يشدد الأكاديمي الكويتي على أن الطائفية وهم محض، والانتماء الطائفي يتم بالوراثة والبيولوجيا لا بالعقل والتفكير النقدي، ويحمل على الطائفية والطائفيين مساوئ الكثير من الظواهر الاجتماعية، ويرى في تأثيرها مفسدة ومضرة للمجتمع وهروب من التاريخ.

ماذا جنينا من الطائفية؟

عبدالله الجسمي

 

ظهور الطائفية في أي مجتمع يعكس طابعاً من الثقافة السائدة فيه، فالثقافة هي الحاضنة لأي مظهر من مظاهر الفكر، أو طرق التفكير المختلفة، خصوصاً التي يسود فيها التعصب بمختلف ضروبه. كما أنها تمثل ظاهرة اجتماعية، أو انعكاساً لها، خصوصاً عندما تتشكل طريقة التفكير في المجتمع بعوامل اجتماعية بحتة، فبمجرد وجود الفرد ضمن فئة اجتماعية معينة، فإنها تكون مسؤولة عن تكوين طريقة تفكيره ونظرته للواقع والآخرين وعلاقته بهم.

والسؤال ماذا جنينا من الطائفية؟ يجب أن يطرح بشكل جدي على الشعوب والأفراد كي يتلمس الإنسان العربي ما فعلته الطائفية والطوائف في مجتمعاته. فهناك تجارب عاشها الكثيرون منا في العقود الأخيرة تمثلت بالعديد من الحروب والنزاعات الطائفية أو ذات الطابع الطائفي والتي لم تجن منها الشعوب سوى الدمار والخراب وإعاقة الاستقرار والتطور وتبديد الثروات وغيرها.

فالطائفية أداة لبث التفرقة بين أبناء المجتمع، وهي مسؤولة عن إحداث انقسامات بين شرائح اجتماعية، بناءً على الانتماء العقائدي للفرد. والإشكالية فيها أن المنطلقات العقائدية تأخذ طابعاً مقدساً لدى الأفراد، فالاختلافات الناتجة عنها تتحول إلى صراع عقائدي لا يمكن لطرف فيه قبول طرف آخر، ظناً منهم بأن كل طرف يمتلك الحقيقة المطلقة، وبالتالي يشكل الآخر نقيضاً له.. ويترتب على تلك الاتهامات المختلفة التي نسمعها من بعض الأطراف التي يصل بها الأمر إلى درجة التكفير.

والصراعات الطائفية تحول الاهتمامات في المجتمع من القضايا الأساسية والمصيرية إلى قضايا هامشية لا تغني ولا تسمن من جوع، فهي ملهاة للكثيرين عما يجري في الواقع، وكأنها هروب منه ومن قضاياه. ولعل أسطع مثال ما جرى مؤخراً في المجتمع الكويتي، فقد تم إضاعة وقت البرلمان والحكومة والشعب والمجتمع ككل بقضايا مفتعلة لن تقدم أو تؤخر، وأخذت بوادرها السلبية بالانعكاس على المجتمع.

من جانب آخر، تأتي الصراعات الطائفية لتصرف الأنظار عن الواقع، بل والمستقبل والهروب منهما في التاريخ. فالطائفيون على مختلف مشاربهم، يقتاتون على الأحداث التاريخية كمادة لخطابهم والمليئة بالخلافات والصراعات، بل والحروب، حيث يصور كل طرف نفسه أنه على حق، ويضع تبريرات قطعية لذلك. والاتجاه نحو الماضي والانصراف عن الحاضر يقود أولاً إلى عدم الالتفات للواقع ومشكلاته، وثانياً يعيش هؤلاء في عالم آخر مختلف عن العالم الذي نعيشه، وكأن ما وصلت إليه الحضارة من تقدم معرفي، وما نتج عنها من ثقافة وطرق تفكير متطورة لا تعني لهؤلاء شيئاً!

ولعل الجانب الفكري هو أسوأ ما في الطائفية، فهو المسؤول عن الممارسات التي نراها من قبل الطائفيين تجاه بعضهم البعض، وتجاه غيرهم والثقافة الناتجة عنه. فالتعصب أهم ما يميز التفكير الطائفي، ويعني احتكار الحقيقة وحصرها في وجه واحد فقط، لا يقبل النقد أو التغيير. وهذا يقود إلى الجمود الفكري، وإلغاء دور العقل، وجعله أسيراً لمسلمات تفتقر للدليل والبرهان التجريبي وحتى العقلي. وقد نتج عن هذه العقلية إقصاء الآخر أياً كان، خصوصاً من يختلف في الطائفة، وغياب أي شكل من أشكال الحوار مع الآخرين، ولربما حتى بين بعضهم بعضا، وغياب مظاهر التسامح والاختلاف والتعايش مع من يختلفون معه في الطائفة أو العقيدة أو الفكر، وهذا ما يزعزع استقرار المجتمع. ولعل أسطع مثال على ذلك ما حدث في الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت قرابة سبعة عشر عاماً، كان القتل فيها يتم على الهوية، ولم يعرف الفرقاء الاحتكام للعقل والحوار، بل كانت الأسلحة هي وسائل الحوار فيما بينهم. وهذا ينسحب أيضاً على ما كان يجري في العراق في الأعوام القليلة الماضية.

ثمة تساؤلات حول الطائفية مثل: ما الحل لهذا الموضوع؟ هل يتم الحل بالإقصاء أو القضاء على طائفة ما؟ فها هو لبنان بعد سنوات الحرب الأهلية العجاف يعود إلى تقسيمته الطائفية، وإلى رغبة الفرقاء في التعايش فيما بينهم بعد الصراع الدموي الذي لم يجن منه سوى الدمار؟ وهل نعي أيضاً ماذا فعلت الطائفية منذ أربعة عشر قرناً وحتى اليوم؟ وهل كانت الطائفية يوما أداة للتقدم وتطوير المجتمع أو ثقافته؟ ولِمَ لا نأخذ العبرة من الدروس التاريخية والحالية للصراعات الطائفية كي نجنب أنفسنا شرورها؟ وليسأل الطائفيون أنفسهم ماذا جنوا من وراء الطائفية سوى التشرذم والصراعات التي تنهكهم وتنهك مجتمعاتهم؟

الطائفية وهم محض، والطائفيون يعيشون في أوهام محضة، فالحقيقة ليست حكراً على أحد، واليقين بالتميز عن الآخرين لمجرد الانتماء إلى طائفة يقين خداع، لأن الانتماء الطائفي يتم بالوراثة لا بالعقل.