غيمٌ في الماء
غيمٌ دمي في الماءِ، هل شيءٌ تغيَّرَ فيَّ؟ هل شيءٌ تكسَّرَ؟ هل سيُغمى في الطريقِ على الأغاني؟ هل سيخفقُ وردةً فوقَ الصليبِ دمي؟ أُفكِّرُ.. لا أُفكِّرُ، نسوةٌ يعبرنَ في المعنى، ولا ينصعنَ للتفَّاحِ، سيِّدةٌ تمسِّدُ شَعرها بالضوءِ، آنيةٌ لحفظِ تنهدَّاتِ الظلِّ، غيمٌ مالحٌ، ما الفرقُ بينَ اللفظِ والرؤيا وبينَ أصابعِ التأويلِ والمرآةِ؟ أو ما الفرقُ بينَ قصيدةٍ رعويَّةٍ وبكاءِ أنكيدو؟ وبينَ زنابقِ الوادي وبينَ فمي؟ دمي غيمٌ وأشجاري التماعاتُ الظنونِ، تكوِّرُ امرأةٌ قصيدتها لأنساها، وتفركُ جسمها بالآسِ أو بالزنجبيلِ الحيِّ، موسيقايَ باردةٌ وهذا الليلُ لا يُصغي إلى جرحِ الكلامِ ولا يميطُ عن الجميلاتِ اللثامَ، الليلُ وغدٌ، كالرجالِ الخائنينَ وكالنساءِ العاهراتِ، ضجرتُ من نفسي لأنكَ لم تكن يا آخري في عزلتي هجسي، لأنكِ لم تكوني مرَّةً قمري ولا شمسي، لأني لم أُرتِّبْ فيكِ فوضى الأبجديَّةِ وانسحبتُ من الظلالِ كأنني شبحٌ يكابدُ فيكِ رغبتهُ، ويبني من بقايا دمعةٍ حجريَّةٍ منفاهُ، طوَّحتْ المعلَّقةُ الأخيرةُ بي على مرأى امرئِ القيسِ الذي لفَّ استداراتِ الأُنوثةِ بالسرابِ وبالتوجُّعِ عندما أخفى الثيابَ وعندما أرختْ ضفائرها على موجٍ فتاةُ الحيِّ، أو راحتْ تلمِّعُ خصرها بالزعفرانِ وبالقرنقلةِ الأخيرةِ نهدها.
*
مطرُ الغريب
مطرٌ لا يثيرُ المشاعرَ أو لا يقولُ الحقيقةَ في الخارجِ الآنَ، لن أستعيرَ قناعَ الصعاليكِ حتى أرى ما وراءَ السطورِ ولا معطفَ المسرحيِّ لأكتبَ عن حائطٍ خائفٍ في الروايةِ، لا شيءَ.. لا شيءَ، حطَّتْ على شفتي نحلةٌ وعلى لغتي قبَّراتٌ ثلاثُ ولا شيءَ، زوجا حمامٍ يعودانِ في أوَّلِ الليلِ للبيتِ، سبُّورةٌ غيرُ مرئيَّةٍ في الظلامِ، هواءٌ معافى، وتعويذةٌ للصغيرِ، تركتُ الغيابَ على حالهِ ثمَّ نمتُ، تركتُ الكتابَ لفنجانِ بُنِّ المساءِ وأبحرتُ في التيهِ، لا مطرٌ سيقودُ خطايَ ولا وترٌ في الكنايةِ أو في صدى النهوندِ، سأطوي النهارَ كسجَّادةٍ وسأكتبُ نثراً لإحدى حفيداتِ طاغورَ، أو شبهَ مرثيَّةٍ لنساءٍ تسلَّلنَ من لوحةٍ فوقَ حائطِ مشفى ومن حبقٍ أُنثويٍّ لفروغ فرخزادَ، أو من حروبٍ ستأتي عليهنَّ، ثمَّ تقطَّرنَ كالخلِّ في المزهريَّةِ، أو ذبنَ مثلَ النداءاتِ فوقَ الأسرَّةِ أو في الشرايينِ، دمعاً على أربعاءِ الرمادِ، رماداً على وردةٍ في الأحدْ.
*
ما أنتَ تبحثُ عنهُ يبحثُ عنكَ
لي سرُّ آدمَ في تعلُّقهِ بحوَّاءَ الوحيدةِ، وانجذابُ يديهِ للضلعِ اليتيمِ، وخصفُ ريحِ الأرضِ، لي ورقُ الترابِ ولي غصونُ التينِ والزيتونِ، حينَ نظرتُ للأعلى رأيتكِ، كنتِ ماثلةً على لوحِ السماءِ، مضاءةً بندائكِ العلويِّ، ملتُ على يديكِ فقشَّرتني كائناتُ البرتقالِ وفسرَّتني بالعواصفِ، لا مجازَ اليومَ لي، وستدخلينَ إلى تفاصيلي الصغيرةِ عنوةً، لطريقةِ الشعراءِ في التدخينِ أو في الانسحابِ من الزنابقِ والهبوبِ على رصيفِ الأبجديَّةِ، للتمعُّنِ في اكتئابِ الشاعراتِ، وفي غموضِ جمالهنِّ وسرِّ احداهنَّ في معنى اختيارِ الانتحارِ، ستدخلينَ حديقةً منسيَّةً وتأمُّلي سربَ الطيورِ وهجرةَ الغزلانِ، أبحثُ عن خطايَ على البحيرةِ أو صدى روحي بصحراءِ المجرَّاتِ البعيدةِ، لم أجدْ غيري يحاربُ ظلَّهُ ورؤى طواحينِ الهواءِ، ولا عبارةَ غيرَ نقشٍ غابرٍ (ما أنتَ تبحثُ عنهُ يبحثُ عنكَ) لكن لم أجدكِ ولم أجدني.
*
فكرةٌ / فراشةٌ
يأتي صياحُ الديكِ من حيٍّ بعيدٍ، أو نباحُ الكلبِ مختلطاً بصوتِ الريحِ، بي ضجرٌ من السرديِّ والشعريِّ، هل أمضي لأجلسَ في حديقةِ صوتِ أنثى؟ هل أُدرِّبُ صوتها يوماً على الطيرانِ أم أُعطيهِ بعضَ صدايَ؟ لا أدري.. تعبتُ من الوقوفِ على المطالعِ والطلولِ الأنثويَّةِ، قلتُ للمثليِّ حينَ قرأتُ سيرتهُ: ابتعد عني ولا تلمسْ يديَّ، الآنَ تدخلُ كالفراشةِ فكرةٌ وتحطُّ فوق ملاءةٍ صيفيَّةٍ زرقاءَ، تقرأُ في كتابِ الحُبِّ سيرتها وتغرقُ في سريرِ النومِ، هل عربيَّتي الفصحى تساعدني على وصفِ التي في البردِ تولمُ للحيارى جسمها وتضيءُ سرَّتها لينطفئَ الدجى والزمهرير؟
*
ريشةُ النار
ريشةُ النارِ ترسمُ في الأزرقِ اللا نهائيِّ حوريَّةً خصرُها يتزنَّرُ بالقمحِ أو بفمٍ جائعٍ، آهِ يا شهرزادُ انزلي من علٍ واحملي سلَّةَ التينِ أو أجِّلي الصبحَ حتى تخلِّصَ سيِّدةٌ نفسها من شراكِ الحكايا ولوحِ الوصايا، وكي تتمرأى صبايا البلادِ بما فاضَ عنكِ من الماءِ أو من صراخِ المرايا، سماءُ قصيدتكِ الآنَ صافيةٌ كبصيرةِ هوميرَ، هادئةٌ كالسواحلِ أو كظهيرةِ شهرِ حزيرانَ، لا همسةٌ للنسيمِ ولا نأمةٌ للمياهِ، وليستْ معي نزواتُ المحبِّ الصغيرةُ، ليستْ معي في طريقِ النوارسِ أو في ظلامِ الذئابِ بقيَّةُ نثرٍ أخيرٍ ليبتزَّهُ شهريار.
*
أبجديَّةُ العشق
في البدء كانت أبجديَّةُ عاشقٍ منحوتةً في الصخرِ والبرديِّ، كانَ تأخُّرُ امرأةٍ عن البستانِ أو وعدِ الحبيبِ يشتِّتُ المعنى ويربكُ طائرَ الدوريِّ، ما هذا الذي في الكأسِ؟ ما صلتي بأفلاطونَ أو سقراطَ؟ هذا اليومَ عشبٌ في الرخامِ استوقفَ المتراكضينَ إلى النهايةِ، قطَّةٌ ترنو إليَّ، وشاعرٌ يهذي، وساعٍ للبريدِ يعيدُ للصندوقِ زفرتهُ ويشردُ، لن أدورَ على مسلَّاتِ المساءِ ولن أعودَ إلى سدومَ لكي أرى تمثالَ ملحِ خيانةٍ أُخرى وكيفَ يخلِّدُ الحبَّ الجحود.
*
بعدَ مُنتصفِ الليلِ
بعدَ مُنتصفِ الليلِ، أقصدُ بعدَ الهزيعِ الأخيرِ من الليلِ، بعدَ ذهابِ الجميعِ إلى النومِ، بعدَ الحنينِ لصلصالِ حوَّاءَ، بعدَ انطفاءِ النجومِ التي في دمي، بعدَ أن أقرأ المثنويَّ، وأغفو وحيداً على غيمةِ القمحِ، أفتحُ نافذتي كي تمرَّ طيورٌ مهاجرةٌ ورياحٌ خريفيَّةٌ لا تنادي على أحدٍ ضلَّ منذُ زمانٍ بعيدٍ، وأتركُ نايَ الرعاةِ لأغنيةٍ في الجبالِ، وأنسى الصدى في المرايا، وموجَ الهديلِ على غصنِ ليمونةٍ، والضبابَ على السطحِ، والأسطوانةَ والفيلمَ والوردَ في المزهريَّةَ واللغةَ السيميائيَّةَ والتبغَ والماءَ، من أجلِ أن أتقرَّى بكفيَّ حزنَ السكارى الوحيدينَ جدَّاً ووأقرأَ ما يكتبونَ هنا بعدَ منتصفِ الليلِ.
*
دومينو في الأحلام
لا حُمَّى تُغويني كي أتبعَها في هذا البردِ إلى المجهولِ، ولا حالةَ إغماءٍ تلكَ تجيءُ على هيئةِ راقصةِ الفلامنكو تهمسُ بكلامٍ أزرقَ بينَ حدودِ البحرِ وبينَ غموضِ الرؤيا، للعاشقِ أو للشاعرِ أو للبَّكاءٍ المتوجِّسِ من رائحةِ القرفةِ في الغزلِ العذريِّ ومن عطرِ العنقاءِ، ستنقصني موسيقى موتسارتَ لأُصبحَ رجلاً آخرَ لا تعنيهِ الهفواتُ ولا الأخطاءُ ولا تشعلهُ أو تطفئهُ امرأةٌ في الشارعِ، لا حُمَّى تغويني، لا تمثالٌ منسيٌّ تحتِ المطرِ الليليِّ يُشيرُ إلى حزني الأبديِّ، ولا أحتاجُ لأكثرَ من لغةٍ أتماهى في ألوانِ جسدها، أو أُسندُ رأسي في الليلِ على نعناعِ يديها، لا أحتاجُ لأنسى أو لأُحبَّ لأكثرَ من خمسِ دقائقَ أجمعُها وأُفرِّقُها كالدومينو في الأحلام.
*
في مثلِ هذا اليومِ
في مثلِ هذا اليومِ قبلَ روايتينِ طويلتينِ وصحبةٍ رعويَّةٍ لقصائدِ الأمطارِ، قبلَ علاقتينِ وزهرةٍ في السورِ تحرسُ ظلَّها وسرابها، قبلَ السرابِ وبرعمينِ تفتَّحا في الريحِ وانسلَّا من الفصحى ليمتحنا كلامهمها الطريَّ على مواجهةِ العواصفِ بالمجازِ وبالبلاغةِ كانت امرأةٌ بلا ندمٍ يعذِّبها ويسحبها برفقِ وصيفةٍ شرقيَّةٍ في الليلِ من يدها ومن غدها لتمسحَ عن زجاجِ الذكرياتِ غبارَ رغبتها القديمةِ أو تحجُّرَ كحلها عن محجريها كالنعاسِ الصلبِ، تطلقُ قهقهاتٍ دونَ معنىً حينَ تقرأُ في الظهيرةِ شِعرَ ييتسَ وحينَ ترفعُ نخبها لليلِ أو للأصدقاءِ، وفي قرارةِ قلبها رجلٌ وفي دمها اصطفاقٌ للخريف.
*
ظهيرةٌ بحريَّةٌ
تسكَّعتُ كلَّ الظهيرةِ في شاطئٍ مُمطرٍ، راكبو الموجِ يبتسمون لسربِ النوارسِ، والعابرونَ سراعاً يقولونَ: عمتِ صباحاً لحوريَّةٍ لا أراها ويمضونَ، بلَّلني الماءُ، بلَّلَ ظهري وساقيَّ، هل أتذكَّرُ أسطورةً عن قداسةِ ماءِ الشتاءِ؟ المطاعمُ خاويةٌ والشواطئُ إلَّا من العاشقينَ ومن راكبي الموجِ، في المطعمِ الآسيويِّ القديمِ كأنَّ الزجاجَ المطلَّ على البحرِ شفَّ وصارَ مرايا دواخلنا، ها هنا عابرٌ أجنبيٌّ يقولُ لسيِّدةٍ تتأمَّلُ في شاطئٍ مُمطرٍ: كم أُحبُّكِ.. كالبحر ،أعمقَ، أبعدَ، أعلى، وأجملَ من كلِّ شيء.
*
قمَرُ اكتمالِ السُهْد
أشتاقُ نبضَ يديكِ حولَ يديَّ، نبضُ يديكِ كالعصفور يخفقُ قلبُهُ ظمآنَ أو ولهانَ، لا أحتاجُ أدرنالينَ في هذا النهارِ لأنَّ شعلةَ جسمكِ المائيِّ توقدُ معنيانِ على الطريقِ وفي كياني، معنيانِ يتمِّمانِ رؤى الوصولِ إلى أُنوثتكِ اليتيمةِ، معنيانِ يفسرِّانِ خطايَ بالغيمِ الخفيفِ وبالسنابلِ، معنيانِ.. الأوَّلُ الحاني عليكِ حنوَّ أُمِّكِ أو أبيكِ على طريقِ رجوعكِ الجبليِّ، والثاني استدارةُ خصركِ الورديِّ مثلَ حديقةٍ في آخرِ الدنيا، فكيفَ إذن أحبُّكِ؟ كيفَ أشربُ ماءَ نثركِ أو سرابكِ في الظهيرةِ للقرارِ ولا أُحبُّ الكردَ؟ كيفَ وأنتِ منهم لا أحبُّ الكردَ يا عبَّادَ شمسِ الروحِ يا قمرَ اكتمالِ السُهدْ؟
*
قصيدةٌ عن ليلِ المعنى
لا سبيلَ لكي أُفهمَ الطارئينَ بأنَّ الطريقَ إلى ليلِ معنايَ أصعبُ من صخرةٍ أتأبَّطها كالكمنجةِ أو مثلَ سيزيفَ، هل ذرَّةُ الملحِ أكبرُ من وردةِ اليأسِ؟ هل وردةُ اليأسِ أصغرُ من وجعِ الماءِ في وترٍ لا يُرى في كمانِ الرياحِ، أعيدي لأكتبَ ما قلتِ لي اليومَ كي يصلحَ الشِعرُ ما أفسدَ الدهرُ، والأغبياءُ سأكنسهم واحداً واحداً بعدَ هذا النهارِ، أعيدي لأنسى الذي قلتِ لي يا صديقةَ قلبي، حياديَّةٌ أنتِ كالمسرحيَّةِ حينَ تخاطبُ شخصاً غريباً تأخَّرَ عن موعدٍ فتعثَّرَ بامرأةٍ وبحلمٍ قديمٍ، شتائيَّةٌ أنتِ مثلَ الرواياتِ، هل من سبيلٍ لكي لا تجوعَ أصابعنا لغناءِ الطيورِ؟ وهل من سبيلٍ لنمحو عن الرملِ رغوَ اشتهاءاتنا كي ندلَّ على بعضنا في الأساطيرِ أو في سرابِ الأسرَّةٍ؟ من يُفهمُ الآخرينَ بأنَّ الغصونَ التي تتشابكُ في الميجنا وبقايا الطلولِ لغاتٌ حريريَّةٌ يتعانقُ فيها الندى بالصدى القرمزيِّ وأغنيةٌ بالأصابعِ؟ من يُفهمُ الحالمينَ بأنَّ القصائدَ طينٌ لأقدامِ من عبروا من هنا؟
*
سأغسلُ وجهي بصوتكَ
(إلى الشاعر اللبناني زغلول الدامور)
شركٌ أنتَ لي، قدرٌ زاجلٌ، مطرٌ فيهِ ترقصُ شاعرةٌ من بقايا قبائلِ أفريقيا، ساحرٌ بارعٌ يرقصُ الأرزُ حينَ يغنِّي ويهدلُ، أو حينَ يصنعُ من خشبٍ مهملٍ زورقاً يتهادى المحبُّونَ في ليلهِ، وخواتمَ عُشَّاقهِ من حديدِ الحروبِ، نداءٌ على شجرٍ أنثويٍّ تناهى وغابَ، سأغسلُ وجهي بصوتكَ، لا ماءَ عندي، ولا دمعَ كي أستضيءَ بهِ، هل أُسمِّي نساءَكَ في الميجنا والعتابا التي من نحيبِ الجبالِ على امرأةٍ شَعرها طائرٌ في الأساطيرِ أو في كتابِ الأغاني، أو امرأةٍ خصرها شمسُ داليةِ العنبِ السكريَّةِ؟ يا عندليبَ الكنايةِ كيفَ أخذتَ من النايِ أطولَ أنهارهِ واستدرتَ إلى الخلفِ تحملُ عن كاهلِ المتعبينَ رذاذَ البنفسجِ أو ذكرياتِ الحروبِ؟ سأغسلُ وجهي بصوتكَ أو بصدى رفرفاتِ المواويلِ في سهلِ قمحٍ فسيحِ العناقِ، هنا انتبهتْ زهرةُ الليلِ لمَّا مددتَ لها غصنَ قلبكَ كيما تطيرَ إلى ظلِّها، وهنا نفضتْ كحلها وردةُ الحورِ واشتعلتْ وحدها في أعالي الكلامِ.
*
الحُبُّ خبطُ خطىً
الحبُّ خبطُ خُطىً على وجهِ البحيرةِ، نقرةٌ أو نقرتانِ على الزجاجِ، ظهيرةٌ ورديَّةٌ، وقصيدةٌ في الصبحِ، نحلٌ في الأصابعِ والضلوعِ، ولعنةٌ أبديَّةٌ تأتي على كبَرٍ، وسبتٌ هادئٌ أو ممطرٌ، أو ربَّما لا شيءَ، محضُ فقاعةٍ بيضاءَ صابونيَّةٍ، أو رقصةٌ ليليَّةٌ في البارِ، أو شمعٌ يضيءُ الكهرمانَ وعتمةَ الـتأويلِ لامرأةٍ على بوليوودَ تخرجُ من ستائرِ شهوةٍ مثلَ الفراشةِ، أو تُعيدَ الماءَ للمرآةِ والزبدَ المنافقَ للرمادِ وللمَحارةِ، ناوليني خيطَ قلبكِ يا ابنةَ العنقاءِ يا امرأةً على بوليوودَ أو طرفَ العبارةِ، واحمليني فوق أمواجِ الضفائرِ والنداءِ العذبِ في نهرِ المرايا.
*
أُنشودةُ أوديسيوس
أمامي مدى البحرِ، حوريَّةٌ من ايثاكا تغنِّي لأتبعها، وأمامي ربابةُ هوميرَ منقوشةً فوقَ خصرِ الغزالةِ بالزعفرانِ، أمامي كتابُ السرابِ وبحَّارةٌ ينزلونَ، وخلفي الحرائقُ والوقتُ والذكرياتُ الحرونُ، ولا شيءَ في البالِ، لا موجَ في آخرِ السطرِ، لا نثرَ يأخذني من يدي، البحرُ مرآةُ من لا مرايا لهُ، وهو نصفي المسائلُ والمتردِّدُ، نصفي النهاريُّ، شعلةُ روحي، ولا طيرَ خلفي سوى الريحِ، لا ريحَ خلفي هنا، من أنا لأُربِّي الصدى في جرارٍ من الطينِ أو في المَحارِ لأُبصرَ صوتي وأنسى وأحفظَ عن ظهرِ قلبٍ طريقَ الحنينِ؟ وكيما أدُلَّ الذئابَ على قلبِ أُنثى وأمحو الظلالَ، هنا لا ظهيرةَ لي، لا زنابقَ تنمو على مهلها في القصيدةِ أو في أصابعِ احدى اللواتي عبرنَ مصادفةً من نشيدِ الأناشيدِ حتى ضفافِ المراثي الحديثةِ، لا خيطَ ماءٍ ألفُّ بهِ قدمي أو يدي في طريقي لبنلوبَ، لا حجرٌ أحتمي خلفهُ من غناءِ العذارى، ولا قمرٌ ساحليٌّ يدلُّ على امرأةٍ وحدها، الشعراءُ يتامى استعاراتهم، وندامى وحيدونَ حتى الأبدْ.
*
كأني مخلوقٌ من ضلعِ امرأة
ليتَ لي طائراً بدلَ القلبِ أو غيمةً بدلَ الروحِ بيضاءَ من دونِ ضوءٍ، على رسلها تقتفي أثرَ الريحِ، يا ليتَ لي ما تريدُ النساءُ من الكحلِ والماءِ، قلتُ لخلخالِ أُنثى: انتبهْ للزمانِ وإيقاعهِ، ولساقيةٍ في الربيعِ: اتبعيني إلى أينَ شئتِ، فقالتْ فتاةٌ لأشباحها في ظلامِ الشتاءِ: أُتركوني ويأسي، هنا يتدَّثرُ قلبي بأوجاعهِ في السريرِ كقطٍّ صغيرٍ، هنا توقدُ النجمةُ الساحليَّةُ حبري وشمسي، هنا يتراكضُ ظلُّ الثعالبِ ما بينَ ليلٍ طويلٍ يضيءُ هبوبَ أغاني الرعاةِ على الرغبةِ الأنثويَّةِ أو جهةِ البحرِ في ثوبِ إحدى النساءِ وبينَ سرابي وحدسي.
*
ذهبَ الذينَ تحبُّهم
ذهبَ الذينَ تحبُّهم، ذهبوا، وبعضٌ لا يزالُ يساومُ الدنيا على حجرِ ابتسامتهِ، أو امرأةً على خبزِ الحنينِ، فهل سُدىً فسَّرتَ نصفَ الحلمِ أو قشَّرتَ نصفَ البرتقالةِ في الظهيرةِ دونَ أن تنصاعَ للحرفيِّ والضمنيِّ، هل ذهبوا؟ هل انطفأوا كبعضِ الذكرياتِ، وكالصدى ذابوا فصدَّقتَ السرابَ ولغوَ فلسفة الجمالِ وما تقولُ حبائلُ الشيطانِ للغاوينَ؟ صدَّقتَ السرابَ كأنهُ رؤياكَ فاصعدْ هوَّةَ النسيانِ من أقصى دمائكَ واحترقْ لتضيءَ دربَ الحالمينَ ولا تثقْ بخطاكَ فوقَ الماءِ أو بخريفكَ النثريِّ مثلَ قصيدةٍ زرقاءَ من فرطِ التشَّهي، لا تثقْ بالماءِ حينَ يمرُّ من وجعِ العبارةِ، لا تثقْ بالمرأةِ / الأفعى ولا بفحيحِ رغبتها الذي يبكي مع الناياتِ، فلتذهبْ وراءَ الريحِ سهماً في الظلامِ يئنُ، ولتشربْ ثمالةَ كونها امرأةً لكي تشفى أنوثتها من التحديقِ في الماضي، فما دامَ الذينَ تحبُّهم ذهبوا ستبقى في ظلامِ الليلِ وحدك.
*
في غرفتي مطرٌ
في غرفتي مطرٌ وشمسٌ تشربُ البنَّ المعطرَّ، فوقَ سطحِ البيتِ ضوضاءٌ مرتبَّةٌ كما لو أنَّ جمعاً للهنودِ الحمرِ يحتفلونَ رقصاً في الأعالي، قلتُ في نفسي: سأرسمُ في المدى فزَّاعةً وعلى يدي طيراً تطاردهُ الظلالُ ولا مفرُّ، وقلتُ في نفسي سأهجسُ أنني أمحو حدودَ الأرضِ بالرقصِ القصيرِ وبالغناءِ، فربَّما يتداخلُ الروحيُّ في الجسديِّ أو يتعانقُ المتخاصمانِ لبرهةٍ في الشارعِ الليليِّ، أو احدى نساءِ الحيِّ تمسحُ عن ضفيرتها غبارَ تنهدِّ المحبوبَ أو ما ظلَّ فوقَ الوجهِ من مسحوقِ قبلتهِ، وتتركُ في الجدارِ نيابةً عني فراشتها وتنفخُ في تلابيبِ الهواءِ قصيدةً سريَّةً وعلى المرايا لهفةً محفورةً بأظافرِ امرأتينِ أو بتموُّجاتِ الظلِّ في نيسانها العاري، وتمزجُ ماءها بالسهدِ والسهرِ المجنَّحِ كلمَّا طارتْ زنابقُ في حديقتها إلى الأعلى، أو انطفأتْ جهاتٌ لا تقودُ الحائرينَ إلى يديها.
*
لا تجرح امرأةً
لا تجرح امرأةً ولا رجلاً غريباً عنكَ بعدَ اليومِ، لن تنساهُ إن صادفتهُ في الشارعِ الشتويِّ كالضلِّيلِ، أو في المطعمِ الشرقيِّ يلتهمُ الفلافلَ ساهمَ العينينِ في ذاكَ الصباحِ وحائرَ القلبِ الوحيدِ أو الملوَّعِ، ثمَّ جاءكَ نعيُهُ بعدَ الظهيرةِ، ما الذي ستقولُ عنهُ؟ وما الذي ستحسُّ فيهِ؟ الناسُ لو فكَّرتَ فيهم لحظةً ستغيِّرُ الأفكارَ عنهم، ذلكَ المسكينُ كيفَ قضى حزيناً نحبَهُ ومضى على عَجَلٍ؟ من البشرِ الحياديِّينَ كانَ، أظنُّهُ لم يعشقْ امرأةً يقولُ لها: اغسلي وجهي بوجهكِ لا بزنبقةِ الندى، أو مسدِّي شَعري بثغركِ أو بخصركِ، أو تماهي في الضبابِ الأنثويِّ، فلم يزلْ أيَّارُ يسكنُ في خيالاتِ النساءِ وفي قصائدهنَّ، لكن لم أجدْ أيَّارَ حينَ صحوتُ من حلمِ الحياةِ ولم أجدْ أنثايَ، لا.. لا تجرح امرأةً وإن جرحتكَ، فالشعراءُ كالبشرِ الحياديِّينَ، لا يتورَّعونَ عن الحنينِ إلى السرابِ وعن مقايضةِ النساءِ وطعمِ فاكهةِ الأنوثةِ بالسجائرِ والشرابِ، وربَّما لا يكتبونَ سوى لمن لا تستحقُّ، وربمَّا لا يعشقونَ سوى نساءٍ متنَ من زمنٍ بعيدٍ في الحقيقةِ والمجاز.
*
وُلدتُ لأجعلَ من جسدي حوضَ ورد
(وُلدتُ لأجعلَ من جسدي حوضَ وردٍ، ومن زفراتي سنابلَ أو طعمَ لوزٍ على شفتيْ رجلٍ)
غنَّت امرأةٌ.. فتنكَّبتُ عن صوتها المتوهِّجِ في الليلِ كيْ يستضيءَ بهِ شبقٌ ضائعٌ في الفلاةِ وفي المطرِ الاستوائيِّ.. كوني حياديَّةً يا شفاهي إذا ما قرأتِ كتابَ الندى، فالنساءُ اللواتي يقطِّرنَ ماءَ اشتهاءاتهنَّ بأجسادهنَّ
يُصبنَ بلعنةِ معنى الجمالِ وسرِّ احتمالاتِ أقسى الحروبِ، وكالأُخرياتِ يسمِّينَ فعلَ الوقوعِ المحيِّرِ في الحبِّ
خبطَ الفراشاتِ ملءَ القلوبْ.
*
كتابُ الوجوه
أفتحُ سِفر الحياةِ الجديدةِ أو ما يُسمَّى مجازاً كتابَ الوجوهِ، لكي أتفقَّدَ من ظلَّ حيَّاً من الأصدقاءِ، ومن ماتَ، حتفَ الحروبِ وحتفَ كوابيسهِ، واستقالةِ عينَيْ حبيبتهِ من كتابِ الندى، ويديهِ من الأرضِ أو من معانقةِ المشتهى قبلَ أن أشربَ الشايَ وحدي، وأفتحَ نافذةً للكلامِ الخصوصيِّ جدَّاً مع النفسِ، تنقرُ خاصرتي دمعةُ امرأةٍ في البريدِ: (أتكتبُ من أجلِ عَينيْ فلسطينَ؟).. من صوتها كانَ يأتي خيالُ فلسطينَ مثلَ بدايةِ حُبٍّ ومثلَ النعاسِ البريءِ، يضيءُ بليمونهِ القمريِّ دمي وشفاهيَ والساعدينْ.
*
لا تجرحي الماءَ
لا تجرحي الماءَ في المزمورِ.. قلتُ، فلم تفهمْ مجازي سوى ريحٍ تعلِّقُ قمصانَ الغناءِ على سروٍ تكابدُ معناهُ الطيورُ سُدىً في الليلِ تحملهُ إلى خريفٍ بعيدٍ.. هل نسيتُ يدي في ثوبِ عبَّادِ شمسٍ في الظلالِ؟ وهل نسيتُ مفتاحَ قلبي في يدِ امرأةٍ من الشمالِ لها جسمٌ كعاصفةٍ من الورودِ ومن دمعِ السنابلِ..؟ لا تُحمِّلي لغتي ما لا تطيقُ.. ولا تفسِّري عطشَ الصلصالِ فيكِ بأنهارٍ يجرِّدُها صيفٌ من القُبَلِ.
*
بالحدسِ أكتبُ نثراً عن الحُبِّ
بالحدسِ أكتبُ نثراً عن الحُبِّ والريحِ، أشطبُ أوَّلَ هذي القصيدةِ بالحدسِ، أذهبُ فيما وراءَ المعاني وأشربُ بالضوءِ أو بالعبيرِ المكثَّفِ قهوتيَ العربيَّةَ، أندبُ حظَّ المساكينَ في وهجِ هذي الظهيرةِ، أعرفُ من سوفَ تفتحُ لي قلبها، حينَ أضربُ بحرَ أنوثتها بعصايَ التي يتوَّكأُ شعبٌ من الشعراءِ عليها، وبالحدسِ أجهلُ تفسيرَ معنى العناقِ.
*
شكراً لنوَّارِ ليمونةٍ
ستصبحُ حُرَّاً إذا ما استطعتَ التخلِّي عن الأمسِ، أو قلتَ شكراً لنوَّارِ ليمونةٍ واعتذرتَ لمن عذَّبتكَ مراراً بلا سببٍ، وتركتَ زنابقَ ذابلةً في شقوقِ جدارٍ قديمٍ، ستصبحُ حُرَّاً إذا ما استطعتَ البكاءَ على ركبةٍ امرأةٍ خنتها، وستصبحُ حُرَّاً إذا ما تنشَّقتَ ثوبَ حديقتها كالغريبِ، ستصبحُ حُرَّاً إذا ما استطعتَ إدارةَ ظهركَ لامرأةٍ كنتَ أحببتها.