يقدم القاص السوري المرموق شهادة دالة على سياق تاريخي تتعشق فيه المدينة بسطور سيرة ذاتية. في نصه نتعرف على الخلفية البعيدة للشخوص المذكورة قبل أن نتذكر أقدارها والمصير الذي آلت له، كما ونتلمس تجليات الفلسفة والأفكار البليغة في اليوميات النافلة.

ذات يوم صيرني الزمن أشبه بكائن وثني!

ناظم مهنا

 

ربما كان التحول المفصلي في حياتي يعود إلى عام 1978 حين تحول مسار طريقي قسراً عن بيروت إلى دمشق، كنت أنهيت المرحلة الثانوية، ورغبت في دراسة الجامعة في بيروت التي أمضيت فيها ثلاثة أشهر صيف عام 1977 في الطريق بعد أن قطعت طرابلس والبترون على ما أذكر، حاجز للشرطة اللبنانية، طلب من السوريين العودة إلى طرابلس حفاظاً على سلامتهم، لأن حاجزاً لإحدى الميليشيات على بعد مئتي متر كان يصطاد السوريين.

المهم عادت بنا سيارة الأجرة إلى طرابلس ليتكشّف لنا عن وقوع مجزرة (أهدن) في زغرتا، ورأيتُ بعض الفارين من المجزرة، هائمين مروعين، بعضهم كان لا يزال دمه يسيل. إذاً، انقطع الطريق إلى بيروت، فكان علي أن أذهب إلى دمشق وأسجل في جامعتها قبل فوات الأوان، لم أكن أرغب بدمشق لأنني لم أكن أعرفها ولم أزرها من قبل، بينما كنت أعرف بيروت إلى حد ما، أحببت بيروت وصار لي فيها أصدقاء، ووعدتُ نفسي أن أعود إليها وأعمل فيها عاملاً أو مع الفصائل.

في ذلك التاريخ كانت الحرب في ذروتها وعشت بعض يومياتها في الملجأ. أول كتاب اشتريته من مكتبات بيروت: «سيف اللهب» لبابلو نيرودا، وكنتُ في غاية السعادة لعثوري على هذا الكتاب الشعري الضخم، ولا أزال احتفظ به؛ إذ كنت ممن يلتهمون الكتب، فتحت شهيتي على الكتب مبكراً، أقرأ كل شيء يقع في طريقي، سواء عندي أأفهم ما أقرأ أم لا، وثمة كتب قرأتها لم يعلق منها في ذاكرتي سوى عناوينها. منذ الصبا عثرت في بيت جدي على صندوقين من الكتب تركهما خالي، معظمها من روايات الجيب المصرية، وبعضها روايات باللغة الإنكليزية ملونة الحواف ومزينة برسوم داخلية رائعة، لم أكن أشبع من النظر إليها دون أن أتمكن من فك حرف من حروفها، وربما كان لهذه اللقيا أثر في تأجيج حبي للكتب.

كنت أتابع بشغف الملحق الثقافي الأسبوعي لجريدة الثورة، أنزل صباح كل أحد من القرية إلى المدينة لأشتريه، وكان يشرف عليه أهم الكتّاب السوريين في منتصف السبعينيات، وأذكر مرة أنني قصصت منه صورة كبيرة للشاعر نيرودا وألصقتها على جذع شجرة دلب تقع في مفترق طرق لقرى عدة، ومن يعبر ذاك الطريق عليه أن يعرف لمن هذه الصورة، وهكذا استطاع صبي بفعل صبياني أن يجعلك يا نيرودا معروفاً عند الكثيرين من سكان تلك القرى وأنت من القطب الآخر من العالم، فبعض الرجال عندنا سموا أولادهم باسمك! قرانا الساحلية كان يزدهر فيها اليسار آنذاك، واليساريون عَدُّوا عملي الصبياني هذا بطولياً أستحق عليه الإعجاب!

من اللحظة الأولى بدت لي دمشق مدينة أليفة، ربما أقل قسوة وتعقيداً من بيروت، لم يطل الوقت حتى صار لي هنا أصدقاء في الجامعة ومن خارج الجامعة، سكنتُ غرفة صغيرة تشبه الحافلة المخلعة في ضاحية من ضواحي البؤس في دمشق، وعشت في هذه الغرفة أقسى صور الشقاء، ما يجعلني استحق بجدارة أن أكون بطلاً لرواية عن الشقاء! ثم انتقلت إلى ضاحية أخرى، ولسنوات ظلت نظرتي لدمشق عدوانية، كقروي يعاني من الحرمان والضيق، وكانت السلطة في دمشق تصنفني عدواً لها، حيث كنت مطارداً على الشبهة، ولم يسمحوا لي بالعمل في القطاع العام إلا بعد محاولات عديدة، لكي أتابع دراستي وأستمر بالعيش في الحدود الدنيا وأدفع أجر السكن المزري. في ما بعد تغيرت نظرتي إلى دمشق، وغدت من أكثر المدن والأماكن حميمية في نفسي، ولم أعد أنظر إليها بعين متطرف راديكالي، اعتاد أن يرى الأشياء بعين مستعجلة. أول ما تعرفت في الجامعة على الصديق يونس أحمد، تلاقينا على حب الأفكار والشعر والنظر إلى العالم، عرّفني يونس على الشاعر صقر عليشي عام 1979. كان صقر آنذاك يؤدي الخدمة العسكرية، في صباه وحتى يومه هذا يشبه الشعراء الروس، ولم يكن بالإمكان التشكيك بحقيقة كونه شاعراً، وكان على وشك أن يطبع ديوانه الأول، كانت شجاراتي مع صقر يومية وكلها حول الشعر. ثم انضم إلى مجموعتنا الشاعر جودت حسن، وتوسعت دائرة المعارف والصداقات، وارتفعت وتيرة العربدات، صرنا نلتقي في المقاهي والمطاعم التي تقدم العرق، كان العرق بالنسبة لنا بمثابة هوية جديدة، كان انتماء للثقافة المتمردة، وتأكيدا على الرجولة؛ اخترناه بإرادتنا التي كنا نتوهم أنها حرة، وحقيقة الأمر هو لمواجهة الخجل القروي. كان علي الجندي وممدوح عدوان يملآن المدينة فتراهما أينما توجهت، وطبيعي كان لنا حظوة مشاركتهما ببعض السكرات، وبعضها يستحق أن يروى.

بعد عام 1982 غدت شوارع دمشق ومقاهيها تزدحم بالكبار والصغار من الشعراء والمثقفين القادمين من بيروت: عراقيين وفلسطينيين وعربا، وكان لي حضوري وسط هذا الزحام بصفتي قارئا وسكيرا ومشروعا مفتوحا على الاحتمالات، وأصدقائي كانوا يشيعون هذا عني، وصارت الغرفة التي أسكنها مقصداً للأصدقاء بعد أن تغلق الخمارات أبوابها في آخر الليل. ومر على هذه الغرفة التي عرفت بغرفة القابون، أشكال وألوان من الشغب والجنون، وأغلب زوار غرفة القابون هم اليوم من المعروفين في حدائق الكتابة إذا جاز القول، وأعتذر عن ذكر أي اسم، رغم أنني أتباهى في سري بكونهم أصدقاء رائعين. هذه الحياة الفوضوية ونوعية القراءات الأدبية جعلت مني شخصاً بلا يقين، وقد نجوت من الانتماءات الحزبية وهذا اليوم محط فخري واعتزازي بنفسي.

الكتب والقراءة والأصدقاء الفوضويون عززوا عندي هذا التفلت، أو لنقل هذه الحرية، وتحديداً هذه الجزئية من التحرر وانطلاق الخيال، وكنت مسحوراً بالسوريالية أدباً وفكراً، وأسست مع الصديق الشاعر جودت حسن حلقة من حلقات السوريالية الجديدة أوشكت أن تغدو حزباً، ولكننا لم نشأ أن نجعلها تنحرف إلى هذا الحد، وللشاعر الكبير شوقي أبي شقرا، له الصحة والعمر المديد، فضل لا ينسى في تثبيت أقدامنا، إذ كان ينشر نصوصنا في جريدة النهار في ثمانينيات القرن الماضي.

وأذكر من الكتب التي عززت فيّ هذه الصبوات اللامنتمية، كان كتاب صدقي إسماعيل عن رامبو «رامبو قصة شاعر متشرد» وهو باعتقادي من الروائع، بمثابة أنشودة رومانتيكية وانطباعية، بمثابة موسيقى تحض على التمرد والتشرد، وفيه الجملة الشعرية التي جعلتني وصديقي صقر نهجر الجامعة إلى حين، ونحن نردد جملة رامبو: «ليس من الخير أن نبلي سراويلنا على مقاعد الدرس».

ثم جاءت ترجمات هنري ميلر: مدار الجدي وربيع أسود، وكان لهما أثر لا ينكر على ذاك الجيل، ثم رامبو وزمن القتلة، وكنت قبل سنوات قد قرأت مقتطفات من مدار السرطان أقتطفها صدقي إسماعيل. هنري ميلر وكنوت هامستون صاحب رواية الجوع، وجورج أمادو في «كانكان العوام الذي مات مرتــين» وعلى رأس هؤلاء بودلير في (أزهار الشر) بكل الترجمات العربية، وهضبة تورتيلا لشتاينبيك، كل هذه الأعمال التي تعلي من صوت المتشردين الفقراء المتسكعين على أرصفة المدن، شخصيات هذه القصص واقعية للغاية، كنا نراها ونعايشها.

في سنوات الشباب الأولى لم أكن أميل إلى كتب التراث، وكنت أنفر من كل شعر موزون، وأنا اليوم لم أعد كما كنت، وقد فعل الزمن فعله معي وجعلني أقل راديكالية في كل شيء، ولم أعد أميل إلى الجدل الصاخب، ولا الحماس لأي حقيقة متوهمة أو مزعومة. لقد توصلت بفعل الأيام، دون أن أخطط لذلك، إلى قراءة السرديات بكل أشكالها الكبرى والصغرى بروح أبولونية، على أنها سرديات منفصلة عن عاطفتنا الذاتية. منذ سنوات، خمد الشيطان الديونيسي، ويا ليته لم يخمد، روضت نفسي على ليبرالية القراءة، وعلى تقبل الأنماط وتوطين الذات على الاعتراف بهذه الأنماط التي لا تنفك تتوالد وتتصارع وتتعايش. وفي اعتقادي، عندما يتداعى الجدار أو السور النرجسي أو العقائدي داخل كل شخص، ويتبدد اليقين، تجري في الحياة تحولات دائمة، ملحوظة أو غير ملحوظة، واعية أو لاواعية. وأعتقد أننا في الحياة اليومية نتبدل باستمرار، مثل جريان النهر. لم أعد اليوم أتنطح للإجابة عن كل الأسئلة، وأريد أن أعرف ظاهر الأشياء وباطنها، وقد صيرني الزمن أشبه ما أكون بكاهن وثني، لا يؤمن بأي حقيقة، وأكثر المفردات عنده اليوم وتمنحه الغبطة هي كلمة: «لا أدري».

وثمة مفصل آخر في حياتي، مهم عندي، كان يمكن أن يكون فاتحة حديثي هذا، غير أنني آثرت أن أشير إليه مجرد إشارة، وهو، أول مرة أسافر فيها بالطائرة إلى الولايات المتحدة عام 1996 وكانت رحلة ذات طابع ثقافي لمدة شهر، حافلة بالمشاهدات وبالأسئلة.

(كاتب سوري)