يُقَسِم برغسون الزمن إلى قسمين وهما الزمن المكاني وهو قطعا الزمن الذي نعيشه نحن ويكون جزءا من أفعالنا التي ترتبط بشتى الأمور الحياتية ومتطلبات حاجة الإنسان ضمن حركته اليوميه أمام وجوده الظاهر، والأخر ما أسماه زمن الذات الشاعرة، وهو كما نعتقد مستويات التدفق في الأحاسيس والمشاعر والتي تشكل قدرات الذات للنفاذ للأشياء المجهولة والتوقع بمستكشف الغد أي الرؤيا المبصرة للتحولات التي تصاحب الإفرازات النفسية ونتائج هذه الإفرازات. وبالتالي فأن الزمن في المفهوم الأول يشير إلى التعامل والوجود الخارجي وفي المفهوم الأخر يشير إلى التعامل مع المفهوم الباطني أي بالبعد الإدراكي لما ترتبه المشاعر من غير المألوف فالأفكار البرغسونية كانت أحد الأسس التي أعتمدها التصويريون ضمن مفاهيم أخرى في التعامل مع المفردات البنائية للنص الشعري وقد شاعت التصويرية في أمريكا وبريطانيا وكان من أهم روادها عزرا باوند ، وأليوت ومنظرها هيوم.
الإنتقال الى التجريب الشعري:
كَثف التصويريون تنظيراتهم في مجال اللغة والصورة الشعرية وكذلك موقفهم من الشعر التقليدي والشعر الحر فهم يعتقدون وفي مجال اللغة أنه لا ضير من استخدام اللغة الشائعة والتي كانوا يعنون باللغة المحكية ولكنهم في نفس الوقت لم يتركوا هذا المفهوم سائبا بل يربطونه بضرورة الاستخدام الدقيق لهذه اللغة خشيتهم في ذلك أن لا تتداخل أو تسطو اللغة المقارنة أو البديعية على هذا الاستخدام اللغوي. وبالتالي يؤدي ذلك إلى خلق إشكاليات عديدة أثناء عملية الخلق؛ وبالتأكيد فأن مفهوم اللغة لدى التصويريين يكاد يصل بعض الشيء لمفهوم فلاسفة الوضعية المنطقية الذين يرون أن اللغة تؤدي وظيفتين وهما تقرير الوقائع وأثارة الانفعال وهذا يشبه إلى حد ما رأي التصويريين بأن اللغة تتعامل مكانيا وباطنيا مع الموجودات.
وقد التزم التصويريون بمفهوم الشعر الحر باعتقادهم بأنه الأنسب والملائم لأثارة القوى النفسية والوصول إلى الجمال وهاجموا الشعر التقليدي واعتبروه لا يقدم القدر الكافي من الصوتية المطلوبة ونغماته غير قابلة للتجديد لذلك حذروا الشعراء الجدد حينها من أحلال النغمات القديمة في الألسنية الموسيقية للشعر الحر وقد انعكست أراءهم تلك على مفاهيم أخرى ومهمة حول وظيفة الأدب واستخداماته. ودعوا إلى التركيز والوضوح من خلال البينية ما بين المحدود واللامحدود. ولاشك أن هذا يدعو إلى التساؤل عن مدى التصاقهم بالفيزيقية ومديات تفريقهم ما بين اللغة المباشرة والتي تعمل كما أسموها بالصور وما بين لغة النثر التي دعوا إليها واعتبروها المحرك والإلهام. وربما بآرائهم هذه أرادوا الابتعاد عن الكثير من المفاهيم النقدية ومنها المفهوم المضموني، أو ما رأته الوضعية المنطقية في فك ارتباط الأدب بالمعرفة، أو المفاهيم التي دأب عليها النقاد الشكليون. لكنهم كانوا أي التصويريون كانوا أمتداد للرمزية وذهبوا بأنفسهم لأحياء كلاسيكيتهم الجديدة حين أتسعوا بمفهوم التجريب الشعري وفتحوا نافذة الأساطير القديمة.
وقد عمل الشعر تارة في مجال التعارض الظاهري واعتبروه أحد معايير الشعر استنادا إلى ما تؤدي العبارات فيه من التناقض الذي يؤدي مظهرا فكريا وهو بذلك قد قننت فيه المستويات الشعورية ولكن هذا التناقض يتحرك في مجالات التضخيم تارة وتارة في مجالات الدقة وفي المجالات التي تسمح لتسيير جزء من دفق الباطن ضمن الجزء الأكبر من الاكتناز الفكري الذي يتعاطف بقدر ما مع اللاشعور.
التعقيد دلالة قوام النص:
لعلَ البعض من أراءِ وردزورث تقوم على اعتبار أن التعقيد قوام النص وهذه الأفكار تنسجم كذلك مع أراء كولردج بهذا الشأن كما عمل الشعر تارة أخرى على ما يسمى بمقولات العقل ولاشك أن (كانت) صاحب الفلسفة المثالية التي تناولت الكم والكيف والزمانية والجهوية وتعاملت مع الصورة الشعرية على أساس التنوع في الدلالات والقدرات المتوفرة في بناها التحتية. ولذلك فأن الصورة الشعرية تتفاقم بتفاقم التوتر فتتكون لدى الشاعر صيغه القيمية والتي بموجبها يستطيع الحكم على الغرض من استخدام تلك الصورة من عدمها فيجد أن ذلك التحديد يقع ضمن التفسير الذي يكون خارج مخيلة الشاعر وبه يحتكم إلى ظاهر النص وبنائه، وقد تكون الإشارات تلك بمثابة العملية التصحيحية ضمن الحذف والاستبدال والذي لا يخل بالشكل العام لبنية النص ووحدته العضوية سواء بالجزئية أو الكلية اللتان تتبادلان أدوارهما في محتوياتهما التي تنفصل تارة وتتصل تارة أخرى بعضها مع البعض لإشباع مناطق معينة لرفع كفاءة علاقاتها الإنتاجية ليتم البناء في الخيال على قدر من الوهمية والانفلات. فكولردج يرى أن الصورة بذاتها لا تدل رغم جماليتها على خصائص الشاعر حتى لو نقلت نقلا أمينا أنها لن تكون بتلك العبقرية مالم تكن مالم تكن محكومة بانفعال عال أو أفكار منفصلة أو صورا أنتجها ذلك الانفعال.
وبين هذه الحدود وتلك يرى تارة ثالثة ما يعنيه الرمزيون بالقوى التي تجتاز عالم الواقع ويتصلون بالسحر والغرائبية من خلال رموز الأشياء البديلة فهم يتراسلون بالحواس ويضربون على جذور الأعماق في أقل وعي ممكن كونهم يجدون أن حواسهم تنشطر لانتقاء المُعَبر الرمزي إن كان تراسلهم قد تم ضمن التراسل الرأسي أو التراسل الأفقي فكلاهما يصلان مستويات اللذة المطلوب بلوغها في الأفق الذي يقصدونه.
مُحركات المُخيّلة:
أن الاشتغالات التي بنى عليها الشعراء واجهاتهم الإنتاجية هي تلك نفس المشاغل الكونية التي أبتلاها الأنسان مذ وجوده على الأرض وكانت الظواهر وعللها والاستدلال عليها هما أقطاب المحركات التي حركت المخيلة إلى بعدها الأخر ضمن مناسئ الاتجاهات والتيارات الفلسفية والتحولات في الأدب والفن والاتجاهات الجديدة في ألسنة اللغة ونظريات دي سوسير عنها ولحظة كشفه الشهير عن أنظمتها ضمن مفاهيمها الثلاث ومسمى المدلول وكذلك مفاهيم نظرية المعرفة وقضايا الجدلية في الفلسفة الماركسية وفلسفة هيجل في الروح المطلق والوعي والتاريخ وإغناءات الفلسفة الوجودية وفلسفة التحليل النفسي وما أفرزت بعد ذلك دراسة الأساطير والمكتشفات الأثرية والتطور الذي حفلت بها ميادين العلوم كافة. كل تلك التطورات ساهمت بأن يزيد الشعر من غموضه مادام الكون يزيد من وضوحه.
قطع الطريق أمام تذوق الماضي:
لم يكن الشعر في أوربا قد عُتق بعد من المخيلة الرومانتيكية لكن الحداثة الشعرية والبحث عن موصلاتها كانت هاجسا في هذه القارة وقد رافق ذلك الهاجس الحياة الجديدة حين وقعت أو بالأحرى تفتحت على نشوء وانتشار الصناعة والتجارة التي أخذت الأنسان إلى بعدها المادي وتلاعبت بمكوناته وأفكاره وطرائق فهمه للحياة وكان هذا النشوء المادي الجديد من الأسباب الرئيسة التي جعلت الملهمين من الشعراء يفكرون في الكيفية التي يصطف بها الشعر شامخا أمام هذا الانقلاب الكلي في حياة الأنسان لاشك أن رامبو وفرلين ومالارمية وفاليري وإليوت عملا برؤية تكاد تكون موحدة لاختراق الماضي والعودة ببناء جديد أكثر وضوحا وأعنف صرامة في مواجهة القيود ووضع أسس جديدة في مسمى جديد للعصر الذي بدأ مع التوق للألة وسماع صفير القطارات والبواخر والمعامل والأسلاك الكهربائية وعمليات النقل والشحن والتفريغ، ناهيك عن استغلال الطبقة العاملة من كلا الجنسين والسيطرة الاستعمارية على مناطق الخام خارج أوربا، والعمل على أيجاد أسواق في بلدان العالم لتسويق المنتج، ولم يجد معظم الشعراء أمامهم غير الولوج إلى عالمهم الجديد عالم الغموض والبحث عن الجمال فيه وقد عبر الكثيرون بآرائهم حول التضادية التي خلقها التحول المدني الجديد ولجوء الشعراء إلى السّرية في نصوصهم ، يقول سترانفسكي: أن في تعذر الفهم نوعا من المجد.
ويرى جوتفريد بن :إن الشعر هو الارتفاع بالأمور الحاسمة إلى لغة المستحيل على الفهم ، وهذا يعني بأنه اذا كان التحول المدني آنذاك تحولا غريبا وشموليا وجديدا لا يستطع المجتمع هضمه من الوهلة الأولى فأن الشعر قد أتجه بالطريق ذاته نحو الأشياء التي تزخر بالرموز والمفارقات والغرائبية فقد عمل الشعراء على قطع الطريق أمام تذوق الماضي ولكنهم ولجوا بُعَده الأخر والذي لم تعيد استنطاقه الذائقة بمكوناتها الجديدة. سرى ذلك الفهم القارة الأوربية بأسرها بعد أن قُرأ بودلير بجدية ما أنتج وأصاب شعره مكامن التحول الجديد؛ فكان رائدا للعصر الحديث الذي أقترن باسمه فشاع في الشعر (الجذاب-المُحير) الذي تخلى عن البعد الواحد في الأستطيق وفي التجارب الدينية والصوفية وهذا التخلي في وقته أرادة طبيعية أن تُضاد تيارات الواقعية الأدبية وتوضع المصفاة تحت اللغة لغربلتها من شوائبها ثم أعادة السحر لها والتفنن في استخدامها على أساس ما تحتويه من غير المكتشف وأن كان في العبارات المظلمة والمُلغزة والمخيفة. إن الهروب من الأرض نحو السّماء ليس هروبا من أجل إقامة قداسات لترضية القوى المسيطرة على آلية الأنسان بما في ذلك مصيره بل بكشف شواغل الزمكانية لما فوق الطبيعة بحماس البحث عن الجمال المثالي.
البنية المعمارية الجديدة:
بدأت تتكون عناصر جديدة في البناء الشعري بعد أن تم تحطيم الواقع وكلما أزداد هذا التحطيم أيغالا ازداد بناء الخيال الشامل تعقيدا وتركيبا وهو المسعى الذي سعى إليه بودلير ورامبو ومالارمية وأضافوا إليه ذلك النظام الداخلي في بنيتهم المعمارية من الأضداد والمتناقضات والتي وكأنها حين تعمل بحيادية تامة وقد يكون ذلك شكلا من أشكال الإسراف في تحطيم الواقع بل شكلا من أشكال مخادعة المطلق نفسه بالشكل الذي تقتضيه السرية والعدول عن العالم المرئي إلى التجارب الحرة الطليقة التي تضع لكل شيء نكهته فهناك نكهة في الدخان في الرماد في العتمة في الموت نكهة في انقضاض القدر على ما يريد وقد شكلوا بذلك ظواهر جمالية وحتى من تلك الأشياء التي تقع في الوهم وفي الباطل، لقد بلغ أنسان العصر الحديث ذروة قلقه وهو يلج الطبيعة من أجل استغلالها واكتشافها وبالتالي أعاد النظرة في الطريقة التي يريد أن يكتشف بها نفسه وبالتالي ونتيجة لهذا القلق فأن عالمه الباطني تسيد عالمه الظاهري واشتغلت العديد من محركاته الخفية ولابد بالضرورة أن يرافق هذا التحول تحولا في مجالات الفنون الأدبية كافه والشعر في المقدمة منها فذهب الشعراء إلى اللاشعور والى الرمز والى التمكن من تغيير الحقائق الأزلية والتي لم تعد ذات جدوى.