في قراءة الباحثة اللبنانية المرموقة لكتاب «زمن زياد قديش في ناس»، تحضر الذاكرة وحمولتها من زمن بيروت السبعينات وما بعد، الذي هو زمن الفنان، وزمن أهل لبنان، وزمن أناس أحّبوه وعشقوا فنَّه، ورافقوه في مشاهدة مسرحيّاته، وفي الإصغاء إلى موسيقاه وإلى ما كان يقدّمه من برامج إذاعيّة.

الإنسان والفنان خلف المكان والزمان

«زمن زياد» كتاب طلال شتوي

يمنى العيد

 

قليلةٌ، إن لم تكن نادرة، هي الكتب الأدبيّة التي نقرأها وتلحُّ علينا الرغبةُ في قراءتها مرةً ثانية. كتاب «زمن زياد قديش في ناس» لطلال شتوي، هو واحدٌ منها. صدفةً وقع بين يديّ، وصدفةً قرأتُه، وكان أنْ سكن ذاكرتي وحملَها إلى ذلك الزمن، زمن بيروت، بيروت السبعينات وما بعد، الذي هو زمن زياد، وزمننا أيضا، نحن اللبنانيّين.

«زمن زياد» هو زمن ناس كثيرين رافقوا زياد في مشاهدة مسرحيّاته، وفي الإصغاء إلى موسيقاه وإلى ما كان يقدّمه من برامج إذاعيّة. وزمن ناس أحّبوا زياد وعشقوا فنَّه وحكوا حكاياتِ اكتشافهم لزياد ولفنّه، حكوا لا كما يحكي النقّاد، بل كمنْ يتذوّق هذا الفنّ ويعيشه ويتعرّف إلى شخصية صاحبه ويعايش زمنَه. إنه زمنُ طارق وكاتيا وأمل وميساء وإكرام وإسكندر وإيفانا وموسى… وحكايات اكتشافهم لعبقريّة زياد في بساطة ظواهرها، وعمق رؤيتها للزمن الذي كان يعيشه اللبنانيّون، زمن الحروب الأهليّة/ الطائفيّة، ودخول الجيش الإسرائيلي إلى ما سُميّ، يوم ذاك، ببيروت الغربيّة.

إنه ذاكرة الجماعة فيما هو، في الآن نفسه، ذاكرة زياد، ذاكرة بنائه لعمارته الفنيّة وقت كان زمن بيروت زمن مدينة تُدمَّر، تُدمَّر بيروت ويبني زياد عمارة فنّه، وكأنَّ زمن عمارة فنّه هو زمن «عمارة أطلالنا»(1).

في قراءتنا لكتاب «زمن زياد»، نكتشف جوانب من زياد الإنسان والفنّان لا نعرفها بالرغم من معرفتنا له، نكتشفها من خلال اكتشاف آخرين له، آخرين أحبّوا فنَّه، بل عشقوه، فتابعوه، وسعوا إلى التعمّق في تذوّقه وفهمه.

من خلال هؤلاء الآخرين الذين صاغ طلال شتوي حكاياتهم/ن عن زياد، ومع زياد، نعرف أنّ عمارة زياد الفنيّة بشّرت بها طفولته يوم كتب نصوصاً «ساحرة وحزينة». ففي الثانية عشرة من عمره، كتب كتاب «صديقي الله»(71 صفحة)، وكتب يقول: «الإنسان متى عرف الحقائق سقط عن سرير الأحلام»، و«لا يعود شيءٌ يخيف إن عرفناه». كتب وسأل يومها أمَّه: «إلى أين يأخذك هذا الشال الأبيض؟»، فحكت له حكاية الرجل الفقير الذي كان يعمِّر بيتاً ويجمع الأحجار حجراً حجرا، وظلَّ، رغم تعبه، «يعمّر طول عمره».

يعمّر زياد بيته الفنّي، ويقول بلغة المفكر: «لو عددتُ درجات بيتي، وكم مرّة صعدتُها، لكان هذا درجاً طويلاً يخترق السّحب»، ثم يضيف بلغة الشاعر: «لو عددْتُ ضحكات أمّي لي، لرافقتني طوال صعودي، ووقعَتْ من بعدي الضحكات على الدرج، وأزهرتْ زهراً»(ص 24/25). ثم يقول، شأن المفكّرين الكبار: «ليْتني لا أعرف ما أعرف»، ويستدرك، وكأنّه يتحدّى الخوف من هول ما يعرف: «ولا يعود شيء يخيف متى عرفناه»(ص 28).

نقرأ في كتاب «زمن زياد»، عن عبقريّة زياد المبكّرة التي لا نعرف، عبقرية المفكّر والشاعر والموسيقي الذي كان يتمتع بموهبة خارقة، وبقدرة تلقائيّة على العزف حملته على إهمال مساره التعليمي. فقد كان في الرابعة عشرة من عمره يوم وضع الموسيقى كاملةً لـ«قديش كان في ناس»، أغنيته الأولى، ولحنه الأوّل الذي باعه لأبيه وغنته فيروز عام 1973، ثم قدّم في العام نفسه عمله المسرحي الأوّل «سهريّة».

الكتاب ليس دراسة عن زياد وزمنه، ولا هو سيرة، ولا هو إخبار أو مجموعة حكايات، بل هو عملٌ فنيّ إبداعي متميّز بفرادة بنائه، وبراعة أسلوبه الذي يُداخل ويمزج بين السرد المتعدّد الأصوات، والسرد الذاتي، والحوار، والمشهد المسرحي، والتقطيع السّينمائي. وقد توسل الكاتب لذلك الوثيقة، والمقابلات الصحافية، والشاهد، والرأي… كتبه طلال شتوي عن زمنٍ أصابه الخراب، وهو بكل ذلك، وكما يقول: «دليل خراب فيه كمّ كبير من الأشخاص والأماكن والأوقات التي لم يعد لها وجود. وهذا الكتاب لا يعيد إليها الحياة، إنه فقط يجعلها ذكرى حياة»(ص 334).

لكن، لئن كان هذا الكتاب، كما يقول كاتبه، دليل خراب المدينة بسبب الحروب والاقتتال الأهلي، فإنّه أيضاً دليل عمارة زياد الفنيّة، وذكرى تنبض بالحياة وتحملنا على إعادة قراءتها. نعيد قراءة زمن الخراب لنكتشف أنّه كان، في الآن نفسه، زمن مقاومة تبنّاها زياد بأكثر من أسلوب، ونوَّع في فنّ التعبير عنها. هكذا مثلا تتحدّث مسرحيّة «نزل السرور» عن ثورة وتنتهي بعبارة «اعطني رشاشاً لأولادي»، وهكذا نتذكّر حلقاته الإذاعيّة «بعدنا طيبين»، و«حلقة الردع»، و«اختلط الحابل بالنابل»، و«سوريا بتبعت قوّات ردع ومصر بتبعت فلافل»(ص 142)، ومسرحيّة «فيلم أميركي طويل» التي أرّخ فيها للصراع اللبناني اللبناني. وهكذا ألّف «مقطوعة تل الزعتر»، وموسيقى لقصيدة محمود درويش «مديح الظل العالي»، القصيدة النشيد. لكنَّ فنَّ زياد المقاوم كان أيضا فنّا رياديّا، وحداثيّاً، وقد تمثل ذلك بممارسة زياد للفنّ التجريبي، وتقديمه لغة جديدة في مسرحيته «بخصوص الكرامة والشعب العنيد» منتقلاً بذلك «إلى ضفّة جديدة في مسرحه».

«زمن زياد»، ليس هو فقط زمن زياد، وفن زياد وعبقريته، بل هو أيضا، وفي الآن نفسه، زمن بيروت. ففي هذا الكتاب نقرأ عن بيروت المدينة/ المكان في حميميّته وهوية رواده الذين يتحدّون الموت والدمار، عن المكان/ الأمكنة التي بنى فيها زياد عمارته الفنيّة قبل تحّولها إلى خراب: «الأورلي» مسرح زياد الأول الذي تحوّل مؤخراً إلى موقف للسيارات. «قصر البيكاديلي» الذي أقفل اليوم على خرابه، شارع الحمرا ومقاهيه التي تحول معظمها إلى محلات تجارية.

نقرأ عن المكان/ الأمكنة، كما عن الناس الذين رأوا إلى زياد فنراهم فيما نحن نرى إلى زياد من خلالهم/ن. كأنّ هؤلاء الناس شهودٌ على عمارة زياد، وفي الآن نفسه مرايا حواريّة لزمن زياد الذي هو زمن بيروت وزمن عمارته الإبداعيّة. أناس يتكشفون لنا، في زمن زياد، على غير ما كنّا نعرفهم. أشير إلى كاتيا التي كنا نعرف، ولكن لا نعرف أنها كانت «نجمة» مناضلة تنتمي إلى «جنون السبعينات». وأقرأ عن إسكندر الذي كنّا نعرف، ولكن لا نعرف أنَّ ابن الرابعة عشرة سوف يتابع أعمال زياد قراءة وسماعاً ومشاهدة ليعلن «إن زياد كان صاحب رؤيا، سبقنا كعادته»(ص 227). وأشير إلى منى التي تقول بأنّ زياد شكَّل لها ولأبناء جيلها «ذاك الوطن البديل» عن منافيهم التي لن «تتحوّل أبدا إلى أوطان حقيقية»(ص 109). ترى منى أنَّ زياد حقيقي، ولا يمكن إلاّ أن تقع تحت سحره، شأن كثيرين وقعوا تحت سحر فنّه، مثل إيفانا التي سحرها نشيد «جايي مع الشعب المسكين» في مسرحيّته «نزل السرور».

«زمن زياد»، هو زمن عشاق فنّه المسحورين به، دون أن يكونوا على علاقة مباشرة، أو شخصية به، ذلك أنَّ بعضهم، أمثال طارق، كان يفضِّل ويسعى لأن تكون علاقته بفنّه، وليس به، وأن ينتمي إلى زمنه وليس إلى شخصه. فزياد صار أكثر من شخص، صار رمزا. هكذا أجمعوا على أن يتسمّوا بـ«الزّياديّة»، أي الجماعة المنتسبة إلى زمن زياد وإبداعه باعتباره ظاهرة فنيّة فكريّة تاريخيّة.

نقرأ، مثلاً عن ديما التي قدَّم لها زياد، كما تقول، أجوبة على أسئلة مقلقة حول الوطن، والهويّة، والواقع السياسي، والحرب، وتعلّمت منه «ألاّ تصدق لبنان». لقد أدهشها، كما أدهشنا، كيف التقت، هي المرأة المحجّبة المنتمية إلى عائلة دينيّة، مع زياد وطروحاته الماركسيّة، وهذا أمر، كما تعتقد، لا يحدث إلّا مع زياد، لأنَّ الانتماء إليه يعني الانتماء «إلى الصدق والنقاء»(ص 20).

نقرأ أيضاً، وبشكل خاّص، عن «إيفانا» وعن المقابلة التي قبلتْ فيروز أن تجريها معها، نقرأ لنكتشف وجها آخر لصاحبة الصوت الملائكي، نكتشف ما تتمتع به من نبل وعمق ثقافي وحس شعري إنساني فريد.. تقول فيروز في هذه المقابلة مع «إيفانا»: «الكلمات الصادقة قليلة قد نجمعها في حفنة واحدة». و«الأصدقاء يأتون ويعاودون الذهاب كموجة على شاطئ، وهل من صديق؟» و«البكاء مثل الشتاء، يغسل القلوب»(ص 257).

تقول «إيفانا» التي كانت تسأل لماذا اختار زياد أن ينتمي إلى «هناك» (أي إلى المنطقة الغربيّة): «هذا اللقاء، مع فيروز، نقلني من ضفّة إلى أخرى»، أي نقلها من ضفة تحيّزها للمنطقة الشرقيّة من بيروت، ومن الموقف السياسي/ الديني الذي وسم سكانها في زمن الحرب، إلى الضفّة الغربيّة، ضفة المقاومة، وضفة سكن فيروز (الروشة) يومذاك.

إنه الفنّ الذي يعيد صياغة الوعي بالحياة إذ يضيء الحقائق، ويوقظ مشاعر الحبّ الإنسانيّة.

شكرا طلال شتوي على كتابك الجميل الذي جعلنا ندرك أنَّ «زمن زياد» هو زمننا أيضاً، نحن اللبنانيين الذين عشنا وشهدنا ولم نعرف كلَّ شيء.

 

(طلال شتوي: «زمن زياد»، قديش كان في ناس، دار الفارابي، بيروت 2016)

الهوامش

  1. ليلى الخطيب توما: بحثاً عن «زمن زياد» الضائع. جريدة الأخبار. 22/8/2017.