ترتبط الثورة بعدد من المفاهيم والمصطلحات القريبة منها في الدلالة كالاحتجاج، العصيان، الإصلاح، الانقلاب ... وغيرها من المفاهيم التي تروم تغيير وضع قائم ، لكن مفهوم الثورة دون غيره من تلك المفاهيم يبقى مشحونا بدلالات موجبة، وله بريق يميزه عنها، فليست كل الحركات الاحتجاجية ثورات، لأن الاحتجاج مرتبط بظرفية آنية وبمطالب محدودة قد يخبو بتحقيق تلك المطالب، وقد يكون الاحتجاج فئويا تقوده فئة أو شريحة متضررة. فيما الثورة عامة تشارك فيها شرائح كبيرة من الشعب وهدفها قلب النظام وإحداث تغيير جدري في هياكل الدولة، و مفهوم الثورة والتغيير يحدث في نفوس الطبقات المسحوقة والمثقفة رنينا خاصا، على الرغم من عدم دستورية الثورات ما دامت في الغالب ترفض الدساتير القائمة، وتكسب دستوريتها من ثوريتها لذلك يتم الحديث عن الشرعية الثورية.
إن التاريخ حافل بثورات لا زال وسيبقى صداها يتردد في الثقافة الإنسانية؛ منها الثورة الفرنسية/ الثورة الروسية/ الثورة الشعبية الصينية/ الثورة الإيرانية/ ثورة هايتي/ الثورة الكوبية/ الثورة البوليفارية في بوليفيا .... وغيرها من الثورات التي غيرت مجرى الأحداث محليا وعالميا، وتمكن الثوار فيها من انتزاع السلطة من الحاكمين، وإجبارهم على التنحي عن دواليب الحكم سواء بطرق ناعمة أو بالعنف. وليس مجالنا الحديث عن تاريخ تلك الثورات وما حققته لشعوبها، ولكن كل همنا التساؤل عن أسباب فشل الثورات العربية على كثرتها وتنوعها.
فقد شهد تاريخ العرب والمنطقة ثورات كثيرة منذ ثورة الاسلام على قيم الجاهلية إلى يومنا، وللأسف كان الفشل نصيب معظمها، لأنها بكل بساطة لم تحقق للثوار ما كانوا يصبون إليه، ونتكفي بالإشارة إلى بعض الثورات الفاشلة في تاريخنا منذ صدر الإسلام بدءا بحروب الردة وثورة عبدالله بن الزبير على سياسة اليزيد بن معاوية، مرورا بثورة القرامطة وثورة الزنج في العصر العباسي، وصولا إلى ثورة بوحمارة في المغرب نهاية ق 19 وبداية ق 20، وثورة أحمد عرابي بمصر نهاية ق 19... وهي ثورات انتهت في الغالب بقطع "رؤوس الفتنة" ... وانتهاء إلى الثوارات المعاصرة التي اصطلح عليها بثورات الربيع العربي.
فباستثناء الثورات العربية ضد المستعمر التي ارتبطت بحركات التحرر، والتي كان هدفها واحدا (دحر المستعمر) والخصم فيها محددا (الآخر)؛ لم تكد تحقق أية ثورة عربية نتائج تعود بالنفع على الثوار، وظلت الثورات العربية تتأرجح بين الاحتجاج الذي يقوده المستضعفون، والانقلاب الذي يقوده العسكر، وكان أقصى ما حققته هو تمكن بعضها من القضاء على الملكيات "ثورة الضباط الوطنيين في العراق التي أسقطت الملكية في يوليوز 1958، و"ثورة الضباط الأحرار بمصر (يوليوز 1952)، و"ثورة" الفاتح من سبتمبر 1969 التي قوضت حكم الملكية في ليبيا. وإذا كانت بعض الانقلابات ناعمة بإزاحة الحاكم/ الأب سواء داخل الأسر الحاكمة كما حدث في عمان وقطر حيث الابن ينقلب على حكم والده ، فإن أكثر الانقلابات العربية كانت عسكرية كما حدث في مصر، العراق، سوريا، الجزائر السودان.
وانتظر العرب مطلع الألفية الثالثة ليشهدوا ثورات شعبية صاخبة ارتجت لها كل الأوطان العربية ، بعد أن انطلقت شرارتها من تونس التي لم يكن أحد يتنبأ أن تنطلق منها تلك "الثورات" اليوم. وقد بدأت الرؤية تتضح نسبيا! لن نتساءل عما حققت تلك الثورات، لأن الواقع يؤكد أن العالم العربي لم يعش فترة من الفرقة وغياب القاسم المشترك بين العرب مثلما يعيش بعد الثورات، لذلك سنستعيض عن ذلك السؤال بسؤال آخر وهو: لماذا لا تنجح ثوراتنا؟ ولم لم تحقق ثورات العرب ما حققتها الثورات لدى شعوب وأمم أخرى؟؟ الجواب على هدا السؤال يتطلب بحثا أكاديميا مفصلا لذلك سنكتفي في هذا المقال بتركيز تلك الأسباب في تضافر عوامل ذاتية داخلية خاصة، وأخرى موضوعية خارجية عامة نجمل أهمها في:
- غياب قيادة مثقفة له لها تصور استراتيجي وخلفية فكرية للثورة ، فمعظم الثورات الناجحة كان خلفها منظرون ومفكرون وزعماء يحظون بثقة الثوار، ويساهمون في التأطير، وفي تكريس قيم الثورة فيما ظل معظم المثقفون العرب خلال الثورات يلتزمون السكوت ولزوم البيوت.
- تزعم الشباب لمعظم الثورات العربية، فكانت حداثة السن، وقلة التجربة ، وعدم الاتفاق على قيادة موحدة ، وغياب الزعامة والانقياد وراء الحماس ... أسباب من أخرى كثيرة ساهمت في سهولة الاختراق وتخوين القادة لبعضهم البعض، واضطراهم عند وعيهم بالعجز إلى الاعتماد على العسكر، وهو حليف أساسي في الغالب للأنظمة القائمة والمراد الثورة عليها. فكان طبيعيا ان ينقلب العسكر، ويلتف على المطالب الشعبية، كما حدث في ثورة مصر ويحدث الآن في كل من السودان والجزائر.
- ثقة الشباب في بعض الأحزاب سهّل سرقة الثورات من الثوار، وركوب بعض الأحزاب أو الجماعات على سذاجة الثوار الذين لم يجدوا سوى أن يقدموا تضحياتهم لأحزاب عميلة للأنظمة، أو لتنظيمات لم يكن معترف بها، وتخندقها في المعارضة لم يكن يسمح لها بتكوين تصور للحكم، وكان تفاجؤها بالهدية التي لم تكن تنتظرها سببا في ارتكابها لأخطاء استراتيجية عجلت برفض الجماهير لها.
- أكل الثورات العربية لأبنائها، بالانتقام ، التخوين، غلبة المصلحة الشخصية وابعاد المصالح العليا المشتركة مما ضيق الأفق عليهم فلم يجدوا أمامهم مع قلة الكوادر سوى خيارين: الخيار الأول الاعتماد على رموز من النظام والتظاهر بمحاكمة أو إبعاد بعض الرموز كما حدث مصر (محاكمة صورية للرئيس وابنائه) والسودان (سجن البشير على ذمة التحقيق)، أو ما يحدث اليوم في الجزائر التي أصبح فيها اعتقال الرموز ظاهرة عامة (اعتقال قادة من النظام، المعارضة وحتى رجال الاقتصاد)، الخيار الثاني غلبة روح الانتقام وإدخال البلاد في دوام من العنف المتبادل كما يحدث في سوريا، اليمن ، وليبيا.
- وهناك سبب خارجي يستحيل إغفاله يتجلى في وجود تحالف غربي عالمي همه إفشال أي ثورة هادفة تهدد مصالحه. وهو تحالف بعيد عن فكرة المؤامرة حدث مع ثورة محمد مصدق في إيران، ومع ثورة أحمد عرابي في مصر، ومع ثورة شي غيفار سواء في الغونغو أو في بوليفيا. والأكيد أن له خيوطا في ما وقع وما يقع في العالم العربي الآن.