تزدحم الذكريات في رأسي كلّما حاولت استحضارها لأكتب عن سعد الله ونوس، ولا أعود أعرف من أين أبدأ. هل أبدأ من لقائي الأخير به يوم وقف على خشبة “مسرح المدينة” يلقي “رسالة يوم المسرح العالمي” لعام 1996 بتكليف من المعهد الدولي للمسرح التابع لليونسكو، رسالته التي تُرجمت إلى لغاتٍ عديدة من بلدان العالم، وقُرِئت على مسارحها!
أم أبدأ من ذلك اليوم 15/5/1997، حين وصلني خبر وفاته وترجّع صوتُه في أذنيّ يقول: “أعتقد أنَّ إسرائيل سرقتْ السنوات الجميلة من عمري، وأفسدتْ على إنسانٍ عاش خمسين عاماً مثلاً، الكثيرَ من الفرح، وأهدرتْ الكثير من الإمكانات”.
برفقة بعض الأصدقاء ذهبتُ إلى قرية “حصين البحر”، قريته، ذهبتُ لوداعه، لإلقاء النظرة الأخيرة على وجهه، على عيْنيْه المغلقتيْن على ما بقي من حلمه ومن حبِّه للحياة.
في بيت متواضع، وقبل أن يوضع في تابوت ويُغلق على جثته إلى الأبد، جرتْ مراسمُ الدفن، ثم حُمل إلى مثواه الأخير القابع في الطبيعة، في السّفوح الغربيّة لجبال اللاذقيّة حيث ستحيط به الأشجار، ويرحِّب به مَنْ سبقه من أبناء قريته إلى الرقاد في تراب هذه القرية. سيرقد إلى جوار غازي كاسوح النحات العالمي، وعلي هولا وريّا حيدر وخليل أيوب… وغيرهم من الفنانين التشكيليّين الذين تزهو بهم “حصين البحر”، القرية العصيّة على الغزاة، والتي اشتهر أهلها بالبأس والشّدة.
في طريق العودة، رحتُ أستعيد صورته وحديثه أثناء زيارتي له في بيته في دمشق. كان ذلك قبل أشهر من رحيله. يومها قلت لصديقتي الدمشقيّة: رجاء خذيني إلى أحد بائعي الزهور، أودُّ أن أشتري زنبقاً فهو يحب رائحته.
باقة الزنبق في مزهريّة تضعها زوجته على طاولة وسط الصالون، يجلس هو على كنبة عريضة قبالتها. روب بيتي يحتضن جسده النحيل، وعرقيّة، تشبه عرقيّة الأطفال، تغطي رأسه. يتكلّم قليلاً، فيمتزج الأسى والغضب في تعابيره. غضب من الواقع العربي والحروب، من حرب الخليج التي نسبَ إليها سببَ إصابته بالسرطان. قال: “أشكّ في أنها كانت السبب المباشر لإصابتي بهذا المرض، وليس مصادفة أن يبدأ الشعور بالإصابة بالورم أثناء الحرب والقصف الوحشي الأمريكي على العراق”. يصمت. يبدو الكلام صعباً، فيكتفي بالإشارة إلى بعض ما يكتب. أخبره، بكلمات قليلة، عن محاضرتي التي قدمتها في ذلك اليوم ضمن فعاليّات معرض الكتاب الدولي في دمشق. يصغي ولا يعلّق.
هو في الذاكرة، ذاكرتي، وأسواق دمشق وشوارعها التي عبرتُها يوم ذاك، هي أيضاً، وعلى صورتها، في ذاكرتي. هو رحل إلى موته، وهي أصابها الدمار. وبقيت صورة بردى… بردى الذي كان كلّما أمعن تيمورلنك وعساكره في تدمير المدينة، ونهْبِ أرزاق الناس، والاعتداء على أعراضهم، كلما زاد المطر “وفاض الماء في بردى، وغمر ما حوله على الضفتيْن”.
سعد الله ونوس تاريخ، أقول لذاتي. تعود معرفتي الوديّة به إلى ذلك اليوم من العام 1982 الذي زارني فيه في منزلي في بيروت. كان ذلك في نيسان (أبريل) قبيل الغزو الإسرائيلي لبيروت الغربية بأشهر قليلة، وكان سعد الله، وقتذاك، مقيماً فيها بصفته مسؤولاً عن “الأحد الثقافي” في جريدة “السفير”. تكلمنا أثناء هذه الزيارة عن المقاومة والأدب والأدباء، وطلب منّي أنْ أقدِّم بعض ما أكتبه لـ”الأحد الثقافي”. لقد ترك ذاك اللقاء أثراً عميقاً في نفسي، خاصّة بعد الحوار النقدي الذي دار بيننا، والذي نُشر يومها على صفحات جريدة “السفير”.
لكن معرفتي بسعد الله ونّوس المسرحي، تعود إلى ما قبل معرفتي بشخصه، أي إلى ما قبل ذلك اللقاء به في منزلي في بيروت. تعود إلى زمن عشقي المبكر للمسرح. فقد كنت أحب قراءة النصوص المسرحية، وأحضر ما كان يعرض منها. هكذا، وعبر قراءتي لبعض نصوص ونوس المسرحيّة، وحضوري لما كان يُعرض منها، عرفته كاتباً مسرحياً مميّزاً.
أتذكر اليوم مسرحيّته “حفلة سمر من أجل خمسه حزيران” (1967) التي كتبها وهو في باريس. فقد تركتْ قراءتي لهذه المسرحيّة، ولحواراتها عن الهزيمة التي أوقعتها إسرائيل بالعرب يومذاك، ألما عميقاً في نفسي، لكنها ضاعفتْ، في الآن نفسه، إعجابي بـ ونوس، وعزمي على المقاومة.
أتذكر الكثير، أتذكر مسرحّيته: “الفيل يا ملك الزمان” التي كتبها سنة 1969 بعد عودته من باريس، وشاهدتُ عرضها الاحتفالي عام 1970 على خشبة “مسرح بيروت”، هذا المسرح الذي يعود الفضل في وجوده إلى بعض المثقفين، وبعض محبّي المسرح من اللبنانيين. لقد أضافت عروض هذا المسرح تنويعاً ثقافياً وفنياً على ما كانت تقدِّمه مسارح بيروت الأخرى، من مثل “مسرح المدينة” و”مسرح بعلبك”، و”مسرح البيكاديللي”.
كان لـ ونوس حضوره الشخصي في بيروت، نراه، نتعرّف إلى مواقفه الوطنيّة التي كان يعبّر عنها في أحاديثه، كما في كتاباته، كل كتاباته، في حواريّاته المسرحيّة التي كان ينسج بها دلالات الهزيمة. ينسجها في مجال زمني يتجاوز الواقعة التاريخية التي يقدّمها النصّ المسرحي، فتمتّد دلالاتُها إلينا، نحن قراء نصوصه، أو مشاهدي عروضه المسرحيّة. تحاور هذه الدلالات وعينا، وتوقظ ضمائرنا كي تُعاد إلى السياسة وإلى المواقف المسؤولة والخيارات المصيرية، معاني الكرامة والأخلاق، وكي تحفِّز، من ثم، على إعادة النظر فيما يجري في الواقع الاجتماعي الذي نعيش.
في مثل هذه النصوص التي يعود تاريخها إلى ما قبل مرضه، أو إلى ما قبل معرفته بطبيعة مرضه، كان ونوس يرى إلى معنى “الحق” في واحديته، وهو معنى مستمدّ، حسب النص، لا من هويةٍ مجرّدة أو مطلقة، بل من كونه حقاً يتمثل في واقع اجتماعي تاريخي، ويترتب على موقفنا منه، وجود أمّة ومصيرها، بل معنى هذا الوجود وكرامة هذا المصير.
إثر غزو إسرائيل للبنان وحصار بيروت (حزيران/يونيو – أيلول/سبتمبر 1982)، علمتُ بأنّ سعد الله غادر بيروت.
غادر، شأن كثيرين، ولكنه صمت.
لماذا صمت ونوس وهو، كما نعلم، أحد علامات الضمير الشجاع!
هل صمت بسبب ألمه لما أصاب البشر والحجر من وحشية الغزو الإسرائيلي لبيروت؟ أم بسب “الخيانة” التي “هزمتنا” مراراً “دون قتال”، كما كان يقول.
ربما!
وربما كان صمته بمثابة اعتصام عبَّر به عن موقفه من غزو إسرائيل للبنان وحصار بيروت.
لكن ونوس الذي صمت عشر سنوات، يعود إلى الكتابة بزخم مدهش، وذلك بعد أن شخَّص الأطباء الورم الذي أصاب عنقه بأنّه سرطان البلعوم، وتوقعوا أنه سيفارق الحياة خلال ستة أشهر.
قاوم ونوس المرض، كما قاوم مرض ساستنا، مرضى ورم المال المنهوب، وورم الكذب والاحتيال. قاوم وراح ينشد الحياة ويهمس لها بسّره، سرّه الذي هو سرّ الكتابة، الكتابة التي هي من أجل حق غاب، أو حق غُيِّب في ظلمة الجهل والاستبداد.
هكذا، وخلال فترة زمنية لم تتجاوز العامين، أصدر أربعة أعمال مسرحية هي: “طقوس الإشارات والتحولات” (1994) و”يوم من زماننا وأحلام شقية” (1955)، و”منمنمات تاريخية” (1994) و...
كان ونوس يقاوم مرضه بالكتابة ليقاوم، في الآن نفسه، عجزنا وأسباب هزائمنا. وكنا، نحن أصدقاؤه، نواكب مرضه، وكتاباته وعروضه المسرحية.
أتذكر دراستي عن نص مسرحيته “منمنمات تاريخية” (1994، دار الهلال، القاهرة)، التي أنجزتُها عام 1995 أثناء وجودي في باريس. تلك المنمنمات التي سميتها “المنمنمة الونوسيّة”. لماذا نسبتها إليه؟ أتساءل اليوم. ربما لأن المنمنمات، رغم انتمائها إلى التاريخ، تنسج، بالحوارات فيها، دلالات هزيمة تشي بهزيمتنا. تمتد دلالات هذ النص المسرحي إلينا، نحن القراء أو المشاهدين الذين نعيش في هذا الزمن العربي. تمتد وتحاور، من منظور ونوس، وعينا وضمائرنا، علّنا نعيد إلى السياسة وإلى المواقف المسؤولة معنى الكرامة والأخلاق، ونتحفز، من ثم، لإعادة النظر فيما يجري في هذا الواقع الاجتماعي الذي نعيش.
أتذكر…
أتذكر نصّه المسرحي “الأيام المخمورة” الذي صدر قبل أشهر من وفاته. يحضرني ما انطوى عليه هذا النص من تحوّل يخصّ نظريّة المسرح، كما يخّص موقف ونوس من الحياة: لا تنتمي “الأيام المخمورة” إلى “مسرح التسييس”، شأن العديد من مسرحيّات ونوس التي حكمتها ثنائيّة الحق والباطل، أو المجرم والضحية. بدل ذلك، تطرح سؤالها على الخطوط الفاصلة بين الحياة والموت، لتكشف بأنَّ الرحم الأنثوي هو مكمن “سرّ الوجود ومعناه المطلق”. هكذا يودُّ “حبيب” أن يسكن رحم “سناء” كي يطير “إلى الألق حيث يمكن أن يلامس البهي والأبدي”. أما الموت فهو شكل من أشكال الإخصاب، وتجربته هي “مجرد انزلاقة صغيرة، المزعج فيها هو الآلام”. الآلام التي هي ضرورة هذه “الانزلاقة” بحيث يعود المرء ليصبح عنصراً من عناصر هذا الكون، جزءاً من التراب، من المادة، من العشب، من الزهور، من أشعة الشمس، كما يقول ونوس على لسان “سناء” في الحوار الأخير.
أما الحقيقة التي ناضل من أجلها ونوس، وكانت حياته ثمن هذا النضال، فهي “إبرة ضاعت في مزبلة”، كما يقول “الأراجوز” في الفصل الأخير، “فصل الملاعب والخواتم”، من نّص “الأيام المخمورة”.
* * *
- 27/3/1941 ولد سعد الله ونوس في قرية حصين البحر القريبة من طرطوس.
- 1966 سافر إلى باريس لدراسة المسرح الأوروبي.
- 1991 إصابته بمرض السرطان وعودته إلى الكتابة بعد أن توقف عنها عشر سنوات.
- نال جائزة العويس في الدورة الأولى، 1988ــ1989.
- كًرّم في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، ومهرجان قرطاج، والمعهد الدولي للمسرح التابع لليونسكو.
- فارق الحياة بتاريخ 15/5/1997.
- بين مؤلفاته الأخرى: “الفيل يا ملك الزمان”، و”سهرة مع أبي خليل القباني”، 1971؛ “الملك هو الملك”، 1977؛ “رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة”، 1978؛ “الاغتصاب”، 1990؛ “منمنمات تاريخيّة”، 1994؛ “طقوس الإشارات والتحولات”، 1994؛ “أحلام شقيّة”، 1995؛ “يوم من زماننا”، 1995؛ “ملحمة السراب”، 1966؛ “بلاد أضيق من الحب”، 1966؛ “رحلة في مجاهل موت عابر”، 1996؛ و”الأيام المخمورة”، 1997.