في رائعته الصادرة ترجمتها حديثا عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، بتوقيع المترجم المصري أحمد عبد اللطيف، بعنوان "الأشياء تنادينا" يرد الكاتب الإسباني خوان خوسيه مياس الاعتبار لفن القصة القصيرة، الذي هو بالأساس نواة السرد، وأقدم فنون الكتابة الأدبية، التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر.
قبيل القرن التاسع عشر شهد تاريخ الآداب الغربية عدة محاولات لكتابة القصص القصيرة، لكنا كانت قصصا قصيرة من ناحية الحجم، لا من ناحية الشكل، وكانت أولى هذه المحاولات في القرن الرابع عشر في روما، داخل حجرة فسيحة من حجرات قصر الفاتيكان كانوا يطلقون عليها اسم مصنع الأكاذيب، اعتاد أن يتردد عليها بعض سكرتارية البابا، وأصدقائهم للهو، والتسلية، ةتبادل الأخبار، وكانوا يكخترعون النوادر الطريفة عن رجال ونساء إيطاليا، أتذكر في هذا المقام ملحمة "الديكاميرون" للكاتب الإيطالي جيوفاني بوكاشيو، التي تتآلف من مجموعة من القصص القصيرة، يرويها عدد من الشباب والشابات، الناجين من طاعون ضرب بلدهم
في مجموعة الأشياء تنادينا لخوان خوسيه مياس، هناك قصص مبهرة، تحبس الأنفاس، وتأسر الألباب، وهناك رشاقة مثيرة للإعجاب، رشاقة في الحكي، والقص، وإجادة جميلة في التعامل مع الخيال والفانتازيا، وانحياز واضح للتجريب، بل يعلمنا مياس في هذه القصص أسس التجريب والتحليل النفسي، والغوص في الأنفس البشرية والتعامل معها.
هناك قصص تتناول الأفكار الغريبة والمثيرة، عن الطفولة، والعائلة، والعلاقات الزوجية، لكن الطابع الفانتازي مهيمن على المجموعة في القصة الأولى "الميتة" هناك شخصان يراقبان سيدة، ويقول أحدهم للآخر عنها: انظر إليها، إنها ميتة.
هكذا يقبض مياس على أنفاس قارئه منذ القصة الأولى في المجموعة، وفي قصة أخرى بعنوان سيدات ضخمات تدور الأحداث عن الأم التي تستخرج المعاطف قبل الشتاء، وتوصي أبنائها بأن ينظروا جيدا في الجيوب فربما يوجد أقزام، وقد يتعرضوا للإيذاء.
وفي قصة زيت خروع وتصوف، هناك أم تمنح أطفالها جرعة زيت خروع كل صباح إذا وجدت ألسنتهم قذرة، القصة مروية على لسان ابن من الأبناء، الذي كره هذا التقليد الذي تتبعه أمه، ويحكي عن شقيقه الذي كان يتناول جرعة الزيت بدلا منه، ثم بعدما مات الشقيق صار يتناول جرعتين، جرعة له، وأخرى للشقيق المتوفي.
لا يمكن اختصار القصص وأفكارها بهذه البساطة، لكن هناك دفق إنساني في كل منها، ورغبة في إثارة المشاعر الإنسانية المرتبطة بالأخوة، وبالأسرة، وهناك قصص عديدة عن الأزواج، منها قصة الأرملة التي تخشى التخلي عن ثياب زوجها، وتخشى الاحتفاظ بها، كي لا تتلوث ملابسها برائحة ملابسه، فدولابها تفوح منها رائحة جنازة، وسريرها صار نعشا.
هناك قصص أخرى فانتازية وعميقة المعنى عن الحياة، والخواء الذي نعيشه، من ذلك قصة "عندما لا يحدث شيء" وهي القصة التي في ظني تقترب من قامة رواية عظيمة، فتدور أحداثها عن انخفاض الجرائم في بلد من البلدان إلى درجة التلاشي، ووقتها يبدأ ضباط الشرطة في القلق، وتتحدث الصحف عن الظاهرة ويشعر الضباط بالحرج، هل دخل الإجرام في إضراب مفتوح؟.
قصص خوان مياس شديدة الامتاع، يقول مترجمه أحمد عبد اللطيف في مقدمة الكتاب أنه أحد أهم كتاب إسبانيا في الأربعين عاما الأخيرة، إذ استطاع الكاتب الذي يطلقون عليه كافكا الإسباني أن يغير مسار السردية الإسبانية بمنحها كثيرا من الخيال والغرائبية، وبتطعيمها بجماليات فنية، لم تعرفها من قبل.
وُلد مياس في مدينة بالينثيا الإسبانية عام 1946، وانتقل مع عائلته إلى مدريد، وهناك عاصر سنوات الحرب الأهلية، التي دمرت بنيتها التحتية، وأورثتها الفقر والرعب، عاصر مياس حكم الديكتاتور العسكري الجنرال فرانكو، عن هذه السنوات القاسية قال مياس: إن البرد الذي دخل في جسدي لا يمكن أن يخرج أبدا
انتمى مياس إلى جيل 68 وهو الجيل الذي يضم أهم كتاب الأدب الإسباني الحالي، خابيير مارياس، وإنريكي بيلا ماتاس، وارتبط اسم الجيل بالتمرد الطلابي الذي انطلق في فرنسا في مايو 68، ورفع شعارا يساريا في مواجهة الاستهلاك.
جريدة صوت الأمة.