لقاء قصة الشتات مع الباحث أو الفنان أعمق من مجرد عثور على شيء والفرح باكتشافه؛ ففي اللقاء تتفاعل أرواح عبر شفرة خاصة، نداء خفي، رهان على ردّ الروح إلى القصة المفقودة، على مهل حتى تستوي وتسترد عافيتها باكتمال الصورة. هذا اللقاء يحمل وعدا بتخليد الطرفين، ورائده الشاعر الأسطوري هوميروس بملحمة أعاد فيها الملك أوديسيوس إلى زوجته بينيلوبي وبلده إيثاكا، بعد عشر سنوات على حرب طروادة.
وسينمائيا أنجز المخرج العراقي سمير فيلم "الأوديسا العراقية" عام 2014، ومزج الشخصي بالعائلي بالوطني، فروى جانبا من تاريخ العراق، منذ عام 1958، وكيف فجّرت الثورة والانقلابات والانقلابات المضادة طمأنينة العائلة، فاضطرت إلى التماس الأمن في المهجر، ثم انشطرت شظايا في المنافي، من دون التخلي عن حلم بالعودة، ولو في اجتماع عائلي ينجح في تحقيقه المخرج، بعد أن يسافر المئات من الساعات لمقابلة أفراد العائلة في روسيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ونيوزيلندا، لإنجاز فيلمه، ويجمعهم في بيته السويسري؛ فيشاهدون تفاصيل "الأوديسا العراقية"، ويستعيدون أنفسهم في مشهد بليغ ومؤثر اختاره نهاية للفيلم.
هذا الشغف أصاب المخرجة المصرية أمل رمسيس، وأثمر فيلم (تأتون من بعيد)، حصاد عشر سنوات من البحث والسفر بين ثلاث قارات، انطلاقا من سطور قرأتها في مقالة، وقادتها إلى التورّط في تفاصيل أوديسا فلسطينية بطلها فلسطيني حالم هو نجاتي صدقي (1905-1979)، أحد آباء الحركة الشيوعية في العالم العربي، وقد دفعه إيمانه بالحرية إلى الانخراط في معارك لنصرة إخوته في الإنسانية، فاختار جانب الجمهوريين ضد الجنرال فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية، وكلفته الأممية الشيوعية "الكومنترن"، عام 1933، بإصدار صحيفة موجهة إلى العالم العربي من باريس، وتحرير النشرات الهادفة إلى توعية الجنود المغاربة المنخرطين في صفوف فرانكو، وحثّهم على الانضمام إلى الجمهوريين، وكان يوقّع تلك النشرات باسم "مصطفى بن جلا" لرنينه المغربي. واستمرت صحيفة "الشرق العربي" حتى عطلها رئيس الحكومة الفرنسية في منتصف عام 1936.
حياة نجاتي صدقي حافلة بأنشطة صحافية وثقافية وسياسية، ومن ثمارها أيضا ثلاثة أبناء (دولت وسعيد وهند)، لم تجمعهم إقامة في بلد، كل منهم يعيش في دولة ويتحدث لغة مختلفة، فلم تغادر دولت روسيا ولم تتكلم إلا الروسية، ويقيم سعيد في البرازيل وهند في اليونان، والاثنان يتحدثان الإنكليزية والعامية اللبنانية. وبين دولت وأخويها فارق كبير في السن يزيد على ربع القرن، والثلاثة من أم أوكرانية يهودية أحبها الأب وآمنت بقضيته.
عاش نجاتي صدقي ملاحقا بالحروب والتهجير والمنافي، فما كاد يستقر في بيروت حتى اشتعلت نيران الحرب الأهلية، وقبل ذلك شغلته الحرب الأهلية الإسبانية عن ابنته دولت، فعاشت طفولتها في ملجأ بموسكو، وتفهم أحيانا "العربية الحمراء"، في وصفها للهجة الفلسطينية، وتتمنى أن يكون مستقر رفاتها في القدس. وتوفيت دولت قبل الانتهاء من إنتاج الفيلم، وربما تحقق لها حفيدتها أمنيتها بأن يضم القدس رفاتها، كما قالت أمل رمسيس، في ندوة عقب عرض الفيلم في الدورة الحادية والعشرين لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة (10-16 أبريل 2019). وفاز الفيلم بجائزتي الفيبريسي والاتحاد الأفريقي.
استلهمت المخرجة عنوان الفيلم من قصيدة "تأتون من بعيد" للشاعر رافائيل ألبيرتي، وانتهت إلى نص ملحمي يتقدم فيه الإنساني على السياسي الذي أتى خلفية للدراما، ووظفته في اللقطات الأرشيفية بما يضيف إلى شاعرية الفيلم.