يصور القاص العراقي اللحظات حاسمة في حياة الإنسان في زمن الدكتاتورية، حيث ينجح بعد محاولات في الحصول على وثيقة سفر، مركزاً على لحظات وداع القرية والأهل، وتفاصيل رعب المسافة من القرية حتى مركز المدينة حتى بغداد، ونقطة الحدود، ومعاناة رعب نقاط التفتيش فيمتزج الرعب بحزن المسافر وشجنه لفراق المكان والأهل.

حقيبة مكة

كاظم حسوني

 

كان صباحا ثقيلا جدا وأنا أحاول أن أحمل ( حقيبة مكة) في عام ١٩٩٧ ، هكذا أسميتها ، تلك الحقيبة البالية التي استخدمها أبي قبل عشر سنوات عندما ذهب الى الحج.
الحقيبة تحتوي على أشياء عظيمة جدا : مجموعة من الكاسيتات التي تحمل أجمل أغاني الحزن ، بعض الدواوين ، قميص واحد وبنطلون واحد، دجاجة مشوية ، حلاوة حليب محلية صنعتها أمي في ليلة الوداع ، تلك الليلة الحزينة حد النخاع، كنت مرتبكا جدا ، بالكاد انطق كلمة واحدة، كان ذهني شاردا في تفاصيل كثيرة.
قبل يومين وقعت في يدي مجلة يشرف عليها "عدي صدام حسين" فيها كاريكاتير للمسافرين في الحافلات وهم يلوحون بأيديهم لمن يودّعهم تبدو فيه رؤوسهم كرؤوس الكلاب .
كان عمري يومها ثمانية وعشرين ربيعا.
لقد استلمت جوازي قبل يوم واحد بعد ان بقيت أراوح في مكاني أكثر من ستة شهور كي أحصل على موافقات التجنيد ومن ثم مديرية الأمن وما أدراك ما هي مديرية الأمن ، انها مديرية الرعب ، وبعد ان حصلت على الموافقات كانت المشكلة الاكبر هي من أين لي ان ادفع مبلغ الجواز الجاهز للإصدار بمجرد ان ادفع أربعمائة الف دينار عراقي .
هذه دورة حياة النخيل في وطن النخيل.
عند الفجر تقدمت نحو أبي الذي يخاصمني لأنه كان يرفض فكرة السفر . إحتضنته ومازالت دموعه محفورة في وجداني قريبا من النخيل الذي يرتجف في داخلي .
غادرت قريتي "البوناهض" في الظلام متجها صوب بغداد. كان أمامي مسافة ثمانية كيلومترات مشيا على الأقدام عن أول شارع يوصلني الى المدينة.
حقيبة مكة كان يحملها أخي "محمد" الذي يصغرني ست سنوات، لم أكن أعرف في وقتها بأنه سيغادر الحياة قبلي، وتلك كانت علامة فارقة في عدالة السماء. كان في وقتها في المرحلة الثالثة في الهندسة المدنية .
في مدخل الديوانية توجد سيطرة أمنية شهيرة جدا، مازالت هذه السيطرة كما هي .
- شنو هاي الجنطة؟
..استاذ اني مسافر للأردن
- شنو هاي الكتب والكاسيتات؟
..استاذ هاي اغاني ياس خضر وحسين نعمة وطالب وسعدون وإشعار الجواهري والسياب وإيليا ابو ماضي و....
- شنو هاي الدجاجة
.. استاذ نجوع بالطريق
- إذا انت تحب العراق بهذا الشكل ليش مسافر
... استاذ كلها كم شهر وارجع
- انطيني جوازك وتعال وياي
بعد فترة انتظار طويلة وعندما تيقّن بأني لاأملك سوى نصف دينار أردني وما يكفي لإجرة السيارة ( الريم) التي ستوصلنا الى بغداد تركني على أمل ان اجلب له هدية من الخارج حين أعود.
كان سائق السيارة ( الفولگا ) متذمرا جدا وكذلك الركاب.
وصلنا گراج الديوانية وصعدنا حافلة (الريم) ، صعد معي أخي وكذلك حقيبة مكة والنخيل الذي يفترش القلب .
كانت تسير باتجاه بغداد، لحظتها لم أستطع ان أميز بين الالم الذي في رأسي وهدير المحرك وصخب الاطارات القديمة .
ربما ان لوركا كان حاضرا آنذاك وهو يتلو على مسامعي:
حين أحبّكِ يؤلمني رأسي والهواء والجدار والقبّعة.
في سيطرة الدورة في مدخل بغداد حاولت ان أختزل النقاط التي أوقعتني في سيطرة الديوانية ولكن دون جدوى.
- انطيني جنسيتك، انطيني دفتر الخدمة
..هاي جنسيتي استاذ بس دفتر الخدمة بالبيت لانه شلون آخذه وياي
- يعني حضرتك تريد تأخذ الجنسية وياك
.. لا استاذ
- لاتگول استاذ ، گول سيدي
..استاذ الجنسية راح يرجعها أخوي محمد وياه
- إذا الجنسية يرجعها أخوك وياه ليش ماجبت دفتر الخدمة وياك ويرجعه وياه حاله حال الجنسية، إنزل ، إنزل ، إنزل ، انت ابو الريم يالله اطلع ، روح
..استاذ اذا راح ابو الريم ترى ماعندي فلوس اصعد للعلاوي
- شنو انت تضحك علينا
.. لا ماأضحك بس كل اللي عندي دجاجة وحلاوة حليب ونص دينار أردني وخرداوات .
لأول مرة يصعد النخيل في حليب رجل الأمن ، يقف لحظة ، يأخذ جوازي ، يعطيني جوازي ، يالله روح .
وصلنا العلاوي أنا وأخي عند العاشرة صباحا وقمت بتسليم جوازي الى شركة الظلال ، الباص سينطلق عند الواحدة بعد الظهر .
تصورت رأسي من خلف زجاج الحافلات ، رأيته يضج بأحلام لاحدود لها وهو يحمل قلبي المدجج بالشرايين وكان أبرزها الشريان الأبهر حيث النخيل الذي ينمو على جرفه.
أمامي ثلاث ساعات من الآن، مازال أخي يحمل الحقيبة، اتجهنا الى الزوراء ، وحين أعلنا انتصارنا على نصف الدجاجة قال لي اخي احتفظ بالنصف الباقي للطريق.
ودعته وقد أخذ معه نصف القلب بينما باص شركة الظلال يسحب النصف الاخر بحبال غليظة في طريق الفلوجة والانبار وطريبيل.
وصلنا الى يوم الحساب
الله يجلس على كرسيه العظيم في طريبيل وهو يحاسب المسافرين واحدا واحدا بعد ان سئم من جبرائيل وشخشائيل وطبطائيل .
المسافرين الذين كانوا يملأون الباص صراخا وأحاديثا فارغة لم أعد أسمع لهم اي همس او نفس في قاعة الانتظار أمام رجل الأمن الذي في قاعة التحقيق قبل ان يختم الجواز بالمغادرة، لو سقطتْ إبرة لسمعت صدى سقوطها على البلاط.
نادى مسؤول الأمن على اسمي فحضرت أمامه. كنت مثل غائبٍ عن الوعي وأنا أجيب على مهاتراته ومحاولته التشكيك بكل شيء حتى في حقيبة مكة.!
اخترق الصمت صوت الختم الذي في يده على جوازي وهو يقول لي بلهجة صارمة روح إگعد.
حينها عرفت بأني سأعبر الحدود بصحبة حقيبة مكة، لكني لم أكن أعرف بأني سوف أفارق أبي وأخي الصغير الى الأبد.