لكل مبدع مراياه. لقد كان الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس مولعا بالمتاهات، ولذلك ارتبطت مراياه بهذه المتاهات. أما شاعرة طنجة- الشاعرة الطالعة من بيت العلم والفن- جليلة الخليع، فإنها رتبت مراياها بعناية جمالية فائقة، جعل هذه المرايا تصطف اصطفافا جماليا، على أساس تعالق الأيقونة (الصورة الفوتوغرافية) باللغة، وهما في تعالقهما يولدان دلالة، يشغف بها القارئ مثلما شغفت بها الشاعرة- صاحبة الديوان. هذا هو المبدأ الجمالي الناظم لانبثاق الدلالة في هذا الديوان، وهو المبدأ الذي يجعل التأويل منفتحا بانفتاح هذه المرايا. إنها مرايا متجاورة لا تشبه إلا نفسها، ولذلك فهي مرايا متعددة، وبتعددها تتدفق دلالات منثالة منداحة منسابة، يتلقاها القارئ النابه المتأمل، فالصورة الفوتوغرافية تدعو الرائي إليها، إلى التأمل وإلى الإمعان في هذا التأمل ليظفر بالدلالة، وهو إن فعل ذلك واكتفى به، لم يحصل على المتعة الجمالية الكاملة لأن القصيدة المقابلة للصورة الفوتوغرافية تصنع دلالة إيحائية تومئ إلى معنى متدفق تدفق أمواج الصورة الفوتوغرافية الأولى في الديوان، والتي تشف عن رابطة الشاعرة بمدينة طنجة، إنها رابطة منفتحة على هذا الأفق المائي الأزرق العميق عمق الكون ذاته:
« بيني وبين طنجة مسيرة عمر/ هي أحاسيسي المتوجة بحرا/ والمتوسط يعيد كل النغمات لعزفي/ وعزفي/ خواطر ارتكبت الجنون/ وهمس للسماء وقت الصحو»[1]
« بيني وبين طنجة مسيرة عمر»، بهذا البيت تعلن الشاعرة انتسابها في شجرة الأنساب الفضائية، إنها تعقد أواصر قربى إنسانية عميقة بعمق الحياة، بمسيرة العمر الذي عاشته في هذه المدينة، وهو عمر تقيسه بالأحاسيس المتوجة بحرا، وهو القياس ذاته الذي تحيل عليه الصورة الفوتوغرافية الأولى في الديوان: صورة أمواج البحر الهادرة، « ولما كان النص لا يمنح من شعريته إلا بالقدر الذي يحجب، فإنه من الطبيعي أن تظل تلك القوانين [قوانين الشعر والحياة] مقفلة على نفسها، متسترة غاية التستر. وإنه من الطبيعي أيضا، أن يتطلب الكشف عنها تسليما بأن النص ليس شيئا مواتا، بل هو كيان زاخر بالحركة، طافح بالهدير والاندفاعات، أي أنه ليس مجرد (وعاء) يحمل معاني تمنح نفسها للقراءة مهما كانت عادية ومتعجلة. بل إنه هو الذي يتبنى معانيه ويستلها من صميمه ومن حركات كلماته وصوره ورموزه، يبني دلالاته وإيقاعه وشعريته.»[2].
إن هذا النص الأول (الومضة الأولى) في هذا الديوان تتكثف فيها دلالات وإيقاعات هذا الديوان كله، فهذه الومضة بمثابة « ميثاق القراءة» فهي لا تعلن عن الرابطة الإنسانية التي تجمع الشاعرة بمدينة طنجة وحسب، بل هي تعلن عن الرابطة «الإبداعية» التي تجمعها بهذا الفضاء البحري المفعم بالإيقاعات الهادرة كما الأمواج البحرية في تدفقها واندفاعها، وإن ما يسم هذا التدفق النغمي المعزوف على إيقاع خواطر الجنون والهمس للسماء وقت الصحو، هو ما يكتنف الحالات- الومضات الشعرية الدافقة في أعطاف الديوان كله، منذ هذه القصيدة- الومضة- الميثاق إلى آخر ومضة في الديوان:
« قصيدتي/ المنظومة/ في صمتي/ بوحي/ عمري الفائت/ والمقبل بك ومعك»[3]،
فها هي كلمات القصيدة ذاتها تسمي الأشياء بالإشارة والعبارة، فتجعل مدار الديوان دائريا، قوامه القصيد والبوح والعمر- في مستوياته الزمنية المتموجة تموج البحر في جزره (عمري الفائت) أو مده (المقبل بك ومعك)، وهذه القصيدة الدالة التي تصل بمعاني الومضات إلى ذروتها تصاحبها صورة فوتوغرافية تزدان بفنار للإضاءة، هكذا هي القصائد ومضات- إضاءات، تلاحق الأمواج في فضاءات طنجة كلها- الفضاءات التي تشف عنها الصور الفوتوغرافية التي ترصع صفحات الديوان مثلما ترصعه اللغة بما يضيئ المعتم في الحياة. وما تفصح عنه رابطة الشاعرة بمدينة طنجة هو البوح الذي يجلو حب المدينة- وحب المدن هو دائما حب سري كما يقول الأديب الفرنسي ألبير كامو في كتابه أعراس الذي يتغنى فيه بمدينة أخرى هي مدينة وهران. إن الجنون في هذا الديوان هو هذا الحب السري لمدينة طنجة، هذا العقل الآخر (بما أن الجنون هو عقل آخر)، لكنه عند الشاعرة جليلة الخليع قائم على البوح الإبداعي المترع بالقصائد الومضية المتدفقة تدفق مياه البحر.
ولا يحسبن قارئ الديوان أن الومضة الثانية التي تلتقط صورة لغوية وأيقونية أخرى لمكان شهير في طنجة هو « سور المعجازين» هي ومضة استراحة الكسالى كما كان الأمر بالنسبة لأسلافنا الطنجيين مع هذا المكان في غابر الزمان، بل هي إطلالة فضائية أخرى على بحر طنجة، مع ترسيخ صلة النسب التي تصل الشاعرة بفضاءات هذه المدينة: «البحر يشير إلي/ هي أنتِ/ خطى المدينة الأزلية/ فلتعيدي رسم مدي على الرمل»[4]،
فالشاعرة مدعوة إلى رسم المدينة بالكلمات، وللآخرين أن يصوروها فوتوغرافيا كما هي، لكن المدينة ليست هي هي عند الشاعرة، إنها مدينة أزلية، مدينة خالدة، مدينة سكنت شغافها، فليس لها إلا أن تصنع لها أيقونات تدل عليها مثلما يدل الخطو المحفور على الرمل، على مرور عابر، ولكن الشاعرة ليست عابرة، إنها مقيمة: «(باب البحر) و(البرج)/ حكايات سيدي منصور/ بخطى الخيال/ تعبر ذاكرتي/ الطفلة بداخلي ترتجف رعبا/ تلاطم الأمواج/ يقرع باب سكينتي/ لقد أتى.../ يختطفني من أحضان الحلم»[5]،
أمكنة.. خطى الخيال.. ذاكرة الشاعرة.. الطفلة التي كانتها.. تلاطم الأمواج.. باب السكينة .. أحضان الحلم: هي مفردات هذه القصيدة- الومضة الثالثة، وهي مفردات ترشح بالمدلولات الثاوية في تضاعيف الديوان، ولو تتبعنا باقي الومضات لوجدناها جميعا تصاحب الصور الفوتوغرافية لطنجة- الحب السري: طنجة الخيال والذاكرة وإيقاع الأمواج، وهو إيقاع ينساب في البحور الألف للغة الشفيفة لهذا الديوان، وهي اللغة التي تعلن جليلة الخليع شاعرة جديدة في فضاءات طنجة والمغرب. وليس على قارئ هذه التجربة ومناوش جنونها سوى الالتفات العميق إلى تجاور مرايا الدلالة في الصور الفوتوغرافية للفنان محمد عزالدين وكلمات جليلة الخليع، وهو تجاور جمالي باذخ بالإضاءات مفعم بالومضات.
[1] جليلة الخليع: طنجة ومضات من جنون (نصوص شعرية)، منشورات سليكي أخوين، طنجة، 2016، ص ص 8\9.
[2] محمد لطفي اليوسفي: كتاب المتاهات والتلاشي في النقد والشعر، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1،\ 2005، ص 7.
[3] جليلة الخليع: طنجة ومضات من جنون، م س ، ص 79.
[4] جليلة الخليع، نفسه، ص 11.
[5] نفسه، ص 13.