ينسج الشاعر المصري المبدع محمد الشحات خطابا شعريا تفسيريا لهوية الصوت المتكلم، وللإحالات التصويرية إلى كينونته، وتجلياتها الاستعارية التمثيلية في تداعيات النص؛ ومن ثم يرتكز الخطاب الشعري على فعل التأويل الذاتي للعالم الداخلي للمتكلم من خلال السرد الشعري، والكشف عن ثراء لحظة الحضور، وتجلياتها الجمالية الحلمية، والكونية، وارتباطها بنماذج اللاوعي الجمعي، وأخيلة اليقظة التي تتنوع بين التجسد الطيفي، وتجدد المياه، أو الصخب الأرضي؛ وما قد يشير إليه من تعاطف كوني، أو تداخل تجريبي محتمل بين فضاءات الذات المجازية، وفضاءات العالم، وتكويناته الشيئية.
وتبدو مثل هذه التيمات الفنية في ديوان محمد الشحات المعنون ب / الحياة بلا أي وجه، وقد صدر عن دار وعد للنشر بالقاهرة؛ ويرتكز الديوان – بصورة رئيسية – على الإحالة إلى صوت المتكلم، وقد يشير إلى تجليات صور الآخر في الذات المتكلمة مثل الأثر الجمالي لصورة الأب في الوعي، واللاوعي، أو إلى التمثيلات الخيالية للذات بوصفها تأويلات استعارية، أو سردية / شعرية محتملة؛ مثل صيرورة علامات الوجوه التي تبدو كأقنعة حلمية سوريالية، أو الظلال، أو الفراغ الإبداعي المتجاوز لمركزية الصمت، أو الحضور الطيفي الجمالي، أو الفضاء الحلمي الكوني المحتمل في تداعيات النسق السيميائي للنص، واستبدالات الكتابة التي تثري حضور المتكلم من جهة، وتشير إلى التأويلات التصويرية التي تؤكد مبدأي الاختلاف، والتأجيل طبقا لتصور دريدا من جهة أخرى.
وتشير عتبة العنوان / الحياة بلا أي وجه إلى التناقض الإبداعي بين الفراغ، والنسق التفسيري الذي يشكل خصوصية الذات، أو يكملها في نسيج الخطاب الشعري معا؛ وكأن الإحالة إلى ضمير المتكلم، وصوته الخاص تتضمن فعلي الإكمال، والتأجيل معا؛ ومن ثم يبدو يتشكل فعل التأويل ضمن الإحالة إلى الصوت المتكلم نفسه في تداعيات الكتابة، واستبدالات العلامة في صيرورتها.
إن الشاعر يستشرف الصور الحلمية المؤولة للكينونة، وأحلام اليقظة التي ترتكز على فعل التطهر، أو التجدد التكويني، أو استشراف البدايات المستعادة من الذاكرة الجمعية، والمتعلقة بوجود الإنسان في العالم، وحضوره في عوالم دائرية حلمية فسيحة تنبع من نماذج اللاوعي الجمعي كما هو في تصور يونغ، خارج تاريخ الدماء، وتواتر الخطيئة؛ ومن ثم تستشرف الذات حضورا رؤيويا آخر يذكرنا بالنماذج الثقافية لدى نورثروب فراي؛ وقد يبدو هذا الحضور طيفيا هوائيا، أو متعلقا برمزية طوفان المياه، وتجددها الذي يشبه التجدد الخيالي للعالم أحيانا.
وبصدد العلاقة بين الإحالات الشخصية، وفعل التأويل المتضمن في الخطاب، يرى بول ريكور أن الجمل – في الخطاب – تدل على المتكلم بها من خلال الأدوات الإشارية المتعددة للذاتية، والشخصية؛ مثل الإشارة إلى المعنى الأصيل للموجود هناك أو الدازاين Dasein ؛ ومن ثم يتداخل القصد الذاتي للمتكلم، ومعنى الخطاب؛ وإن الخطاب المكتوب يجسد الاختلاف بين قصد المؤلف، ومعنى النص.
(راجع، بول ريكور، نظرية التأويل، الخطاب، وفائض المعنى، ت: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء، وبيروت، ط2، 2006، ص 61).
يشير ريكور – إذا – إلى عملية التحوير المتضمنة في النص، وعلاماته، وشفراته، والتي تنتظم في خطاب ذاتي يحيل إلى الذات، وفعل التأويل في آن؛ ومن ثم يؤكد التأويل خاصية الاختلاف في الخطاب الذاتي، وفي نسق النص العلاماتي معا.
ويحيلنا المتكلم في قصيدة استسلام في ديوان محمد الشحات إلى الحضور المتعالي المحتمل للذات، والحنين إلى الحدود النسبية المقيدة للذات معا؛ وكأن الحضور التفسيري المتعالي / الاستعاري يظل مؤجلا، وكامنا في تصور الكينونة في آن.
يقول:
"كان على مقربة من أن يملكني / أو يتملك ما يملكني / فأحاول / أن أتخلص منه / وأكسر قيدي / فأفر وحيدا / فتضيق الدنيا بما رحبت / فأحن لقيدي". ص 14.
تمتزج فاعلية المتكلم، وحضوره المتعالي بالمفعولية، والاختلاف البنائي الداخلي بين التعالي، والحنين إلى القيد في النص؛ ومن ثم يعزز الخطاب الذاتي من تأجيل مركزية الحضور المتعالي التأويلي، بينما يشير إليه في توصيفه للكينونة، وفي حضورها الآخر في الخطاب الشعري.
تأويل ذاتي تصويري:
يؤول المتكلم كينونته – في ديوان محمد الشحات - من خلال علامة الظل المضاعفة في تداعيات النص، أو من داخل الفراغ الطيفي الذي يسبق الظل؛ ومن ثم تسهم علامة الظل في التأويل التصويري للحضور الذاتي، أو إحالة الخطاب الشعري إلى التمثيلات الاستعارية للمتكلم.
إن صيرورة السرد الشعري في قصيدة المضي بلا ظل، توحي بالتناقض ما بعد الحداثي بين اللعب المضاعف للظلال، والكينونة الطيفية الهوائية للمتكلم، والتي تستنزف الظل، وتفككه.
يقول:
"جلست على مقعد / ظله / كان في كوب شاي / تدحرج في جوف جوفي / شعرت به وهو يمرح في الصدر / أصبح للقلب ظل / صرت بين ظلين". ص- ص 93، 94.
ينفتح عالم المتكلم الداخلي – إذا – على عوالم الأشياء الصغيرة، ولعب الظلال بين الداخل، والخارج، وإشاراتها للانقسام الداخلي الاستعاري.
ويومئ المتكلم إلى بنية السلب، أو الفراغ من الظلال في خطابه؛ ومن ثم يشير إلى فضاء لاواع، وحلمي، يستنزف بنى التجسد؛ ومن ثم الظلال.
يقول:
"انقسمت / عل ظلا كان ظلي / يعود كما كان / فأرقب ظلي / وانكساراته / وأمضي إلى مرفأ / بلا أي ظل وأغفو / فينكزني الظل / فأسقط في كبوة الغفو / فيتركني ويمضي / لأصحو / وأمضي بلا أي ظل". ص 94.
ينتقل الخطاب من التأويل الذي يرتكز على صور التجسد، والتجسد الطيفي الظاهراتي، إلى التأويل انطلاقا من صور الفراغ الحلمي الذي يستبق بنية التجسد نفسها، أو يتجاوزها.
وقد يعيد الخطاب الشعري تأويل الهوية الذاتية من داخل علامة الوجه، أو القناع التمثيلي الاستعاري المحتمل في قصيدة الحياة بلا أي وجه؛ فالذات تبحث – في خطابها – عن اكتمال الهوية، بينما يشير التشكيل السيميائي لعلامات النص إلى الاختلاف، والتأجيل من جهة، والتداخل بين السياق الواقعي، والسياق الحلمي من جهة أخرى.
يقول:
"ظل وجه / راح يبحث عن نصفه / ليكمله ويتركه / تسمر في صمته / خوفه / كان يجلس / عند طاولة / بها ألف وجه / هل يساومه / ويسأله / أن يسمي له / أي وجه ليمضي به / ظل يسأله / خوفه ظل يجلس / في غرفة الشاي / وحين انتهى / ترجل ثم مضى / وبت أنا بلا أي وجه / على طاولة الشاي". ص-ص 96، 97.
يرتكز الخطاب على مبدأي الانتشار، والفراغ الحلمي اللذين يستبدلان اكتمال الوجه، ويمزج الغرفة الواقعية بفضاء سوريالي يشير ضمنيا إلى الأقتعة التمثيلية المحتملة، وأثرها الجمالي الروحي ضمن حدود الهوية الأولى، وبحثها عن الإكمال المؤجل الممزوج بالفراغ الحلمي الذي يقع بين حدود الذات، وما يسبقها، أو ما يتجاوزها.
وقد يؤول المتكلم كينونته من داخل الصوت التمثيلي للآخر / الأب في قصيدة لا وقت لي؛ فالأب يمثل البهجة الأولى التي تتجاوز الصمت، أو الموت، وصوته يشبه الأغنية الداخلية التي يكمل المتكلم من خلالها حضوره المؤجل.
يقول:
"كان لا يستحي / حين ينفض أحزانه / عند بوابة البيت / ويرسم في صوتنا / فرحة العيد / أنا لم أعد / أرتجي / غير رائحة / من زمان أبي / علها حين تدخل في رئتي / تعيد لها لونها". ص 16.
يشكل المتكلم كينونته – إذا – من خلال استعادة الأثر الجمالي للآخر، وتجدد صورته، أو أغنيته في العالم الداخلي للمتكلم، وقد استخدم المتكلم في خطابه علامات الرسم، والتشكيل بصورتها الافتراضية؛ ليومئ إلى الأثر الذي يقاوم مركزية المحو، أو الحزن، أو التفكك.
بين الصمت، وتجدد أغنية الحضور:
تتواتر تيمة الصمت في ديوان محمد الشحات، ولكنها تمتزج بتجدد أعنية الحضور التي تشير إلى خصوصية المتكلم، وإلى صوته التمثيلي في القصيدة؛ فالذات تفكك مركزية الصمت من داخل الحضور الجمالي الآخر في الكتابة، أو في تجدد الصوت الداخلي الطيفي الذي يضاعف من بنية الذات المتكلمة من داخل هيمنة الصمت في المشهد.
يقول في قصيدة سداسية الحزن، والألم:
"عدت إلى صمتي / فكنت أحاول أن أمسك سوطي / حتى حين أشد الكلمات / أراودها / أو أملك حرفي". ص 140.
إن الأغنية لتولد من داخل المسافة البينية بين الصمت، والحضور الجمالي في الأثر / القصيدة التي ترتبط بالخضور المضاعف للمتكلم، والذي ينطوي على الصمت؛ ويذكرنا ذلك الحضور الجمالي الطيفي بتجدد أغنية أورفيوس في تصور إيهاب حسن، وانطوائها على الفراغ، أو بنية الصمت في آن.
وقد يراوح المتكلم بين صورتي الصمت، والكلام، ويوجه خطابه إلى الصمت الذي يأتي مقطعا، ومستبدلا الغناء أحيانا دون مركزية لأحدهما؛ وكأنهما يتداخلان، أو يوحي كل منهما بالآخر، ويستشرفه في قصيدة متى يبوح الصمت.
يقول:
"تبقى بطول الوقت / شدوا ساكنا / خلف العيون / جيوش الصمت / ترفع صمتها / فأكاد أسمع صوتها / فأهزها / فتزيد من صمتي / فأزيد من صوتي / فتقهرني / فأعود أجمع / أحرفي التي نامت / كطفل / عانده البكاء / فراح يصرخ / ثم يأكله السكوت". ص-ص 61، 62.
يعيد المتكلم تخييل الصمت بوصفه صوتا مضاعفا للفراغ، ويستعيد الصرخة الأولى في مواجهة بنية الصمت الذي يقع بين الداخل، والخارج؛ وكأن الصمت يومئ إلى أغنية متقطعة للنهايات التي تتضمن – في بنيتها – ولادة الأثر الجمالي للذات، الصرخة الأولى، أو الأنشودة، أو القصيدة التي تعيد تخييل الكينونة.
الفضاء الذاتي، والفضاء الكوني:
لكل من الفضاء الذاتي، والفضاء الكوني حضور فني تجريبي في كتابة محمد الشحات؛ فقد يتسع الذاتي / النسبي، ويصير مجالا فنيا يحاكي الكوني في السياق الشعري التفسيري؛ إذ اتحد المتكلم بأخيلة الأرض في حالة من التعاطف الكوني الذي يستنزف آثار الواقع، وتشوهاته في الذاكرة في نص متى يسكنني النمل؛ فهل هي هجرة كونية للذاتي في الكوني؟ أم أن الذات تصير مجالا كونيا يشبه المرآة الممزوجة بفعل التخييل؟
يقول:
"فهل سوف تترك لي / أن أقاسمها العيش / أم ستقسو / أنا من تراب / فهل سوف تسكنني / وتبني بيوتا لها / فيا نمل / هيئ جيوشك للغزو / واسكن ربوعي / وطيب ثراي". ص 90.
لقد اتحدت الذات بالفضاء الأرضي الواسع، ثم استبدل الفضاء الذاتي الفضاء الكوني في الحركة الثانية من الخطاب؛ وكأن الذات انتقلت – في أحلام اليقظة – من الحضور النسبي إلى الحضور الجمالي الكوني الواسع الذي يستعيد وهج البدايات الأولى، وعوالم اللاوعي الفسيحة المستدعاة من الذاكرة الجمعية.
أخيلة التطهر، والتجدد:
يبحث الصوت المتكلم – في ديوان محمد الشحات – عن بكارة الحضور، وتجدده، وتجاوزه لمدلولي الحزن، والخطيئة؛ ومن ثم تمتزج لديه أخيلة تجدد المياه بفعلي التطهر، والتجدد، وقد يأتي فعل التجدد ضمن أخيلة نورانية توحي بالوجود الطيفي الإبداعي المتجاوز لمركزية التجسد.
يقول في قصيدة صحوة الحلم:
"كنت أجيء النهر / فكان يراودني / فنزعت ردائي .. واستسلمت / لأحضان الماء / لأنفض / بعضا / من أوجاع القلب / فكان الماء / يدمدم في أوردتي / ويهز طيور الحلم / فأوصد عيني / إذا ما راح هواؤك يعبرني". ص 25.
لقد انتقلت أخيلة اليقظة – في وعي المتكلم، وخطابه – من التعاطف الكوني، والاتحاد بالمياه، وتأملاتها التي تشبه طاقة الأنيما الأنثوية طبقا لتصور باشلار في شاعرية أحلام اليقظة، إلى طفرة التجاوز، والتطهر، والتجدد التي تتجاوز التجسد في حالة حضور هوائي طيفي.
ويومئ المتكلم إلى الحضور النوراني الرؤيوي في قصيدة حان وقت التطهر:
يقول:
"آه .. أحاول / كنت أرى فيما يرى النائمون / خيوطا من النور تنقر صدري / فيثقل ظهري، وينشرح القلب / ترى هل سأنجو / وهل آن وقت التطهر / وهل سأعود كما جئت". ص 81.
تقترن أخيلة التجدد – في النص – باستشراف البدايات، وتجاوز حدود الكينونة باتجاه حضور تمثيلي آخر، يقوم على تجدد نماذج البدايات من اللاوعي الجمعي، وارتباطها بحضور متعال شعري، ونوراني، وطيفي.