تخوض الروائية العراقية في نصها الروائي المكثف في ثيمة الحرب مصورة تداعياتها المدمرة على أمهات وآباء الجنود وقود الحروب وضحاياها، من خلال تصوير وقع خبر فقدان الإبن على الأب والأم وما يحدث في عالمهما الداخلي والخارجي، بصورة تجسد تعطل الحياة وفقدان معناها عند فقدان الأبناء الأشد مرارة من الموت.

العالم ناقصاً واحداً (رواية العدد)

ميسلون هادي

 

1

الساعة تقارب الثالثة فجراً، ولم يغمض له جفن حتى تلك اللحظة، وكأنه كان يتوقع أن يسمع، في تلك الليلة بالذات، تلك الطرقات الغريبة المقلقة التي بدأت خافتة مرتبكة في البداية، ثم ما لبثت أن أصبحت أكثر قوة وانتظامـاً·

أيقظ زوجته بيدٍ مرتجفة، ثم قال لها وهو لايقوى على الحراك:

- الباب·

فهبّت مذعورة من النوم، وقالت:

- سترك يا رب·

اشتدت ضربات الطارق على الباب، وكان الأب قد فقد تماماً قدرته على الحراك خلال ذلك، بينما هرعت الأم وهي مدفوعة برعب لا يقاوم إلى الباب، وقد نسيت لأول مرة في حياتها أن تضع طاقم الأسنان في فمها قبل أن تفتح الباب لشخص غريب·

قال القروي:

- مساء الخير·

فقالت الأم بصوت مخنوق لا يكاد يسمع:

- أهلاً·

ولم تنطق بكلمة أخرى·

بعد ذلك بنصف ساعة كان الرجل القروي يجلس في غرفة الضيوف، وهو يتثاءب بين الحين والآخر، ويتفوه بكلمات مقتضبة كانت أصعب مما يمكن جعلها مفهومة كما ينبغي:

قال:

- لا تقلقوا·

وقال:

- آسف لإيقاظكم في هذا الوقت المتأخر من الليل·

وقال:

- لم أستطع العثور على سيارة أجرة إلا بشق الأنفس·

وقال:

- جئت من كلر·

وقال:

- لا أدري بالضبط ماذا أقول··· ولكن الأب مطلوب في الوحدة·

ولم تكن تلك الجملة الأخيرة التي قالها الرجل القروي صحيحة، لأن الأب لم يكن مطلوباً في أي مكان، وليس للرجل القروي علاقة بوحدة الابن أو عمله العسكري، ولكنه كان، على ما يبدو، يؤجل ما يعرفه من معلومات صحيحة لحين الانفراد بالأب في السيارة، وإخباره بالحقيقة كاملة· وبين دقيقة وأخرى كان الرجل يضع ساقاً فوق ساق، وهو يشعر بالتوتر في جوفه يشتد ويشتد حتى وجد القدرة أخيراً على الإفصاح عن رغبته في الذهاب إلى الحمام بعد أن انتهى من كلامه، وترك الاثنين يتدبران حيرتهما بنظرات خائفة، وغمغمات مبهمة لا تكاد تسمع·

قال القروي لنفسه وهو يجتاز المجاز باتجاه الحمام:

«الظلام شديد هنا»·

فكأنما سمع الأب كلماته تلك، فناوله شمعة مشتعلة كانت موضوعة في غرفة المعيشة، ثم مضى إلى غرفة النوم ليغيّر ملابسه بينما بقيت الأم جالسة في مكانها لا تريم·

وضع الرجل القروي الشمعة على حوض الاستحمام ثم انصرف بذهنه إلى نافذة صغيرة مفتوحة كانت تطل على حديقة المنزل الخلفية تتسلل من خلالها رائحة القداح الطيبة بهبّات متموجة ولا تبدو، بسبب الظلام الدامس، من أشجار الحمضيات، التي تطلق تلك الرائحة، غير أغصان سوداء متشابكة مصطفة بموازاة السياج الخلفي للحديقة· الشمعة تخفق بشرار متقطع يكاد ينطفئ بسبب ذوبان الشمع، ولم يكن لهبها داخل الحمام يضيء بوضوح سوى جزء من مرمرة الحوض والحنفيات الموضوعة بقربها، فحملها الرجل واستدار بها إلى المغسلة ثم وضعها قرب المرآة لكي يستطيع أن يرى طريقه بوضوح وهو يغسل وجهه ويديه ويلقي نظرة سريعة على وجهه في المرآة·

خرج من الحمام على عجل وقطرات الماء لا تزال تبلّل وجهه، وتقطر من يديه، فوجد الأب واقفاً ينتظره بلا حراك تقريبـاً وهو بملابس الخروج، والأم ملتفة على نفسها كالقنفذ في غرفة الضيوف···· ما تزال حافية القدمين، وقد بدت مهدودة في مكانها، لائذة بأمل كاذب لتضليل وعيها عن رائحة المصيبة التي كانت تفوح من تلك الزيارة الليلية المفاجئــة·

ألقى الرجل القروي نظرة سريعة على ساعة الحائط وقال:

- الخامسة؟

قال الأب:

- الرابعة·

ثم أردف بصوت خفيض:

- لا أغيرها على التوقيت الشتوي·· فنحن لا نستعمل هذه الغرفة إلا نادراً·

التفت الأب إلى زوجته وقال لها:

- عودي إلى النوم·· وادعي الله أن يكون بخير·

وقبل أن يغلق الباب خلفه سقط نظره على الجدار المقابل للباب ليجد أمامه صورة قديمة جداً لفتاة جميلة بملابس الزفاف بشرتها كقشرة ثمرة ناضجة قطفت للتو·· نحيفة كأنها عود الخيزران، ولا علاقة لها بهذه المرأة الحافية المتهالكة على الكرسي بلا حراك من شدة الهلع·

كل صورة زفاف رآها في حياته وجدها كئيبة وبليدة وبلهاء، وهذه الصورة أيضاً تعيسة بل وأكثر تعاسة من هذا الفجر الكامد العقيم····· كأنها صمت ونعاس ونباح وأصوات شاحنات بعيدة تزيد من وحشة الليل بدلاً من أن تبددها···

لا· لم تكن الصورة، كما بدت له في تلك اللحظة الخاطفة، ضحكة بلهاء مخدوعة بالأسنان الطبيعية والثمار الناضجة حسب، ولكنها رغبة شعواء لاثنين في الوقوف بثبات، وقوفاً حافلاً ومرحاً وشديد الصعوبة، حتى لا يسهوا فتسحبهما الأرض إلى أسفل·

 

2

كانت السيارة تبتلع الطريق بسرعة، ورائحة الهواء البارد مختلطة مع رائحة البنزين المحترق تدوّخ الأب، وتجعله يحس لأول مرة في حياته أن الفجر يمكن أن يكون غامضاً ومخيفاً إلى هذه الدرجة· مرت لحظات خاطفة كالحلم تذكر فيها دهاليز الأهرامات التي تؤدي إلى المقابر الملكية أيام كانت مفتوحة للسائحين في السبعينات··· كان ابنه علي في السابعة من عمره يومذاك، وكانت كفه الصغيرة تتشبث بأصابعه وتعتصرها بقوة كلما اقتربا من تلك الغرف الفارغة المنهوبة، التي تفوح منها روائح الموت والرطوبة والعفن· تذكر الأب أنه فكر حينها بأن الخلود مخيف أكثر من الموت، ثم انتفض من ذاك الحلم فجأة، وقال بعد أن كانت قد مضت عدة دقائق على سماعه الخبــر:

- أأنت متأكد من ذلك؟

نطق الأب نصف الجملة، وحبست الشهقة نصفها الآخر·

قال الرجل القروي وهو يفتح الحقيبة:

- وجدوا سترته وبداخلها هويته موضوعة فوق قبر في العراء، وقرب السترة مروحة طائرته السمتية·

تهدّجت أنفاس الأب ثم قال بصعوبة بالغة:

- ولكنهما اثنان في الطائرة·

قال الرجل القروي، وهو يستخرج السترة من داخل الحقيبــة:

- السترة التي عثروا عليها قرب القبر فيها هوية ابنك·· ثم أردف بصوت متلعثم:

- على أية حال·· يمكنك أن تتأكد أكثر عند نقل الجثة·

في اللحظة التي سمع بها الأب كلمة >جثة< أحس بتيار لاسع من الحرارة يسري من رأسه إلى القلب مباشرة، ثم راح ذلك التيار يلسع وجهه وأطرافه· وارتجف قلبه بعنف حتى ضربت دقاته سقف حلقه·

تمتم الأب:

- جثة؟

ثم أردف، وهو يريد لذلك التيار من الحزن، الذي اخترق قلبه، أن يهشمه تماماً:

- جثة ابني؟

قال الرجل القروي، وهو يسلم الهوية إلى الأب:

- نعم·

ثم أحس أن الصمت أصبح ثقيلاً جداً، بعد ذلك التأكيد الحاسم، فراح يدلق المعلومات التي يحملها مرة واحدة في بئر ذلك الصمت المظلم:

- يبدو أن طائرته السمتية فد تعرضت للنيران، أو أن خللاً ما قد أصابها فسقطت في >كلر<· هكذا يقول أهل القرية، كما يقولون إن رجالاً لايعرفونهم هم الذين دفنوا ابنك في مكان سقوط الطائرة بعد أن وجدوه ميتاً··· وأنهم قد أسروا الطيار الآخر جريحاً·

تساءل الأب، وكأنه يحدّث نفسه:

- كلر!؟

فقال الرجل القروي:

- إنها قرية في السليمانية قريبة من الحدود الإيرانية·

انتبه الأب لأول مرة إلى أن لكنة الرجل لم تكن عربية سليمة، فسأله وهو ينظر إلى صورة ابنه في الهوية:

- من أنت؟ وكيف عرفت بذلك؟

قال القروي:

- أنا من أهالي تلك المنطقة·· وزوجتي كانت موجودة عندما دفن أولئك الرجال ابنك··· لقد حصل ذلك على مسافة أمتار من منزلنا الذي يقع عند طرف القرية·· وقد احتفظت بسترته عندها خوفاً من أن تضيع أو يسرقها أحد، وهي تبكي منذ ذلك الحين وتقول إن أحداً يجب أن يذهب إلى أهل الطيار ويخبرهم بما حدث، وها آنذا قد تمكنت أخيراً من المجيء لإخباركم·

قال الأب، وكان الوقت لا يزال طويلاً أمامه، لكي يفهم ويصدق ماحدث:

- ولكن وحدته لم تبلغنا بالأمر؟

قال القروي بلهجة مواسية وكأنه يبرر للوحدة جهلها بالأمـر:

- لا أدري··· ربما لم ينتبهوا إلى فقدان الطائرة بعد، أو ربما يعتقدون انها قد ضلت هدفها··· أو ربما تعذر عليها ذلك بسبب تعطل الهواتف وانقطاع الاتصال بين المحافظات·

قال الأب:

- وكم مضى على ذلك؟

قال القروي، وكأنه لم يسمع السؤال:

- تعذر علي المجيء مباشرة بعد الحادث، ولكن عندما أعلنت أمريكا وقف إطلاق النار كان أول شيء فكرت به هو المجيء إليكم وإخباركم بالأمر·

سأل الأب مرة أخرى:

- كم مضى على الحادث؟

قال القروي:

- ثلاثة أسابيع تقريباً·

ليس وقتاً كافياً لجيوش الدود كي تأكل ابنه وتنخل أحشاءه·· ومع ذلك عندما فتح الحفار قبره وجد الأب نفسه أمام وجه غامق مدمّر وممحو، وملابس عسكرية بقّعها التراب والرطوبة·· كان الوجه قد أصبح مزيجاً من التراب والدم·

وكانت نظرة واحدة طويلة أكثر بكثير مما يتحمله الأب:

قال القروي:

- يبدو أنه كان حياً عند سقوط الطائرة····· وحاول أن يرفع رأسه فضربته مروحة الطائرة· البقاء لله·

غاص قلب الأب في كهف مظلم وعميق، ثم تصاعد دخان كثيف أمام عينيه جعله يشعر بدوار خفيف· حاول أن يسترجع نفسه لوهلة قصيرة كي يعيد النظر إلى الجثة التي أمامه ويتأملها جيداً مهما سبب له ذلك من ألم، ولكن حفار القبور، الذي أدرك محنة الأب وعذابه، قال مستدركاً الأمر:

- أين التابوت؟

فاستدار الأب مبتعداً على الفور باتجاه الصبية المتجمعين على مبعدة من القبر، ثم تابع السير على غير هدى باتجاه صف قريب من بيوت رثة البناء طراز نوافذها التي أكلها الصدأ شبيهة بقضبان الزنازين الحديدية··· كان التراب أمام تلك البيوت يتطاير مع كل سيارة تمر، وفي مداخل البيوت تقف نساء حزينات بأنوف طويلة وجباه ضيقة يلفعن أطفالهن على أكتافهن ويتطلعن إليه بصمت·

تطلع الأب إلى تلك المنازل المتراصة في العراء، ورائحة الجثة لا تزال تملأ صدره وملابسه والهواء الذي يحيط به·· رفع يده ليسند بها رأسه فانتقلت الرائحة من يده إلى أنفه مباشرة· فتح عينيه مرة أخرى على تلك المنازل فنغزت الألوان الفاقعة لملابس الكرديات معدته، واستعصى عليه كبت ثورانها أكثر من ذلك·· تناهت إليه عاصفة من الغبار أثارتها سيارة مسرعة، فأقعى جاثياً على الأرض وتدلى رأسه بين يديه وراح يتقيــأ·

 

3

رؤية الباب الموارب للبيت في الليل كانت أشبه بالنظر في شارع مظلم لا متناه يقود إلى فناء البيت، وفي الوقت نفسه لا يقود إلى أي مكان البتة· لا يوجد من يستطيع أن يحدث الأم الآن، أو يمهد لها وقع المصيبة بكلمة أو إشارة أو تلميح··

سيتكلم التابوت وينتهي كل شيء·

الأطفال فقط هم الذين فسحوا الطريق للتابوت بصمت وتهيب شديدين· أما الكبار فهاجوا وماجوا في الطقس المجنون والمطلوب لمناسبة كهذه·· وسرعان ما غص المنزل بهم، رجال الحي ونساء الشارع من أقصاه إلى أقصاه···

جاءت واحدة بملابس مشقوقة، وأخرى بشعر منكوش، وثالثة بصوت متفجع، وصرخت كل النسوة اللاطمات بأسماء أولادهن··· وكل الأولاد شهداء··· وكلهم بعيدون··· وكلهم سيحضرون الآن في هذا العرس المأتم··· الصاخب الصامت·· اللائب اللاهب المجنون·

- كفّوا حالاً·· أسمعتم؟

صاح الأب بصوت لم يسمعه الكثيرون···

الأم وحدها هي التي سمعته··· سمعته وسكتت على الفور·· ثم راحت تنظر إلى الأب نظرة غريبة فيها تقريع ولوم شديدان، وكأن زوجها لم يكن سوى أب ظالم طرد ابنه للتو من البيت· نكس الأب عينيه إلى الأرض، وهو لا يزال يتذكر ثوران معدته في العراء، ويحس بالخزي لذلك الفعل العضلي الذي أخجله· كان الضجيج يتعاظم حوله، ومع ذلك فإنه لم يكن يسمع سوى صوت مجداف بعيد يختفي داخل الماء ثم يظهر، وكأنه قدر خفي لطفل يضع قدميه في قارب خشبي للمرة الأولى في حياته·

كان التابوت الذي أوحى له بتلك الفكرة، لا يزال موضوعاً على الأرض في غرفة الضيوف، والأطفال يتفرجون متمردين على الأيادي التي تدفعهم للخارج، وأصوات لا ترحم تطلب من الجميع مغادرة الغرفة:

- هل أرسلتم أحداً إلى المقبرة؟

- هل فتشتم ملابسه؟

- هل اتصلتم بالجميع؟

- شرشف للتابوت فقط·

- لاداعي للكفن···

- الشهيد يدفن بملابس القتال·

- القرآن··

- هل وضعتم الشريط في المسجلة؟

- اخرجوا جميعاً·

- سيارتي جاهزة·

- لينتظر الجميع في الخارج·

أصبحت الأمواج التي تشقها المجاذيف ترشق الطفل برذاذها البارد الجارح··· وهو يتمتم بصوت خائف خافت لا يسمعه أحد سواه:

- لو أدري ماجاي·

ثم استدار القارب استدارة خفيفة جعلت الماء يدخل إليه، ويبلل أطراف ثوب الطفل بالماء الذي تسرب إلى القارب بفعل تلك الاستدارة الخفيفة· تبع ذلك صوت ضعيف كالذبذبة راح يتردد في رأس الأب بلا هوادة:

- علاّوي·· علاّوي·· علاّوي·

صوت كأنه صوته، ولكنه لايخرج من فمه، وإنما ينطلق من بئر السلم لإيقاظ النائم الذي فوق·· ثم صمت وجيز وتنطلق الذبذبة مرة أخرى·

- علاّوي·· علاّوي·· علاّوي·

- دعه ينم دقائق أخرى·

- لقد تأخر·· أيخرج بلا فطور مرة أخرى؟

لايعرف بعدها كيف تسرب ذلك الصبي ابن جارهم المحامي من بين تلك الجموع ليمسه في كتفه، ويسأله بهدوء وحياء شديدين:

- عمو·· صحيح علّاوي مات؟

عشر ساعات والأب يختلج ويرتجف بحثاً عن حزن يستحقه هذا الموت المفاجئ·· يبحث عن انفعال يستحق أن يُحس أو كلمة تستحق أن تقال أو فعل يستحق أن يفعل·

رفع الأب نظره باتجاه الصبي والدموع تتشكل في عينيه لأول مرة منذ أن سمع بالخبر، وقال له بصوت مخنوق:

- أي بابا·· مات·

ثم انهار في بكاء مرير·· وانفجرت أبواب الحزن شظايا تناثرت في كل مكان·· وتهاوت جدران الرجال، جدار ينهار يتبعه جدار آخر· وباب إثر باب إثر باب·· وأصبح نشيج الرجال جنائزياً وكأنه قادم من أعماق آجال الأرحام المسماة، ومتصل إلى يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت··

لقد انهار الجميع في بكاء مرير·· وبدا واضحاً أنهم يبكون الأب لا الابن هذه المرة·.

 

4

وعند فجر اليوم الأول للعزاء وصل أول الزوار·· زائغي النظرات·· مرعوبين·· ويبحثون عن الأم حالما يدخلون إلى البيت، وعندما يعثرون عليها يجلسون قبالتها، ويمدون سياط الكلمات في جراحها الطرية المدماة، حتى لا يغدو لها عينان لذرف الدموع· كلهم يتشابهون·· هكذا فكرت الأم، يشهقون الشهقات نفسها، ويجعدون الوجوه بالذكريات نفسها، ويستمطرون دموعها بالطريقة نفسها، وكأنهم يسدون لها معروفاً بهذا الصنيع·

بعضهم سمع للتو·· وبعضهم جاء من المحافظات البعيدة بعد أن تيسرت سبل المواصلات وتوفر وقود السيارات، وعادت خدمات الهاتف والكهرباء إلى العمل· وأقسمت امرأة عجوز أنها قطعت المسافة بين اليرموك وسبع بكار سيراً على الأقدام في خمس ساعات؛ لأنها وجدت الناس يتورعشون سيارات الشحن والإيفا العسكرية، ويتكدسون في أحواضها الخلفية من أجل الوصول إلى أية نقطة في الطريق، بدلاً من الوقوف والانتظار طيلة هذه الساعات بلا جدوى·

بيد أنه منذ اليوم السابع للعزاء كف الأقربون عن ذرف الدموع، وبدأ الأبعدون بالرحيل بعد حلول الليل مباشرة· أما الأبعدون جداً فكانوا لايزالون يجيئون وهم ينظرون إلى الأرض، بحثاً عن بذرة كلام مناسبة يزرعونها في قلب هذا الحدث الجلل، قبل أن يفارقوه راحلين على عجل·

وبدا للأم أن فجيعتها بدأت للتو بعد رحيلهم·· وأن وجود هذا الحشد الكبير من الناس حولها كان يلهيها ويتركها في حالة من الاستسلام لتأثير مخدر قوي مليء بظلال أولئك الناس، وإيماءاتهم ووجوههم وثرثراتهم، وعريض إلى درجة أن لا يبقي لفظاعة الواقعة إلا شريطاً ضيقاً وحاداً من اليقظة يروح ويجيء أمام الجميع، بيد أنه لا يلذع أحداً مثلما يلذع قلب الأم· لهذا ربما راح الآخرون، ممتثلين باللاشعور لقواعد اللعبة، يقطّرون لها تلك اليقظة جرعة بعد أخرى، ويتسربون بالتدريج واحداً بعد الآخر من حولها، ليتركوا خلفهم على الفرش الممدودة على الأرض فراغات واضحة تشبه فراغات الأسنان الساقطة في فم مفتوح·

بنات العائلة ومن تبقى من نساء الجيران والأقارب عملن على تعويض هذه الفراغات بزج الأم في ثرثرات جعلنها تبدو مهمة وجادة عن تصاعد الأسعار، وشحة السكر اللازم لعمل الحلويات، والحاجة إلى الاستعانة بمواقد الجيران للطبخ وشيّ أرغفة الخبز، وأمور من هذا القبيل مقصودة لمواساة الأم أكثر من القصد بمشاورتها فعلاً بتلك الأمور··

وفي أوقات الظهيرة عندما تتمدد الأم على واحد من تلك الفرش الفارغة الممدودة على الأرض، تأتيها أصوات البنات الخافتة وتعليقاتهن رحراحة وحنونة·· لها صدىً خفيف يبعث على النعاس ويوقع في النفس مشاعر غامضة تترشح من الكلمات المتأسية، ثم تترسب في قعر الروح واحدة بعد أخرى، مثل قطرات ماء تتساقط في جوف إناء ساكن·

يتموج الهواء بتأثير الحرارة المنبعثة من المدفأة النفطية، فتغفو بعض النسوة من شدة التعب وكثرة الكلام، وتنهض الأخريات لأداء صلاة الظهر المتأخرة، فيحل في الغرفة ذلك الصمت المظلم العميق لجوف الإناء الساكن، وتنعم الأم بلحظات وجيزة وغامرة من السكون المطلق·· حتى إذا ما جاء يوم (الأربعين) احتشد البيت بهن جميعاً مرة أخرى·· القريبات والبعيدات·· الغائبات والحاضرات··· ثم انفجر برمته شظايا متفرقة وهبط على فراغ·

ارتفع صوت مفاجئ امتلأت به باحة الدار، قبل أن يمتلئ إطار الباب الخارجي، الذي يطل على عزاء النسوة مباشرة، وكان ينطلق من جسد متأهب نحيف ومنتصب كالرمح· فتحت تلك المرأة عباءتها السوداء وهي تصيح باسم >علاّوي< الشهيد بايقاع متواصل فيه لوم وتقريع على الغياب أكثر مما فيه تساؤل واستفهام عن سبب هذا الغياب، ثم بعد أن أصبحت أنظـار النســوة كلهــا موجهــة الــى تلك المرأة الواقفة داخل إطار الباب، أزاحت الربطة عن رأسها بضراوة وتركت شعرها الأبيض الناعم الطويل ينسدل على كتفيها، وراحت تدق الأرض بقدميها وترقص رقصاً هستيرياً قرب الباب، بينما تكوّمت عباءتها على الأرض وظلت متروكة هناك تحت قدميها·

خيّل للأم أنها تشمّمت رائحة برتقال خفيفة تنطلق من مكان خفي·· ثم تنهدت ذاكرتها عن صورة شابة نحيفة وضاحكة ترتدي فستاناً قطنياً عريضاً يتلاعب الهواء بأذياله·· تقطف برتقالاً يتدلى من أغصان دانية، ثم توزعه على الأخريات وهي تتعابث وتضحك، فتتقافز ورود فستانها القطني العريض وسط بستان مزهر وفسيح من بساتين بعقوبة المطلة على نهر ديالى· رفعت الأم نظرها في عيني تلك الزميلة القديمة التي لم ترها منذ عشر سنوات، وفي اللحظة التي التقت بها عيونهما أطلقت المرأة زغرودة طويلة، ثم تقدمت إلى وسط العزاء وراحت تهزج:

الأمر لله على اللي صار

هذي قسمتي من الله الجبار

يجيبوك بعلم ملفوف للدار

وتظل ذكراك تتردد بكل حين·

ترقرق الصمت داخل الغرفة من شدة ما حبست النسوة أنفاسهن؛ حتى بدا المكان مثل هوة سحيقة تقف فيها تلك المرأة حافية في الفراغ، فينعدم وزن أجسادهن المرصوفة على الأرض، ولايبقى غير رجع صوتها الأثيري الساحر وهو يلامس أرواحهن المذهولة بسلام:

عيون الله لأحبابي تراهم

بروحي سكنوا من بِعْدَوْا تراهم

كَربهم والبعد عني تراهم

بدليلي صار منزلهم صواب·

أحبابي بكلبي مسكنهم بعدهم

شبيدي عالوْكتْ عني بعدهم

دليلي ماهوى خلٍ بعدهم

أنوح بشوقهم والكلب ذاب·

ثم تهدج صوتها وتحشرجت الغصّة في صدرها، فانسابت دموعها مدرارة وهي تواصل نواحها الذي سيظل منطلقاً من ذلك المكان إلى الأبد·

فتحت الأم عينيها مرة أخرى لتجد الظلام قد هبط على الحديقة، واشتعلت حدائق البيوت المجاورة بأضواء النيون البيضاء، وراح الهواء يحمل لها روائح قلي خفيفة تنفثها ساحبات الهواء من المطابخ، وأصوات أغان عالية كانت تطلقها ميكروفونات نادٍ في الجوار·

لم يكن قد بقي في المنزل أحد بعد انقضاء الأربعين، ومن طلب منها أن يبقى شكرته بتهذيب ورجته أن يعود إلى أهله وبيته ومشاغله· ومع ذلك ظل يتوافد على المنزل بعض الأقارب والأصدقاء راح عددهم يتناقص شيئاً فشيئاً حتى كاد يتلاشى، وكأنهم جمهور ينفض بالتدريج عن قاعة غاصة حاشدة، ثم سرعان ما يتباعد وينصرف متفرقاً في جميع الاتجاهات، ولا يعود يظل في القاعة أحد غيرها على الإطلاق·

ثمة ركن مظلل في حديقة الدار تحته جلس طيار جاء بملابس القتال، وفضل الجلوس في الحديقة عندما كان الكهرباء لايزال مقطوعاً· قال لها:

- قسمته يا أمي·· إننا في الجبهة نقول إن القذيفة تنطلق وهي تحمل معها أسماء الذين سيقتلون بها··· ألم يجئه الموت من مروحة طائرته نفسها بعد أن أخطأته قذيفة العدو··· قسمته يا أمي قسمته··

- ومحمود يا أمي··· كان علي يعرفه جيداً··· فلقد أمضى ثماني سنوات متنقلاً بين الجبهات من زاخو وحتى الفاو·· لم يترك بقعة حدودية لم تطأها قدماه، ونجا من أخطر معارك تلك الحرب وأشدها ضراوة، ثم في يوم وقف إطلاق النار مع إيران يعود إلى أهله في إجازة فيقتل في حادث سيارة·

- لكل أجل كتاب يا أمي·· لكل أجل كتاب·

ولم تعترض الأم على الأجل·· إلا أنها لا تشعر بالراحة أيضاً لما حدث، أو يمكنها القبول بفظاعته·· وكانت تتساءل في سرها طيلة الأربعين يوماً المنقضية·· لماذا حصل لها ذلك؟·· ولماذا علي بالذات؟··· لماذا تسلقت لافتة الموت السوداء جدار بيتهم مثل بساط مشؤوم طالما كانت تراه على بيوت الآخرين، وتعتقد أنه سيتسلق كل الجدران إلا جدران بيتها··

خرج الطيار، الذي جاء بملابس القتال، فأصبح نظرها بمواجهة غصن عنب مورق تسلق جذع شجرة العرموط الباسقة، مجسّات ذلك الغصن كانت ملساء دقيقة وبضة وملتوية، وقد استدارت باتجاه غصن آخر تسلق الأرجوحة، ثم مدت نهاياتها اللولبية باتجاه ذلك الغصن الآخر، لتلتوي وتلتف عليه بالرغم من بعد المسافة بينهما، وكأنما لتلك المجسّات عيون خفية ترى بها أحبتها فتذهب إليهم وتتمسك بهم·

بعد قليل حمل لها الهواء أصواتاً قريبة لامرأتين تتحدثان في باب مجاور عن أحذية لأعمار صغيرة تريدان شراءها قبل العيد، ابتعد صوت المرأتين عندما عاد الميكرفون القريب ليطلق عالياً صوت أغنية تُعزف على آلات حديثة·· تعلو وتهبط مع اشتداد وخفوت الهواء، مصحوبة بتصفيق حاد وإطلاقات نارية وصيحات ابتهاج·

يبدو أنه عرس· فكرت الأم· ولكن أين زوجها؟·· ولماذا لم توقظه من تلك الغفوة الطويلة التي امتدت به حتى الظلام؟·· أرادت أن تنهض لتفعل ذلك، ولكن ظلاً لرجل اقترب من الباب، ثم تلكأ قليلاً قرب المنزل جعلها تصرف النظر عن هذه الفكرة· توقفت الأم قرب شجرة ورد أحمر وهي تتوقع أن يقرع هذا الرجل الجرس في أية لحظة، وراحت تفرك بأصابعها أكمام الورد اليابسة دون أن تقطعها من أغصانها·· تفتّتت وتناثرت أوراقها في الهواء، وبقيت خويطاتها التي كانت تحمل البذور فيما سبق، عارية ومفتوحة للجهات الأربع·

عاد ظل الرجل الذي ترك الباب قبل قليل، وتلكأ قربها مرة أخرى ثم اشرأب بعنقه، شاب أسمر ألقى نظرة واحدة على الأم ثم عاد إلى مكانه خلف الباب· توقفت الأم قليلاً عند الصورة التي انطبعت في عينيها عندما أطل ذلك الشاب بوجهه، ثم اختفى ثانية خلف الباب· ملامح وجهه خطرت مثل شيء أليف وقريب ومحفور في الذاكرة·· تذكرت أن الجرس لا يعمل لأن الكهرباء مقطوعة، فهرعت إلى الباب لتفتحه، ولكن الشاب ابتعد على عجل وكأنه قد فوجئ بوجود أحد من أهل البيت في الحديقة وأحرجه هذا الوجود·

ارتجف قلب الأم بعنف، وتهدجت أنفاسها بلا سبب واضح، وفتحت فمها لتنادي على ذلك الشاب المبتعد، إلا أن الصوت لم يطاوعها··

كان الشاب يمضي إلى نهاية الشارع بثبات وكأن الخطأ الذي ارتكبه قبل قليل لا يعنيه، ولم تكن صورته في عيني الأم إلا عياراً نارياً أطلق بمفرده في ليل هادئ؛ ليثير من الرعب في قلبها أكثر مما يثيره العيار نفسه لو أنه أطلق في حومة قصف.

 

5

تسقط الأصوات في الليل لتؤكد الصمت بدلاً من أن تبدده، وتتسلل الأضواء الخافتة من فتحات الستائر وفراغات السلّم لتؤكد الظلمة بدلاً من أن تمحوها·· أصوات لا أول لها ولا آخر، تكون في لحظة من اللحظات غير موجودة لأنها لاتُسمع، ولكنها تتضح فجأة عندما يخرج الأب رأسه من سطح الماء، فينتبه إليها عدة لحظات قبل أن يغوص فيه مرة أخرى·

كل شيء في البيت يشي بآثار حياة علي لا بآثار موته·· وإن فعلاً قد انقطع من أفعاله ربما سيكتمل في أية لحظة إذا ما تهيأت له أسباب هذا الاكتمال·· لقد عثر الأب ذات يوم، وهو يخرج صندوق أدوات السيارة من تحت السلم، على فردة ضائعة من حذاء ظل علي يبحث عنه طيلة ثلاثة أيام متواصلة· وقد قلبت الأم حينها المنزل رأساً على عقب ولم تعثر على تلك >الفردة<·· ولما يئست من العثور عليها طلبت من ابنها أن يبتاع لنفسه حذاءً آخر باللون والشكل نفسهما·

يبدو الأمر للأب الآن كما لو أن >الفردة< قد ظهرت عن عمد لأن علياً قد اختفى، وأنها كانت ستبقى مختفية إلى الأبد لو أنه كان موجوداً·· وتبادر إلى ذهنه خاطر غريب جعله يتساءل مع نفسه إن كان علي سيظهر من جديد، لو أن هذه >الفردة< من حذائه قد انفقدت مرة أخرى·

بيد أن الأم بعد أن انفضّت مراسم العزاء وهياج الحزن، كانت تتعثر بآثار حياة ابنها في البيت، فتدرك بهذه الطريقة وحدها أنه قد مات·· ذلك أن موت ابنها لم يكن يعني بالنسبة لها سوى يوم واحد فقط، هو اليوم الذي رأت فيه التابوت يدخل المنزل محمولاً فوق أكتاف الرجال، ثم يخرج محمولاً فوق أكتافهم أيضاً إلى مقبرة· أما حياته فمفعمة وطويلة وزاخرة، هي كل ما اختزنته ذاكرتها من صور وأحداث لآلاف الأيام التي يمكن استعادتها في أية لحظة؛ لأنها أصبحت تُلمس وتُحس وتُعاش بهذه الطريقة فقط وليس بطريقة أخرى· الأم مثلاً لم يكن يرضيها في السابق تشجيع ابنها على جعل طريق مطبخها سالكة لقطط الشارع·· ولكنها الآن عندما يقترب آذان الظهر، تجلس منتظرة وعينها على باب المطبخ، عسى أن تأتي واحدة من تلك القطط وتموء، فينتابها إحساس غريب ومريح بأن (علياً) موجود وغير ميت··· وأن تلك القطط لم تكن تناديها بل تناديه، وأن الأم إذا ما أدامت تلك الصلة معها، فإنها تبتكر لنفسها طريقة لبعث ابنها من الموت إلى الحياة وجعله ماثلاً أمامها، كلما جاعت القطط·· أيدفعها جزعها إلى اللعب مع الحزن بهذه الطريقة الغريبة·· أم أنها تتقصد أن تديم صلتها مع الحزن لكي لا تشعر بالذنب إذا ما تهاون قلب الأم في داخلها، والتهى واستكان إلى الصبر؟··· أيشبه ذلك رغبتها في الوقوف أسفل السلم والصياح بصوت عال باسمه، ثم الانخراط بنوبة جديدة ومريرة من البكاء؟

لا·· لم تكن الأم تراوغ الحزن أو تتملص منه أو ترتاح منه بالبكاء، بل كانت تشعر، دون أن تدرك ذلك بالضبط، أن موت ابنها يبدأ بنسيانه، وأنها تجعله حياً ما دامت تتذكره·

الهاتف أيضاً دخل هذه اللعبة فور عودة الخدمات الهاتفية، التي عطلها القصف، إلى البيوت، فقد انتبه الأب ذات يوم إلى أن الهاتف إذا انطلق بجرس مفرد، ثم سكت، وتبعه جرس متصل فإن الخط ينقطع بعد رفع السماعة·· سأل زوجته إن كانت هذه الإشارة الهاتفية قد حدثت في حياة علي، فأجابته بالإيجاب ثم انخرطت بالبكاء··· أيقظه هذا النداء من الغفلة فجأة ووضعه في قلب المأساة الأسود· إن تلك التي تخابر وتُغلق السماعة لا يبدو أن أحداً قد أخبرها بأن حبيبها قد استشهد·

تلكأت الأم أكثر من مرة عندما كان الأب موجوداً في البيت، واحتارت كيف تجعله يفهم رغبتها في إبقاء ذلك النداء قائماً لأطول ما يمكن من الوقت·· بيد أن الأب كان يصر على أن تستمهل هذه المتحدثة المجهولة لحظات، وتخبرها بما حدث، لعلها تصغي وتكف وتبتعد·· كان يطلب منها أن تبتر هذا النداء·· أن توقفه·· وأن تقتل فكرة موجودة في خاطر أحدهم بأن ابنها غير ميت···· إن الأمهات غالباً ما يبعدن حبيبات الهاتف عن أبنائهن الأحياء بابتداع شتى الوسائل والأعذار، فكيف يطلب منها أن تفعل الشيء نفسه مع ابنه الميت، وتبعد عنه ظلاً من ظلال الحياة يسفحه ذلك الهاتف كلما انطلق رنينه في أرجاء المنزل·

قال لها:

- لا أفهم لماذا تجعلين من الساعة الخامسة كل يوم وقتاً لتعذيبنا كلينا·· وهذه التي تتحدث ما ذنبها لتتعذب أكثر من ذلك؟ لماذا لاتخبريها وينتهي الأمر؟

واحتارت الأم بماذا تجيب·· وكانت تعرف أنه لايفهم لوعة قلب الأم في داخلها لأنه رجل·· وأنها تتمنى لو أن هذه المتحدثة المجهولة تظل تزّول رقم هاتفهم إلى الأبد، دون أن يخبرها أحد بالحقيقة·

قالت له:

- لا·· لن أخبرها·

فقال الأب بنبرة غريبة فيها نكاية بنفسه أكثر مما فيها نكاية بالأم:

- ستكف هي من تلقاء نفسها··

في الساعة الخامسة·· والخامسة دائماً·· تمتد يد الأم الناحلة وترفع السماعة وتهم باستمهال تلك الحبيبة المجهولة، لكنها تختلج وتصمت، ولا تغلق الخط إلا بعد أن يكون قد انغلق من الطرف الآخر·· إنها تستبقي النداء المجهول وتجعل ابنها حياً ما دام هذا النداء موجوداً، وكان الأب يعلم أن القش كله سيتطاير في النهاية، وأنه إذ يُنكر على الأم تشبثها بقشة أخيرة، فذلك لأنه يعلم أنها لن تقدم أو تؤخر· مع ذلك كان يحاول أن يلتمس لها العذر فيما تفعل.

 

6

النظرة التي تولّت عين الأب بعد شهر من دفن الابن كانت شيئاً محيّراً بالنسبة للأم·· أصبح الأب يدخل في نوبات ذهول طويلة ينفصل فيها عنها وعن الآخرين تماماً حتى لا يعود يسمع أو يرى أو يحس شيئاً على الإطلاق· كانت تلك النظرة تخز قلب الأم بالخوف والحيرة فتعمد إلى أن تقطعها بأسئلة متلاحقة عن أشياء يومية تافهة قد لا تعنيها كثيراً، ولكنها مقصودة لكنس ذلك الصمت المخيف بثرثرة متصلة· تشكو له، عن عمد، نقصاً في الخضار، أو تطلب منه زرع عود جديد في الحديقة، أو تروي له خبراً مشوقاً من تلك الأخبار التي تقرأها في المجلات· بيد أنه كان يجيب بإجابات مقتضبة ليصرفها عنه ويعود هو إلى ذهوله التام·

فكرت الأم أن تجربة واحدة في الموت لاتترك المرء مجرّباً بما فيه الكفاية، وهنا عليها أن تستدعي النجدة من الخارج·· تأتي المواساة من صديق ومجرّب جرّب موت الأعزاء أكثر من مرة··· يمتلك الخبرة المطلوبة التي لاتوفرها تجربة واحدة بهذا الشكل الفاجع··· إنسان قد رفع رايته البيضاء منذ زمن، ويستطيع أن يعلّم غيره كيف يرفعها· إن الموت الأول يشبه الطفل الأول·· يشبه حقلاً مختبرياً يحتمل كل التجارب الناجحة والفاشلة على السواء·· في الطفل الأول يرتكب الأبوان، ومن شدة الزهو، أشياء في غاية السخافة، وأشياء أخرى في غاية الأهمية، ولا يعودان لتشذيب تلك الانفعالات، وربما النظر إليها بخجل، إلا مع تقاطر الأطفال وتراكم التجربة·

في الموت الأول، ومن شدة الحزن هذه المرة، يقع الأبوان بالأخطاء نفسها التي لايحتاج تشذيبها إلّا إلى تقاطر الأموات·

جاء الصديق الذي استدعته الأم لهذه المهمة، فانتشل الأب من تلك النظرة الذاهلة كما يرفع كتاباً من الرف، ثم خرج وأعاده إلى تلك النظرة، كما يعيد الكتاب إلى مكانه في الرف مرة أخرى·

كانت تلك النظرة تأخذ شكلاً مرعباً في بعض الأحيان·· تزوغ إلى مكان غامض لا تستطيع أن تتبينه الأم، أو هي مما لا يُسمح لها بالدخول إليه·· أية أعذار تلتمسها له الأم في هذا الصمت·· أليس هو ابنهما معاً؟ إذن لماذا يتخلى عنها، ويلوذ وحده بهذه النظرة التي تجهل معناها وأسبابها؟ قالت له الأم:

- أتذكر عندما كنا في الطريق بين بغداد والموصل، وكان علي يومئذ في العاشرة من عمره؟

-·····

- كانت الشمس تغيب وتختفي خلف الأفق·· وكان علي يطلب منك أن تسرع حتى نلحق بالشمس·····

-·····

- قلت له حينها إن اللحاق بالشمس وهي تغيب غير ممكن بالسيارة·· وإنه يتطلب سرعة تفوق سرعة الأرض ليتحقق ذلك··

-·····

- قال لك أتحقق ذلك إذن طيارة تفوق سرعتها سرعة الأرض··؟

-·····

- قلت له نعم·· فقال لك إذن سأصبح طياراً عندما أكبـر·

كان الأب صامتاً لايريم·· وكأنه غيمة شاردة عن سماء البيت، ولم تتمكن الأم، بالرغم من كل ما تبذله من محاولات، من شد تلك الغيمة إلى الأرض·

سقط نظر الأب على صورة ابنه المعلّقة على الجدار، وتجمدت نظرته هناك عدة دقائق وهو يفكر برغبة ابنه علي تلك للحاق بالشمس وهي تغيب·· كان يفكر بأن رغبته تلك تبدو كما لو أنها دخلت العقل الإلكتروني لهذا الكون، كما يدخل أي فايل معلومات إلى الحاسوب، ويحفظ لحين مجيء أوان استعماله· ولا بد أن تلك الرغبة قد خزنت هناك طيلة تلك السنوات حتى جاء أوان تنفيذها·· ثم فكر أن الشمس وحدها هي التي تغيب وتشرق من جديد في اليوم الثاني، فجعله ذلك يشعر بعزاء غريب يبرق في روحه، بل ويمده بالراحة ولو إلى حين·

قالت الأم:

- لماذا لا نذهب إلى الموصل؟

لم تسمع جواباً منه:

- لم نزر أختي منذ زمن·

ثم تثاءبت فبدا تثاؤبها للأب، وكأن فيه لا اكتراثاً وقدرة على التكيف والنسيان·· تثاؤب لا يشي بالنعاس حسب، ولكن بضرب كل مصائب هذه الحياة عرض الحائط·

إن زوجته وهي تحاول أن تواسيه تبدو له أحياناً امرأة غريبة عنه، لم يعاشرها يوماً واحداً ولم يمض معها ربع قرن من الزمان·· وتثاؤبها في تلك اللحظة بالذات أثار نفوره وجعله يرغب في نفيها عنه بأية طريقة···

نكس نظره عن صورة الابن، وقال لزوجته:

- ألن نتعشى؟

ثم غاب مرة أخرى إلى المكان الذي يبقى فيه وحيداً، ويجعله أكثر ذعراً وحزناً وغربة·· غاب إلى بئر الفكرة السوداء التي تراوده منذ الحادث، وهو لا يعرف كيف أو إلى أين يهرب من إلحاح ظلها الذي يلاحقه في يقظته ومنامه ويبهظ عليه أيامه بلا رحمة.

 

7

يصل الأب إلى مقبرة الكرخ كل مرة كما لو أنه يصلها لأول مرة·· تنبثق في رأسه على الفور صورة المرة الأولى التي جاء فيها لشراء مقبرة خاصة للعائلة، ولم تكن المقبرة حينذاك مأهولة إلا بقبور متناثرة تظلّلها سيقان هائلة من أشجار اليوكالبتوس، متقشّرٌ لحاؤها على الدوام، وكأن وجودها في هذا المكان تناغمٌ طبيعي من تناغمات الطبيعة مع نفسها· كان ذلك في العام الأول لبدء الحرب مع إيران، وكان عليّ في الرابعة عشرة من عمره، ولم يكن ليخطر في بال أحد أن هذا الطفل سيدرك حرباً أخرى، ويُستشهد فيها ليكون أول من يدشّن مقبرة العائلة هذه· إلاّ أن الأب عندما عاد إليها لدفن ابنه بعد عشر سنوات هاله أن يراها مدكوكة بالقبور التي تعلن شواهدها عن أعمار الذين أهلوها، وكلهم بمثل عمر عليّ أو قريباً منه، حتى ليُخيل للمرء أن الشهداء قد اصطفوا طيلة تلك السنوات في طوابير حاشدة تتقدم باستمرار باتجاه واحد، وأن الواقفين فيها لا يملكون من مصائرهم شيئاً غير اتخاذ أماكنهم المحتومة في هذا العراء الموحش البعيد·

انهارت الأم في اللحظة التي توقفت فيها السيارة قرب القبر، وانكفأت على نفسها تبكي بلا هوادة، وكأنها ترى القبر لأول مرة· سقطت عين الأب على الأوراق اليابسة المتساقطة حوله وأحسّ بها تعنيه أكثر من من القبر نفسه، وأراد أن يسأل زوجته في تلك اللحظة شيئاً، ولكنه تراجع عن ذلك، ومضى إلى دلو الماء لكي يملأه ويغسل المرمرات التي غطاها التراب· فتح صندوق السيارة وراح ينظر في جوفها المظلم، والانتباه يهرب منه إلى مكان آخر·· لماذا فتحه؟ كانت زوجته قد أصبحت قرب القبر تحتضنه وتبكي، كما لو أنها فقدت ابنها للتو، وأن أشبار التراب التي تبعدها عنه، دون أن تستطيع رؤيته أو احتضانه تشعل في روحها وجعاً ممضّاً لا يرحم·

لماذا فتحه؟ تناهت إلى أنفه رائحة حيوان ميت مرمي على قارعة الطريق، وانتابته لحظة من الحيرة·· نفض رأسه بعدها ليتذكر السبب الذي فتح صندوق السيارة لأجله، ولكنه لم يعد قادراً على التذكّر، بل وجد أفكاره تغوص في وحل مليء بالديدان وبرد قارس يجمد الأطراف··

لماذا فتحه؟

الظلمة العمياء الحالكة كانت تتواصل بلا نهاية·· والكفوف الناحلة التي تتحرك برشاقة السنابل قد تثقّبت بفعل النهش المستمر للديدان والرطوبة·

لماذ فتحه؟

بل الأفواه التي اعترضت وسخرت وقهقهت وصرخت وغنّت وقبّلت قد حشّتها الأرض الآن بما يكفي من الطين والطفيليات والأشَنات والمياه الآسنة·

لماذ فتحه؟

والجباه العريضة النظيفة التي لم تشق التجاعيد فيها خطّاً واحداً بعد، قد انخسفت الآن على الرؤوس الفارغة المنخورة والمحاجر التي لم يعد يملأ تجاويفها شيء غير التراب·

لماذا فتحه؟

وراح الأب ينفض رأسه بشدة، وكأنه يتفادى حشرة لجوجة تنطح أذنيه بلا هوادة···· ثم انغلق الصندوق فجأة على صرخة عالية سقطت على إثْرها بضع أوراق يابسة من شجرة اليوكالبتوس التي تظلل القبر· انقطعت الأم عن البكاء وهي تلتفت مبهوتة إلى زوجها وآيات القرآن لا تزال تتطاير من فمها، ثم هبّت من مكانها مذعورة، وهرولت إلى زوجها وهي تصرخ بهستيرية:

- لا عيني لا·· لا عيني لا····

انطفأت شمعتان كانتا مشتعلتين بجوار القبر بسبب هبّتها المفاجئة تلك· وقبل أن تصل إليه تعثّرت بعباءتها وتهاوت على الأرض، بينما الأب كان لا يزال منكفئاً على سيارته يضرب صندوقها برأسه ويبكي مثلما تبكي النساء.

 

8

التفت الأب إلى زوجته يريد الهرب من تلك الأفكار التي تؤرقه وتتلف سكينة روحه، فوجدها تغطّ في نوم عميق وقد انحسر الغطاء عن رجليها وباتت قدماها العريضتان بمواجهته مثل حيوانين هزيلين بينهما وبين الموت خطوة واحدة· لقد أسلمها بكاؤها الطويل إلى هذا النوم العميق، وقد جعله ذلك يتذكر كيف أنها كانت أثناء القصف تقبع في مكانها هذا وهي تتحدث إلى الله طيلة الوقت، ثم تغرق في نوبات طويلة من البكاء تسلّمها بعد ذلك إلى مثل هذا النوم الهانئ العميق الذي لا تنال منه الأصوات والانفجارات والهدير المتواصل للطائرات المُغيرة طوال الليل·

قالت له ذات يوم:

- تقول جارتنا إن قريبها وأبناءه الثلاثة احترقوا داخل ملجأ العامرية·· انظر إلى القسمة، فهي تقول إنهم ليسوا من أهل المنطقة، ولكنهم عندما خافوا البقاء في بيتهم بكرادة مريم أثناء القصف، تركوه والتجأوا إلى بيت عمةٍ لهم في العامرية، وعندما حدثت الغارة خافوا مرة أخرى وذهبوا ليبيتوا في الملجأ، وهناك كان أجلهم في المكان الذي اعتقدوه أكثر الأماكن أماناً ودفعاً للأجل···· تقول أيضاً إن الممرضة الوحيدة التي كانت تنام قرب باب الملجأ، ونجت من الحادث، كانت تسمع طوال الليل بكاء المحتجزين وراء تلك الأبواب التي أقفلتْها قوة العصف، وأن ضربات أيديهم على تلك الأبواب لم تتلاشَ تماماً إلا قريب الفجر عندما تمكن الإطفائيون من فتح الأبواب، ليجدوهم وقد تحولوا إلى لحم ذائب محترق·

إنها على الأقل تتلهّى بحكايات الجارات والصديقات·· تجد فيها السلوى والعزاء·· ستمضغ أذناها المفتوحتان على الدوام ككل آذان النساء هذا الكلام وتتلهى به، وسيتحول جزعها، مع مرور الأيام، إلى حزن ويضمحل الحزن إلى نوبات من الألم حتى يؤول إلى الأسف وغيره· إنها على الأقل تلوذ بمسلّمات كثيرة تمنحها الراحة والسلام، وتعينها على ما قد أصبح خسارة أكيدة لن يعوّضها أي سلوان·· تؤمن بأنه قد مات لأنه من أهل الجنة، وتؤمن بأن روحه ستحوم حول البيت أربعين يوماً بعد موته، وتؤمن بأنها يجب أن تشعل له الشموع وتحرق البخور عند كل غروب، لأن ذلك يضيء له وحشته ويعطّرها·· تؤمن بما تؤمن به كل النساء وتستعرض كل يوم أمامه تأريخاً بأكمله من الطقوس المسكّنة لا يدري من علّمها إياها، وأين ومتى؟··

بعد انقضاء الأربعين مباشرة تعلّقت بواحدة من تلك المسكّنات، فقالت له إنها رأت عليّاً يطرق باب البيت ثم يمضي مسرعاً حتى توارى في نهاية الزقاق، ثم قالت بعد ذلك إنها تحلم به يطلب لحماً مشويّاً وعصير برتقال، وإن عليها أن تحمل كل يوم خميس تلك الأطعمة إلى الفقراء لكي يأكلوها بدلاً منه·

ستصرّ أيضاً على أن يذهبا إلى المقبرة قبل شروق الشمس لكي تستطيع روحه أن تلاقيهما، فلا يحول ضياء الشمس بينه وبين رؤيته لهما·

- أتهرب الأرواح إذا انتشر ضياء الشمس؟

- نعم تهرب·

- لماذا؟

- هكذا·· تهرب·

ثم لا مناص بعد ذلك من الإذعان لرغبتها في حمل الشموع والبخور وشرائط القرآن المرتّل وبطاريات المسجلة وحافظة الماء، وعلبة المناديل الورقية، ووضع ذلك كله في سلّتها الخضراء البلاستيكية والرجوع بالسيارة من المرآب····· تروب······ وتحط السيارة فوق إسفلت الشارع، ويُسمع صوت ارتطام الأشياء ببعضها داخل السلة، وهي تطلق الصوت نفسه الذي تطلقه كل مرة، فيسأل نفسه السؤال ذاته:

- لمن يذهبون، ولمن كل هذا العناء·· ولماذا؟

ويستأنف الوحش الرابض تنفسه من جديد···· ويمسك بخناقه ليرميه إلى قبره المفتوح على الدوام·

هكذا رفع الأب رأسه أخيراً عن الوسادة وقرر أن يغادر الفراش.

 

9

أرجوحته عاطلة عن الكلام! شعرتْ بوحشته قبلنا، فأصابها الألم وتخلخلت ثم توقفت·· كلما أردتُ المجيء بمن يعيدها إلى حالها الذي كانت عليه، تلكأتُ عن تصليحها وقلت: لم يحن الأوان بعد لذلك·· وليس الآن·· وفيما بعد·· إلى أن انتهت يدها اليمنى المكسورة إلى شيء سائب يربطه بجسم الأرجوحة خليط من الأسلاك والخرق والكلّابات الحديدية······ أربعين يوماً وهي تنظر إلى ما حدث في البيت من هرج ومرج هبط خلاله الأطفال إلى مولدِ صاحبه غائب، وعاثوا بها وبالحديقة لهواً وتخريباً، بينما أمّهاتهم لاهيات عنهم بالدوران في أرجاء البيت ليطبخن وينفخن بنشاط متزايد تارة، أو بالتهالك فجأة على الأرض ليبكين ويلطمن بالنشاط نفسه تارةً أخرى·

كان رتلاً من الأيام العصيبات وانقضى·· وعندما انتهى الرتل، وخفتت الأصوات داخل البيت من جديد، غفت المرأة العجوز الوحيدة التي بقيت معنا، بعد أن ذهب الجميع، ثم قالت لنا، قبل أن يسقط رأسها على كتفها وتنام، إن قريبتها قد جاءها المخاض قبل أوانها، فرزقت بطفل ميت، وإن ثلاجة حفظ الموتى بالمستشفى كانت عاطلة، بسبب انقطاع الكهرباء، فطلبوا من أبي المولود أن يصطحبه إلى ثلاجة البيت، ويحفظه حتى الصباح أو، إنْ شاء، يأخذه مباشرة إلى المقبرة ويدفنه فيها إن استطاع ذلك····· هذه هي القصص التي يجب أن تسمعها الأم في أيام العزاء·

في مطلع الشتاء الذي مر قبل عامين كنت قد طلبت من عليّ أن يزرع عود ياسمين في الحديقة، فقال لي إن ورد الياسمين يحب وجه الشمس، ويحتاج إلى الكثير الكثير من ضيائها لكي ينمو ويعيش، واقترح أن يزرعها قرب الأرجوحة لكي تتسلقها بعد ذلك وتبقى تحت الشمس مباشرة فتتشبع بالضوء وتنجو ممن الموت·· وكان المفروض أن تزهر الياسمينة هذا العام، لأننا زرعناها أول العام الماضي، ولكن عندما اشتدّ البرد هذا الشتاء تجمدت الحياة فيها وتحوّلت أغصانها إلى عيدان صفراء يابسة لا تُرتجى منها حياة········ قال لي عليّ مؤكداً بعد موجة البرد تلك:

- ماتت الياسمينه·

فهرعت أتأملها عن قرب، وألمس عيدانها اليابسة بأصابعي، وأنا أشعر بالحزن، لأن موجة برد عابرة استطاعت أن تقهر عامين من صبر تلك النبتة وانتظارنا لعناقيد عطرها الأخّاذ· مرت بشتاءين قارسين دون أن يصيبها الذبول، ثم دهمها صقيع مفاجئ فقطع عليها طريق الصعود إلى أعلى من أجل الحياة·· يابسة تماماً كانت في آخر مرة ذهب فيها عليّ، وانقطعت أخباره عنّا، وعندما جاءت الطائرات الأمريكية لتقصفنا في برد الشتاء، هجعنا وهدأنا داخل البيوت لحين أن ينتهي الضجيج ويُسفر كابوسه المجنون عن صباح·· ولم يعد ممكناً تذكّر أمر الحدائق أو الشوارع أو السيارات أو الأشجار أو البيوت أو أي شيء· أصبحتْ ذاكرتي مثل دورق ماء رقراق لا تُرى فيه غير حصاة واحدة·· هي خوفي على عليّ وانتظاري لحظة رجوعه·· وكنت لمجرد أن أشعر بالحاجة إلى تفقّد شيء آخر سواه، ينتابني الخمول ويأخذ منّي العجز الشديد كل مأخذ·

ولكني قبل أيام، وعندما كنت أغسل بلاطات المرآب قبل الغروب، وجّهت خرطوم الماء إليها، كعادتي، لمجرد أن ترتوي ودون أن أمتلك الأمل الراسخ فعلاً بأن تعود إليها الحياة في تلك اللحظة أو في أي لحظة أخرى· تركت فوهة الخرطوم عند قدميها، والتفتُّ لأُمعن النظر في باقي الأشجار·· نظرة رمتني على الفور إلى الأرض بفرح وجعلتني أقرفص في مكاني، وأنا أهتف في سّري:

- ما هذا··؟!

كانت أولى علامات الحياة قد ظهرت على تلك النبتة التي ماتت من البرد، إذ تبرعمتْ ورقة صغيرة طرية خضراء لمّاعة فوق فرع يابس من فروعها، وشقّت لها بعناد طريقاً إلى الضوء من بقايا حبل سّري أرسلتْه الأرض إلى تلك الساق الميّتة، فقدحتْ فيها الروح وعادت إليها الحياة·· نظرت إليها بذهول، ثم صحت بفرح:

- لم تمتْ الياسمينة·

جاءت أم عليّ لتقتفي الأمر، فنظرت إلى الورقة الخضراء الصغيرة مليّاً، ثم دمعت عيناها، وقالت:

- سودة عليه· لا عشتُ بعدك يوماً يا حبيبي··

ثم رفعت رأسها باتجاه الباب، وقالت:

- لقد قلت لك إنني عندما كنت واقفة في الحديقة قبل أيام، هناك قرب حوض ورد الجوري الأحمر، رأيت أحداً ما كثير الشبه بعليّ ينظر إلى الحديقة، ثم يمضي مسرعاً ويختفي في نهاية الزقاق·

ولم أعلّق على كلامها بشيء·· أشحت وجهي عنها، وأنا أريد الاحتفاظ بلمحة الفرح العابرة التي منحتني إيّاها نبتةٌ زرعها عليّ بيديه ذات يوم، وتورق الآن أمامي، لكي أرعاها وأحميها وأراها تعيش بدلاً منه·· أو أدعها تنضم إلى ذلك الرتل الحاشد الذي ما انقطع يوماً عن المسير منذ ذهب عليّ، وكُتب عليه أن لا يعود·

نهضتْ أمه تكفكف دموعها، ثم جلست على حافة الأرجوحة، وعادت تبكي من جديد·· هي أيضاً تريد لهذا الرتل أن لا ينتهي·· تريد أن تظل تلاحقه بوشائج خفية لا تُرى، وأن تمرّ على تفاصيله قطعة قطعة، وجزءاً جزءاً قبل أن يريحها اليأس وتفرغ منه إلى رتل آخر·· لا شيء في ذلك غير اعتيادي·· وهي المرة الأولى التي يصادفنا فيها مثل هذا القطار الأهوج الذي تبرق كل نافذة من نوافذه لوهلة، ثم سرعان ما تختفي قبل أن يستطيع أي منا اللحاق بها أو النفاذ منها لوهلة، إلى أي مكان آخر يريحنا غير هذا المكان·

لفائف الأرجوحة التي احتوت يدها المكسورة لم تستطع أن تجعلهــا تلتئم بالجسد القوي من جديد، ولكنها استطاعت أن تمنعها من السقوط فقط·· أصدرت صوتاً كالأزيز، وأنا أنهض منها إلى خرطوم الماء الملتف على نفسه كالثعبان·· قطــرات متباعدة كانت تتساقط من فوهته إلى الأرض·· أدرتُ مفتــاح الحنفية إلى أقصاه وسحبت رأس الخرطوم قريباً مـــن الأرجوحـــة وتركته قرب جذر الياسمين····· يتدفّــق.

 

10

غرق الأب مرة أخرى في تلك النظرة الغريبة نفسها التي تتعلق بعينيه منذ الحادث·· نظرتْ إليه الأم وهي تضع له السكّر في الشاي، ثم أطفأت النار تحت بيضتها المسلوقة ونقلتها إلى الطبق الذي أمامها على المائدة·

قال الأب وهو يرفع نظره من قدح الشاي إلى زوجته:

- أتضعين ملابس علي الشتوية مع ملابسنا في الحقائب الشتوية؟

توقّفت أصابع الأم عن تقشير البيضة، وقالت بصوت ضعيف يُسمع بالكاد:

- نعم·

أراد الأب أن يتوقف فجأة عمّا بدأه قبل قليل، ولكنه أحسّ في اللحظة الأخيرة أنه ليس ثمة مجال للتراجع·

قال الأب:

- أهناك بين ملابسه سراويل داخلية من النوع القطني الطويل؟

قالت الأم، ويداها جامدتان على البيضة تماماً:

- كلا·

قال الأب لنفسه >بل ثمة مجال للتراجع·· كل شيء يمضي إلى نهايته·· فماذا أبحث عن بداية جديدة؟<·

قالت الأم:

- لماذا؟!

قال الأب:

- لا شيء·· أريد أن ألبسها وقت البرد·

ثم أردف:

- افتحي المذياع·

نهضت الأم، وكان قلبها لا يزال ينتفض، وأذناها تطنّان، والرؤية غائمة أمام عينيها، فأدارت مفتاح المذياع الموضوع فوق الثلاجة·

قال زوجها:

- هاته إلى هنا·

شعرت الأم بثقل المذياع على يديها·· وتخلخل الهواء في صدرها حتى أحسّت أنه يمرّ من أنفها إلى هوة سحيقة ليس لها قرار· وضعت المذياع أمامه، فراح يعبث بقرصه ويتنقل بين الإذاعات بلا هدف: قرآن، ثم غناء أوبرالي، ثم لغط، ثم تشويش، ثم أخبار، ثم غناء بدوي، ثم قرآن·· أحسّت الأم بهلع شديد، وغابت روحها في تلك الهوة السحيقة أكثر فأكثر حتى استقر الصوت على نشرة الأخبار من إذاعة بغداد·· كان المذيع يردد أسماء رجال ثلاثية واحداً بعد الآخر·· علي عبدالله إسماعيل، سمير وادي أحمد، صالح حاجي إبراهيم، طاهر حميد راضي، عبد الجبار كعيد محمد، عبد الحسين شريف حسن، عبد الرزاق طلعت عثمان، عبد الرسول عبد الحسين حسن، عدنان هاشم قاسم، كاميران عبدالله إبراهيم، شوكت نوري عثمان، صالح نجم سهيل··

سألت الأم:

- ما هذه الأسماء؟

قال الأب: أسماء·· دائماً أسماء·

ثم أراد أن يدير القرص على إذاعة أخرى، فقالت الأم:

- دعها·

- ماذا؟

- اتركها لنسمع؟

ربما أسرى·· وربما وزراء·· ربما مفقودون·· وربما شهداء·· وربما أعداء·· وربما أصدقاء·· ماذا سيهم مما يذيعون، وهو الذي انزرعت بذرة الشك في نفسه، ويريد أن يكشف لأحد ما تلك الفكرة التي تعذّبه قبل أن يتحول هذا الذي يدور في رأسه إلى وهْمٍ، وربما يختلط في ذاكرته مع فتات الذكريات، وتخبو جذوته شيئاً فشيئاً حتى ينطفئ ويتحول إلى رماد.

 

11

حامت طائرة مروحية مدنية في السماء، فانقبض قلب الأب على الفور، وتذكر أيام القصف كيف أقفلت البيوت على أهليها المنذهلين، وتقاربت الأجساد بعضها من بعض، وأينعت السماء لهباً أحمر وأخضر وأزرق، ثم انتثر شرار الطائرات الصغيرة فوق الرؤوس لينذر بيوم كيوم القيامة······ كانت سحابة من الدخان الأسود قد اجتاحت بغداد، وتكاثفت في الجو غيمة عملاقة سوداء ظللت الأرض بلون قاتم وكئيب هو لون الدخان وطعمه ورائحته· لمتْ الريح شتاته من كل مكان، حتى إذا ما انقضت الحرائق، وانتهت أيام القصف الثلاثة والأربعون، أمطرت السماء مطراً أسود لا تزال آثاره ناصلة سوداء وموجودة بوضوح فوق أسيجة المنازل والسطوح··

- ماذا جرى؟

- ما هذا المطر الأسود؟

كانت تلك الذؤابات السود قد شوهت أسيجة المنزل، مع ذلك فالأب يشعر أن أوان طلائها لم يحن بعد·· أصبح كل شيء مؤجلاً في حياة هذا البيت، بل أصبح معلقاً على مشجب خفي لا يراه أحد سواه·· الشمس طيبة وحنون·· إنها تمنحه على الأقل لذة النعاس، وهو الذي لم يذق هناءة النوم منذ الحادث الذي تسميه زوجته بالقدر····· تململ داخل دشداشته البيضاء الواسعة، وهو يبحث لنفسه عن وضع مريح داخلها·

صاحت الأم من داخل المنزل:

- أبو علي·· الغداء·

ولكنه لم يتحرك من مكانه·· لم يشعر برغبة في النهوض، وظل وجهه بمواجهة الشمس وعيناه مغمضتان·· تناهت إلى أنفه رائحة نارنج خفيفة تنبعث عادة من جسد زوجته وملابسها بعد الانتهاء من الطبخ·· اقتربت منه، وقالت:

- هل أنت نائم؟

- لا·

- هل آتيك بالطعام إلى الحديقة؟

قال لها، وهو ينهض:

- نعم·

ابتعدت، فاعتدل في جلسته داخل الأرجوحة، وقال:

- وهات أيضاً السكائر وعلبة الكبريت·

رفع ملعقة الطعام إلى فمه، وسألته زوجته سؤالاً لم يسمعه، وعندما أعادت عليه السؤال رفع نظره إليها بتثاقل، ثم عاد إلى الطعام من جديد·

قالت الأم:

- ألم تسمعني؟ لماذا لا تجيب؟

كاد يقول لها شيئاً·· أي شيء·· ولكنه تثاقل أيضاً····· ولم تعد الأم سؤالها مرة ثانية، وإنما عادت إلى الصمت لأنها اعتقدته مشغولاً بالطعام، بيد أن الأب كان مشغولاً عن زوجته بأمر آخر·· إنه يستعيد ما حدث مع نفسه·· يراجع ويرصف ويقدم ويؤخر ويوازن عسى أن يخرج بنتيجة أخرى، لكن تفكيره يقوده إلى النتيجة نفسها: إنه لم يعد يميز بين الخطأ والصواب، وإن عليه إما أن يترك التفكير بالأمر إلى الأبد، وإما أن يدعه لكي يخرج للآخرين ويعلموا به·

عدد الملاعق التي تناولها لم يكن يتجاوز عدد أصابع اليدين، مع ذلك شعر بالشبع وأراد أن يحدث زوجته بالأمر· كان يشعر بأنه خارج من بئر سحيقة مظلمة، وأن فمه سيحتاج بعض الوقت لكي يتآلف مع الكلام مرة أخرى·

طلب الشاي من زوجته، فمضت إلى داخل المنزل، وهو يرى أنها تتحدث إليه، وإن لم يكن يسمع ما تقوله·

>ثمة أسباب كثيرة تدعوه لذلك· قد يكون قد اشتراه أو أخذه من أحد بسبب البرد القارس في الشمال، وإن كان قد لفت نظري لسبب من الأسباب، فذلك لأني لم أعتد رؤيته وهو يرتدي هذا النوع من السراويل·<

أيعيد الآن تلك المحاولة التي انقطعت على مائدة الفطور في الصباح، ويحاول مرة أخرى أن يذبح الوساوس التي تعذبه بالسكين··· مرة واحدة وإلى الأبد····· قطرة واحدة من ماء ربما تطفىء جذوة الشك في نفسه، وربما تثير رماداً يتطاير إلى العيون ليديمها ويبكيها إلى الأبد·

انتصبت زوجته أمامه من جديد تحمل صينية الشاي في يدها·

رفع نظره إليها وهو يتكلم بصوت خائف:

- سألتك في الصباح إن كان········

ثم صمت مدة وجيزة، وهو ينظر استكاناً محدداً من الشاي ويراقب عوداً من تفالته يطفو فوق سطحه······ تنهد بعمق، وكأنه يزيح هواءً ثقيلاً من صدره، ثم أردف:

- ألم يكن علي يرتدي واحداً من تلك السراويل القطنية الطويلة عندما خرج في تلك المرة الأخيرة من البيت؟

توقفت الأم عن تحريك الشاي بملعقتها، ثم خرج من فمها صوت جريح مرتجف كأنه لا يلوي على شيء:

- لا لم يكن يرتدي·

كلماتها فيها خوف واستفهام·· تبعها صمت وجيز تشبثت فيه عينا الأم بفم زوجها كأنما تناشده لكي يستعجل ربط أنشوطة الكلام، فلا يعذبها أكثر من ذلك·

قالت الأم بحزم تستحثه على الكلام:

- علي لا يرتدي مثل هذه السراويل·· ولا يوجد عنده واحد منها· لماذا تسأل؟

قال الأب:

- لا شيء·

انتفضت الأم من مكانها كالنمرة، وهبت واقفة وهي تصيح:

- ماذا تريد أن تقول؟

قال الأب وهو ينظر إلى الأرض:

- لا أدري·····

ثم فرك عينيه بأصابع يده اليسرى، وواصل كلامه:

- إنه لمن الصعب أن أخبرك بما رأيت·· الوجه لم يكن سليماً·· ولكن الهيئة والجسم كانا واضحين ومألوفين بالنسبة لي·· شيئاً كأنه مؤكد بأن هذه الجثة هي لعلي· ولكن بنطاله الممزق كان يكشف عن سروال داخلي أزرق اللون من النوع الطويل حال لونه وتلطخ بالطين بسبب الدفن·· رأيته ولم أعره أهمية كافية في بداية الأمر لأني كنت متأكداً بأن علياً: الجسم والرأس والشعر واليدين والقدمين، هو الذي أراه أمامي في الحفرة····· ثم إن أوراقه التي وجدت في جيب سترته فوق القبر جعلت الأمر كله مسلماً به، فلم أدقق كثيراً ولم أتوقف····· وحتى عندما أعدنا دفن الجثة هنا في بغداد لم يكن قد دخل روعي بعد هاجس أن تكون هذه الجثة للطيار الآخر، وليست لابننا·· أو ربما كان هذا الهاجس قد ظل يراوغني حتى جعلني أحس به وأنتبه إليه، لأني في اللحظات التي انهال التراب فيها على الجثة لاح لي ذلك السروال الداخلي الأرزق من جديد، فانتابني شيء من الاستغراب عن السبب الذي دعا علي إلى ارتداء هذا السروال وهو الذي لم يعتد على ارتدائه من قبل·

كانت الأم قد عادت إلى الجلوس أثناء حديثه·· تهاوت على الكرسي وهي تشعر بأن العالم من حولها ينشرخ، وأن لا أحد يستطيع اللحاق بذلك الشرخ الماشي بسرعة ليوقفه، ثم بدت وكأنها أصبحت خارج العالم تماماً في مكان لا يصلها فيه أحد···· الأم جامدة في مكانها لا تريم، وبالكاد قوت على فتح فمها لتقول:

- لماذا لم تخبرني من قبل؟

قال لها:

- ذلك الاستغراب لم يكن إلا ذرة صغيرة جداً من الشك··· ذرة كانت أخف من أعطيها وزناً وأشغل أحداً بها، ولكن تلك الذرة، ولأسباب لا أعرفها باتت تكبر شيئاً فشيئاً حتى أصبحت تلالاً تجثم فوق صدري وتؤرقني··· ربما أوحت لي المسافة التي لا عودة فيها إلى تلافي الخطأ، أن هناك ما كان يجب أن يُفعل ولم أفعله، وربما لم يكن السروال الداخلي الأزرق موجوداً أصلاً، وربما تخيلته، وربما كان علي يلبسه فعلاً، وقد اشتراه تحت وطأة البرد الشديد في الجبال··· وربما أعاره إياه زميله ذلك الطيار الآخر بسبب البرد·····ربما··· ربما·

في تلك اللحظة التي لن تنقضي من حياة الأم إلى الأبد، أغمضت الأم جفنيها على عينين جافتين تماماً، ثم فتحتهما لتجد زوجها يجلس أمامها متكوراً داخل دشداشته البيضاء وهو مطرق إلى الأرض، وكأنه قد اقترف ذنباً بحقها· تخيلته ميتاً لشدة سكونه، ثم تململ بعد قليل، واستوى، ورفع نظره إليها من جديد·· بدا وكأنه قد أفرغ ما في جعبته وينتظر كلمة واحدة تقولها، إلا أنه وبمصادفة بحتة انطلق فجأة في الشارع صراخ طفل انقفل دونه باب منزله، فظل يقف خارج البيت مرعوباً يبكي ويصيح بحرقة شديدة:

- افتحوا الباااااااااااب·

انصرف ذهن الأم إلى صوت ذلك الطفل الذي سمعته بوضوح، فنادت برأسها وهي تتمتم:

- لتخاف حبيبي·· عابت روحي عليك· اسود وجهي يوم·

حدق الأب فيها وهو لا يفهم ما تقوله، فاتسعت عيناها وتغرغرت بالدموع، وصاحت بصوت أعلى:

- افتحوا له الباب·

ثم نهضت من مكانها، وركضت إلى الباب المسدود لتفتحه، تردد بلا انقطاع:

- اسم الله يمة··· اسم الله الرحمن··· اسم الله الرحمن··· ماتت أمك يوم·· ماتت أمك يوم·

كان بكاء الطفل قد أصبح أكثر حرقة ولوعة ويشي بظلم كبير لأنه متروك للفراغ والوحدة خارج بيته····· متروك للخوف العظيم الذي لا يرحم·

عادت الطائرة المروحية التي حامت فوق البيت قبل قليل، لتطير بانخفاض سادر، فانقطع بكاء الطفل وخوفه ولوعته وانخطف وجهه الغارق بالدموع إلى أعلى بحركة عفوية مفاجئة، وما هي إلا لحظات حتى غطى صوت المروحية الهائلة على كل الأصوات، وتجمدت الأم في مكانها وهي تغطي رأسها بيديها لئلا تدفعها الريح بعيداً······ وكان هذا المشهد هو آخر ما رآه الأب من مكانه في الحديقة قبل أن ينغلق باب البيت بفعل العصف الشديد لتلك الطائرة الهوجاء.

 

12

لم أشتبه بشيء في حياتي كلها، لأني لم أكن لأهتم أو أعول على شيء مما سنشتبه به أو نعيد اكتشافه أن يتحول إلى أعجوبة·

ولكني عدت من المقبرة وفتحت باب البيت، وجلست بين الرجال أحادثهم وأتقبل تعازيهم وذهني شارد عنهم في مكان آخر·· انفض الرجال وجاء الليل، وجرى ترتيب البيت لمبيت الغرباء وإيواء المعزين، وقال جميع الجيران والأصدقاء والمعارف إنهم سيجيئون كل يوم للاطمئنان علينا، وهمست أختي الكبيرة بأن لا يتركوني وحيداً·· ثم تملكني نعاس من شدة الإعياء فتمددت بملابس الخروج على فراش مريح ممدود على الأرض، وأغمضت عيني كي أنام··· أيكون الموت هو القادر المطلق على اجتراح المعجزات، أم أن الأشياء جميعها موجودة في دواليب الذاكرة، وما على الموت سوى إطلاقها من القمقم·

كنت أحدق خلل الظلام في الشاحنة الصغيرة التي حملت التابوت وهو في مؤخرتها يهتز مع حركتها ويرتج·· كنت أجلس في المقعد الأمامي لسيارة تشّيعه أحدّق عبر ضباب مظلم بارد وهو مهدور الوجه على هذا الخشب الرخيص وهذه الأرض الحديدية الصدئة·· نظرت إلى يدي فوجدتهما نظيفتين جداً، وكأني خارج لتوي من الحمام، وخاتم الزواج قد تزحلق قليلاً من مكانه حتى يكاد يسقط في أية لحظة لشدة ما أصيبت به أصابعي من هزال· لم يكن قلبي ينبض حينها وإنما يرتجف·· وكانت أنفاسي تتلاحق مسعورة كأنفاس طفل خائف يبكي ولا يسمعه أحد·

كنت مأخوذاً مذهولاً بما يجري·· بما لا يجري··· بما يمكن·· بما لا يمكن·· بما ينبغي·· بما لا ينبغي·· علي الآن يتناول الغداء·· علي الآن يغتسل·· علي الآن يودع السيارة في المرآب·· علي الآن يهبط السلم على عجل·· علي الآن يحمل بعض الطعام إلى القطط·· ولكن الشاحنة كانت تدوس الشارع وتمضي فتحدث في روحي ظلاماً أشد سواداً من الإسفلت·· لقد رأيته ينهض من الشاحنة معترضاً على ذلك المصير الأسود·· رأيته يعترض على وجهه المبعثر الممحو، ويريد ملامح وجهه التي انمحت مع ضربة الشفرة المروحية العملاقة·

رأيته يمد ذقنه الذي كان سليماً وحده ويقول لي··· تأكد يا أبي·· تأكد جيداً·· وكان ذقنه ملتحياً بشعر خفيف وناعم يشبه زغب الطفولة·· ثم أصبح الوجه كله سليماً بعد ذلك، رجع جميل الملامح كما كان، وأصبحنا وجهاً لوجه، وحدق بعضنا في بعض مدة طويلة·

وخيل لي أن تلك المدة امتدت حتى أشرق الصباح·· نمت خلالها نوماً متقطعاً ثم حلمت مرة أخرى بجثة تسقط من الطابق العلوي، فالتقفها وهي ممحوة الوجه، ولكن جسدها ساخن بين يدي، وزوجتي تنادي من فوق وتقول:

- لقد نسيتموه وخرجتم·· وها هو قد تأخر عن المدرسة·

لما صحوت من النوم كانت الشمس قد تسللت إلى أرض غرفة المعيشة وغمرتها بالنور، وكان بقربي غرباء كثيرون نائمون·· رجال أعرفهم ولا أعرفهم·· بملابس البيت أو بملابس الخروج ممددين هنا وهناك·· ويغطون في نومهم بعمق كالأطفال·

تدربت في معسكر النهروان على حمل السلاح، وقضيت ستة أشهر في حفرة محاطة بالأكياس الرملية·· ولكن الأمر مختلف مع هذا التجمع الحاشد·· وكأنها المرة الأولى في حياتي التي أجد نفسي فيها نائماً مع رجال غرباء·· جعلني ذلك أشعر بالضيق الشديد في بداية الأمر، لأن قلبي حزين·· وغايته أن يبقى حزيناً·· والحزن لا يمكن أن يأخذ مداه في مثل هذا المكان·· مع ذلك انتابتني، فور صحوي، لحظات وجيزة من الراحة زيّنت لي بأن ما حدث كان حلماً عجيباً، وأن الواقع سيبدأ الآن ما دمت قد استيقظت من النوم· إن ما جرى ويجري سينتهي حالما يعود هؤلاء الغرباء إلى بيوتهم، فتنتهي الفجيعة بتلك المغادرة· ومرت دقائق على هذا النحو هدأ فيها كل شيء من حولي وأنا مضطرب على حافة النوم، أحاول أن أستعيد شيئاً في اليقظة ولا أستطيع· إلا أنني في اللحظة نفسها أحسست، وقد تذكرت ذلك الشيء، بستار أسود سميك ينسدل على تلك اللحظات الوجيزة من الراحة، ويدمر تلك السكينة التي حطت على روحي مثل مصباح كان منوراً فأصابته شظية، فحطمته على الفور، ليعم الظلام من جديد·

هل حدقت طويلاً ؟!

كنت بمفردي واثقاً من أن ما جرى ويجري سينتهي حالما يعود هؤلاء الغرباء إلى بيوتهم، وأن معجزة ما ستحدث لتصحيح الخطأ···· كنت أحاول وحدي اقتفاء أثر عطر يتضوع بعد أن رحل صاحبه·· كنت أبتعد بلا رغبة في المشاركة بهذا العيد الأهوج، والبيت يبدأ استعداده ليوم جديد مملوء بأولئك الغرباء القادمين من أماكن مختلفة··· بضجة إعداد الطعام وكأن شيئاً لم يحدث·· بصوت تلاوة القرآن العالي·· بأبواب البيت المفتوحة على البرد بلا رحمة·

يوم جديد بلا صمت·· بلا زقزقة عصافير·· بلا صباح·· بلا ليل·· بلا عليّ·· بلا أي شيء.

 

13

اشتعل الضوء الأحمر فأوقف السيارة·· نظر في المرآة الجانبية فكانت تكبر داخلها صورة حافلة تقترب، حتى إذا ما بلغت الإشارة الحمراء توقفت بموازاته···· كانت كبيرة جداً مصبوغة باللون الخاكي وخالية من الرقم·· أثارت انتباهه فالتفت إليها يتفحصها بنظره، فوجد نوافذها وقد أسدلت ستائرها بحيث لا تكشف جزءاً ولو صغيراً عما بداخلها···· انتابه هاجس غريب أربكه وشوّش الرؤية أمام عينيه··· إن منظر هذه الحافلة أمر شاق وثقيل يبهظه ويرهقه ويجعل قلبه يهبط إلى عز العدم·· إنه يشعر بتلك الغصة التي خلّفها رحيل علي راكدة في صدره تصعد الآن إلى حلقه وتعود لتتكسر في صدره من جديد·

تحركت الأشجار بعطر هواء خريفي منعش، فاهتزت الحافلة الخاكية الخالية من الرقم في مكانها، ثم انطلقت إلى جسر السنك تعبره باتجاه الكرخ·· وسرعان ما اختفت بعيداً عن الأنظار······ انتبه إلى أنه كان يسير على غير هدى، وأنه قد قطع الشوارع بدون وعي أو انتباه·· تراوغه الغاية التي خرج من أجلها·· وتستدرجه للاقتراب منها، فيواصل سيره باتجاه جسر الجمهورية، بعد أن فاته جسر السنك، ومن هناك عبر إلى الكرخ واستدار باتجاه كرادة مريم ثم شارع حيفا··

الاهتداء إلى بيت الطيار الآخر لم يكن بالأمر السهل، ولكن ما كان أصعب منه بكثير هو افتتاح الكلام مع أهله حول الموضوع· ماذا سيقول لهم، وكيف وبأية وسيلة؟ أيسألهم عن ذلك السروال الأزرق الطويل، ويطلب منهم بعد ذلك أن يقبلوا بأن ابنهم، ربما، هو الذي دفن في مقبرة الكرخ بدلاً من ابنه الأسير حسبما دخل روعه؟ أية أم تلك التي ستقبل بهذا التقويض المفاجئ للأمل الذي تعيش عليه باقي أيامها·

قال لأب الطيار الآخر:

- ألم تستلموا منه رسالة؟

- كلا·

- مكالمة··· خبراً·· أي شيء؟

- كلا·

- كيف إذن تأكدتم أنه في الأسر؟

قالت أم الطيار الآخر، وعيناها مغرورقتان بالدموع:

- لم نتأكد حتى الآن، فقد ذهبت بنفسي إلى السليمانية أكثر من مرة، وفي كل مرة كنت أعود بلا شيء تقريباً·

تدخل زوجها قائلاً:

- دفعنا آلاف الدنانير من أجل أن نحظى بالخبر اليقين عن ابننا، ولكن كل من التقيناه لم يكن يعطينا سوى نصف الحقيقة··· ولكثرة الذين أكدوا لي أنهم رأوه، وقد اقتيد جريحاً إلى الأسر، لم أعد أثق بأن أحداً رآه من الأصل· أحدهم أقسم لي أغلظ الإيمان أنه رآه في مستشفى كلر··· وآخر قال إنه سمع اسمه وقد أذيع مع أسماء الأسرى من إذاعتهم··· لا يوجد يقين·· لا شيء مؤكد حتى الآن·

قال أبو علي:

- وحدته ماذا تقول؟

قال أبو الطيار الآخر:

- لقد اعتبرته مفقوداً، وتقول ربما يحتفظون به إلى نهاية الحرب ما دام طياراً··· يساومون عليه ويستعملونه ورقة للمفاوضات·

ثم تنهد بعمق، وأردف:

- لم يعد أمامنا الآن سوى أن ننتظر ونصدق أنه أسير ما دامت جثته غير موجودة·

كاد أبو علي أن يقول له: ربما·········

وهو يريد أن يفتح موضوع الشك الذي يساوره في هوية الجثة التي دفنت قرب مروحة الطائرة في كلر، ولكنه تراجع عن ذلك في اللحظة الأخيرة·

لاحظ أبو علي منذ الوهلة الأولى التي وصل فيها إلى بيت الطيار الآخر طرازه الشعبي من الخارج، والذي لا يختلف عن باقي بيوت منطقة (علي الصالح) في الكرخ بشيء تقريباً، وعندما أصبح في غرفة الجلوس انتبه إلى أن نوعية الأثاث الرديئة وهندام البيت من الداخل يتناقضان مع موديل السيارة الفارهة التي تقف في المرآب·· هندام الأب أيضاً ينم عن هذا الذوق الشعبي في ارتداء الملابس: دشداشة رصاصية اللون يرتدي فوقها كنزة صوفية متهدلة، وتحتها سروال قطني من النوع الطويل، أما الأم فكانت غارقة في الملابس السود·

ثمة أرائك في غرفة الجلوس مغطاة بشراشف مطرزة بخيوط حالت ألوانها من كثرة الغسل··· والسقف قد تساقط الجص من بعض مواضعه وتقشر الطلاء في أماكن أخرى بسبب الرطوبة· والستائر نفسها تتدلى أيضاً، تلك التي ظل الحجاج يأتون بها من مكة عدة سنوات حتى ملأت بيوت بغداد الشعبية بأرضياتها البيج البولستر وورودها الحمر العملاقة المتشابكة عند الحواشي·· أما آثار بصمات الأصابع على الجدران فقد عبّدتها أيادي الصغار بطبقات لماعة تصعب إزالتها حتى أصبحت كأنها جزء أصيل من كساء الجدار·

استأذن أبو علي من أبي الطيار الآخر، وهو لا يشعر بأية رغبة في إثارة السؤال الذي جاء من أجله····· كان البيت وأهله قد أعطوه الجواب·· فماذا يعني ذلك بحق الإله؟···· ماذا يعني تأكُده بأن الطيار الجريح الأسير كان يرتدي سروالاً داخلياً من النوع القطني الطويل الذي يرتديه أبوه الآن··· أو ماذا يعني من منهما الذي في القبر الآن، ومن منهما الذي في الأسر ؟ لم يعد يعني له تبادل المصائر بين الاثنين شيئاً ذا أهمية، لأن الآخر أيضاً مجهول المكان، وقد اخترع له أهله مصيراً وهمياً وتعلقوا به كما يتعلق بالغيب كل فقير أو مظلوم· اخترعوا له أسراً وعراً مثل كل أمكنة الأسر الوعرة التي لا فكاك منها، ولا طريق إليها إلا عبر الأماني والدعاء·· فلماذا يريد إخراج ابنه من مصير مظلم وزجه إلى مصير آخر أكثر جهامة وغموضاً وظلاماً ؟؟؟ لماذا يريد البحث عن البداية من جديد ما دام الاثنان قد انمحيا من الوجود بلمحة بصر، وضاعا في المجهول إلى الأبد؟

تذكر زوجته التي تنتظره في البيت، وما ستطالبه به من أجوبة قاطعة تريحها من أشباح ذلك النفق المظلم الذي وضعها فيه زوجها فجأة·

نفض رأسه من ندم لم يعد يجدي نفضه، ثم عاد مرة أخرى من الباب إلى الباب، وسأل أهل الطيار الآخر إن كانت لديهم صورة لابنهم وهو بملابسه العسكرية·

انزرعت الدهشة في عيني الأبوين الآخرين، وكانا منذ البداية يستشعران بأن الزيارة غير طبيعية، وتفوح برائحة شيء مبهم يصعب تحديده···· ومع ذلك فقد فسحا له المجال للدخول مرة أخرى، ثم طلبا منه الانتظار لحظات·· انطلق صوت بوق السيارة في المرآب فجأة، وراح يملأ المكان بضجيج مزعج، وعندما أصبح الصوت جحيماً لا يطاق أمر أبو الطيار الآخر حفيداً من أحفاده بأن يذهب إلى السيارة ويخليها من الأطفال، ثم قال وهو يبتسم بصعوبة:

- لا أحد يقودها في البيت الآن·

حك حلمة أذنه اليسرى، فلاحظ أبو الطيار علي أن شحمتها مثقوبة، وأن خيطاً من الصابون قد تيبس بالقرب منها لأن الماء، كما يبدو، لم يصل إليه أثناء غسل الوجه، ومضى الأطفال في حركة منفعلة غير طبيعية تحوم حول الضيف الغريب وتناوره بابتسامات خجولة·· ولكن تلك الحركة توقفت في الحال عندما عادت جدتهم من غرفة الضيوف بعد لحظات، فنهرتهم وطلبت منهم الانصراف إلى خارج البيت·

انخطف قلب الأب لدى رؤيته للصورة، ثم تجمد في مكانه على الفور، وشعر بدوار خفيف تنملت على أثره يداه وقدماه·

كانت الصورة كبيرة جداً يقف فيها الطيار الآخر بطوله الفارع، وهو يرتدي بدلة الطيارين الزرقاء، ويضع نظارة شمسية سوداء على عينيه·· تمتم الأب بصوت مرتجف:

- علي ؟

فقالت له المرأة الملفعة بالسواد باندهاش:

- لا·· منعم·

من بعيد····· لولا إطارها المصنوع من خشب أحمر مزخرف، لقال إنها نفسها صورة ابنه التي يضعونها في مواجهة مشابهة من غرفة الضيوف·

قال:

- إنه يشبه علي كثيراً·

فقالت الأم وهي تكفكف دموعها:

- كل الطيارين يتشابهون·

ثم اقترب من الصورة أكثر وراح يحدق فيها، وقد تملكته رغبة بملامستها والمرور على سطحها بأنامله··· قال:

- أين التقط هذه الصورة؟

قالت الأم:

- في حديقة البيت·

من قريب·· كانت ملامحه أكثر حدة، وبشرته متيبسة قليلاً تشوبها سمرة ريفية، وشعره أفتح لوناً من شعر علي، ولكن شقرته تميل للحمرة، ومصفف بطريقة مختلفة عن الموضة السائدة·

سأل الأب:

- ما مواليده؟

قالت الأم:

- 1965

فقال أبو علي لنفسه: >الرتبة نفسها·· العمر نفسه·· والشكل نفسه أيضاً ؟؟!<

- يرجع بالسلامة إن شاء الله·

ثم غادر الغرفة الباردة جداً على عجل، ومضى إلى سيارته وهو يحس إحساساً غريباً وجارفاً بأن نمو الأحياء أخذ يتسارع فجأة حتى أصبحوا أمواتاً في عينيه···· ثم تسارع أكثر فأكثر حتى تساوى الجميع في الموت···· ثم أكثر فأكثر حتى أودى بكل شيء إلى الفناء····· وعندئذ أحس بأن انتزاع مزقة لحم من مملكة الأشلاء الأرضية هذه ليس شيئاً بذي بال، وبأن تبادل المصائر لم يعد يعني شيئاً ذا أهمية لأي من الاثنين، وأن عليه أن لا يعود إلى هذا البيت مرة أخرى، ويطوي الموضوع بأكمله مرة أخيرة وإلى الأبد.

 

14

عصف الهواء بشعره، وانتشر الغبار خلال النافذة المفتوحة داخل السيارة فشعر بالاختناق، وراح الغبار يتكاثف بشكل سريع ويحيل السماء إلى احمرار شاسع يقبض الروح والقلب·· تقول أجهزة الإعلام إن الدبابات وأطنان القنابل الأمريكية قد كشطت قشرة الأرض السميكة أثناء الحرب، وإن التراب الذي كان تحتها أصبح مكشوفاً تهيّجه الريح مع كل هبوب بسيط·

رفع زجاجة النافذة وهو يمر بالقرب من برج الاتصالات في المأمون، فرأى عمال البناء وهم يقفون عند الحافات الشاهقة للبناء، وكأنهم دمى صغيرة تحركها قوة خفية من بعيد· كان هذا البرج هو أول ما سقطت عيناه عليه من خراب صباح اليوم الأول من أيام الحرب·· في ليلة ذلك اليوم، يذكر جيداً، كان قرص الشمس قد أصبح كاملاً ومحمراً مثل جمرة دائرية منتفخة قد تنفجر في أية لحظة·

بعض الناس استرخى قليلاً بعد مضي يوم ونصف على الموعد الذي حدده الأمريكان إنذاراً أخيراً للعراق للانسحاب من الكويت·· وبعضهم هجر العاصمة إلى الضواحي والمحافظات والأقضية تحسباً لكلمة قالتها دولة عظمى وربما لا تتراجع عنها· توقف أمام القرص الأحمر الملتهب وهو داخل سيارته يتأمل منظراً لم يسبق لعينيه أن وقعتا على مثله من قبل·· انتابته مشاعر غامضة بدائية أو هي جنينية تشبه اضطراب الجنين فور خروجه من رحم دافئ إلى عالم شاسع ومليء بالغموض·· حدس لحظتها أن أمريكا ستضرب لا محالة، ومع ذلك لم يشعر بأية رغبة في مغادرة بغداد إلى أي مكان قريب أو بعيد·· أحسها قضية قدرية لا مفر من نتائجها ما دامت الأرض تقسمها المصالح والعقائد·· أحس أن لا شيء يمكن أن يحدث مصادفة أو يتكرر بالطريقة نفسها مرة أخرى·· وأن عليه وعلى الآخرين أن يكونوا شهوداً على ما سيحدث تلك الليلة·· ما داموا أحياء وما داموا قادرين على ذلك بالعين وبالقلب وباللسان·

ولم تكن ليلة كباقي الليالي ولا الذي حدث كباقي الأحداث، هو الذي شهد الانقلابات والثورات والحروب منذ أن فتح عينيه على هذه الدنيا، لم يستطع أن يمنع قلبه من الارتجاف في اللحظة التي سمع فيها هدير الطائرات الأمريكية وهي تشق سكون الليل فجأة لتحيله في غمضة عين إلى جحيم متصل من الأصوات والانفجارات، ثم تدك الأرض بحمم متلاحقة من القذائف والقنابل والصواريخ· كان أول شيء فعله، بعد أن قفز من فراشه على أصوات القصف الأولى، هو أن أيقظ زوجته من النوم وراح يبحث عن أصغر السقوف ليضعها تحته·· هكذا كانت تعليمات الدفاع المدني قبل اندلاع الحرب، ولكنه لم يفكر بها إلا في تلك اللحظة المجنونة الغادرة، حين لم يعد بالإمكان معرفة مكان واحد يمكن أن يكون أكثر من غيره أماناً تحت قبة السماء المشتعلة بالنار والشرار··

وبدت له اللحظة الكيماوية وشيكة جداً، وسخر لحظتها من توجيهات الدفاع المدني بتهيئة غرفة منيعة مغلّفة بالنايلون تحسّباً للضربة الكيماوية المتوقعة، فقد دوت صفارات الإنذار، وظلت الأضوية مشتعلة في البيوت والشوارع أكثر من ساعة بعد انطلاقها، حتى أطفأتها الطائرات الامريكية بنفسها عندما ضربت محطات الكهرباء، وعطّلت فاعليتها تماماً منذ الساعات الأولى لبدء الغارات·

لم تكن كمية البنزين لديه تكفي إلا للضرورة القصوى، ومع ذلك فإن أول شيء تمناه بعد أن أعلنت صفارة الإنذار انتهاء الغارة هو الخروج بسيارته، والتجوال في بغداد للاطمئنان على ابنه علي بطريقة بدت له في تلك اللحظة أنها ستكون من خلال الاطمئنان على بغداد نفسها· لحقت به زوجته وترجّته أن لا يخرج في ذلك الوقت، ولكنه أصر على الخروج والتخلص من ذلك السكون الشامل الذي أصبح يحاصره بعد انتهاء الغارة ويتركه بلا يقين تقريباً· كان ثمة نعاس عالق ببغداد، وكأن عينيها قد استيقظتا للتو برغم ضراوة القصف طوال الليل·· هدوء الشوارع التام أسكره، وملأته غلالة الدخان الذي خلّفته القذائف برائحة طازجة كأنها خارجة من فوهة مسدس أطلق رصاصة للتو·

لقد تلاشى عنده الإحساس بالخطورة الذي كان ينتابه داخل البيت، وأصبح يشعر بطلاقة من الحرية لا حدود لها وهو خارجه، ولم يكن الخراب كبيراً بعد، ولكنه استنشق رائحته منذ اللحظة التي وقعت فيها عيناه على برج المأمون للاتصالات، فدمعت عيناه وخفق قلبه بشدة، وانعطف إلى الشارع التحتي الموازي لشارع البرج، وهو يقود نفسه باتجاه غامض لا يعرف له وجهة محددة·

سار بين البيوت بلا هدف وتجوّل في أزقة لا يعرفها، وكانت به رغبة في أن يحدّث أي شخص يلتقيه، ويسأله إن كان بخير، حتى حط به المطاف أخيراً قرب فرن للصمون كان مفتوحاً رغم القصف·· جفف دموعه بمنديل شديد البياض مكوي بعناية فائقة وجده في جيب كنزته الصوفية····· قرّب المنديل إلى أنفه، وشم رائحة الكي فيه، ثم أعاده إلى الجيب، وهبط من السيارة وهو يعلم أن لا فرصة لديه مهما كانت ضئيلة للحصول على الخبز في ذلك الزحام الشديد، ولكن رغبة جامحة اجتاحته في ذلك الوقت العصيب لكي يكون مع الناس وبينهم·

ثلاثة وأربعون يوماً من الغارات المتواصلة تبدو له الآن كأنها لم تحدث، أو أنها قد حدثت ونسيها من شدة هولها·· أو انها كانت ثلاثاً وأربعين ليلة بالهول والشدة نفسهما، فاختلطت عليه الليالي لا يدري أياً يذكر وأياً منها ينسى··

ومع ذلك فعندما رفع زجاجة النافذة بسبب الغبار، ووقعت عيناه على عمال البناء وهم يقفون على الحافات الشاهقة التي نهضت من الخراب، اختنق بالغصة ذاتها التي خنقته صباح اليوم الأول من أيام القصف·· وبكى مرة أخرى··· من الحزن في المرة الأولى·· ومن الحزن في هذه المرة·· ومن القهر مرة أخرى·· وأخرى·· وأخرى.

 

15

لم يكن يملك جواباً محدداً لزوجته الواقفة عند الباب·· كان قد رفض أن تصاحبه إلى بيت الطيار الآخر بالرغم من توسلاتها ودموعها·· والآن هو لم يرَ هلالاً في السماء على وجه اليقين، فماذا بوسعه أن يقول لها··

انحنت على نافذة السيارة، وهو يدخل بها إلى المرآب وقالت :

- ها ؟

ولم يرد···

صاحت بصوت أعلى :

- ها ؟!

أطفأ مصابيح السيارة الأمامية، وسحب مفاتيحها ونزل صامتاً لا يريم·· وقع نظره على علبة عصير فارغة مرمية في الحديقة، ومدهوسة في الطين، وبين أوراق الأشجار المتفسخة الساقطة على الأرض·· فتملكه ذلك الإحساس السادر بفقدان الأمل، بلا جدوى ما فعله ويفعله الآن وما سيفعله بعد قليل· لقد أصبح فجأة محاطاً بأسلاك الأسئلة الشائكة مطالباً بإجابات كثيرة لا يعرف كيف يُدلي بها أو لماذا· شعر بذلك التثاقل الذي طالما انتابه في اللحظات التي يتطلع فيها الآخرون إليه ويطالبونه بأن يفعل شيئاً ما·· شعر بتلك الرغبة في خذلانهم وردهم خائبين·· حزين لأنه يدرك أن خسارته أكيدة، وحزين لأنه يدرك ذلك متأخراً·· وكل شعور بالذنب من إدراكٍ متأخر داسه بقدمه إلا هذه المرة· حتى ابنه الوحيد لم ينتبه لك بالقلب كما ينبغي، وإنما تركه يمر في حياته، كما تمر الأشياء بحياد شديد ومسافة مناسبة·· وها هو الآن ينتبه إليه بعد مروره، فيحاول اقتفاء أثره مثل عطر نادر وأصيل مضى صاحبه، ولكنه ظل يتضوع بعده وقتاً طويلاً·· أيبتعد الآن تاركاً قصته الأخيرة التي رواها لزوجته لكي تقلّبها وحدها فوق نار أبدية لاهبة لا تنطفئ ؟ أيقصّ جذره اللامبالي فجأة من الأرض، ويعارض نفسه بشخص آخر يبالي ويتحمس ويهتم ويتفاعل ويتعاطف ولا يتقاعس ؟ بأي سكين يقص هذا الجذر، ومن أين له بها من كان مثله متأهباً للرحيل في أية لحظة؟

وتمنى لو انه لم يتكلم·· لو أنه آثر الصمت·· وترك الموضوع بأكمله محبوساً داخل جدران رأسه حسب··

قال، وهو يشير لها بالدخول إلى المنزل :

- ابنهم في الأسر·

ظلت الأم واقفة في مكانها، وهي تبدو غير واعية بعد لما يقوله زوجها، ولكنه أنهى الأمر كله بجملة حاسمة واحدة :

- إنهم متأكدون من ذلك·· لأنه بعث لهم رسالة من الأسر·

بدا وجه الأم المجهد بسبب البكاء، وقد استرخى قليلاً، وكأنما ستارة ما قد أسدلت على ذلك العرض المفاجئ الذي أثاره زوجها، وأن في انتهائه راحة خاصة واستسلاماً تاماً للقدر·

سقط نظر الأب وهو يهم بالدخول إلى البيت على صورة (علي) التي تصدرت جدار غرفة المعيشة بدلاً من صورة زفافهما التي كانت في المكان نفسه· واجهته تلك الصورة مثل مصباح أضيء للتو، فانتابه ذلك الإحساس المموه مرة أخرى بأن ما حدث يمكن تلافيه، أو تصحيحه، وأن نهاية الأشياء لا يمكن أن تكون مفجعة بهذه الطريقة·

في اللحظة ذاتها وقفت الأم خلفه، وهي تكفكف دموعها بذيل فوطتها، فأحس الأب أنه لا توجد رابطة شبه واحدة تربطه مع زوجته، وأن هذا الأمر الذي يعرفه منذ زمن، لم يعد يقلقه ولا يضيره البتة··· >مولد ثم اتصال ثم موت، هذه هي الحقيقة الأخيرة عندما تدق المسامير في النعوش·· مولد ثم اتصال ثم موت<·· قول قرأه في مطلع شبابه في كتاب، ويتذكره بقوة حتى الآن·· التفت إليها وطلب منها أن تدخل إلى المنزل، إذ أزعجه أن تبقى خلف ظهره واقفة بلا حراك·

رفعت الأم نظرها إليه فحدق الأب طويلاً في عينيها بنظرة لم تفهمها الأم جيداً، ولم يعرف الأب إلامَ ستقوده في اللحظة التالية· ثم فطن إلى أن باب المرآب ما زال مفتوحاً ففسح المجال لزوجته كي تدخل إلى البيت، ومضى هو إلى باب المرآب يغلقه·· مد الأب يده إلى مقبض الباب ولبث ساكناً·· ظل يحدق في أشجار مزروعة على الرصيف المقابل للبيت دون أن يراها فعلاً·· أحس بأن ذلك التحديق يأخذه من مكانه ويرميه إلى الفراغ، ولكنه مع ذلك يواصله بلا مقاومة:

لم يكن في الملابس العسكرية للجثة أي شيء يستدل منه على ابنه علي·· لا هوية ولا نقود ولا دفتر تلفونات، وإنما جميع الأشياء التي وجدوها كانت موضوعة في السترة التي حملها الرجل الكردي إلى بغداد·· هويته ورتبته ودفتر تلفوناته وآية الكرسي التي كان علي يضعها دائماً داخل الجيب الأيسر لسترته·· وكلها تعود لابنه علي· هذا صحيح، ولكن من يعرف على وجه التحديد التام، أو يجزم جزماً مطلقاً فيما إذا كانت تلك السترة التي عثرت عليها زوجة الكردي قرب القبر، والهوية التي في داخلها، تعود إلى الطيار الذي استشهد، وليس إلى الطيار الآخر الذي أسر؟

أليس هناك شك محتمل، وإن كان ضعيفاً كالشعرة، بأن سترة الطيران هذه قد لا تعود للجثة التي وضعت فوق قبرها السترة·· وإنما تعود للطيار الآخر الذي يقولون إنه قد نجا ؟ حتى المرأة التي احتفظت بتلك السترة تقول إنها لم تكن قريبة بما فيه الكفاية لتشهد عن من خُلعت، أو كيف حدث ذلك بالضبط، وإنما كانت تراقب المشهد بأكمله مع الآخرين على مسافة أمتار، ولم تتجرأ على الاقتراب من القبر إلا بعد أن غادر الرجال والأسير معهم، فتقدمت لتجد تلك السترة كما تركوها تغطي كومة منخفضة من التراب هي المكان الذي دفنوا فيه الطيار الشهيد·· إذن؟ إذن لماذا افترض الرجل الذي سلّم له سترة ابنه وبداخلها هويته وقرآنه وأوراقه، بأنها تعود إلى الطيار الذي دُفن، وليس للطيار الآخر الذي أُسِر ؟

هكذا انبثق الخاطر في رأس الأب من جديد·· وهكذا زلزلت هذه الفكرة كيانه مرة أخرى لتطبع لها موطئ قدم للأمل الحي الممكن·· هكذا انفتح القبر من جديد·· وسيظل هكذا فاغراً فمه في رأس الأب إلى الأبد·

 

مؤلفات ميسلون هادي

- إخوة محمد، رواية، دار الذاكرة، عمّان، 2018.

- جانو أنتِ حكايتي، رواية، دار الحكمة، لندن، 2017.

- جائزة التوأم، رواية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2016·

- العرش والجدول، رواية، كاتارا، الدوحة 2015 بثلاث طبعات عربية وفرنسية وإنكليزية·

- شاهدتهم وحدي، روايات للفتيان، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2015·

- سعيدة هانم ويوم غد من السنة الماضية، رواية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2015·

- أجمل حكاية في العالم، رواية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2014·

- التلصص من ثقب الباب، دار المأمون للترجمة والنشر، مقالات، بغداد 2013·

- هذه الدنيا كتاب، قراءات، مجلة الرافد، الشارقة 2013·

- أقصى الحديقة، قصص، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2013·

- زينب وماري وياسمين، رواية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2012·

- ماما تور بابا تور، قصص خيال علمي إلكترونية،الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2012·

- الليالي الهادئة، قصص،الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2011·

- حفيد البي بي سي، رواية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2011·

- شاي العروس، رواية، دار الشروق، عمان 2010·

- حلم وردي فاتح اللون، رواية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2009·

- نبوءة فرعون، رواية، طبعة أولى، المؤسسة العربية للدرسات والنشر، بيروت 2007· طبعة ثانية 2015، دار أوثر للنشر لندن 2011·

- الحدود البرية، رواية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، بيروت 2004· الطبعة الثانية 2017·

- العيون السود، رواية، دار الشروق، عمّان 2002· المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2010·

- يواقيت الأرض، رواية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان 2001·

- رومانس، مجموعة قصصية، الإتحاد العام للكتاب العرب، دمشق 2000·

- لا تنظر إلى الساعة، مجموعة قصصية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1999·

- العالم ناقصاً واحد، رواية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1996، دار أسامة للنشر، عمّان 1999·

- الطائر السحري والنقاط الثلاث، رواية للفتيان، وزارة الثقافة، عمّان 1995·

- رجل خلف الباب، مجموعة قصصية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1994·

- الخطأ القاتل، رواية للفتيان، دار ثقافة الأطفال، بغداد 1993·

- أشياء لم تحدث، مجموعة قصصية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1992·

- سر الكائن الغريب، رواية للفتيان، دار ثقافة الأطفال، بغداد 1988·

- الخاتم العجيب، رواية للفتيان، دار ثقافة الأطفال، بغداد 1987·

- الهجوم الأخير لكوكب العقرب، رواية للفتيان، دار ثقافة الأطفال، بغداد 1987·

- الفراشة، مجموعة قصصية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1986·

- الشخص الثالث، مجموعة قصصية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1985·