أصبح من المألوف في السنوات القليلة الماضية، تحول الكثير من الشاعرات والشعراء من الشعر إلي الرواية، حيث أصبحنا بالفعل في "زمن الرواية"، وقد كان التحول – في معظمه – تحولا جذريا، بمعني أن الشاعرة أو الشاعر، هجر الشعر بتقنياته، وذهب إلي الرواية بتقنياتها. أما الجديد في الأمر، ان يتحول الشاعر إلي القصة القصيرة، التي بالفعل تتعافي من تلك الأزمة التي عانت منها منذ سنوات قليلة، بتأثير ما سُمي بال ق. ق. ج. أو القصة القصيرة جدا،. والجديد كذلك أن يتحول الشاعر إلي القصة القصيرة، حاملا معه قصيدته، مستخدما تقنياتها، المتمثلة في الصورة والرمز والرؤية المكثفة، وعمقها، خاصة قصيدة النثر، ليعمل بها في مجال القصة القصيرة. و هكذا يمكن قراءة هذه العناصر في أول تجربة – فيما أعلم – في تجربة الشاعر أسامة جاد، في محاولاته القصصية في مجموعة "صباح مناسب للقتل"[i] والتي غلب عليها رؤية الصباح، بمعناه العام، ليشمل صباح العمر في الإنسان، أو طفولته، حيث تمثل المنطقة البكر، التي هي منبع لا ينفد من البكارة، للمبدعين عامة، وللشعراء خاصة. مثلما تطالعنا أولي قصصة المجموعة "قال (مو) .. وأشار بيده"، والتي تسير بالإنسان، علي الوجه العام، لتشمل الإنسانية، عندما كان يعيش الكهوف وينقش الأشياء والأسماء عي الجدران، وعندما كان طفلا، كان المفترض أن أول ما ينطق به (ما) لتشير إلي الأم أو الحنان، وربما إلي الماء، أو الحياة، غير أن إحتكاكه بالأرض والكائنات من حوله، حولت (ما) إلي (مو) وهو يشير بيده، حين كانت الإشارة هي اللغة، ولتتحول فيما بعد إلي (عو) ويسير به الزمن إلي أن يصبح له أولاد ويحكي لهم عن المو، و أصبحت الأم، كل، أم تحذر زوجها من (المو) وتحذر ابنها سرا من ال(العو).
ومثلما كان للقتل نصيب في العنوان، كان له نصيب كبير-أيضا - في المجموعة، حيث نشأة الكاتب الصعيدية، بما عُرف عن الصعيد من سهولة القتل، أخذا بالثأر. وهو ما يتجلي بصورة كاملة الوضوح في قصة " كانت رائحة شر في الهواء المذعور". كما تنوعت المجموعة بين القصة القصيرة، بمعناها المتعارف عليه، إلي جانب محاولاته في كتابة القصيرة جدا، حيث أُسقِطُ كلمة قصة، متعمدا لا سهوا، ولا إختصارا. وفي الحالتين إعتمد القاص فيهما علي الحذف والتكثيف، فخلت كل القصص من الحشو أو من الزيادة، بل وصلت الفراغات فيها لحد يجعل القارئ يفكر طويلا قبل إجتياز تلك الفراغات بحثا عن طرق الوصول للرؤية الأقرب للحدث، إن كان ثمة حدث. فقد قامت القصص كلها - تقريبا – علي الصورة الشعرية التي تمثل موقفا معينا، أو رؤية معينة للحياة، مستخدما لغة الشعر الإيحائية، والتي تُرغم القارئ علي المساهمة في تكوين خط السير، الذي معه يمنح القصة الحركية، وهي الفارق الأكبر والأهم في تحديد الفوارق بين القصة القصيرة، وما يسمي بالقصيرة جدا.ليقدم لنا في النهاية، وعبر رحلة بين قصص المجموعة ما يصل به حد الإشباع الفني المريح. كما أنه علي الرغم من عنونة قراءتنا ب (الزمن)، إلا أننا باستثناء ثلاث قصص، تحديدا، فقد خلت القصص من الزمن المحدد، وبات الحديث عنها، أو الإحساس به في المطلق.
وإذا كانت المجموعة قد استعارت عنوان إحدي قصصها، إلا ان الكاتب قسم مجموعته إلي ثلاثة عناوين فرعية، علي رأس مجموعة من القصص، وهو أيضا عنوان إحدي قصص هذا العنوان. وبالبحث عن أسباب هذه التقسيمة، لم أتبين كنه السبب تحديدا، حيث ضمت كل تقسيمة، ذات الموضوعات ( الزمن والقتل)، وكذلك من الناحية الشكلية، ضمت كل مجموعة ما يمكن أن يندرج تحت مسمي القصة القصيرة، وما يمكن أن يندرج تحت مسمي القصيرة جدا، اللهم إختلاف القسم الثالث "من المهم ألا تستحم .. في الصباح" وقد علت نبرة الرمز فيه، كما نزعت اللغة في قصصها إلي السرد الخالص والميل أكثر نحو الكشف عن بعض الجوانب الاجتماعية (من خلال الطفولة أيضا)، باستثناء القصة صاحبة العنوان الفرعي، والتي تتناول بطريقة ساخرة، كيف تم نقل المتهمين الأمريكان في قضية تمويل الجمعيات الأهلية بطائرة عسكرية، من مطار القاهرة، في مارس 2012. بينما كان العربي المصري، مشغول بقاضايا الجنس وأهمية الاستحمام بعد الجنابة، وهم يتناوبون أنفاس المعسل. أما باقي القسم فنقرأ فيه:
"ينتظر القطار" حيث الرجل الطاعن، وحيدا ينتظر القطار، فيسأله الشاب: متي يأتي القطار؟ فلم يجبه سوي : "سيأتي" ثم يُخرج المضغة يقتاتها. لنصبح أمام قطار العمر، والذي لا أحد يعرف متي يصل محطة النهاية، إلا أنه .. حتما .. سيأتي.
و"بملابس فرحانة" وهنا أيضا يمر قطار العمر حيث يتأمل الأخ الأكبر تلك (العادة) التي اصبح الأصغر يتبعها في الحمام في الفترة الأخير، تلك التي كان هو نفسه قد إعتادها سابقا، وحيث ياتي (صديق الأب) ليسأل عنه، ليفاجأ بموته منذ عامين. بينما كان يجهز الملابس الفرحانة، للذهاب للمسرح، مسرح الحياة، بينما راح يبحث عن رائحة أبيه، والذي لم يعد منه الآن إلا الرائحة.
وكذلك "بضع دمعات وبقعة دم" حيث لم نزل في رؤية الألاعيب العمرية، وأفعلها في البشر، فنتعرف علي الإبن الذي دفعه واالده للعمل مع سائق سيارة الركاب التي أسلمها للسائق، فأغراه السائق بالمال حتي لا يخبر أباه بما يتم من موبقات في السيارة، ويتصور الصغير أنه لم يعد بحاجة لعطايا والده، فسوف يشتري ما يشاء من حُر ماله، وكأن الزمن يعيد نفسه.
و في قصة "يُذكر نفسه دائما بشراء الخبز" و يستمر تناول العمر، حيث ظل صاحبنا يحبها، وظل علي حبه لها، حتي وقعت أسنانه .. ومات.
ويحمل القسم الثاني في المجموعة عنوان "لم تعد تستدعي الشمس إلي جلستها كل صباح" وهو أيضا عنوان قصة بذات القسم، وتتناول كذلك أحوال الزمن. حيث يعود السارد إلي البلدة بعدغياب طويل، ممتطيا صهوة الجمل، لتعود به الذاكرة، عندما انزلق من فوق حمولة الجمل بأعود الذرة. وقيل ان الجمل سعران. حينها كانت الجدة ، البرنسة، كما كانوا يسمونها، كانت تخبئ له البيضة، وتعطيه إياها، طالبة منه أن يعطيها لأمه كي تشويها له في الفرن ، وقت أن كانت تستدعي الشمس إلي جلستها كل صباح. غير أن العمة التي حملته طفلا، ماتت. كما توفت الجدة من قبلها، ولم تعد تستدعي الشمس إلي جلستها.
كما يضم هذا القسم أيضا القصة التي منحت اسمها كعنوان للمجموعة ككل "صباح مناسب للقتل" والتي حملت الكثير من سمات القص عند أسامة جاد، حيث صباح أول ايام رمضان. وحيث بات الناس ليلتهم مستيقظين، ولا ينامون إلا بعد صلاة الفجر، إلا الأولاد، الذين يحرصون علي لعب الكرة في هذا الهدوء الصباحي الرمضاني، فكم يصبح الجو أكثر أمانا إذا ما غابت، أو نامت الحراسة {جون مشترك، والحارس لا يستمر كثيرا}، وهو الجو الذي يعتبر مثاليا لمن أراد القتل، أو الأخذ بالثأر، وهو ما يبدو أن {الرجل الذي لايضحك، قام من اختبائه} ليرسل {الرصاصة الحمراء النحاس العمياء، الملتهبة} والتي تهتدي بالصوت، لتتبع الزوجة الزاعقة علي زوجها، كي تلحق به في سيرها. وبينما كانت الرصاصة تستهدف الرجل ، زوج المرأة الحامل، إلا ان صوت المرأة ، {عاد إليها، متسخا، من طين الصباح النعسان، وراءه رصاصة عمياء}. وإن كانت الزوجة قد ماتت بالرصاصة العمياء التي ضلت طريقها، إلا ان الجنين في بطنها، لم يمت في حينه، وإنما ظل حيا برائحة البارود في ذاكرة الصبية، شهود الواقعة، وما يحدث في الصغر، يظل كالنقش علي الحجر، ولتجمع القصة بين عنصري القص، الطفولة، والثأر أو القتل.
ويرسل الكاتب إشاراته من بعيد، ليرشدنا إلي الطريق، بينما يتخفي هو وراء السطور. فنقرأ العبارة الدالة {كما خمسة فقط، فبعضنا سافر مع العائلة، وبعضنا مع العائلة ولم يسافر ولكننا ما عُدنا نراهم، منذ أن وصل إلي البلد رجل ذو نظرة باردة، وصوت ناعم، ولا يضحك، وأغلق الناس بيوتهم في النهار} لنربط بينها وبين {الرجل الذي لايضحك، قام من اختبائه} وهو الذي يوم أن ظهر في البلد، منع الناس أبناءهم من الخروج، وأغلقت الأبواب في النهار، ربما لعلم هؤلاء الناس بنية هذا الرجل ذو النظرة الناعمة، الذي لايضحك. بينما الرجل الآخر، الرجل الذي زوجته حامل، أثناء سيره {ركل الكرة نحونا، ولم تكن هدفا} وكأنه يحاول توجيه الرجل الأخر بتوجيه الرصاصة إليهم، وفق معتقد البلد، وحيث خبأت البلد أبناءها، غير أن الرجل الذي لا يضحك، لم يكن الأولاد هدفه، وإنما زوج الحامل، ف{و لم تكن هدفا} فلم تصبه هو، وإنما أصابت الزوجة، غير المقصودة.
وفي موضوع الثأر ايضان تأتي القصة المُلغِزة، التي تتطلب الكثير من تسليك الخيوط المتشابكة، والتي تقع أيضا بين قصص المجموعة الثانية، قصة "كانت رائحة شر في الهواء المذعور" حيث سواصل الكاتب في هذه القصة، هوايته في لعبة التخفي، خاصة أننا أمام حالة قتل، هادئة، علي عكس حالات القتل المذعورة التي سبقتها، حتي أن "عبادي" الهارب من الجيش، أصر علي قتل مائة، أخذا بثأر أخيه وأبيه، وقَتَلَ ستة أفراد في ليلة واحدة. ثم يُدخلنا في حيرة البحث، أمام ثلاث طرق، فعلي أيها نسير {عندما صدر الحكم ببراءة عبادي لعدم ثبوت الأدلة كانت ثلاث سيارات تنتظره، سيارة عسكرية لتقبض عليه، وسيارة إخوته وزوجته الحامل، وسيارة القاتلين}. ففي أي من السيارات الثلاث ركب عبادي؟. غير أن السبعيني الجالس مع الشخص المجهول، يشربان الشاي و المعسل، له سابقة {كان ما تركته وراءك جثة، دفنوها، وبندقية آلية صادروها، وصورة لعبادي في زي العساكر، وهربت، ولم يرك أحد من يومها}. حيث ترجع تلك الفعلة إلي { يومها، نبهك صوت الفرملة الزاعق، فاسرعت ببندقيتك الآلية، وأخرجت الركاب المذعورين، ولم يبق سوي رجل صغير الحجم يحتمي في مساند البيجو ال"سبعة راكب" ويصرخ: لم أقتله} ليعود بنا إلي بداية القصة {ووقفت أنت في نهر الشارع، ببندقيتك الآلية، تُوقف السيارات، وتتفحص الوجوه، قبل أن تشير إلي السائق بالذهاب}. لنعلم أن السبعيني الذي يرتعد من البرد، هو "عبادي الهارب من الجيش، والعائد للأخذ بالثأر، وقد مرت عليه السنون، ليجلس مع هذا المجهول –لنا – ليأخذ بالثأر ممن أخذ بالثأر سابقا. ولندخل في متاهة النهاية أيضا، هل تم قتل عبادي بالسم في الشاي، أم في المعسل، أم بشئ آخر، فكل ما قدمه الكاتب {عندما مالت رأس السبعيني للوراء، وعلا صوت تنفسه، عدل الغطاء علي جسده المتهدم، ودس الصورة القديمة في ثيابه، وذهب}، ونحن في حيرة جديدة، علي من يعود الضمير في الإشارة {ودس الصورة القديمة في ثيابه} فهل هي ثياب الرفيق المجهول، أم في ثياب عبادي؟ ولتتحول القصة إلي علامة استفهام كبيرة تلف القارئ، وتأسره بداخلها، بحثا عن مخرج منها، ولتظل حية في الأذهان طويلا. ولتجمع القصة أيضا بين الثأر، الذي لا يمحوه الزمن، والمطارد له في عمره، حتي لو كان طاعنا، كما "عبادي".
ويستمر الشاعر القاص في إغتراف الحكايات من منبع الحكايات، التي إغترفها من جدته، كما أشار في الإهداء في البداية ، في قصة "إغتراب" حيث لا نتتبع حكاية، وإنما نشاهد الصورة المرسومة بالكلمات، تلك الصورة التي تصف، دون أن توضح تلك الليلة المسماة ب ليلة (العمر) كما تسمي. مصحوبة بالماء، إلا أنها تحمل في طياتها عمرا كاملا، يبدأ من الطفولة، وحتي هذه الليلة، لتمثل الحركية في الصورة الساكنة، وسرد الحكاية الصامتة. فتحمل قصة "إغتراب" المفارقة الإنسانية التي يعيش بها الإنسان، يشعر فيها بالاغتراب، فكل موانيها باردة. يحلم الأطفال، ببراءة الطفولة، بالكثير، يخططون ليوم أن يكبروا، فيرسم الطفل خطا رفيعا فوق فمه، يتعجل السنين، والتي ليس دائما تأتي بما تشتهي السفن، يخطط مع رفيقته الطفلة، بيت المستقبل، ويحلقون في سماء الأحلام. غير أنه عندما يكبرون، ويعيشون الواقع، تتكشف الأمور عن أشياء مرعبة، فها هي الطفلة، صديقة الحلم، تدخل بيتا غير الذي خططوا له، ومع رجل آخر، لتدخل بها إمرأة تحمل جمود السنين وتخلفها، تنتهك عذريتها، توطئة للزوج القادم. و{تخرج يدها مجروحة من آثر الحلفاء، والمنديل ملوث بالدم}. وكأن الحلم هو الذي خرج من أعماق الطفلة، ملوثا بالدم.
ويظل كاتبنا يفتت اللحظة شظايا في قصة " يوم أن نفضت يديها من العجين"، ويطلب منا تجميعها، وتظل مداعبات الطفولة، و وأحلامها وأفكارها تداعب مخيلة كاتبنا، غيعود بنا إلي إختلاق الأطفال للحكايات التي يتباهون بها علي بعضهم. حتي لو كانت من نسج الخيال. إلا أن حلم ذاك الطفل لم يكن خيالا. فقد حاول تقليد الكبار في شخص أبيه،. استخدم نفس حبل الليف الذي يستخدمه والده في صعود النخلة، وحاول الصعود، غير أن حبل الليف كان شئكا ويجرح كفه، ولم يستطع المقاومة، حيث هوي به إلي الأرض، فألقي الأب بالعمامة، وألم نفضت يديها من ماجو ر العجين، ولم تمسح يديها في هدومها، مثلما تفعل عندما تريد شيئا. غير ان أحلامها في التباهي علي أٌرانه، لم تهوِ. فظل يحلم بما سيقوله لهم.لقد تسلقت.. وأمسكت سباطة البلح بيدي. وبالتأكيد سيقولون عليه (راجل وابن راجل). وهي نفس الرؤية التي نقرأها أيضا في قصة "سوناتا الفزع والزهو"، وقريب منها قصة "دم برائحة الكولونيا والبن"، "كُرة جديدة"، "كان الراديو قديما" ، "مطاردة".
وعلي نفس الدرب نسير في رحلتنا مع الطفولة، وكيف يلعب الزمن ببراءتها، في قصة تشبهين صباح.. ويخرج الشاعر الساكن في الكاتب، قلبا وقالبا في قصة "تشبهين صباح" حيث البكاء علي الروح الرومانسية، الرافضة للمادية، وحيث تغيب الحكاية التقليدية، ويستحضر المشاهد الإيحائية، التي تشكل روح الحكاية، أو ما يمكن أن نسميها الحاية. فنحن أمام بكائية طفولية، فيود صاحبنا أن يعيد الطفولة، حيث كانت "صباح" مثل مريم فخر الدين أو زبيدة ثروت، النعومة والرقة والشاعرية الحالمة. غير أن صديقه الأنتيم "احمد" يبلغه غير ما يشتهي هو، فكأنه يضع أمامه الحاضر بتلويثه و بماديته{أخبرني في صباح شتائي، أنه رأي صباح في الحلم، وأنه فعل معها}فيرفض أن يصدقه. أو يرفض الصورة الحديثة لصباح، رمز العفة التي يتصورها. ورغم طول العلاقة، والمسيرة المشتركة بينهما (السارد وأحمد) {لم أحبه. سخيف هو وحلمه}.
ونفس البراءة، والرجولة المبكرة، نعيشها في قصة "أضأنا "كلوبات" الجاز" حيث كعادة الشعراء، استعمال الألفاظ المتشابهة الحروف، المختلفة المعاني، وكأن الكاتب يتلاعب بقارئه ويحاوره. فتبدأ قصة "أضأنا "كلوبات" الجاز" {لما قالوا لي: هات "وقيد" من "الخلا"..} ليدرك القارئ بعد عدة قراءات بأن علامات التنصيص وضع بينها وقيد، شاملة الواو. وهو ما يعني (الحطب) . أما الخلا، فهو الفراغ أو الوسعاية أو المكان الذي يُحتَفظ فيه بالحطب. ليصبح المشهد، امرٌ للطفل، بإحضار الحطب من خارج الدار. وعندما طلبوا منه ذلك {كانت عمتي في غرفتها، أخذت "الطشت" و "البستلة" وأقفلت بابها} وعندما أحضر المطلوب وعاد {لكني لما وصلت كانوا كلهم في غرفة عمتي، وكان الباب مكسورا}.لنستشف أن العمة دخلت كي تستحم. غير ان حادثا ما حدث داخل الغرف، أدي لوفاة العمة، مما إضطرهم لكسر الباب، والدخول، لكنها كانت قد ماتت. لنستشعر وجود الحكاية، وتطورها. ونشعر بجو الريف وطزاجته، في استخدام الألفاظ التي لا تُذكر إلا في هذا الجو. كما نجد الحياة الفعلية التي يعيشها الطفل، الأم ، الجدة ، زوجة العم والعمة. فعالم النساء هو ما يحيط بافل. كما نجد براءة الفل في مواجهة الموت. وفي مقابل (الطفل) نواجه الموت. فنحن أمام عناصر (الطفل – الوقيد – الخبيز – الموت). إذ يصبح أمام عالم النساء هذا، يتولي الطفل إحضار (الوقيد) لإشعاله لإنتاج الخبز، وما يسمي (العيش)، فعليه يقع مستقبل المعيشة، بينما، وحيدا. حيث يقع شوال الوقيد من علي الحمار. فتضحك زوجة عمه، وتقول {لو وقعتَ أو وقعَ الشوال لا تخف –الحمار يعرف السكة} ثم نجده يضطر لجر الشوال علي الطريق وحده، بما يعني أن الحمار سار وهو يعرف الطريق، وليتحمل الطغل المسئولية وحده، بينما يواجه الكبار الموت، والذي لم يدركه الطفل بعد، فيتساءل ، لماذا لم تبت عمته معهم.
ويظل هو يعيش الحياة الرومانسية، في عالم الموسيقي، والروحانية {وحدها أناملي نعرف. وال"دو" نعرف وهي تميس في بهجة مع ال"مي" وتشتهي ال"صول وصلها. وكأنها بسترجع تلك الذكريات مع صباح، وما كان منه من عزف علي جدسها، فيستدعي الشهود {وأنت تعرفين، والشجرة اتي رأتنا تعرف، والجدار المهدم. والليل الذي اشتدت برودته، فجأة، فاشتهت أجسادنا مساحات من الدف}. إلا أن المشهد يختلف، حيث يري صاحبنا "صباح" غير انها صباح أخري، وأحمد آحر .. كلاهما غير اللذين عرفهما في الطفولة ف{ عند "منصور الحلواني" كان أحمد، وهو أحمد غير أحمد صاحبي، يحدثني في سعادة، ربما} حديث الحلم بينما {كانت صباح في البعيد، واقفة كريشة عصفت بها الريح، وكان رجلان يفاوضانها، لهما معا}. فقد تحولت "صباح" إلي صباح أخري، صباح التي تتاجر بجسدها، حتي أنها تفاوض إثنين معا. بينما تظل هي المشتهاه، صباح التي كانت { وصباح تغزو أحلامي كثيرا، أشتهيها كثيرا كما كانت. عندما كنت طفلا}. وربما يتوافق مع تلك الرؤية، قراءة القصة التالية، والحاملة لعنوان المجموعة "صباح مناسب للقتل" حيث كان صوت الزوجة يذهب وراء الزوج، وجاءتها رصاصة كانت تستهدف الزوج، فيعبر عنها الكاتب {والزوجة الحامل عاد صوتها، متسخا..} حتي وإن كانت رؤية العودة مختلفة في الحالتين. إلا انها فيهما تعني وجود مترصد هناك.
ومثلما رأينا معايشة الكاتب للواقع لاجتماعي، وحيث القصة الفصيرة، هي أقرب الأنواع الأدبية للشعر، في التعبير عن اللحظات الآنية، مثلما رأينا في قصة "قال : من المهم ألا تستحم في الصباح" وكيف عبر عن خروج الأمريكان بطريقة كان لها من الصدي الكثير من ردود الأفعال، ها هو أيضا يكتب لنا قصيدة قصصية عن ثورة الخامس والعشرين من يناير، والتي أعتبرها من أفضل ما قرأت عنها، في قصة "المرأة التي تكره الشرفات" في هذه القصة ينزل أسامة من علياء التحليق بين المجرات، جريا وراء الزمن إلي أرض الواقع. ليقدم قصة من أجمل ما كُتب عن ثورة الشعب في 25 يناير، بعد أن ظلت المرأة خمسة وثلاثين عاما لا تفتح شرفة، تعيش في الظلام، أو في العتمة، وهو الوصف الذي منحه الكاتب للفترة قبل 25 يناير، دون أن يتلفظه، ودون أن يأتي بسيرة عن 25 يناير. غير أنه يسوق ما يقودنا إليه. غير ان عيني إبنها العائد ، المستقبل، يتحولا إلي شرفات {لما عاد ابنهامن غياب طويل} والغياب هنا هو غياب معنوي، غياب الوعي، والعودة، ليست بالطبع عودة جسدية، لكنها أيضا، عودة الوعي {ألهت نفسها عن الستائر المفتوحة بالنظر إلي عينيه}. ثم يتجسد الميدان {بنزول الجيش للمدينة، وانقطعت شبكات الاتصال} فكان الأمان، لتخرج من عزلتها، ومن الظلمة إلي النور، فلم تكتف بشرفة، وإنما {تفتح بابا خشبيا، وتطل برأسها أولا، بذراعيها، وكتفيها، وتخطو إلي الشرفة}حيث حدث التغير الخارجي، والمنعكس علي تغيرها داخليا. وتتضح الصورة أكثر، حيث {حملت حفيدتها، هناك، تحت الشمس، وكانت الصغيرة تحمل في يدها علما صغيرا، وتضحك}.
وكما لكل رؤيته فيما يدور من حوله، ورغم الاختلاف في وجهات النظر مع الكاتب فيما وصلتُ إليه، إلا انني أحترم فنيته في قصة "ليلة أن اصطدنا الثعلب" لم يضع أسامة قارئه فقط في حيرة الطريق الذي يمكن به الوصول إلي محطة الوصول، أو الراحة، فدار به في دهاليز الشعراء، التي لا تسير في إتجاه واحد، بل تعتمد علي رسم الصور، التي تُقرأ بالإيحاء، ولا تُستدرج إلي الصريح من القول، إلا انه أيضا ومن خلال هذه القصة تحديدا، وبعد تعدد القراءات للبحث عن الربط، والخروج برؤية كلية محدةة، إلا انها وضعتني في حيرة أكبر، خاصة أني لم أتعرف علي الكاتب بصفة شخصية إلا من فترة وجيزة جدا، فلم أهتد إلي الاطمئنان، هل هذه الرؤية التي وصلت إليها، هي بالفعل ما وصلت إليه، ام تراني لم أهتد إلي مُراده؟ ولكن عموما، هذه رؤيتي، وفق ما أتاحته إشارات الكاتب، الذي يضن ويبخل، ذلك البخل الفني، علي قارئه بالوصول السريع. وهو ما يصنع المتعة القرائية.
فنحن في قصة "ليلة أن اصطدنا الثعلب" أما مجموعة من الإشارات، توحي دون أن تُصرح، حيث يدخل أسامة جاد إلي القصة القصيرة شاعرا، كما أوضحنا سابقا، فيستعمل كل أسلحة الشعر، لدك حصون السرد، ليعلن عن هجوم شرعي علي القصة القصيرة، والتي تعتبر أقرب أنواع الأدب إلي الشعر. وإن كانت الإشارات كلها تدور حول الجنس، إلا ان الجنس منها بريئ، فلم يستخدم هنا إلا كرمز، لذا يمكن القول بأن شخوص القصة الأساسية هي "الفحل" الأسمر، و"المُهرة" البيضاء، وقد ححد الكاتب وصفهما علي نحو يقود إلي تلك الرمزية.
وبعد ذلك الوصف الذي حدد شخصية كل من الفحل الذي { ذاعت شهرته في عموم "المُديرية" : فاحم، وحر، وبريَُ}. في الوقت الذي كانت فيه الفرس {والبيضاء شاهقة، لم يلق بها اسم "وردة"، وهي الملكة الفخور، كاملة البهاء}. ثم نقرأ اللقاء بينهما { البيضاء رجفت..شمها ، فنفرت مُحذرة.. وتبعها في عناد يليق. لم يقترب تماما.. توقف، غير بعيد، ودق الأرض باحفر عايث، ومط عنقه، وارعشت خاصرته، وهو يحدق في عينيها تماما، والتقت عينان، في نظرة طويلة، وثابتة........ ونظرت وردة نحو الأرض}. لنسترجع ذكريات الطفولة، عندما لم يصدق واحد منا زيله الطفل، فيختبره (طيب عيني في عينك) فإن صمد فهو صادق، وإن لم يصمد.. فقد انهزم. ومن هنا نستطيع أن نقول، أن الفرس البيضاء، رغم شممها، وإبائها ونفرت مُحذرة، إلا انها بعد عناق العيون لم تعد تصمد ف{نظرت وردة نحو الأرض}.
فإذا اضفنا إليها ذلك المشهد الدجاجات المتكاسلة في النهوض، والتي لم تتحرك إلا بعد أن هزمها الجوع، فراحت تنبش في الأرض، بحثا عن حبات قد دفنتها الحوافر، وما أن سمعت صهيل الفحل، حتي ركضت (فزعانة). لنعرف كيفلم يكن أحد يصمد أمام الفحل، وهي الصورة التي كان عليها الولد في البداية، وكان طوله فارعا} وكانت الفتاة تكبره بعامين، وكانت البنت التي تحممه تقرصه في ساقه، غير أنه لم يكن يفهم المعني، حتي سمعها تحكي لعمته {تحرك في يدي} لتدل علي الفحولة المبكرة للطفل، والتي بعدها، وبناء علي تعليمات العمة – وهو من المسكوت عنها في السرد – فبدأ يستحم وحده.
ثم يأتي الكاتب بجملة فيها من التلاعب أكثر مما فيها من التوضيح، وليقع القارئ في الحيرة، ويلجأ لما فات وما هو آت، من السرد. فتقول الجملة: {في مخبأهما السري شاهد الولد والبنت ليلا يلج النهار، ونهارا يفيض علي الليل} حيث حُذقت الفاصلة بعد {مخبأهما السري} وسواء كان الحذف مقصودا من الكاتب أو غير ذلك، فإن غياب الفاصلة، والجملة علي وضعها الحالي يجعل من الولد والبنت مفعول بهما، ويظل الفاعل مجهول، وليس بمستغرب غياب الفاصل في قصة، - أو مجموعة من القصص- لعب الحذف المحذوف فيها دورا أكبر كثيرا من المنصوص. وتصح الجملة أن مجهولا رأي الولد والبنت في وضع اللقاء الحميم، وما يؤكد تلك الرؤية ما ورد بعد ذلك{ داهم صوت العمة الولد وهو يُعدل قفطانهن بينما اختبأت البنت خلف شجرة وقلبها يدق كثيرا}. فهذا المشهد يوحي بما كان يحدث بين الولد والبنت.
أما إن وضعنا الفاصلة لتصبح العبارة {في مخبأهما السري شاهد الولد والبنت، ليلا يلج النهار، ونهار يفيض علي الليل} حيث يصبح الولد والبنت هنا شاهدين لما حدث بين الليل والنهار، أو بين الفحل الأسمر، والمُهرة البيضاء، وما يؤكده ما جاء بعدها { الفتاة التي تجمع الوقيد شاهدت، والولد البحراوي الذي يعمل في تنقية الزرع، بأكلةٍِ ونومةٍ، شاهد، واتقت عينان، في نظرة طويلة، وثابتة، أعقبتها نظرة للأرض. وفي البعيد، علا صهيل الفحل} وهي الحالة التي كان عليها كا من الفحل والمُهرة. لتنصب الرؤية علييهما {الفحل والمهرة)، والتي تعلن وتُعلي من شأن الفحل.
ثم نعلم فيما بعد أن للولد والبنت، عمان، أحدهما، الأكبر، كان يحكي لهما {عن أيامه علي الجبهة في السويس، عندما تطوع في لجان الدفاع الشعبي} لتبرز مباشرة صورة يونيو 1967، زما حدث فيها، الأمر الذي استدعي بعدها لجان الدفاع الشعبي، بعد أن أصبحت السويس، تحت سلاح العدو. ولترتبط غشارة الولد وفحولته المبكرة، وانهيار مقاومة جميلة الجمالات أمام فحل زمنها، بتلك الفترة، وتظهر الإشارة.
- العم الثاني الذي يسيران وراءه وهو يحكل بندقيته، لقتل الثعلب العدو، والحديقة، في انحناءاتها وتعاريشها، خط بارليف الذي حكو لهما عنه}. وبعدها {تفرقت القافلة} ثم {داهم صوت العمة الولد وهو يعدل قفطانه.......... } وفي { الليلة، ذاتها، التي شعر فيها الصغير بالخيانة، عندما أسلمه عمه، يومها، ل"حلاق الصحة. هل تُري علم؟ وكان عقابه المؤلم؟}. فالعم الثاني، حمل سلاحه مصمما علي قتل الثعلب الذي سطا علي الدجاجات، ليتضح بعدها أن الثعلب الذي أراد العم قتله، هو ذكورة الطفل (بطهارته). وكأن الرئيس الثاني الذي حطم أسطورة خط بارليف، هو من تسبب في تفريق القافلة، وهو الذي إقتص من ذكورة الفحل الذي كان. حتي لو أراد الكاتب التمويه حين قال { لا أعرف للأن، هل كان الخيال الطفل يبحث عن تبرير لما حدث بين الولد والبنت، يومها؟ أم رأي الصغيران فعلا، الولد البحراوي والفتاة التي تجمع الوقيد، كما لليل ونهار، يتوحدان في السماء..}. فعلي الرغم من قدرة الكاتب علي تكوين قصة ممتعة ، بما تدفع به القارئ نحو الربط والبحث عن التكوينات، ورغم التشتت الذي قد لا يري فيها القارئ قصة محددة أو (حدوته) إلا اننا نراها قصة مكتملة السرد، فما بها من تطور زمني، وتغير في رؤي الشخوص، ما يشكل سردا تاريخيا يمتد من 1967، إلي 1973. رغم سكونه، وسكوته عن الذكر المباشر.. اقول رغم هذا، فإنني علي المستوي الشخصي، أختلف كليا وجزئيا ما وصلتُ، أنا، إليه من تأويل، علي المستوي الفكري والمجتمعي.
ال ق. ق. ج.
في محاولاته اتجريب القصيرة جدا، لم تختلف الرؤي كثيرا عما رأيناه في القصة القصيرة، حيث التكثيف، والرمز واللغة الإيحائية، غير أنه غاب عنها المتعة التي نستشعرها في الحكي، والألفة التي نعيشها في السرد، فبدي الرؤي مجردة، وكثيرا مالا تترك أثرا بعد القراءة – وقد ناقشنا هذه القضية في كتابين سابقين[ii].
فإذا ما تأملنا (قصة) فسنطالع بكاء العجوزالتي لم تأكل الدجاجة علي الغداء، بعد أن عجزت عن اللحاق بها، فكانت السكين أسرع. فنحن نطالع خبرا عن عجوز فقد القدرة علي ملاحقة الدجاجة،، وربما فقدت القدرة علي مجاراتها، فلم يكن أمامها إلا ذبحها، فلم تكن تبكي الدجاجة، وإنما كانت تبكي ما فعله الزمن بها. وهكذا نحن أمام عناصر قصة، منحنا الكاتب إيها، وطلب إلينا صياغتها.
وفي قصة "بلل" {سكب الماء علي جسمها.. ثم نام. فأخذت تُصففُ شعرها المبلول .. وتبكي} فالإشارة هنا واضحة، إذا أنها تبكي عدم الوصول، أو الفشل، بعد أن استراح هو، او أفرغ شحنته، بينما هي تعاني عدم الإشباع. فنحن هنا أيضا أمام مشهد، صورة، غاب عنها الحركة، وغابت عنها المتعة.
وفي "ذراع خفية، يطالعنا (خبر) أن إمرأة كانت تحمل سنوات عمرها علي رأسها، وأثناء عبورها الطريق، بحثت عن ذرعه لعبرا معا. ولم يكن الأمر يتطلب كثيرا أن يُدرك القارئ أن تلك الذراع هي ذراع الزوج الذي بالتأكيد رحل، حيث تحمل هي سنوات عمرها علي راسها.
أما في قصة "كرم العزايزة" ..حيث ويستمر الكاتب في ألغازه، التي وإن كانت تكتنف بعض قصصه (القصيرة) إلا أنها هناك تقحم القارئ في فعل معين. أما هنا فهو يحث القارئ أن يختلق هو قصة، عناصرها تلك الكلمات التي يسوقها، علي أنها القصة، وهي بكاملها: {رمي صرخة بين النخيل الأشعث، وعادت له، ثم رمي صرخة، وابتلعها الظلام، فغاب في دفء خفيف. احتفلوا ببطولته في الصباح، بينما كانت الرعدة تهمس، وهي توشك أن تجف، في ملابسه الخائفة}.
فالمفترض أنه عندما يحدث رجع للصدي، فإنه – ربما – يعني أن هناك من يرد ما أرسلتُهُ ، أي أن هناك قوة مضادة. وعندما لا يحدث ذلك، فالمعني أن الطريق مفتوح، وألا عواقب تقف في طريق سيري، أو كواصلتي. فعندما أرسل صاحبنا صرخة، عادت إليه، بما يعني أن هناك عائق او هناك مقاومة. وعندما رمي صرخة – أخري- ابتلعها الظلام، اي لم يعد هناك من عوائق، أو مقاومة، وقد يعني استسلام المقابل، لذا {إحتفلوا ببطولته في الصباح} فكل ما همهم، غياب المقاومة، أو غياب الضد، غافلين عما عاناه، ويعانيه، وهو الخوف من الظلام، أو من المجهول. فقد تحمل الحركة التي يمكن أن تخلق قصة. غير أنها خلت من المشاعر أو الانفعالات،التي هي مادة الشعر وعصبه، والقصة القصيرة – كما أشرنا – أقرب الأنواع الأدبية من الشعر، الأمر الذي وإن كانت تحمل الحركة، وتتضمن الفراغات الإيحائية، فإنها تفتقد المعايشة، وتفنقد متعة الحكي، لتقف عند حدود الخبر.
وعلي العكس من هذا، تأتي القصة القصيرة (بدون جدا) " رأينا أرضَ ميلادنا" فها هو الشاعر يحضر.. ويستحضر الرقة والشفافية، المتمثلة في ذلك الطائر الرقيق، العصفور، والصباح، وبداية الرحلة. وكلها توحي بالأمل والإشراق، ..و{لم نعرف المعارك بالمناسبة، رأيناها علي الشاشة، ولعبناها في الصالة الرقمية} لتجمع هذه الجملة الإعتراضية المشهد في الراهن، حيث الشاشة والصالة الرقمية، فضلا عن خرائط الرحلة التي عليها يتم ضبط المعركة، فقد كانت {عيون الصيادين ترقب خلف المناظير الليلية، والأصابع كانت تضغط أكثر من زناد}. لتعبر القصة في النهاية، بالصورة، وبالإحساس، عن هجمة المعارك والحروب، علي براءة الطبيعة، وبكارة الأحاسيس.
ولا يخرج القارئ من المجموعة، إلا وقد انحفر في أعماقه صدي ألا عيب الزمن ببراءة الطفولة، فضلا عما يكتنف حياة الكبار بالحروب والصراعات، التي تعمل كمعول هدم، لتلك البراءة، وكأن الشاعر والقاص، يتحسر علي ضياع تلك البراءة، والطزاجة، والشفافية، في عالم يسوده الضباب والصراع.
Em:shyehia48@gmail.com