بعض الروايات تمتلك ثراء مدهشا، وكأنها طبقات من الأسئلة، ومن مستويات التلقى والتأويل، ومع ذلك لا تتنازل عن جماليات الرواية، من براعة السرد، وقوة النماذج البشرية، وتماسك البناء، ليخرج المعنى، من قلب الرحلة.
من هذه النوعية رواية «كرافت»، للراوائى السويسرى يوناس لوشر، التى صدرت ترجمتها العربية عن دار العربى للنشر والتوزيع، وترجمها د. معتز المغاورى. تضرب هذه الرواية المدهشة فى كل الاتجاهات، فتمتزج الفلسفة بالاقتصاد بالسياسة بالتاريخ، لتقول بذكاء أشياء مهمة جدا، عن عالمنا اليوم، الذى تطور ماديا وتكنولوجيا، وفتح أمامنا نوافذ واسعة على المستقبل، ولكن: هل حقا كل شىء على ما يرام؟ وهل يمكن أن يصبح المستقبل أفضل بالفعل؟
«ريتشارد كرافت» بطل الرواية، عالم لغويات ألمانى، يسافر إلى الولايات المتحدة للمشاركة فى مسابقة طرحها مليونير أمريكى، جائزة المسابقة مليون دولار، إجابة «كرافت» بصورة ترضى المليونير، وتتفوق على إجابات المنافسين، ستتيح لأستاذ اللغويات، أن يحل مشكلاته المادية، وأن يتحرر من زواجه الثانى، ويوفر نفقات انفصاله عن زوجته وابنتيه التوأمان.
أما السؤال نفسه؛ فهو معضلة فلسفية نقلها يوناس لوشر من ميدان الفلسفة إلى ميدان الاقتصاد والتكنولوجيا: الفيلسوف ليبنتز كان يرى أن عالمنا هو أفضل العوالم الممكنة، وفسر كيف يمكن أن يوجد الشر فى العالم رغم وجود الله، الآن سيكون على كرافت أن يجيب عن سؤال يفترض من البداية أن عالما انتصرت فيه الرأسمالية المتوحشة، يمكن أن يكون أفضل العوالم الممكنة، رغم تلك الشرور التى قد تنتج عن التكنولوجيا، وعن المجتمع الاستهلاكى، وعن غياب المشاعر، وفقر العاطفة، وانسحاق الفقراء.
مثلما سخر فولتير من مقولة أن عالمنا هو أفضل العوالم الممكنة فى روايته الشهيرة «كانديد»، فإن لوشر الماكر يسخر بقسوة من أحلام الرأسمالية المدعمة بالتكنولوجيا، كرافت نفسه سيكون الضحية، هو الذى انحاز دوما للرأسمالية، والذى احتفل بتوحيد ألمانيا، وسقوط الاشتراكية، سيجد نفسه مضطرا للإجابة عن سؤال، يؤكد من البداية أن كل شىء على ما يرام، فقط من أجل مليون دولار، تحل له مشكلاته..
موضع السخرية أيضا أن رحلة «كرافت» ليعيش بالقرب من قلعة التكنولوجيا فى وادى السيليكون، وحياته الفاشلة مع ثلاث نساء، وعلاقته المشوشة مع أولاده، كل ذلك يؤكد أن كل شىء ليس على ما يرام، وأن هذا التطور خلق شرا لا يمكن التكيف معه، وأن هذا الشر سيؤدى إلى الإنهيار.
يدفع كرافت ثمنا باهظا لأنه اعتقد أنه يمكن حل قضية معقدة بإجابات سهلة، ولأنه ظن أن الرأسمالية هى نهاية التاريخ، يتحول سؤال مسابقة المليونير إلى مواجهة من كرافت لنفسه، لتاريخه ولفشله، ولسنوات التحول فى ألمانيا، قبل وبعد الوحدة، ينتقل لوشر ببراعة بين الحاضر والماضى، من ألمانيا إلى أمريكا، تجد الفكرة تنويعاتها المذهلة بالمقارنة بين تشاؤم أوروبا القديمة، ونظرتها العميقة، وبين تفاؤل أمريكا الجديدة الساذج، يبدو إنسان وادى السيليكون متجها إلى كارثة، ويجسد لوشر هذه النهاية فى خيال بطله، حيث تتحطم سان فرانسيسكو بالزلازل وموجات تسونامى.
هذه الرواية العظيمة من أفضل ما قرأت فى السنوات الأخيرة، وهى امتداد لتحذيرات يوناس لوشر فى روايته الأولى «ربيع البربر» من توحش الرأسمالية، ولكن «كرافت» أكثر براعة وتعقيدا، إنها رواية ضد التبسيط الأحمق، وضد التفاؤل المغرور، وهى جرس إنذار، أكثر منها نظرة تشاؤم.
كرافت» فى الواقع هو الإنسان المعاصر الذى يحمل أسئلة وجودية معلقة، كل ما حوله يقول إن كل شىء ليس على مايرام، بدأ «كرافت» حياته بطوفان من الأحلام والحماس، ولكن ما يبقى فى ذاكرتنا هو هيئته فى منتصف الرواية، وهو يقف عاريا وسط الماء، بعد أن فقد القارب والمجداف والموبايل، بينما تنظر إليه كلاب البحر نظرات ساخرة
كيف تخيل هذا الرجل أنه يمكنه إثبات أن كل شىء على ما يرام؟