"وإني لأشير هنا إلى ضرب من أثر المعنى، والذي نجد بموجبه أن أي تعبير له أبعاد متغيرة، فهو إذ يعني شيئا، فإنه يعني في الوقت نفسه شيئا آخر، من غير أن يتوقف عن أن يعني الأول، وبالمعنى الحرفي للكلمة، فإن هذا يتمثل في الوظيفة المجازية للغة، "فالمجاز هو أن يقول المرء شيئا آخر وهو يقول شيئا ما."
بول ريكور.[1]
1
لاشك أن إبداع الشعر كان ولا يزال مذهبا فريدا للتعبير عن دواخل النفس واستكناه أسرارها العميقة، ثم صياغتها وفق ما تتيحه مساحات اللغة التي تبدو فرصها ضئيلة في احتضان تلك المعاني الشاعرية الملتهبة. لكن الشعر الحقيقي لا يقف عند التعبير عن أحاسيس الشاعر فقط، بل يتجاوز ذلك إلى ممارسة التمرد على اللغة عبر تأكيد محدودية دلالاتها ومجالاتها الوصفية. ولعل هذا ما يفسر توجه الشاعر إلى إبداع لغته الخاصة ومعجمه الفريد الذي يمتح دلالات الألفاظ من الفوضى الداخلية التي يرتبها كيفما أوحت إليه مخازن تجاربه وعواطفه.
من هنا يمكن القول إن الإبداع الحقيقي هو الذي يغنيك عن كل ما ليس فيه، حيث إنك تكتفي بإغلاق نفسك في حدوده فيأسرك في عالم لا محدود من التخييل والوهم، إن الشعرية باعتبارها قلب الشعر هي تمرد وخلق لعوالم من الوهم الذي يتسرب إلى خواطرنا في هدوء وينسحب منها وقد بعث إحساسا قويا بالفهم المطلق لحقيقة الكلمة التي تترفع عن البوح والتصريح. فلا تتشكل المعاني في نص من مثل هذه النصوص الجديدة، بل تتشكل أوهام تترك الأثر ولا تُمسك أبدا. هكذا بدأت أرسم معالم الشعر الجديد وأنا أقرأ ديوان "بعد آخر" للشاعرة فاطمة مرغيش، وهو ديوان ينثر الشعر في أعمق تجلياته التي شكلت ماهيته العميقة، وهي الصورة الفنية التي تهدم أعراف اللغة وتبني على أنقاض معجمها دلالات مغايرة تؤثث عالما خاصا يغدو فيه المحتمل ممكنا والمعجز واقعا والخيال متحققا على نحو ما بلاغيا..
لقد انتظمت في مخيلتي تلك التداخلات الملتهبة بين التجربة واللغة والشعر. فوقفت قراءتي بين الصورة الشعرية المنتشرة في أرجاء الديوان ودلالاتها المتعددة التي تبعث في النفوس أحاسيس مختلفة توحي منذ الوهلة الأولى بأننا أمام تحد جديد للغة والمعجم والصورة، إنه تحد ترفعه الشاعرة حين تصادر الدلالات القديمة للألفاظ وتُلبسها دلالات جديدة داخل صورة شعرية ترسم ملامح هذه التجربة الشعرية المتسمة بفرادة خاصة في الشكل والأسلوب والدلالات.
سأتوقف تحديدا عند صورة الريح، بما هي عنصر مركزي في تأثيث عالم الشاعرة الحسي والوهمي، تتقلب مشاعر الذات، ورؤيتها للعالم فتتغير أسماء الأشياء ودلالاتها ووظائفها، وكل ذلك تصوغه المبدعة في قالب تعبيري ساحر يجنح في كثير من الأحيان إلى اللغة الصوفية التي تدل على مستوى غائر من الوعي وصفاء الرؤية.
إذن سأتحدث عن ما تسميه الشاعرة ب"بلاغة الريح"، محاولا تنظيم صور هذه الريح المتعددة، عبر خلق مقاربة بين المعنى العام للريح والدلالات المتقلبة التي تشحنها به الشاعرة ارتباطا بشعورها وفكرها وازدحام عواطفها مع ما يفرضه الشعر من تكثيف واختزال.
2
تقتضي القصيدة الجديدة نوعا من التكثيف عبر اختصار الدلالات الكثيرة في مساحات تعبيرية قليلة، وهو ما يفتح مجالات ممتدة للتأمل والتأويل، وقد جعلت الشاعرة ديوانها مسيّجا بإطار عاطفي معين يمكن للقارئ أن يسبح داخله ويملأ فراغات مزروعة قصدا بين السطور، فهي تعول على مشاركة القارئ في بناء صور شاملة لمعاني النص الشعرية، بل هي تبعث صورا متباعدة الأطراف وتعول على مساهمة القارئ الذي يجد نفسه متورطا في بناء تلك الدلالة الغائبة تصريحا الحاضرة بلاغيا.. ومن المعاني المثيرة لهذا التكثيف ذلك التراكم المختلف الذي رسمته في نصوص مختلفة من الديوان "للريح" باعتبارها عنصرا مشاركا في تشكيل الصورة العامة لعالم الشاعرة، فالريح تخرب الجمال أحيانا، وتنقل مشاعرنا أحيانا وتؤخر لقاءنا بمن نحب أحيانا أخرى.. إنها صورة متعددة الملامح، تحضر بتأثيرها البليغ في مخيلة الشاعرة، لكنها تُكثف دلالاتها الغامضة حين تحتمي بفوضى الأحاسيس التي تبثها الشاعرة في كل نص.
جذلها ينثر ما تبقّى
في الخواءْ،
هي الريح
أصبحت تعشق كل
أشيائي.[2]
يحتوي هذا النص على فراغات عديدة ترفع صورة واحدة ومكثفة لما تُلحقه الرياح من ضرر عبر إتلاف الأشياء وتضييعها. فهل هذا هو المعنى المقصود من هذا النص؟
الحقيقة أن النص لا يُصرح بالدلالة بقدر ما يبعث هذا الإحساس بعتاب الريح التي جاءت بصورة مؤذية بما هي عنصر معيق للرغبة، إننا أمام رؤية خاصة للريح التي تتغير ملامحها بتغير سكنات النفس واضطراباتها فهي التي تهرب بأشيائنا، لكنها أيضا "تبسط أجنحتها لتراقصنا"[3]، أو هي تحمل حنينا إلى حيث تهرب الأحزان.
وهذه الريح القادمةُ
هي ليست ريحَ بلادي، تُدويّ بالشتات
وموعد البدء،
توزّعني بين مساءات باردةٍ
وموسم العشق،
وتعلن ميلاد الليل والشوق.. والورد.
أستبشر بالريح،
تهشُّ بحنين مُغرٍ على ريحانة حزني،
أستبشر بالحنين،
يفتح فوضاي على سفر من نسيان
قد يخطئُ الطريق..
عذراً
ما همستُ بالرفض إلا قليلا قليلا
فسرعان ما انحنى رفضي
رافضا رفضه.[4]
تنصرف هذه الصور المكثفة نحو تقديم وصف خاص للريح باعتبارها وسيلة تتلاعب بهموم الشاعرة ومشاعرها، وقد تراوغ تجاوبها مع ثبات الريح، فطبيعتها لا تتغير كما تتغير رؤية الشاعرة لها في عالمها الخاص، إن الريح خاضعة لرؤية الشاعرة وعواطفها المتقلبة، لذلك يتجلى الإبداع هنا في ربط صورة الريح بوظيفتها التي تتغير من مقام إلى آخر، ومن عاطفة إلى أخرى، بل تصل الشاعرة أوج هذا الإبداع الشعري في تشخيص الريح تصوريا حين تشيد شراعا لأشواقها وتسلمها لبلاغة الريح:
تغشاني أحلامٌ قديمة
أمد خيوط اللقاء،
أُشْرعُ الشوق
كما قضت
بلاغة الريح،[5]
إن الشاعرة تسلم عواطفها لبلاغة الريح، الشراع خاضعة لسلطة الريح/القدر، إنها سلطة تتحكم في الرغبة، رغبة الذات المنشودة في لقاء محبوب ومنتظر، كل الآمال والرغبات تتصل ببلاغة الريح، التي تفرض شروطها الزمانية والمكانية على رغبة الذات.. وحتى في لحظات انكسارها وفراغها تعبر الشاعرة عن زهدها في اللقاء بإعراضها عن وظيفة الريح تقول :
" ما بي حاجة إلى الرقص
على أجنحة الريح.
فهنا لا شوق يشاغب
ولا دمع يفيض.."[6]
وحين تجيش داخلها عاطفة الأمل والثبات ترفض النار المحرقة لبقاياها أن ترمي بدمعها ذات رياح جارفة.. إن بلاغة الريح عند الشاعرة تأخذ على عاتقها رعاية هذا الأمل في وصال مفقود، بالرغم من أنها ترفع شعار الاحتمال لا اليقين، لكن لحظة الضعف والانكسار تفرض على الشعر أن يتمسك بالاحتمال على اليقين المخيب لذلك الجسد المنتظر،
إنها تفتح كل الأبواب حتى آخرها وتتساءل عن الجهة التي يحتمل أن تتحرر فيه الريح من الاحتمال إلى اليقين.. تقول:
أمد الجسد المقتول بهباء الانتظار،
وأفتح آخر الأبواب،
وآخر الأبواب
ريحٌ تحتمل!
فأي الجهات تغتال ريحُها اليقنَ؟[7]
يظهر إذن أن الريح في معجم الشاعرة مرغيش ليست أحادية المعنى، وليست حتى ذلك الجزء الفسيح من العالم الذي يعبر المسافات دون التزامات أو قيود الحدود، إنه أمل متجدد تعلق عليه الشاعرة همومها وأحزانها وعتابها، بل تشخصه في صورها حتى يغدو هو نفسه دواء انتظارها الممتد حين تطابق بين أناها والآخر في استعارة لكل معاني الريح المتعددة التي تناوبت على الظهور تقول:
عاود الهبوب
شبيهي
لا تُسرِّح من زمانك كل البدايات.
وحين يرتبط الهبوب بالريح في مخيلتنا، تُتبع الشاعرة هذا الفهم بتوجيه يغير مرة أخرى صورة الريح التي تصبح عائقا لهذا الهبوب المرجو، فتأمر شبيهها ملتمسة أن "يغافل الريح "غافل الريح/ أنثر في مهبها حرفك الصعب." وبذلك تكون الريح حاملة كل الاحتمالات، لكنها المدخل الوحيد لتحقيق هذا الرجاء، "قد ترشقك الريح/ بجمر العصف/ أو جمر القطف/ وقد تشتهيك.."
وحين تسود عاطفة الرغبة وينتصر الأمل، تتحول الريح إلى وسيلة للتفريغ عن الحب والرغبة في مجابهة المستحيل وتحقيق الوصال: "عانق معي هذا الهبوب، /وغن لي من شفة المستحيل / موعدا آخر"
وفي مخاطبتها للزمن الآتي، تتخلص الذات من كل قيود الزمن والمكان، وتحتفظ بارتيابات النفس وتوحدها مع الذكرى والحنين، وهنا تتحول الذات من الانتظار إلى الهبوب، حين تتجرأ الرغبة على التمرد ضد قانون الريح والانتظار " لي امتدادات / في هذا الآتي: / لي بوحُ / لي الهبوبُ مع الحنين. " ص 55.
خلاصة:
من خلال ما سبق، يمكننا أن نخلص إلى أن الشاعرة ركزت بلاغتها الشعرية في إكساب كلمة "الريح" دلالات متعددة ومتلونة بتلون مشاعر اللذات ورغباتها، فظهرت الريح معيقة للرغبة أحيانا، وداعمة لها أحيانا أخرى، دون أن يعني هذا التحول التخلي عن المفهوم الحقيقي للريح بما هو جزء من الطبيعة الذي يفيد ضمن رمزيته القارة مفهوم التحول والتغير الذي قد يحمل خير المطر أو عواصف مدمرة، وبناء على ذلك، تقوم بلاغة الريح في هذه النص الشعري، على توسيع مفهوم التحول الذي يحدثه الريح في الطبيعة إلى أداة تحدث التحول المعنوي والرمزي في تجربة الشاعرة الوجدانية، وبناء عليه، تظل الريح في تمثلات الشاعرة محافظة على هويتها الخاصة، ودالة في الوقت نفسه على معان متعددة تفهم من السياق، وفق الثنائية التي يقترحها بول ريكور في المعنى المضاعف، الذي يجعل المعنى يقول دلالة ثانية انزياحا دون أن يتوقف عن إحالته على المعنى الأول.