للمرة الرابعة يطل علينا الأديب الواسطي زهير البدري بمجموعة شعرية أسماها "سأموت واقفا"، وهي من شعر النثر الذي أدمن عليه البدري، ودافع عنه بضراوة، إلى درجة أنه بدا يقرأ كل ما كتب ويكتب عنه، ليُكوِّنَ فكرة تمكنه من أن يدافع من خلالها عن معشوقه.
وللمرة الرابعة بدت عنوانات البدري غريبة، مستفزة، نافرة، مشاكسة، ناعمة أحيانا وخشنة في أحيان أخرى إلى حد التطرف؛ ابتداء من عنوان المجموعة، وصولا إلى عنوانات القصائد والمقطوعات.
والملاحظ هنا أني استخدمت جمع (عنوانات) بدل (عناوين) الشائع لأن هناك خلاف في استخدام هذا الجمع، وقد ذهب المختصون إلى أن (عنوانات) صحيح اتفاقا، وأما استخدام الجمع بصيغة (عناوين) ففيه نزاع وعدم اتفاق، والأكثرون يذهبون إلى أنه خطأ شائع؛ لأن العنوان في الأصل مصدر. وقد اشتقت (العنونة) من هذا السجال الجميل، وبرزت إلى الوجود بعد أن اهتم بها المتخصصون. ونحن هنا نسير على أثرهم لنتحدث عن العنمونة لدى الأديب الواسطي زهير البدري.
لقد ضرب البدري في سياق مجاميعه الأربع مثلا على أهمية العنونة، وأحقية الانشغال بها، والاشتغال عليها، وهذا يؤكد لنا أن انتباه الأوربيين إلى أهمية عنوانات الأعمال الأدبية والإبداعية كان مجرد سبق تاريخي لا أكثر، وألا فالعنونة كانت مهمة وملهمة وتحظى بالاهتمام منذ أن وُجد الكتاب، وفي تراثنا العربي هناك آلاف المؤلفات التي صيغت عنواناتها بكثير من الاهتمام والعناية والتقدير، بما يعني أن أجدادنا عرفوا أهمية العنونة، وأجادوا استغلال الفرص للإفادة منها، أما اهمالنا لها، فهو جزء من الاهمال العالمي؛ الذي تعرضت له على مدى سنين طوال، إذ لم تحظى العنونة بالرغم من أهميتها بالاهتمام مرة أخرى حتى في العالم الغربي إلا في عام 1968 بعد أن صدرت دراسة بعنوان "عناوين الكتب في القرن الثامن" تقدم بها عالمان فرنسيان؛ هما فرانسوا فروري وأندري فونتانا من خلال كتاب مثل باكورة الأعمال النقدية التي تهتم بالعنوان. والظاهر أن تكرار التحشيدية لدى الأدباء والشعراء دفع النقد الحديث إلى الاهتمام بظاهرة العنونة، ففتحها مجالا للنظريات اللسانية والسيميائية بعد أن أصبح العنوان موضوعاً رئيسياً له أثره في المنتج الفكري الإنساني، وليس هامشياً كما كانوا ينظرون إليه من قبل، فالعنوان وفق الرؤى النقدية الحديثة يعتبر عتبة من العتبات النصية، إذ اعتبر النقد المعاصر أن موازيات النص مثل العنوان، التمهيد، المقدمة، الحواشي هن العتبات الأساسية للدخول إلى ردهات النص والتمتع بما جاء فيه من رؤى.
من هنا أرى أن العنوان هو اللحظة التنويرية المبدئية لفحوى النص، والبوابة الرئيسية التي تفتح النص على الجهات الكونية الأربع، والنقطة المشتركة بين المتلقي والنص. ويعني هذا أن العنونة فن لا يقل أهمية عن صياغة النص نفسه، فهو واجهته، والممهد لسبيل سيره، والمعلن عن وصوله، والداعي إلى استقباله، وللعنونة خصوصية وأهمية تصل أحيانا إلى درجة التحكم بالنص، فهي التي تدفع بالنص إلى الواجهة، وهي التي تحجب النص عن الأنظار، وتضع بينه وبين المتلقي حجابا في أحيان أخرى.
إن أهمية العنوان تأتي من كونه يحدد مغزى المتن، حتى أن قيمة المتن الأدبية تنخفض وتكاد تتلاشى مع عدم وجود عنوان، والعنوانات أنواع منها الايحائية؛ التي تهدف إلى لفت الأنظار إلى أمر خارج سياق العنوان نفسه، والاستهلاكية أو الإغرائية؛ وهي التي تنضوي على كم من الخداع بغرض الترويج للنص، والاستفزازية؛ وهي التي تعمل على التأثير على المتلقي، والتوضيحية؛ وهي التي تريد توضيح مقاصد النص، والتعينية؛ وهي المسؤولة عن تسمية العمل الأدبي، لتفرق بينه وبين الأعمال الأخرى.
إن عنوان العمل الأدبي الرئيس يدل غالبا حتى ولو عن طريق الإيحاء والسيموطيقيا على جميع العناوين الثانوية الداخلية، ولكل عنوان بواعثه وأسبابه ودوافعه وغاياته. فنظرا للطبيعة الدلالية للعنوان على أنساق العلامات والأدلة والرموز، سواء أكانت طبيعية أم صناعية، نراه يشغل حيزا كبيرا من علم العلامات أو السميوطيقا في دنيا الاتصال الأدبي، سواء بين مكونات النص الواحد، أو بين المنتج والمتلقي، ولا أغالي كثيرا إذا ما قلت إن المبدع يعطي لكتابة العنوان من الأهمية والاهتمام ما يعطيه للنص ذاته وربما أكثر، فمقاصد العنوان أن يفتح لك كوة تطل من خلالها على ما بين دفتي الكتاب، فالمعروف أن هناك هوة فاصلة بين المتلقي والعمل ، أي عمل؛ يقع بين يديه، لأنه لا يدري علام سيطلع، وماذا سيواجه داخل الكتاب، وهو حينما ينشغل بقراءة العنوان والتمعن في معناه ومقصداه ستتحول هذه اللحظات إلى مرحلة إحماء وتهيئة لدخول عالم النص، وربما لهذا السبب نجد من يكتب عن شعرية العنوان، حيث عثرت على أطروحة دكتوراه بعنوان "شعرية العنوان في الشعر الجزائري المعاصر" تقدمت بها الطالبة مسكين حسنية إلى جامعة وهران -السانيا- كلية الآداب واللغات والفنون.
وهنا تتجلى أهمية لعبة العنوانات ولعبة فن العنونة. حيث تتضح الفكرة من العنوان كقيمة اصطلاحية مدياتها واسعة، تفتح الآفاق وتقرب المسافات وتهيء العقول لتجني ما تبحث عنه لأنه وسيلة الاتصال الأولى لكل باحث عن سبل لإقامة علاقة فكرية واتصال نوعي بين كيانين يختلفان كليا، بين القارئ والمبدع.
من هنا جاءت عنوانات البدري متساوقة مع مضمون مجاميعه بدءً بالمجموعة الأولى (إننا معا) ثم الثانية (طقوس صوفية) والثالثة (حوار مع صديقي المتوسط) والرابعة (سأموت واقفا)، فهو من خلال كل هذه المجاميع كان يتماهى مع سحر العنونة، ليختار من حدائقها الأجمل والأكثر قربا لروح النص، لذا لا غرو أن تجده في مجاميعه كلها يتحدث عن الروح والزمان والمكان والمشاعر وبشكل متكرر، لكن بصيغ جديدة مبتكرة، ولقد رصدتُ هذا التوجه في نتاجه منذ مجموعته الأولى التي تجد عنواناتها قد احتلت أربع قواعد رئيسة وقواعد فرعية أخرى، والرئيسة هي: المشاعر، الروح، الزمان، المكان، ففي عنونة المشاعر تجد في المجموعة الأولى: انتظار، زيارة، أردت أن أكتب عنك، الإخوة الأعداء، وعشرات العنوانات الأخرى التي تكررت من حيث المحور ولكن باختلاف المعنى في المجاميع الأربع.. وكذا في عنونة الروح: الدنيا محبة، ممكن، آخر الكلمات، نصيحة، حلم وأمل.. وفي محور الزمان: سفرة ،هل فات الميعاد، بعد كل وداع، وقت ضائع، زمن.. أما في محور المكان فتجد: طني، الجنة، دمشقية، شرقيون، مكانك قلبي.
إن للعنونة لدى الأديب زهير البدري بوارق أمل تتممها براعة المقطوعات النثرية لتكون ألقا ساميا يرقى إلى مواشجة عذوبة الروح وعذاباتها، حيث تمتد معاناة الجميع، جميع الباحثين عن أمل بغد مشرق سعيد، ولقد احجمت عن إيراد مقاطع من نصوصه، لكي أترك للقراء متعة المتابعة والقراءة والتفاعل.
مجموعة سأموت واقفا، صدرت عن دار المثقف للطباعة والنشر في بغداد وتضم 49 نصا من شعر النثر، وتتوفر الآن في المكتبات.