خابت تكهنات معظم المحللين الذي راهنوا على سقوط النظام الجزائري مع ارتدادات الربيع العربي، إذ كانت التوقعات تشير إلى تطاير شرارة الثورات العربية إلى الجزائر التي كانت على مقربة من فوهة البركان (تونس وليبيا) ولوجود تشابه بين النظام الجزائري والأنظمة التي تهاوت بعد أن كان للعسكر اليد الطولى فيها (العراق، سوريا، ليبيا، مصر، اليمن). كانت تلك التوقعات تسنتد على معطيات منها اختفاء كل أبناء جيل عبد العزيز بوتفليقة من على الركح السياسي العربي. فهو من جيل الحسن الثاني والملك حسين وحافظ الأسد وحسني مبارك والقذافي. إضافة استنفاد خطاب الشرعية الثورية التي بني عليها النظام الجزائري لمخزونه التاريخي وظهور جيل لا يكاد يرى في الشرعية الثورية التاريخية أية مشروعية. ناهيك عن قرب الجزائر من فوهة بركان الربيع العربي، فالثورات العربية انطلقت من حدود الجزائر الشرقية واكتسحت دول شمال إفريقيا شرق الجزائر.
والتاريخ يؤكد تأثر هذه الدول بنفس العبق كلما مر على إحداها والزحف العثماني خير دليل على ذلك ... دون نسيان شعور الإنسان الجزائري باستشراء الفساد في كل ثنايا النظام ومؤسسات الدولة الجزائرية. وتذمر بعض الجزائريين من تحكم العسكر في كل دواليب الدولة مما جعل من المؤسسة العسكرية دولة فوق الدولة جنرالاتها يوزعون موارد الاقتصاد في ما بينهم ويتحكمون في مفاتيح التصدير والاستيراد دون حسيب أو رقيب. في دولة تستمر في الاعتماد على المحروقات. أسباب كثيرة إذن كانت ترشح اندلاع الثورة في الجزائر قبل أي بلد عربي آخر لكن لا شيء من ذلك حدث، واستطاع النظام الجزائري أن يتجاوز عاصفة الربيع العربي بسلام، بل لم تزد تلك الهزات النظام إلا ثباتا بعد أن تمكن بريع البترول والغاز من تلميع صورته وشراء الذمم بمسكنات رفع الأجور، توزيع السكنات والإكراميات، دعم المواد الأساسية، أعطاء قروض دون فوائد مع أعفاءات ضريبية وتقديم معونات مالية للاسرة المعوزة بعد أن وفرت سيولة لابأس بها من عائدات البترول وسياسة طبع النقود. مستفيدا من خوف الجزائريين من السيناريوهات البديلة: (العودة إلى العشرية السوداء، تدخل قوى خارجية ، استنساخ التجارب الفاشلة في ليبيا العراق اليمن سوريا) التي كبحت جماح الجزائريين.
لكن ترشيح عبد العزيز بوتفليقة إلى عهدة خامسة قلبت كل التوقعات، وقلبت ظهر المجن للنظام ليزهر الربيع العربي بالجزائر متأخرا من خلال مسيرات في كل الولايات. مسيرات مليونية كل جمعة تكاد تكون نسخة طبق الأصل للتجربة السورية. وإن ظل الجزائريون يرددون كما ردد المصريون والسوريون (الجزائر ليست مصر وليست سوريا).
ولنحاول تتبع أهم مراحل الحراك الجزائري الذي انطلق يوم 10 فبراير حينما أعلن بوتفليقة في رسالة ترشحه واستراتيجيته المستقبلية القائمة على تعديل الدستور، وقانون الانتخابات والتفكير في ندوة وطنية عامة، وتكون أولى المسيرات المليونية يوم الجمعة 22 فبراير 2019. أعقبتها وعكة صحية أكسبت الرئيس المنتهية ولايته بعض التعاطف خاصة بعد سفره للعلاج بسويسرا بعد يومين من المسيرة المليونية، لتتوسع قاعدة الاحتجاج ضد ترشيح الرئيس بخروج طلبة الكليات، وتكون أولى المسيرات الطلابية يوم 26 فبراير، ينضاف إليهم في اليوم الموالي رجال الصحافة والإعلام والعاملون في الشبكات التلفزية مطالبين بحرية التعبير والحق في الوصول للمعلومة، واستمرت مظاهراتهم لليوم الموالي (28 فبراير) مما أشعر النظام بجدية المسيرات فكان تصريح الوزير الأول (أويحيى) تحذيريا عند تشبيه بداية المظاهرات في الجزائر بمثيلاتها في سوريا (بداية التظاهرات بالورود).
وما أن هل شهر مارس حتى عمت المسيرات كل الولايات، وكانت مسيرة الجمعة فاتح مارس ضربة قوية للنظام نتج عنها مباشرة إبعاد عبد المالك سلال عن رئاسة حملة الرئيس بوتفليقة وتعويضه بعبد الغني زعلان في اليوم الموالي (2 مارس) الذي سيتكلف شخصيا بإيداع ملف ترشيح عبد العزيز بوتفليقة للانتخابات الرئاسية في آخر يوم من آجال إيداع ملفات الترشيح (3مارس). ليقطع الشك باليقين ويؤجج غضب الرافضين لترشح الرئيس المريض ويكون ذلك سببا في ثورات الطلبة والأساتذة الجامعيين في مسيرات حاشدة يوم (05 مارس). انضافت إليها مسيرة المحامين التي توجهت إلى المجلس الدستوري وتقديم عريضة تدعو إلى احترام الدستور ومن ترشيح الرئيس المريض. وعاد الصحفيون للتظاهر بعد محاولة خنق بعض المنابر الإعلامية بمنع الإشهار عنها (الشروق والنهار مثلا). وفي محاولة لتهدئة الأوضاع استغل النظام عيد المرأة ليوجه بوتفليقة رسالة من سريره بسويسرا يوم (7مارس) إلى الأمهات يدعوهن إلى منع أبنائهن من التظاهر حفاظا على أمن الجزائر؛ لكن ردة فعل الجزائريين كانت أقوى يوم الجمعة 8 مارس بمسيرات تقدمتها النساء وكانت مادة إعلامية لمعظم القنوات والمنابر الإعلامية العالمية شعارها رفض ترشح الرئيس ليخفف من حدة تلك المسيرات خبر عودة الرئيس إلى البلاد يوم 10 مارس واستقباله بقصر زيرالدة لشخصيات عسكرية (قايد صالح) ومدنية، نتج عنها إقالة الوزير الأول أويحيى وتعيين وزير الداخلية نور الدين بدوي وزيرا أولا ورمطان لعمامرة نائبا له وأعاد المبعوث الأممي لخضر الإبراهيمي للساحة السياسية الداخلية من خلال تقديمه الخطوط العريضة لسياسة الرئيس في المستقبل القريب وتطمين الجزائرين على صحة الرئيس. ولتحجيم المسيرات صدر قرار يقضي بتقديم عطلة الربيع عشرة ايام عن موعدها لتبدأ يوم 10 مارس بدل 21 من الشهر نفسه، دون أن يجني النظام من تقديم العطلة وتمديها أي مكاسب.
وأمام تزايد الضغط أضطر النظام يوم 11 مارس إلى إعلان سحب الرئيس لترشحه، وإصدار مرسوم يقضي بتأجيل الانتخابات ليتغير شعار المسيرات من رفض الترشيح للعهدة الخامسة إلى رفض تمديد العهدة الرابعة في مسيرة الطلبة والمحامين يوم 12 مارس، وعلى الرغم من محاولة الوجوه الجديدة (لعمامرة، بدوي والإبراهيمي) في خرجات متعددة تقديم مسكنات ووعود لتخفيف حدة مظاهرات الجمعة الرابعة فإن جمعة 15 مارس خيبت أفق انتظار النظام برفعها لسقف المطالب والدعوة الصريحة لتغيير النظام ورحيل كل إذنابه والترحيب بالشرطة والأمن في صفوف المتظاهرين مدعومة بانضمام القضاة والأساتذة لمسيرات شعارها ضرورة تغيير النظام. وأمام شعور النظام باشتداد الخناق الداخلي طار نائب الوزير الأول (رمطان العمامرة ) في رحلات مكوكية إلى الخارج (إيطاليا روسيا ألمانيا) في 18 مارس مما زاد في تأجيج الوضع الداخلي واعتبار رحلاته تدويلا للقضية خاصة بعد تصريح وزير خارجية روسيا الداعي إلى عدم تدخل القوى الخارجية في القضية الجزائرية. ورغم تدخلات رئيس أركان الجيش الذي ما فتئ يكرر أن الشعب والجيش في الجزائر جزء لا يتجزأ وأن النظام لا زال قادرا على العطاء فإن بوادر تصدع النظام بدأت تظهر للعيان من خلال إعلان أكبر حزبين حاكمين انضمامها للحراك الجزائري يوم 19 مارس مما جعل كرة ثلج المطالب تتدحرج على تراجعات النظام وكان الرد يوم الجمعة 22 مارس رغم سوء الأحوال الجوية برسائل تؤكد على استمرار المسيرات السلمية حتى النصر ورفض كل مبادرات السلطة ورهاناتها على فتور التظاهر وهو يضفي مزيدا من الضبابية على مستقبل النظام الجزائري.