وجهة نظر عن شيخ الطريقة
أحلم كثيرا بعينين محدقتين، يخايلني الزمن، وأندهش في أحيان كثيرة وأتساءل:
كيف مرت تلك السنوات التي عشناها ؟
أتأمل مساحة الفضاء بين الميلاد وما وصلنا إليه من عُمر، وأتذكر من قال: في أي ضفة أنا؟
بين ضفتين لخاتمة نقاومها بلا مبالاة أهل المدن والأرياف، وربما في جانب من الحدائق العامة، أو الأحياء المهجورة للمدن البائدة، ربما بالاحتفال، بسماع الموسيقي، وبأناشيد الماضي وإحياء الذكري
لا شئ يستعصي علي الحلم، والمطر ما يزال هناك ينهمر بصخب الرعد، وجلجلة الجبال، وفي بعض النواحي تغرق الأمطار الغابات.
المغربي الأصيل «محمد برادة» كان أمينا لعمره إلي حد الوله، ولسنواته التي قضاها علي سطح أمنا الأرض، فأقام احتفالا هناك، في الجنوب الفرنسي حفاوة لاستقبال الثمانين، وبكرمه الذي نعرف قام بدعوة من أحبهم يوماً وما يزال بالحضور فورا لاستقبال هذا العمر الغني وسط غابة من غير ما حد.
وأنا من أمضي عمره في محبة الرجل، وتمثل طلباته لي أوامر. أعرفه من قديم، حين كانت الدنيا غير الدنيا، ومنذ كان الناس غير الناس، وحين كنا نؤمن سويا: أن الفعل والحكم شئ واحد، لا ينفصلان. أواسط الثمانينيات تقريبا، حين طلب مني الكاتب «صنع الله إبراهيم» بأن نذهب لاستقبال الكاتب المغربي «محمد برادة» في المطار بالقاهرة . ذهبنا واستقبلناه ومن يومها والرجل له الحضور في الحياة، وفي القلب، وله نافذة عندي مشرعة لأطل منها علي الدنيا ومتغيراتها، وله رفقة في الفرح وفي كل ما ندافع به عن أرواحنا.
"محمد برادة" من قال يوما عن نفسه "أنتمي لجيل مغربي مخضرم واكب مرحلتين تاريخيتين: ما قبل استقلال المغرب وما بعد استقلاله". ويؤكد أنه إبان الحماية اتخذت الثقافة صفة إلزامية لفرنسة اللغة سعيا إلي الهيمنة الشاملة. ويري أن لحضور الثقافة العربية الاسلامية دور في مقاومة الاحتلال الفرنسي بالاستفادة من التحديث الذي مكنته بعثته التعليمية في مصر في الخمسينيات من اكتشاف غني اللغة العربية، واستيعاب الرهانات الكبري للأدب العربي.
منذ انحاز «محمد برادة» لهذا الانتماء اكتسب وعيا بمعرفة تراثه دفعه لاختيار تجربته الابداعية والنقدية التي كونت صورة المتعدد، في التدريس في الجامعة لشبان كانوا الطليعة للتحديث في أفق تعليمي يتلمس خطواته نحو اكتشاف أفق إبداعي ونقدي جديدين. وكان كاتب الروايات الذي واكب متغيرات الحياة في الواقع، البشر والمكان والزمان، وعلاقة البشر بالسلطة في كل تجلياتها السياسية والدينية والاجتماعية مكتشفاً عبر تلك العلاقة كونا من التخييل، ومن شكل جديد لسرديات الأدب استحضر من خلاله عوالم الطفولة وأول أسئلة الدهشة، حتي إحيائه الذاكرة الجماعية لبشر يحاولون مساءلة المسكوت عنه في الضمير العام، واستنطاق تلك الذاكرة الجماعية، فكتب نصوصه الباقية: لعبة النسيان، امرأة النسيان، مثل صيف لن يتكرر، موت مختلف، حيوات متجاورة، الضوء الهارب الخ .. الخ .. الخ.
في روايته الفاتنة عن مصر «مثل صيف لن يتكرر» ثمة صوت هناك لحنين قديم، المكان الذي أحبه أول العمر حيث اكتشفه صبيا يلتقط عبر شوارعه لغة الكلام، وذلك الفضاء الضاج بالرومانسية، وصوت الاغنيات التي أحبها قبلا، كاشفا عن نوازع الأصوات المقموعة في الحياة عبر حلم التحرر والايماء بانتاج نص روائي جديد يعبر عن ذلك الصوت الذي قال عنه بيسوا «ما كان ليس سيئا وأن نتذكر معناه ألا نري . لتمر أيها الطائر. مر وعلمني كيف أمر».
في تلك الفترة وما بعدها بقليل، كان «محمد برادة» يحاول القبض علي الرهانات الكبري للأدب العربي فيما يواجه سؤاله المحير: كيف التعبير عن عالم يعيش واقعيته والتزامه السرتري ثم سعيه نحو اكتشاف حداثة تطل الآن للنفاذ إلي عالمنا؟
التدريس في الجامعة، النضال السياسي، والعمل من خلال مؤسسات تعمل بعيدا عن السلطة. الجهاد في اتحاد الكتاب المغربي خلال ثلاث دورات انتخابية. الحلم بالتغيير وسط الجموع. لقاءاته بمصر محملا بابداع الشباب المغربي باحثا عن منافذ النشر، وتوسيع مجالات حوارات الثقافة، ومن ثم اقتراحاته المدهشة في لقاءات تيارات الكتابة عبر تنوع كتابها بالمغرب والمشرق، بالذات في مصر حين يجئ إليها محددا مضامين اللقاءات المختلفة وأسماء المشاركين والنقاد منذ بداية لقاء الرواية منتصف السبعينات الذي لا ينسي بالمغرب، والذي حضره عدد من الأدباء المصريين: إدوار الخراط وجمال الغيطاني وعبد الحكيم قاسم وصنع الله إبراهيم وكتب عنه عبد الحكيم قاسم رائعته «رجوع الشيخ».
وظل «محمد برادة» حتي اليوم يمثل الجسر، والمعبر الذي عبرنا عليه حيث الضفة الأخري لنهر الثقافة العربية: المغرب الكريم.
الوصول ومشهد «لاليك» المفاجئ
وصلت بيت الضيافة، ظهرا.
كنت قادما من مارسيليا، مخترقا الجنوب.
وكلما توغلت السيارة في المكان كانت الغابة تتمدد حتي آخر النظر، وعلي التلال هناك بيوت متناثرة، شاهدة علي تواريخ عمارتها وصلت، وكان في استقبالي «محمد برادة» والسفيرة العزيزة سيدة البيت «ليلي شهيد» حيث الاستقبال الحسن، ومشاعر تعرفها لبشر أمضيت في حضرتهم أغلب العمر.
وهي هناك في ثوبها المنقوش بالورد تقف عند شجرة الزيتون العتيقة يجلجل صوتها: نورت الجنوب يا كفراوي، وكان محمد برادة.
اصطحبوني معهم، يتجهون للغداء في مدينة «Uzesأوزيس» التي تشبه مدن «باتريك موديانو» ذلك الذي يتخذ من المكان مسرحاً لأعماله، ويتخذ صورا من الماضي عبر شخوصه وحكاياته عن الألم الإنساني. روح المدينة دافئة، تكرم زائريها بالعديد من المطاعم، وشرفات البيوت تطل علي شارع أذهلتني أشجاره المستقيمة، والمنسقة بجمال لا يباري ومحلات مفتوحة علي شهوات البيع والشراء.
زرنا البرج وحديقته، وأنا انفلت وقتا، شاهدت كنيسه صغيرة علي شارع ينحدر حيث ميدان يزينه تمثال لرجل من زمن مضي.
بنت صاحب المطعم
مطعم من طراز خاص. يديره رجل وابنته الشابه، يقدم ما تشتهي من شراب وطعام، وزحمة الزوار من غير ما حد، والطاولات عامرة بالقادمين من البلاد المجاورة. أسبان وألمان وطليان وبلاد الشمال، ومن كل ملة، وكل جنس يحمل سحنة بلده.
وبنت صاحب المطعم يا دوب في العشرين من العمر. شعر طويل فاحم السواد، ينسدل علي الكتفين، وجسد مدكوك، تدور في المكان مثل نحلة، تخدم ذلك التجمع وحدها، وعلي شفتها بسمة لا تغيب، تنفلت من الباب في دورة تسحب فيها حضورها الطاغي وكلما راقبتها شيبتني تفاصيل الوجه والبدن، تختلف عن الآخرين، وفيه لجسد عامر، لصبية تدرك مدي تأثيرها في الحضور. بنت علي الندهة، تكون أمامك بالحضور الطاغي لبدن يسترعي الانتباه. يتسلل لرأس العجوز، الجالس علي كرسي في انتظار ما طلب، وكأس الشراب الأحمر يستدعي أول الخيالات، يستدعي أيامه ويحاول الفرار من ذلك الحزن المعتم، يأتي لو من كل عام يوم، هامساً من غير صوت. كثيرا ما تختلط الأمور، وحضور البنت في المكان يوقظ ما كان، بالطبع سوف أستعيد ما كان، والبيت هناك علي الجبل، وأغنيه من الماضي. الآن حسبي النظر، لكزني الصديق.
- مالك ؟ ... انت فين؟
- سلامتك
أفينيون
ولكي أزور تلك المدينة، كان علي أن التقي بصبري حافظ . جاء من لندن قاطعا المسافة إلي بيته في الجنوب الفرنسي، في جوار صديقه محمد برادة. في نهار الحفل أخبرني محمد برادة بأنه عرف بوجودي، وأنه أخبره أن انتظره حتي حل علي المكان بروح الطفل القديم الذي أعرفه. فطرة القرية المصرية، وخبرة سنوات التكوين، والقلب المعلق بالذكريات التي مضت في مدينة شهدت أجمل سنوات العمر نجاحا وتجاوزا، وهؤلاء الأصدقاء الذين عرفناهم يوما ومضوا حيث وجه الكريم.
وحين رأيته قادماً، ورأيت ضحكته الضاجة بالفرح، وزهو اللقاء عندما فتح ذراعيه جاءت السنوات الطيبة وانا أعانق صبري حافظ ابن السلالة التي تربيت في كنفها بنور المعرفة والثقافة في فضاء من كرامة وكبرياء.
قال لي : سنذهب إلي «أفينيون» نري المدينة ونصطحب الروائية الصديقة «حنان الشيخ» القادمة من لندن للتهاني وضحك صبري بفرح.
»حنان الشيخ» من قدمت للرواية العربية أجمل الأعمال، وكانت الكتابة بالنسبة لها الطريق الأكثر إمتاعاً لمعرفة الناس والتعبير بصدق عن جرح الكتابة الذي لا ينسي.
»أفنيون» مدينة الفنون القديمة، ذات الطابع الخاص: تأتي بالتاريخ وتثبته في مشهدها العام. هي عاصمة إقليم «فوكلوزVaucluse » في جنوب شرق فرنسا. أهم ما يلفت الانتباه فيها قصر «البابوات» حيث عاش وأقام في أبنيتها العتيقة العديد من البابوات، منذ القرن الرابع عشر إلي بداية القرن الخامس عشر. ذلك المكان، وغموض أسطورته يحل في الأركان والزوايا، وذلك القدم الرمادي في العمائر ذات الطراز، بناء الماضي حيث تتميز المدينة بوجود المتاحف والقصور والجسور علي النهر والأسوار المحيطة وتلك المتاريس المرممة، وساحتها التي تشهد كل عام مليونا ونصف من السائحين.
إخبرني «صبري حافظ» عن مهرجان أفينيون.
»إن هذا المهرجان انطلق في العام 1947 بمبادرة من الشاعر الفرنسي الكبير « رينيه شار»، والذي قاد المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي في جنوب فرنسا، وخبر ويلات الحرب والاحتلال. وقرر أن يدعّ عن منطقته بالثقافة سلبيات الحرب، فدعا المخرج المسرحي «جان فيلار» بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن أعادت الدولة الفرنسية بناء بعض ما ضربته الحروب، لتنظيم مهرجان مسرحي فيها، سرعان ما نمى على مر السنين، من أيام معدودة وحفنة من العروض، عقب الحرب، حتى بلغ الآن عشرات العروض الكبيرة، ومئات العروض التجريبية، وعشرات الندوات كل عام. وعليك أن تشاهد تلك المدينة زمن مهرجانها حيث يتحول فضاء المدينة كله إلي خشبة تزخر بالناس والحوارات ثم تتحول إلي مسرح شامل يميزه التجريد وجدة العرض، وفتنة مذهلة كل عام.«
وكان «محمد برادة» قد أخبرني عن هذا المهرجان وقال لي «هنا الفن في مواجهة النسيان: وهو موضوع يعاد طرحه في أوروبا نتيجة ظهور روايات تستوحي فترة النازية في أوروبا، وتحاول أن تصور المأساة انطلاقا من وجهة نظر الجلادين». وظل برادة يحرص كل عام علي حضور المهرجان، ذلك الملتقي الفني الذي يعيش ويتفاعل ويقدم أمسياته التي لا تنسي من تجريب الفنون الراقية.
وجاء القطار، وصبري وأنا في انتظار حنان الشيخ التي كانت قد هبطت تبحث عنا وحين التقينا كانت هي، هي البنت التي قابلتها يوما بالقاهرة في زمن ماضي، أنا وإبراهيم أصلان، هي هي، نفس البسمة، والطيبة حية في القلب والروح.
الحفل «بطاقة دعوة للسادة الحضور»
إن أسعفك الحظ، فلسوف تعيش ليلة مثل تلك الليلة ولمثل «محمد برادة» الذي عاش حياته دائما ما يوصل ما انقطع بين الناس، وبتجرد، يمارس حبه الثقافي والذي آمن دائما بأن الكتابة «مثل الجرح الذي لا ينسي»، لمثل ابن آدم هذا الحق في الاحتفال بعمره، وبما مضي من أيامه
وأنا لبيت الدعوة وسافرت..
حزمت متاعي، وكدسته في حقيبة قديمة، ومضيت ... والحفل في بيت براح، في صالة تصدح فيها الموسيقي في تلك الليلة الصيفية، وتزدحم بالرجال والصبايا والرجال يغدون ويروحون، وأنا أتأملهم تحت الضوء الذي يشع في المكان فتأتي فراشات الغابة بالمئات وتخفق حول النور بعشق الحياة، وخير البيت يغمر الموائد، والشراب مرفوعاً شعارا لليلة الفرح تلك.
في الليل تجثم الغابة تحت فضاء لا تحده العين، والجنوب الفرنسي كله، تلاله وأشجاره نعمه من الخضرة، يجاور أسبانيا واندورا وسلاسل جبال البرانس وجبال الألب، وتستقر به أجمل المدن : تولوز ونيس ومرسليا وموناكو.
وبيت الضيافة العتيق يخضع تماما لادارة «سيدة الدار». «ليلي شهيد» سفيرة فلسطين السابقة (التي أدت دورها الفلسطيني بالشكر والعرفان)، وقرينة أستاذ الجامعة، والدبلوماسية العريقة، يشرف علي النشاط اللبناني المثقف «كريم حيدر» الذي استدعته ست الدار من باريس للقيام بالواجب.
بيت من حجر، أعيدت صياغته ليحتفظ بطرازه البديع. لست الدار صوتها ينظم الحفل، ويحتفي بالقادمين، باللمسات الحاضرة، والذوق الرفيع «ليلي شهيد» سيدة تثير في النفس كل مودة واقتراب من البهجة، ترحب بالقادمين وتلقي بحفاواتها من طلعة النهار حتي تضاء الشموع.
الضيوف عرب وفرنسيون، ومن جنسيات لا أعرفها. قناصل وسفراء ومثقفون وكتاب، وأهل فكر ومؤروخون وفنانون وشعراء وروائيون، جاءوا من الخارج، ومن باريس والضواحي وحضروا ملبين.
المغاربة، رفقة رحلة العمر، من الطفولة حتي الكهولة: علي أومليل السفير والمفكر وحرمه الجليلة، الروائي الشاعر والوزير السابق الصديق محمد الأشعري وحرمه، رفقة زمن النضال، والبحث عن أفق جديد. الروائي «يوسف فاضل» صاحب النص البديع «طائر أزرق نادر يحلق معي». ضمن اللائحة القصيرة لجائزة البوكر العربية، والناقد محمد الداهي صاحب الكتاب المهم «البحث عن الذات بين جيلين» عن السيرة النضالية والابداعية لمحمد برادة، والطبيبة السورية «هاتون قدري» وعمنا المفكر والأديب فاروق مردم بك بحضوره الهادئ الجميل، ومودته الانسانية الفياضة.
أقيم الاحتفال ليلا. كانت الموسيقي تصدح من ركن في الصالة المقام بها الاحتفال، والصبايا يرحن مثل الفراشات، وعندما تتخايل الظلال مع هبة هواء مفاجئة، وفي الأركان، وعلي المقاعد جلس المدعوون في حلقات بينما تبدو في فناء البيت، وقد سطع الضوء وتحت جذر الزيتونة العتيقة أضواء مبهرة، والفراشات تأتي من الغابة يجذبها الضوء الباهر، وبالقرب من شجرة الرمان يقف صبري حافظ وحنان الشيخ يكملان حديث النهار حول الثقافة والحياة.
علي المقاعد والكنبات حوار ممتد، بدءا من السياسي حتي الفني والابداعي، وقضايا التجديد وأحوال الوطن، والزمن الراهن لأزمة ما نعيشه، ويقطع الحديث العام صوت بالغناء لسيدة فرنسية، كان الصوت شجيا، مؤاخيا، وأنا في لحظة ما سحبني الصوت لأخرج لحظة من باب مكان الاحتفال لأطل علي الليل «مشهد من فوق التل، علي الغابه في الليل». مرات عديدة أحسبني شخصا غريبا عني، يطرد من قلبه الهواجس، ويقعد علي رأس الجبل يتأمل بفرح غامر ما يطفو علي الغمر من أشجار وقمر ونجوم تسطع علي الشجر. أحس بالزمن وأنا أتابع جريان العمر في مواجهة ذلك الوقت المدهش الجميل.
ويمتد الليل، ويتكاثف الحضور، وأصوات الضيوف تعلو، والضحكات لها إيقاع الموسيقي، ليلة تليق بصاحبها، وليلي شهيد هناك تحت الضوء مثل قائد الموسيقي.
ليلة من ليالي العمر، والفرح فيما يبدو علي الجميع مركزا للحضور. أشاهد الآن القاص العراقي «جبار ياسين»، في بذلته البيضاء ولحيته البيضاء، يمتشق عصاه وبيده كأس شرابه مباغتا الصبايا بالرقص رافعا عصاه. جبار ياسين الصبي الذي كان، ونحن نخترق شوارع الجمالية في القاهرة باحثين عن نجم الدين أيوب، نسمع من مقبرته صوت في الليل «أنت لست امرأة، أنت لست برجل. أنت طيف شفيف يحدد أبعادك الضوء والفراشات» والليالي الجميلة واحدة، تلتقي وتفترق إلا انها تحمل الذكري.
وأنت تجلس تحت جذر الزيتونة العتيقة، بيدك كأس الشراب : مثلما الحياة، هاتفا: ينبغي مغادرة الحزن.
برشلونة
في اليوم التالي بعد الحفلة، كنت أنا ومحمد برادة نجلس في الظل في الفناء الخارجي. أنا قلت «يا أخي يقولون برشلونه دي تأخد العقل».
»جميلة».
»بعيدة عن هنا؟»
»ساعات وتبقي في اسبانيا»
»يعني الواحد يقدر يروحها بالقطر؟
»طبعا» وسكت، ثم بادرني:
»انت عاوز تزورها؟»
»تفتكر فيه وقت؟»
قال بحسم، وبلهجة مصرية:
»هات م الآخر ... عاوز ولا لأ؟»
ضحكت، وسكت.
اليوم التالي كانت ست الدار قد حجزت تذاكر القطار، وحجزت الفندق ونادت علي من داخل البيت.
»اجهز يا كفراوي ... سفركم بكره!»
وكان القطار في طريقه لبرشلونه.
وبرشلونه مدينة اسبانية تقع في الشمال الشرقي للجزيرة الأيبيرية، وتستقر هناك علي شاطئ المتوسط، وأنا كنت أعرف عنها الكثير. تقول الأسطورة أن والد «هانيبال» هو من أسس برشلونه، ومن بعده جاء الرومان، ثم القوط الغربيين، ثم فتحها المسلمون في القرن الثامن الميلادي حتي غزاها شارلمان في العام 801م.
يقول المؤرخون أيضا: أن المدينة دمرت في الحروب الاسبانية عام 1714م ثم وقعت تحت الاحتلال زمن نابليون، وعبر الثورة الصناعية في القرن 19 نمت المدينة وازدهرت علي مستوي المعمار والصناعة والزراعة والتعليم والرياضة..
بهرتني برشلونه من اللقاء الأول.
مدن مثل قصائد الشعر الخالد، تظل في الذاكرة حتي آخر العمر، وأنا مواطن أمضيتُ عمري أعشق المدن ذات التواريخ، تلك المدن التي تستمد سرها من منطقة غامضة في روحها. سرنا في الليل، أنا وعمنا محمد برادة.
»شارع لارامبلا» المزدحم مكان يلتقي به كل بشر العالم. وأنا أقبض علي ذراع دليلي في مكان لا تستطيع مهما كانت قدرتك علي تذوق الجمال أن تتذوق جماله دفعة واحدة.
اهدأ ... حبه .... حبه.
عندما رأي انبهاري قال مشاغبا، مربتا علي ظهري. وضحك . وأنا تلقيتها، وصمتُ.
الدنيا أمامي تشدني إلي كل جميل، وإضاءة الشارع تجسد الخلائق وتحولهم إلي ملائكة ... بنات ... بنات ... بنات وأحياناً رجال وشباب.
وأنت تتأمل المشاهد: متحف الشمع، مسرح الفلامنكو، كنيسة قديمة تكمن في الظل، عمائر من طراز واحد كأنها أقيمت في زمن واحد، نافورة في ميدان بأضواء ملونة وتماثيل من عصور خلت، جزيرة تتوسط الشارع بطوله عامرة بالمطاعم وأكشاك بيع ألف صنف ومقاعد يتسابق الناس للجلوس عليها، وفي الآخر يجثم تمثال النبي القرصان كريستوفر كولمبس يطل علي الميناء البحري للمتوسط.
ويمتد الليل ساطعا علي الميادين، يعكس واجهات العمائر التي أبدعها كل فن وأنت تتساءل: كيف للفن، ذلك الراقي أن يمتلك تلك الوظيفة المكتملة علي تجسيد تلك المشاهد المتجاورة.
أغبط هؤلاء البشر من الفنانين، هؤلاء أصحاب الآثار الباقية، تغني الروح، وتواصل إمدادنا بذلك الشغف للجمال .
وكانت في النهار «الغوطيةla Sagrada Família »
كنيسة أم معجزة؟
استوحاها «جاودي» المعماري الأعظم (1852 -1926) من الفن القوطي.
هي كنيسة العائلة المقدسة، أو الصليب المقدس والقديسة سانتا «أوليانا» لتجليها الروحي، كما أطلقوا عليها كنيسة «برشلونة»، كما أنها مقر الأساقفة، وظلت تبني من القرن الثالث عشر حتي القرن الخامس عشر، إنشاء متواصل مجسدا أسطورتها عن سانتا «أوليانا» التي استشهدت في العصر الروماني بعد أن مثل بجسدها الرومانيون حيث عرضوها عارية في الربيع فسترها الثلج مما أثار غضب الرومان فوضعوها في برميل به سكاكين وتم دحرجته بالشارع حتي استشهدت ودفن جسدها في الكتدارئية.
حتي اليوم تمثل الكنيسة إعجاز «جاودي» في البناء الذي ظل يضيف للبناء القديم متواليات معمارية بمشقة وروّية لأن كل قطعة تضاف للبناء القديم تمثل معجزة، وما يزال البناء لم يستكمل، وما تزال ألوف الزائرين تلتف حول المكان الذي يمثل قلب برشلونة وروحها.
تدفعك «الغوطية» لكي تسأل وتبحث عن متحف «بيكاسو» الشاب الكائن بمبني كلاسيكي يزدحم طوال الوقت بالزائرين .والمتحف يعرض أعمال «بيكاسو» عن فترة الصبا. نحت تصوير – خزف منجزات أخري كثيرة. كما يضم المتحف أكبر مجموعة عن تلك الفترة الباكرة من أعمال الفنان وافتتح في العام 1963 وبه حوالي 5740 عملا فنيا أهداها «جيمي سبارتس» »صديق بيكاسو نفسه للمتحف وحوالي ألف قطعة فنية، كما أهدي متعلقاته الشخصية أيضا. والمتحف في تجلياته الفنية عاكساً للقيم التشكيلية التي كانت البداية لمغامرة بيكاسو في خلق ذائفة جديدة للفن التشكيلي. بيكاسو طفل اسبانيا العبقري الذي جسد معالم قراها، وطواحين الهواء فيها، وهؤلاء العجائز الذين قابلهم طفلا وصبيا عبر لوحات لا تنسي.
ومن متحف »بيكاسو» إلي متحف «خوان ميرو» نشيد فني متصل، أغني حداثة الابداع وطور الإحساس بالجمال. «ميرو» الوحيد الذي نافس ذلك الكتالوني الخالد. «ميرو» بشعرية أحلامه أنشأوا له متحفا في المدينة للفن الحديث، متجدد الضوء والهواء، وجدرانه تشع باللون الأبيض ويحتوي علي 225 رسما و 150 نحتا و5000 لوحة متنوعة الرؤي تحمل جدران هذا المتحف الكبير الذي يقع في الضاحية البعيدة علي الجبل. والأعمال كلها تسلط الضوء علي طريقة ميرو في استخدام اللون العضوي مجسدا الرموز والنجوم والطيور والقمر والنساء والأشكال المركبة وتجاور الأحمر والأصفر وتماثيل الخشب الآدمية واللوحات شديدة الخصوصية التي تعكس أسلوب «ميرو» واسع الخيال، وتوحي أشكاله المجردة وكأننا نري بشرا حقيقيين، وحيوانات حقيقية لنكتشف أننا أمام ذلك العالم الذي يتخفي بمطلق التجريد والسريالية المجسدة لزمن استعادة الطفولة والعوالم الكتالونية.
والأيام قليلة وسطح الأتوبيس مكان لاستكمال استيعاب جمال المدينة وأنت تسبح فوق الشوارع من سطح الحافلة بشرفاتها المشغولة بزخرف الحديد والعمائر تسبح علي الشجر وبذاكرتك ألف سؤال عن معي الجمال والمدن.
آخر النهار العودة.
أنا من مارسيليا إلي أثينا ثم القاهرة، ثم المغربي الجميل إلي الجنوب مرة أخري حيث سيدة الجليلات. هما من واربا الباب لأطل منه علي رحبه من جمال ومحبة.
ليلي شهيد ومحمد برادة.
عليهما سلام الله في العالمين.