كشف المجموعة القصصية البديعة «الوجه العارى للموت»؛ للروائى العراقى أحمد سعداوى عن قدرة لامعة لكاتبها على السرد المحكم والمكثف، تنافس قدرته على السرد الطويل متعدد الخطوط، كما فى روايته «فرانكشتاين فى بغداد»، الفائزة بجائزة بوكر العربية 2014، سعداوى فى سرده الأقل طولًا، والأكثر طولًا، يعتبر الحكايات صرخة فى وجه الموت، وبعثًا من جديد للحياة، تمامًا مثلما كانت تؤمن عائلة آل رشيد بالحكايات، فى قصته المدهشة "الشهرزاديون "
يحضر الموت فى قصص المجموعة، ويتكرر تاريخ فاصل ودال على المأساة، وهو دخول القوات الأمريكية إلى العراق فى إبريل 2003، ويتضح ما فعلته السياسة، وما فعله تجار الدين فى النفوس والعقول، ولكن لا أثر للمباشرة على الإطلاق، وإنما هناك ذكاء فى استلهام معادل الفكرة الموضوعى، وشخوص من لحم ودم، وتيمات متكررة مثل الندم، أو الشعور بالذنب، أو محاولة الانتقام.
تجد دومًا حكاياتها، فلا تفلت القارئ من السطور، لا استطراد ولا إسهاب، هذا حكاء يفتخر بأنه يحكى، ويسعد لأنه يعرف كل هذه الأشياء على مجتمعه وأبطاله، ويستشعر قوته فى مواجهة المأساة بتجسيدها أمام قرائها.
تشترك شخصيات المجموعة فى قلقها واضطرابها، وفى مواجهتها لامتحانٍ عسير، أحدهم يبحث عن عشبة تعيد إليه إنسانيته، وتمنحه شعورًا بالندم عما ارتكب، أو تميته فورًا إذا لم يندم، والثانى حائر بين المئذنة والحانة، والثالث يتعاطى الانتقام فى صورة تمرينات على القتل، والرابع عجوز منبوذ من أولاده، يواجه الموت بعد اختطافه، والخامس يهرب من الماضى فيجده أمامه، والسادس يهرب من الاختيار، فيلقى بالمسئولية على آيات المصحف.. إلخ.
هناك خلل واضح فى تعامل الشخوص مع الحياة، بسبب تغيرات عاصفة فى المجتمع، وأصل الأزمة فى أن أبطال القصص محاصرون بالكوابيس، والضمائر، أو بالظروف التى يعيشونها، وكأنهم فى وسط دائرة محكمة، حتى عندما يصل الخيال إلى منتهاه، ونعيش أحداثا تجرى وقائعها فى العام 2070، يصبح الكابوس بحجم العالم كله، ويعود فضيل، بطل القصة، إلى شاميرام، بطلتها، سواء فى الحياة، أو فى العدم، وكأنها قدره الذى لا فكاك منه، أو كأنها وطنه الذى لا معنى للحياة دونه، رغم كل ما عانى بسببه.
درّة المجموعة كلها بالتأكيد هى قصة «الرومانسى» التى نكتشف فى نهايتها أنه لا أثر للرومانسية فيها، براعتها فى أن وصف خليل الحسى لأجزاء جسد حبيبته «أوروك»، الفتاة العراقية التى التقاها فى بيروت، يعيده دومًا إلى حياته، إلى العراق، إلى بيته الذى أجبر على بيعه بثمن بخس.
هى إذن حكاية وطن، قبل أن تكون حكاية غرام، وهى قصة مهاجرين ثلاثة؛ خليل، وأوروك، وسامى، وليست حكاية لعبة حب رومانسية، ومثلما يتمخض الوطن عن أشلاء، تتحطم القصة أمامنا إلى أجزاء، ويتهشم مفهوم الرومانسية، التى لم يعد لها مكان فى واقع لا يرحم، الوصف الجسدى من أسفل إلى أعلى، وسرد الحكاية يبدأ فعلا من بدايتها إلى ذروتها، من الصبا إلى العقد الخامس، وتبقى فى الذاكرة محاولات بائسة للهروب، ومحطات عابرة، وحضور جسدى عارم، ينتهى إلى فراغ وأكاذيب.
يصل تكامل الشكل والمضمون فى هذه السردية العذبة إلى درجة رفيعة حقًا، فيها مكر الفن وقدرته على أن يقول كل شىء، يكفى أن لاجئا فلسطينيا، يساعد عراقيا على اللجوء، ويكفى أن تتأمل استخدام حركة أمواج البحر هدوءًا وصخبًا، لوصف حالة خليل، الغريب فى وطنه، والغريب فى أوروبا، والحالم الذى ظن أن جسد أوروك، يمكن أن يكون وطنًا بديلًا، المفارقة أنه لن يعرف حقيقتها، نحن من سنعرف، وسيظل هو رومانسيا ومنتظرًا وهاربًا.
«الوجه العارى داخل الحلم» إعادة قراءة للمأساة من خلال الإنسان، عقلًا وقلبًا، وأحلامًا وكوابيس، لا يتعمد سعداوى السخرية، ولكنه يكمل خطوط التناقضات إلى آخرها، ويفضح الأكاذيب باسم الدين أو السياسة، ويجعلنا نخجلُ كبشر من خفة القتل والانتقام التى لا تحتمل.
جريدة الشروق المصرية