تسعى الباحثة التونسية هنا إلى نقل قضية المساواة بين المرأة والرجل، وقد حصلت عبرها المرأة التونسية على جل حقوقها مبكرا، إلى مجال أبعد وهو مجال التمييز الإيجابي، لأنهما لا يتساويان ولن يتساويا إلاّ عبر الوعي بضرورة فرض التمييز الإيجابي من أجل أسرة أكثر صحة وفاعلية في المجتمع.

نضالاتنا التي نحيا بها

من قضية المرأة إلى مشغل الأسرة

ليلى العبيدي

 

حين نتحدث عن المرأة التونسية المناضلة فنحن لا نخص بحديثنا النساء اللاتي شاركن في تحرير البلد من المستعمر ولا اللواتي ساهمن في الثورة التونسية إنما نحن نتحدث عن المرأة التونسية البسيطة. ونخص بالذكر الأم العاملة. إذا ما تتبعت أطوار حياتها اليومية فلن يعز عليك نعتها بلفظ المناضلة: فهي التي تتحمل أعباء الواجبات المنزلية ومتطلبات الأبناء والزوج علاوة على مشقة الحياة المهنية ولعل ما يزيد من ثقل حملها هو تلك الضغوطات التي لا ينفك المجتمع يمارسها ضدها. فإذا ما اشتكت من أعباء العمل تواجهها الحناجر مستنكرة مذكرة إياها بمطالبتها بحق العمل مساواة مع الرجل. في حين أنها كلما أعلنت شقاءها في مطلب الإلمام بكل الواجبات الأسرية، لا يرحمها لسان اللوم والانتقاد باعتبار أن شؤون المنزل والأبناء مرآة تعكس نجاحها الأسري. الأمر يتجاوزم مجرد الحرص على إيجابية موقف المجتمع من المرأة ويتجاوز حياة المرأة إلى حياة الأبناء ومستقبل الأجيال الصاعدة.

فكيف لأسرة الأم فيها تعمل لمدّة ثماني ساعات يوميّا والأب كذلك أن تنشئ أبناء مشبّعين بالقيم الحميدة والتربية الصالحة وهم لا يجتمعون بآبائهم وأمهاتهم إلا في آخر يوم متخم بالعمل والجهاد، أو في أيام العطل الأسبوعية، حيث تتراكم الواجبات المنزلية المؤجلة. أين يقضي هذا الطفل يومه خارج أوقات الدراسة هو إن نجا من تشرد الشوارع ومخاطره، سيجد نفسه في سن الطفولة الأولى مع أم مستأجرة ومع كم هائل من الإخوان في اليتم. لكأن التاريخ يعيد نفسه لكن بصورة أتعس. فإن كانت المرأة التقليدية قديما متفرغة لتربية الأبناء الذين قد يبلغ عددهم العشرة أو يزيد؛ فها هو طفل القرن الواحد والعشرين يحرم من الأم البيولوجية ليحشر لا محالة مع حشد من الإخوان الذين لفظهم تيار الحداثة على أرصفة الانتظار. انتظار إعادة لملمة شمل العائلة، أو ما تبقّى منها في آخر النهار. فما فائدة برامج التنظيم العائلي؟ وأي قيمة لهذه الحداثة البلهاء التي تيتم أبناءنا كل ساعة وكل يوم لأنّها مبنيّة على مشروع الفرد لا الأسرة؟

لا غرابة إذا أنّ ذلك الطفل إذا ما بلغ سن المراهقة لن يكون غير بوابة مشرعة على مخاطر الانحراف والإجرام. لقائل أن يرد كل ذلك لعامل الضغوطات المادية التي تعاني منها الأسرة التونسية عامة، أو أن يحتج على خروج المرأة إلى العمل ويطالبها بالعودة إلى دورها التقليدي في رعاية الأبناء. لكن الأمر في رأيي ليس بهذه البساطة والسطحية. لأنه لا يمكن إنكار حق المرأة في التعلّم والعمل، كما لا يمكن إنكار ما تتطلبه الحياة اليومية من حاجات مادية تجبر الآباء والأمهات على الانخراط في صفوف المناضلين المنسيين.

لابد من التخلي عن التعميم والنظر في المسألة بتفصيلية أكثر. خلال الحديث عن المرأة لا بد من الخروج من حدود صيغة المفرد إلى صيغ الجمع: فهي طفلة ثم الفتاة شابة لها الحق في أن تتعلم وتشارك الرجل كافة مجالات الحياة الاجتماعية. ولكنها ستكون الزوجة والأم؛ والوضع حينها سيختلف لأن الحديث سيتحول من موضوع الفرد إلى الأسرة.

إذا استمر المجتمع في المباهاة بالمساواة بين الرجل والمرأة وتدجين أشكال الشقاء الذي تعانيه الأم العاملة، باعتباره دليل نجاح وتميّز، دون الوعي بما تكابده المرأة جراء هذه الشعارات الصماء لنضالاتها اليومية؛ فلا غرابة أن تتزايد نسبة انقطاع المرأة عن العمل للتفرغ للأبناء. علاوة على ما قد تسببه تلك الضغوطات من مشاكل أسرية قد تؤدّي إلى تفككها. فهل زادت سعادة الأسرة في ظل هذه الحداثة المتخلفة؟

من الأسر التونسية من اختار التخلي عن أبنائه لآبائه وقد هرموا واشتعل الرأس شيبا، لأنه منذ الصباح الباكر يفزع وزوجته نحو مقرات العمل، ولا يعود إلا ّآخر اليوم. فأي أبناء سيكفلهم خلال سويعات الليل القليلة، ومنهم من نسي متعة الحياة الأسرية، وأصبح يلتقي زوجته وأبناءه فقط خلال العطلة الأسبوعية. لأن مؤسسات هذا المجتمع الحديث لا تراه فردا ضمن مجموعة يصطلح عليها بالأسرة، بل هو فقط رقم ضمن جداول إحصاء العمال والموظفين بأدراجهم الغائرة.

وصلت لا إنسانية سلطة القانون إلى إجبار المرأة الحامل على مزاولة عملها إلى آخر يوم في الحمل. طبعا مع ترك إمكانية التغيب المبرر بشهادة طبية مفصلة لمدة محددة مثلها مثل رجل في كامل لياقته الجسديّة. ليس لسبب إلاّ لأنّها تطالب بالمساواة معه، لكنّهما لا يستويان ولن يتساويا إلاّ عبر الوعي بضرورة فرض التمييز الإيجابي لمن هي في حالة صحية حرجة تتطلّب إيلاءها كلّ العناية لاسيما أنّها بصدد القيام بأعظم مهمّة على وجه البسيطة. وما من عمل أو وظيفة أهم ممّا أوكل إليها تلك السّاعة. ومنهنّ من تستعمل أكثر من وسيلة نقل للوصول إلى مقر العمل. فماذا عن ذلك الجنين؟ بأي ذنب تجوب به أمه كلّ هذه المسافات لتكسب لقمة العيش؟ في مجال موسوم بالمجتمع الإنساني في رقعة محكومة بقانون الحق والواجب.

ثم إنها إذا ما وضعت المولود فإنّه لن يحظى منها بأكثر من شهرين من التفرّغ ثمّ تجبر على ترك صغيرها لعطف الله ورحمته. لتعود إلى العمل بقلب مكسور وفكر شارد. تعد الساعات والدقائق لتعود لرضيعها الذي لن يرضع الا بترخيص رسمي من السلطة المشرفة. أما اين ستترك هذه الام وليدها ومن سيعتني به، فذلك ليس من مشمولات المجتمع أو السلطة لأنها تمثل مجتمعا الفرد فيه في خدمة الدولة لا العكس. أما تلك التي تبلى بإجهاض الجنين لسبب أو لآخر حتى وإن كان للظروف المهنية يد في ذلك، فالسلطة تكافؤها بحرمانها من الشهرين الذين تتمتع بهما الأم التي نجحت في وضع مولودها. وتبعا لذلك تجبر على العودة الى العمل دون راحة استثنائية، مراعاة لوضعها كامرأة، وليس لها أن تحتج لأن القانون يساوي بينها وبين الرجل.

هذا هو وضع المرأة التونسية في ظل وهم المساواة مع الرجل. والحديث قد يطول إن أردنا إحصاء قصص معاناة المرأة. ولكني أرى أنه ليس أمرّ من أن توضع المرأة بين خيار الاكتفاء بما فازت به من حقوق، أو التهديد بالتراجع عنها. فهل المطالبة بمنح أحد الأبوين العاملين مدة كافية للتفرغ لرعاية الطفل حتى يشتد عظمه قبل أن يخرج إلى المحاضن ورياض الأطفال مطالبة بإحدى الكماليات؟ إنه لعمري مطلب ضروري لا يجب أن يهمش ليترك حل الإشكال إلى الاجتهادات الفردية حيث تتدبر كل أسرة الأمر بمفردها وفقا لظروفها كأن السلطة بريئة من كل مسؤولية أليست الأسرة هي النواة الأساسية للمجتمع فلم يشعر الفرد في خضم تيار الحداثة العاصف أنه يشتاق لحضن أسرة يطمئن إليها ومجتمع يكفل حقوقه .