناك ياسمين التي نجحت في مسابقة اختيار عارضة أزياء في أغادير، ولكن ما أن عرفوا حقيقة ميولها الجنسية حتى بدأت متاعبها التي انتهت بها إلى المنفى. وهناك إليوت الذي يلتقي به في مقهى في أثينا، أنه ليس مثل أي من المهاجرين الآخرين، فقد تعرض للعنف في عائلته الخاصة، وواجه الحب للمرة الأولي في الجيش، حيث كان من الضروري أن تبقى العلاقة بينه وبين الضابط الذي يرأسه محفوفة بالسرية المطلقة. هنا شخص لا علاقة لمعاناته بالحرب أو الثورة كالآخرين. وهناك أيضا لورانس وحميدة والكثيريين ممن مورست ضدهم أشكال العنف الفعلي والرمزي. ويسعى الجميع حينما يتحدثون إليه إلى التأكيد على مشاعرهم وأفكارهم واختياراتهم التي لم تكن كلها بحرية مطلقة، والتعبير عن هوياتهم الحميمة والثقافية على السواء. حتى الحب والتعبير عن الذات لم يكن لهم الخيار المطلق فيه.
ثم استخدم هذه المادة الخام التي عاد بها في ثلاث لغات، هي العربية والانجليزية والفرنسية، في كتابة العرض بعد تحريرها، وإبراز تماسك سردها الداخلي، وترتيبها بشكل تاريخي، وملء الفجوات الناجمة عن صعوبة التواصل أو التعبير في كل منها. وقد وجد أن بعض الشهادات تبلور بتلقائيتها وعفويتها ما يصوره عن المسرح الإفضائي، بينما احتاج بعضها الآخر إلى الكثير من الضبط والدمج والتحرير. بالصورة التي اكتشف معها أن كل سرد شخصي ينطوي على بعد إنساني عام له أبعاده الاستعارية والميتافيزيقية معا. وقد وجد أن هناك ثلاث أقسام تتضافر ليتكون منها العرض: أولها قسم يتضمن سرد الطفولة وبدايات الوعي بطبيعة الهوية وأسئلتها، سواء إثنية كانت أم شخصية أم دينية، أم اجتماعية أم حتى جنسانية. بينما يتعقب القسم الثاني الاحداث الثاوية في ثؤر كل منفى، ما هي العناصر التي تدُع الشخص حتى يترك وطنه؟ فكل منفى له خصوصيته وأسباب مروره بأوروبا. أما القسم الثالث فإنه يتجاوز كل التفردات بطريقته المدهشة، التي تؤكد لنا في النهاية أن المنفى ليس حالة مؤقته، ولكنه يمد جذوره الجديدة في كل اتجاه، وفي كل مكان.
لذلك فإنك ما أن تدخل قاعة المسرح حتى يبدأ العرض في ظلمة دامسة، يؤكد تكاثفها أننا بإزاء عالم ملفح بالأسرار، وتلفعها بالظلام هو التجسيد المرئي لسريتها تلك. فكل جدران المسرح مغطارة باللون الأسود، وكذلك أرضيته. بينما تستقر الشخصيات في أماكنها لا تريم، وهي تحكي عن حيوات يبدو أنها لا تتحرك هي الأخرى. كل يتكلم في ميكرفونه الخاص وحيدا، في هذا المسرح الاستنطاقي أو الإفضائي، بينما ترافق العرض موسيقى إليكترونية حديثة، وإن كانت هذه الموسيقى تصمت خرسا حينما تروى بعض الشخصيات قصصها المروّعة. بصورة يتحول معها العرض إلى منولوجات متقاطعة تتداخل أطرافيها في بعضها البعض، أو ينبثق بعضها من الآخر أو يكرر بعض ملامحه، في نوع من الكورس الوثائقي العصري. ولقد وجدت في هذا العمل المسرحي قدرا من بساطة السينما الإيرانية وعمقها. حيث تعتمد على قصص بالغة العادية والبساطة، ولكنها تستطيع من خلال عرضها بجماليات عالية أن تحيلها إلى استعارة للوضع الإنساني المعقد.
المسرح يرتقي بحياة المساجين والمعوقين
يتسم مهرجان هذا العام باهتمامه بنوع خاص من المسرح، بمكن دعوته بمسرح المساجين والمعوقين. وكأنه يسعى إلى البرهنة على مقولة بيتر بروك الشهيرة أن المسرح يمكنه أن يدور في أي مساحة خالية، وبأي مجموعة من البشر، وأن باستطاعته أن يرتقي بحياة هذه المجموعة حتى لو فرضت عليها الحياة في احلك الظروف، أي السجن. فقد ضم مهرجان هذا العام تجربتين لمسرح السجن هذا: أولاهما هي مسرحية (أحمد يعود Ahmed Revient) التي كتبها المفكر اليساري الماركسي آلان باديو Alain Badiou وهو أحد المترددين الدائمين على ندوات المهرجان الفكرية والمشاركين في فعالياته المختلفة، كما أن هذه المسرحية الجديدة له، والتي قدمها ديديه جالاس Didier Galas فيما يسميه بمسرح القناع، وتجوّل بها في أكثر من موقع في المدينة وضواحها طوال أيام المهرجان، في نوع من المسرح الجوّال، هي بمثابة مواصلة لاستقصاءاته الفكرية المسرحية في (أحمد الماكر/ المراوغ Ahmed le Subtil) عام 1984، ثم (أحمد الفيلسوف Ahmed Philosophe) عام 1995. ويستخدم في هذه المسرحية شخصية أقرب إلى شخصية الفرفور المصرية، أو هي بالأحرى منحدرة من أصلاب شخصية سكابان Scapin الموليرية الشهيرة. حيث يقدم لنا رؤيته الساخرة أو الهزلية التي تتحدى ما استقر عليه عالم اليوم الذي تسيطر عليه وسائل الإعلام والتواصل.
أما المسرحية التي خرجت فعلا من السجن وأداها مسجونون فعليون قام مدير المهرجان أوليفييه بي Olivier Py مع إنزو فيرديه Enzo Verdet بتدريبهم على امتداد مدة طويلة فهي مسرحية (انتيجون Antigone) السوفوكلية الشهيرة. وهي المسرحية التي تتحدى فيها «أنتيجون» الشرائع الجائرة التي فرضها الملك، وتسعى إلى إعادة الاعتبار للقيم الإنسانية السليمة، ورد الكرامة لأخيها الذي جرده كريون من إنسانيته بحرمانه من الدفن، لأنه استنكر الجرم الذي ارتكبه. وهل ثمة أكثر من المساجين يقينا بأن الإنسان يبقى إنسانا، مهما كان الجرم الذي ارتكبه، وأنه جدير برغم كل شيء بالكرامة والاحترام؟ وهل ثمة أكثر منهم وعيا بمدى ما في هذه الحياة من ظلم وجور وخراب؟ لقد كثف العرض المسرحية إلى خمسين دقيقة لبلورة موضوعها الجوهري عن الصراع الفعلي والفكري بين الأخلاق والسلطة.
أما مسرح المعوقين، فهو العرض الأحدث في تجربة للعمل مع المعوقين أو من يتحدون الإعاقة، كما يفضل المصطلح الحديث تسميتهم، قامت بها مادلين لوارن Madelene Louarn طوال ما يقرب من ثلاثين عاما، وقد انضم لها جان فرانسوا أوجست Jean-Francois Auguste طوال السنوات العشر الماضية في تطوير تلك التجربة. وقد أسفر تعاونهما عن أول أعمالهما المسرحية المشتركة عام 2010 بعنوان (إمبراطور الصين L’Empreur de Chine) ثم تبعتها مسرحية (الطيورLes Oiseaux ) عام 2012 ثم (لودفيج: ملك على القمر Ludwig: un Roi sur la Lune) عام 2016. وها هما يأتيان بأحدث أعمال هذه التجربة بعنوان (مسرح أوكلاهاما الكبير Le Grand Theatre d’Oklahama) إلى مهرجان أفينوين هذا العام. وهو عنوان الفصل الأخير من رواية فرانز كافكا الأخيرة وغير الكاملة، وهو العنوان الذي اقترحه ماكس برود ناشر أعمال كافكا لهذا النص. وقد أتاح لهم النص الناقص فرصة الارتجال والتجريب، في نوع أقرب إلى ما يسميه إخواننا التوانسة بالكتابة الركحية. حيث قررت الفرقة تمرير نص كافكا عبر طريقة لويس كارول Lewis Caroll مؤلف رواية (أليس في بلاد العجائب).
فقد ترك هذا الفصل الأخير، في مخطوطة رواية كافكا الناقصة، بطلها «كارل روسمان» بعد وصوله إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهو يعاني من الانحدار إلى قاع السلم الاجتماعي، خطوة بعد الأخرى. وقد تخلى عنه عمه الذي كان يتوقع أن يسانده، فهو رجل أعمال يتمتع بنفوذ اجتماعي واضح. فلم يعد أمامه إلا قبول أدوار التابع المختلفة في محاولته للاندماج في المجتمع الأمريكي، والحلم بأن يترقى فيه، إلى ما بعد تلك الأدوار التي كان يقوم بها الزنوج في ذلك الوقت. ولأن شخصيات كافكا لا تستهدف محاكاة الواقع، وإنما القفز عليه إلى عالم الحلم أو الكابوس، فقد اتاح النص للفرقة الارتجال والتجريب. فكان هذا العرض الشيق الذي يطرح عن طريق الخيال واللعب أسئلته الأساسية عن كيفية التحرر من الوضع الذي تسجن كل منهم الإعاقة فيه. بطريقة تؤدي إلى تفكيك الوضع الذي يعيشه كل منهم حتى يتجاوز عقبات الإعاقة بطريقته الخاصة.
الرقص التعبيري وإضافاته الجديدة للعرض المسرحي:
أصبح الرقص التعبيري أو الرقص الحديث فنا مسرحيا قائما بذاته على مر العقود القليلة الماضية. لا يختلف كثيرا عن فن الباليه الذي ترسخت له كلاسيكياته ومفرداته الموسيقية منها والحركية على السواء. ولكنه وقد ولد من الرغبة في تحدي صرامة فن الباليه وقواعده المحسوبة والمقننة، وطرح سيولة الحركة في مواجهتها، يسعى للانفصال عنه بالتجريب والتجريد والتحرر من البنية السردية التي يعتمد عليها فن الباليه. وأصبح لهذا الفن المسرحي الجديد تاريخه الخاص به، بل ومراحل تطوره وأعلامه الذين يكرسون إنجازهم الفني في مجالات الرقص أو في تصميم الرقصات، أو تأليف الموسيقى المصاحبة لتلك اللوحات الراقصة، التي تتنامى عادة في بنية إبيسودية تسعى لتكوين لوحة لها تشكيلها الحركي التلقائي. لأن اللوحة أصبحت هي الجملة المركبة في هذا الفن الدرامي الجديد، الذي ترهف فاعليته عملية التشكيل الدرامي الحر للوحة، وليس مجرد تشكيلها الحركي المفتوح وجمالياتها الفريدة، أو بالأحرى المتحررة من قواعد رقص البالية الكلاسيكية. وقد أصبح لهذا الرقص الآن مفرداته وتواريخه ومدارسه ومناهجه وأجروميته الخاصة به؛ إلى الحد الذي يميز العارفون به بين مدارسه المختلفة. لكن أحد أهم العناصر التي ساهمت في تطويره، وتكريس أهميته كفن من فنون العرض الأساسية، هو اهتمامه بالسياسة، وسعيه المستمر لأن يعبر الجسد بالحركة عن ردود فعل الإنسان المعاصر على ما يعيشه من أزمات سياسية كبيرة.
ولأن هذا الجنس المسرحي إن صح التعبير قد استطاع أن يكرس أهميته في عالم المسرح الأوروبي المعاصر، فإن المهرجان يفرد له أكثر من مساحة، وينتقي منه كل عام أكثر من عرض. بل كثيرا ما يحظى الرقص الحديث بالعرض في أهم فضاءات المهرجان، أي ساحة الشرف في القصر الباباوي، والتي تتسع لأكثر من ألفي مشاهد. كما كان الحال هذا العام بذلك العرض الراقص المهم (قصة الماء Story Water) الذي جاء به إيمانويل جات Emanuel Gat وفرقة فرانكفورت الحديثة إلى ساحة الشرف في القصر الباباوي. وهي فرقة لا يقل عدد العازفين الموسيقيين فيها بأدواتهم الموسيقية الحديثة عن عدد الراقصين، فقد اعتمد العرض على 15 عازف وعشرة راقصين، لأن الموسيقى الالكترونية الجديدة لا تقل أهمية في تلك العروض عن الرقص التجريدي الحديث نفسه. وينطلق العرض من سيولة الماء وجوهريته معا. حيث ندخل إلى المسرح الساشع فنجد أنه قد وسم فضاءه باللون الأبيض، وخصص النصف الإيمن من الفضاء للفرقة الموسيقية وعازفيها، وكلهم يرتدون اللون الأبيض، بينما خصص النصف الثاني للراقصين الذين يرتدون أيضا اللون الأبيض.
وقد انطلق العرض من خلال حركة موجية تكون لوحته الأولى المعنونة (ماء) تسفر عن تحول الراقصين إلى مجموعتين كل منهما من خمسة راقصين، أولاهما من ثلاثة رجال وامرأتين، والثانية من أربع نساء ورجل، تطور كل مجموعة منهما لوحاتها، ثم تتقارب المجموعتان بطريقة موجية، وتتداخل دون اندماج كامل، ثم تنفصلان من جديد. فالماء هو مجال التناغم بين الحركة والموسيقى الالكترونية الحديثة التي تعزفها الفرقة المصاحبة، وهي أحد أبرز فرق الموسيقى الأوروبية/ الالكترونية الحديثة في عالم اليوم، بصورة توشك فيها الحركة أن تكون تجسيدا للصوت، وتتحول فيها لغة الموسيقى إلى التجسيد المسموع لما نراه على الخشبة من حركة وتشكيلات جسدية. إن هذه الحركة الأولى في هذا العرض الدرامي تقدم حوارها الخلاق بين الموسيقى والرقص بطريقة تستمد من الماء سيولته وتدفقه الطبيعي وتلقائية توازناته التي نعرفها بنظرية الأواني المستطرقة، لتعكس التصادي بين كوننا كبشر مسموعين صوتيا، ومرئيين حركيا.
أما اللوحة الثانية، فكان عنوانها (موسيقى) حيث يكتب عنوان كل لوحة بالضوء على جدار القصر الباباوي المواجه للجمهور، وليس على هذا الجدار غير ساعة رقمية في إحدى النوافذ تسجل الوقت الذي يستغرقه العرض، وتنبهنا بتنامي الوقت الدؤوب إلى أن كل ما يدور فيه من موسيقى وتشكيلات وحركة يدور في الزمن، ويعي زمانيته معا. ولا يقل القسم الثاني تجريدية وانسيابية عن الأول، اللهم إلا في التركيز على الموسيقى فيها، وقد أخذت طبيعتها الالكترونية في التنامي، واستحوذ إيقاعها على اهتمام الجمهور، بالصورة التي بدأت معها التشكيلات الراقصة تحتل المكانة الثانية. وهو الأمر الذي تغير مع اللوحة الثالثة (الناس) التي دخل معها على الفرقة الموسيقية عنصر جديد، وهو عازف الكونترباص بآلته الضخمة التي لم تكن جزءا من الاوركسترا حتى هذه اللوحة. وتكف الموسيقى عن العزف حتى يقودها عازف الكونترباص، وكأن هذه الآلة الضخمة هي صوت الناس بحق حيث تزداد بعدها الطبيعة الالكترونية للعزف ونغماتها الخاصة وموسيقاها الفريدة إلى حد كبير.
ومع اللوحة الرابعة والتي كانت بعنوان (غزة) تتبلور رسالة العرض القوية، حيث تتتابع على شاشة الجدار المواجه لنا مجموعة من الحقائق الأساسية والصادمة حول غزة مساحتها وعدد سكانها الذي يجعلها أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، بينما يقتطع الاستعمار الاستيطاني أرضها ويحرم منها سكانها، وكيف أحالها الحصار الخانق إلى سجن كبير لا تصله الكهرباء إلا بين ساعتين وأربع ساعات في اليوم، و80% من المياه المتاحة فيها ملوثة وغير صالحة للشرب. كما تبلغ فيها نسبة البطالة وخاصة بين الشباب درجات عالية لا مثيل لها في أي بقاع العالم، وينتشر الجوع بين سكانها، ويُفرض على أهلها السجن داخل حدودهم لأن أغلبيتهم ممنوعين من السفر، أو حتى الخروج منها للعلاج او الدراسة. بعد تتابع هذه الحقائق الوثائقية الصادمة وكثير غيرها أمام المشاهدين باللغتين الفرنسية والانجليزية، يتغير إيقاع الموسيقى، ويتسلل إليها النغم العربي، وبعض جمل الموسيقى العربية الملحوظة. وتتبدل ملابس الراقصين، وكانما تحولوا في لمح البصر إلى سكان غزة الذين لا يزيدهم السجن والقهر إلا حيوية وإبداعا. فتتوهج الرقصات بتشكيلات غنية عن التحدي والصمود ومقاومة الأوضاع غير الإنسانية. بصورة تتحول معها اللوحة إلى نوع من رقص المذبوح من الألم في آن واحد. بصورة تساهم فيها الموسيقى الالكترونية بأصواتها التي تثير القشعريرة في المستمع وترهف وعيه بلاإنسانية الوضع فيها.
ثم تعقبها اللوحة الأخيرة في هذا العرض، وهي بعنوان (الرقص) تتصادى فيها الموسيقى الالكترونية مع الحركة، ويسعى فيها العرض إلى تجميع بعض خيوط تلك اللوحات المتتابعة في أهزوجة للرقص والبهجة بالحياة. ويأتي في نهايتها من يرفع الساعة الرقمية التي اقتربت من نهاية الدقائق السبعين التي استغرقها العرض في لحطة اكتماله، كي ينبه المشاهدين إلى أهمية الزمن في هذا التتابع المحسوب بين اللوحات. وليدفعهم للتفكير فيما شاهدوه، لأن من أهداف مثل هذا النوع من العروض المسرحية استثارة العقل للتفكير فيما عرضه الفنان عليه، وفي نوعية الحوار الذي أداره به مع العالم الذي نعيش فيه.
أما العرض المهم الآخر الذي شاهدته من عروض الرقص الحديث فقد كان (خلق/ إبداع Kreatur) لمخرجة ومصممة الرقصات الألمانية الشهيرة ساشا والتز Sasha Waltz التي سبق أن شاهدت لها في دورات المهرجان السابقة أكثر من عرض كان أحدها في أكبر فضاءات المهرجان. أما عرض هذا العام فكان في أحدث فضاءات المهرجان وهو Opera Confluence وهو مسرح كبير أقيم لأول مرة هذا العام في فضاء مجاور لمحطة قطارات أفينيون السريعة. ويتسم هذا الفضاء الجديد باتساع خشبته التي استطاع العرض براقصيه الاربعة عشر وبالاستخدام الخلاق لعدد قليل من الأدوات، أن يملأها بالعنفوان والحركة. خاصة وأن عروض ساشا والتز تهتم كأي عمل مسرحي جيد بكل عناصر العرض من إضاءة وتصميم للملابس وتصميم للمشهد، وإعداد لشريط الصوت المصاحب، بما في ذلك الموسيقى وغيرها من الأصوات التي تصاحب اللوحات الراقصة التي تتتابع أمامنا على الخشبة. ويحتل هذا العمل الجديد أهمية في مسيرتها المهنية، لأنه يحتفل باليوبيل الفضي لتأسيس فرقتها الراقصة عام 1993 ولذلك جلبت له أحد أهم مصممي الملابس وأبرز مهندسي الإضاءة في المسرح الأوروبي.
وتسعى في هذا العرض الذي تفتتحه بمشهد رائع للراقصين شبه عراة في شرانق حريرية شفافة، يدخل فيها الإنسان كدودة ثم ينطلق منها كفراشة توشك أن تطير، بل تطير بالفعل أمامنا بطلاقة الحركات الراقصة، أقول تسعى فيه إلى العودة إلى جذور تجربتها المسرحية التي تركز فيها على أهمية دور المرأة كرمز ميثولوجي مترع بالدلالات. وسبر أغوار العلاقة بين الفرد والجماعة في مختلف تعقيداتها في زمننا، وتدير فيها حواراتها الحركية الخلاقة مع الأشكال والصيغ الفنية الأخرى من رسم وأوبرا وموسيقى. وفي مجال الموسيقى خاصة فإنها تعود إلى مسيرة الموسيقى منذ موسيقى الباروك الثرية إلى موسيقى الحجرة إلى العزف المنفرد إلى موسيقى الأوركسترا الكاملة، وحتى الموسيقى الالكترونية الحديثة بما فيها من نقر وتوقيع وأزيز وخشخشة وصدى وصفير وهسيس مدوّخ في بعض الأحيان. لقد تم تجميع شريط الصوت من هدير حركة المصانع وصوت الآلات أو عواء الريح في خرائب البنايات المدمرة أو المهجورة. إنه شريط يحرص على أن يجعلنا نعيش متغيرات الخريطة الصوتية التي تحيط بنا، ويتغير بمقتضاها صوت حياتنا، وما قد تستثيره في أسماعنا من جغرافيات جديدة. وهو عرض يحرص على المزج بين تقاليد الرقص الحديث، وأحدث صيحات التجديد فيه. ويستخدم التقنيات الرقمية الجديدة في خلق طبقات من الملابس التي تنزعها عن راقصيها بتغير الإضاءة، أو تسبغها عليهم.
نحن إذن بإزاء عرض يستخدم كل ما في امكانيات المسرح الحديث البصرية والحركية بطريقة إبداعية، وخاصة في استخدامه الخلاق والمتعدد للأشياء القليلة التي سمحت ساشا والترز لها بالوجود على الخشبة كجزء من المشهد، مثل درج يفضى إلى قاعدة، أو عمود من الخشب، كان يتم استخدامها بطريقة تتغير فيه طبيعتها كل مرة. ففضلا عن استخدامه في وضع بعض المشاهد والحركات على مستوى مغاير للبقية ما يدور على الخشبة بما ينطوي عليه هذا الأمر من تراتبات مقصودة، فقد بدا الدرج مرة كسفينة من تلك السفن المثقلة بالمهاجرين حد الغرق في قلب البحر. وفضلا عن الشرانق التي أشرت إليها في المشهد ا لافتتاحي كانت هناك الرقائق أو الصفائح القصديرية الشفافة، والأشواك الضخمة التي تبدو وكأنها سكاكين مشرعة من كل جسد رجل أسطوري، وأشكال مختلفة من تكوينات الحركة. من أجل سبر ظواهر الوجود الإنساني المعاصر في عالم يتسم بالتمزق، ويوشك على الانهيار، حيث تتفكك فيه أواصر العلاقات الاجتماعية ويحتفي إنسانه بعزلته أكثر من اهتمامه بالتواصل مع الآخرين. عالم يواجه فيه الماضي الحاضر دون أي وعد بالمستقبل. عالم يوشك أن يكون مبرمجا، ولكنها برمجة لا تسفر عن أي كمال. حيث تتواصل فيه جدلية السلطة وفقدانها للشرعية، مع الفراغ الناجم عن تخلخل العلاقات الإنسانية. وتتفاعل فيه الهيمنة والضعف معا بالحرية والتسلط في آن. ويحتفي بالمجتمع ولكنه يبرز العزلة وسط زحامه معا. إنه عمل مشدود بين مختلف تجليات القوة: من سلطة وهيمنة وبطش، وأقصى درجات الضعف وافتقاد القدرة على مواجهة التسلط، يعبر عن ذلك بتلك الطاقة الخلاقة وتحولاتها المستمرة التي يتمدد معها الجسد ليصبح عملاقا قادرا على الطيران، أو ينكمش تحت وطأتها حتى يوشك أن يختفي في أقصى ركن غير مرئي.
أما آخر الأعمال التي شاهدتها في هذا الجنس المسرحي الجديد، فقد كان عرضا تكريميا لراقصة لها تاريخ طويل في الرقص الحديث بعنوان (أغنية لأورنيللا Canzone per Ornella) صممه وأخرجه رايموند هوخا Raimund Hoghe الذي عمل لفترة طويلة مع مصممة الرقص الألمانية الشهيرة بينا بوش Pina Bausch احتفاء بالراقصة أورنيللا باليسترا Ornella Balestra التي قامت ببطولته، وشارك المصمم والمخرج في البطولة بالرغم من أنه من الذين يتحدون الإعاقة، فهو قصير احدب، بينما أتاح لراقص آخر طويل أن يقوم بأكثر أدوار العرض ثانوية في نوع من إبراز المحتفى بها في مستوى من مستويات التأويل للعرض. ويكشف العرض عن أن الرقص الحديث لا يعي تاريخة المتراكم فحسب، بل ويحتفي به أيضا من خلال هذه الأنشودة التي استخدم فيها شعر المخرج السينمائي الإيطالي الشهير بازوليني، وغناء المطربة الأوبرالية الشهيرة ماريا كلاس، واعتمد فيها على الحركة البطيئة للاحتفاء بمسيرة هذه الراقصة الشهيرة التي كرست حياتها للرقص الحديث. ويوشك مثل هذا العرض أن يكون احتفاءا بتاريخ هذه الراقصة الطويل في هذا المجال، وتكريس للكثير من مفردات هذا الفن الجديد وأجروميته وقد أصبح له عشاقه الذين يحرصون على مشاهدته.
هذا هو الجانب الصغير الذي استطعت مشاهدته من عروض مهرجان هذا العام الرسمي الكثيرة. ولم أشر من قريب أو بعيد لكل ما دار في المهرجان المصاحب Avignon Off الذي تجاوزت عروضه هذا العام ستمئة عرض.