يتتبع الباحث المغربي الأصول الفكرية لنظرية النظم في التراث العربي، وكيف أنها ولدت في مجال البحث في إعجاز القرآن، وتتبع الوجوه البلاغية التي نشأ عنها الإعجاز بدءا من الجاحظ وغيره من المعتزلة، وصولا إلى الأشاعرة والمحدثين. بصورة ظل معها عمل الجاحظ في ها المجال أكثرها دقة وإضاءة.

الأصول الفكرية لنظرية النظم

في التراث العربي

الطيب رحماني

 

أثيرت قضية النظم أول ما أثيرت في سياق البحث في وجوه الإعجاز القرآني، واستأثرت باهتمام كثير من علماء اللغة والبيان، حتى خصها بعضهم بمؤلفات مفردة، حاولوا من خلالها إبراز جمالية النظم القرآني في وجه شبهات المبطلين، إلا أن آراء هؤلاء العلماء كانت متباينة بتباين منطلقاتهم الفكرية، مما يجعل الدارس ملزما بضرورة الوقوف عند الحيثيات التي ساهمت في صياغة قضية النظم، وشدت الأنظار إليها، وقبل أن نمضي إلى ذلك نقف لتحديد مفهوم النظم في اللغة والاصطلاح:

يقول ابن فارس: "النون والظاء والميم أصل يدل على تأليف شيء ... نظمت الخرز نظما، ونظمت الشعر وغيره، والنظام الخيط يجمع الخرز"([1]). وفي التعريفات: "النظم في اللغة جمع اللؤلؤ في السلك، وفي الاصطلاح تأليف الكلمات والجمل مرتبة المعاني متناسبة الدلالات، على حسب ما يقتضيه العقل، وقيل الألفاظ المرتبة المسوقة المعتبرة دلالاتها على ما يقتضيه العقل"([2]).

فالنظم حسب التعريف اللغوي والاصطلاحي هو الضم والجمع على نحو مخصوص، فهو يشبه الخيط الجامع للؤلؤ في التعريف اللغوي، وفي الاصطلاح الترتيب والتناسق الرابط والجامع بين الألفاظ والمعاني. فهل وظف علماء اللغة والبيان الذين بحثوا في الإعجاز القرآني النظم بالمفهوم ذاته أم أنهم حاولوا تفسيره وتوظيفه بما يوافق وجهات نظرهم ومذاهبهم الفكرية؟

بالرجوع إلى النصوص الأولى التي تناولت قضية النظم، تتبين صلتها بالمذاهب والفرق الكلامية وخصوصا المعتزلة والأشاعرة، ولعل الباحث في التراث البلاغي عامة يجد نفسه مضطرا إلى الوقوف عند هذه الفرق والمذاهب لتداخل القضايا البلاغية واللغوية بالقضايا العقدية والفكرية التي أثيرت وقت إذن، وبرع في مناقشتها شيوخ جمعوا بين تمرسهم في اللغة والبلاغة وقدرتهم الحجاجية في الدفاع عن الأفكار والمذاهب التي انتسبوا إليها، وكانت مادة ذلك كله نصوص قرآنية وحديثية وشعرية مثلت قمة بلاغية. وفي ما يأتي محاولة لاستجلاء هذا التداخل، والكشف عن بعض الآراء التي قدمها أشهر رموز المذهبين الاعتزالي والأشعري، وكذا بعض المحدثين والفقهاء المناوئين لهم، حول واحدة من أكثر القضايا البلاغية القديمة إثارة وأهمية وهي قضية النظم.

أ- النظم عند المتكلمين:
1-المعتزلة:
1-1-الأصول والمنطلقات الفكرية:

من بين المسائل التي دار حولها النقاش بين المتكلمين مسألة كلام الله تعالى، أمخلوق هو أم غير مخلوق؟ حادث أم قديم؟ وكان رأي المعتزلة أن "الكلام – شأنه في ذلك شأن السمع والبصر – ليس صفة من صفات الذات، فكلام الله – بما في ذلك القرآن – ليس أوليا."([3]) ودققوا في حقيقة الكلام بأنه عبارة عن الحروف والأصوات المقطعة، أي أنه من عوارض الأمور، مما أفضى بهم إلى القول بخلق القرآن وحدوثه، يقول الجاحظ: "والقرآن... جسم وصوت، وذو تأليف ونظم، وخلق قائم بنفسه."([4])

لقد أطرت هذه الفكرة آراء المعتزلة في مجال البيان ودفعتهم إلى الاهتمام بالألفاظ والحروف وجعلتهم يركزون بحوثهم حول الصياغة اللفظية باعتبارها أهم وجه من وجوه الأعجاز القرآني.

1-2-النظم عند الجاحظ:
تناول الجاحظ على غرار شيوخ المذهب الاعتزالي مسألة اللفظ والمعنى،كما خصص حيزا كبيرا من كتاباته للإعجاز القرآني محاولا الكشف عن وجوهه وذهب إلى أن القرآن معجز من وجهين:

1-النظم البديع؛

2-أن الله تعالى صرف النفوس عن معارضته

يقول في ذلك : صرف نفوسهم عن المعارضة للقرآن، بعد أن تحداهم الرسول بنظمه"([5]).

ولا يكاد رأي الجاحظ في الإعجاز يخرج عن هذين الوجهين رغم إسهابه في الحديث والاستطراد، ويبدوا أن اهتمامه الكبير كان منصبا على ما أسماه النظم البديع، يقول: "وفي كتابنا المنزل الذي يدل على أنه صدق، نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد"([6]).

وقد خص هذا الموضوع بكتاب سماه "نظم القرآن" لكنه كان من جمله المفقودة من تراثنا ([7]) فماذا يقصد الجاحظ بالنظم؟ أهو نظم الحروف أم الكلمات؟ أم النظم الذي يجمع بين اللفظ والمعنى؟ وبما أن إشارات الجاحظ - بخصوص النظم- كانت مبكرة فإنها ظلت مبهمة وعامة، مما يستدعي ضرورة الوقوف عند جملة من النصوص التي حاول الجاحظ من خلالها الكشف عن تصوره، وفي مقدمة تلك النصوص قوله المشهور: "المعاني مطروحة في الطريق" إلى أن يقول "فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير"([8]). فهو يتحدث هنا عن الشعر باعتباره كلاما منظوما يوافق الكلام المنثور في المادة (المعنى) ويخالفه في الصياغة، والمادة الأولية وإن كانت مبذولة للجميع، إذا توافرت للصانع المحترف فإنه يبدع منها ما شاء الله أن يبدع نظرا لخبرته في مجال السبك والنسج الجيد المحكم.

ويفهم من كلام الجاحظ "المعاني مطروحة في الطريق" أنه يميل إلى اللفظ، وهذا ما تشهد به نصوص أخرى يحتفل فيها بالحروف والألفاظ وحسن وصفها، ويكفي الرجوع إلى الصفحات الأولى من كتابه "البيان والتبين" يقول: "ومتى كان اللفظ كريما في نفسه، متخيرا من جنسه، وكان سليما من الفضول، وبريئا من التعقيد حبب إلى النفوس واتصل بالأذهان، والتحم بالعقول، وهشت إليه الأسماع، وارتاحت إليه القلوب."([9]). وأجود الشعر عند الجاحظ ما كان "متلاحم الأجزاء سلس المخارج، فتعلم بذلك أنه أفرغ إفراغا وسبك سبكا واحدا فهو يجري على اللسان كالدهان"([10]).

إن الجاحظ غالبا ما يوظف النظم إلى جانب السبك والتأليف والإفراغ وهي أوصاف يطلقها على حسن الصياغة اللفظية والانسجام الصوتي البديع"([11]). ويؤكد هذا أن النظم عنده مرتبط بالجانب اللفظي، وهذا ما ذهب إليه كثير من الباحثين، يقول عبد المعطي عرفة: "يظهر لنا أنه كان يطلق النظم على نظم الحروف، وتلاؤم مزاجها وانسجام أجراسها حتى تكون في خفتها ورشاقتها كالحرف الواحد، وتكون الألفاظ في تحدرها وسهولتها ولينها على اللسان كأنها لفظ واحد"([12])

ولا يستغرب هذا من الجاحظ ما دام من شيوخ الاعتزال، يقول أحمد أبو زيد: "إن إلحاحَه على عناصر الصياغة اللفظية، وما يدخل فيها من أساليب البيان والبديع وتخير الألفاظ ... ليقوم دليلا على أن النظم في مذهبه هو نظم الألفاظ، وهو تصور نابع من أصول الاعتزال، ومن اعتقادهم المتعلق بالصفات وكلام الله تعالى"([13])

وبنفس المنظور تصور الجاحظ النظم القرآني باعتباره وجها من وجوه الإعجاز يقول: "وليس ذلك في الحرف والحرفيين، والكلمة والكلمتين، ألا ترى أن الناس قد يتهيأ في طباعهم ويجري على ألسنتهم، أن يقول رجل "الحمد لله" و"وعلى الله توكلنا" وهذا كله في القرآن غير أنه متفرق غير مجتمع، ولو أراد أنطق الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة طويلة أو قصيرة على نظم القرآن، وطبعه وتأليفه ومخرجه لما قدر."([14])

فالجاحظ يرى أن الإعجاز متصل بالنظم وحده بصرف النظر عما يحويه من المعاني، إذ طلب الله تعالى إليهم أن يأتوا بعشر سور من مثله في النظم والروعة في التأليف حتى ولو حوى كل باطل ومفتري لا معنى له.([15]) إن الجاحظ بملاحظاته هذه يكون قد وضع الأسس الأولى لمفهوم النظم الاعتزالي، وقد أكمل أصحاب مذهبه ما ابتدأه، خاصة من اهتم منهم بمسألة النظم كالقاضي عبد الجبار.

1-3-النظم عند عبد الجبار:
تناول عبد الجبار مسألة النظم في الجزء السادس عشر من كتابه (المغني في أبواب التوحيد والعدل) إذ كان بصدد الحديث عن إعجاز القرآن، وقد نسج على منوال الجاحظ، وسار على دربه في الاهتمام بالصياغة اللفظية، يقول: "اعلم أن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة."([16])

ونلمس من كلام عبد الجبار هذا نوع من التميز عن الموقف السابق، فهو إلى جانب اهتمامه باللفظ يشترط حسن الصياغة، والفصاحة عنده لا تظهر في الألفاظ المفردة إلا يعد أن يضم بعضها إلى بعض على منوال معين، يقول "ولابد مع هذا الضم من أن يكون لكل كلمة صفة، وقد يجوز في هذه الصفة أن تكون المواصفة التي تتناول الضم، وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع وليس لهذه الأقسام رابع."([17])

فالنظم عند عبد الجبار يقوم على ثلاث دعائم أساسية([18]):
1-اختيار الكلمة في ذاتها؛
2-تحديد الوظيفة النحوية لتلك الكلمة؛
3-اختيار الموقع المناسب لها حتى تؤدي وظيفتها على أحسن وجه.

أما المعاني فليست ذات تأثير كبير في النظم حسب رأي عبد الجبار، يقول: "إن المعاني وإن كان لابد منها فلا تظهر فيها المزية ... لذلك نجد المعبرين عن المعنى الواحد يكون أحدهم أفصح من الآخر والمعنى متفق، على أن نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد، فإذن يجب الذي يعتبر عنده التزايد الألفاظ التي يعبر بها عنها، فإذا صحت هذه الجملة فالذي تظهر به المزيه ليست إلا الإبدال الذي به تختلف الكلمات، أو التقديم والتأخير الذي يختص الموقع أو الحركات التي تختص الإعراب فبذلك تقع المباينة"([19]).

وواضح أن عبد الجبار هنا يجعل تطور المعاني تبعا لتطور النسق الذي تتخذه الألفاظ مع طرق الضم الثلاث التي حددها، وبذلك تلتقي رؤية عبد الجبار برؤية الجاحظ في نقطة الاحتفاء بالصياغة اللفظية، وإن بدا عبد الجبار أكثر تدقيقا في تحديد شروط النظم الفصيح، حيث ألمح إلى مسألة في غاية الأهمية وهي مسألة الإعراب، وهي فكرة طورها عبد القاهر الجرجاني واستثمرها في بناء نظرية للنظم واضحة المعالم"([20]).

وخلاصة القول أن المعتزلة وقفوا عند حدود تصوراتهم الفكرية، في بحوثهم حول النظم، حيث اعتبروه نظما واقعا في الكلام المؤلف من حروف وأصوات على نحو مخصوص، واعتبروه من وجوه الإعجاز ومنهم من لم يستوقفه ذلك فراح يبحث عن وجوه بلاغية أخرى كما فعل الرماني وذهب آخرون إلى تتبع الإيقاعات الصوتية للحروف كما فعل ابن سنان في كتابه (سر الفصاحة).

2- النظم عند الأشاعرة:
2-1- الكلام عند أبي موسى الأشعري لفظ ومعنى:

من بين المعتزلة خرج أبو موسى الأشعري واستقل برأيه وقال بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو صفة لمن قام به الكلام لا لمن نطق به، ولا يطلق الكلام على العبارات المشتملة على ألفاظ مكتوبة أو مقروءة أو مسموعة إلا على سبيل المجاز أو الاشتراك اللفظي."([21])

فالكلام عند الأشعري قسمان:

1-كلام نفسي قائم بذات الله تعالى فهو أزلي قديم؛

2-كلام لفظي مؤلف من حروف وأصوات، حادث مخلوق، وهو الوجود الخارجي لذلك الكلام النفسي، وإنما يسمى كلام الله تعالى لانطباعه على الكلام الأزلي.

فلا خلاف إذا بين المعتزلة والأشاعرة حول حدوث الكلام اللفظي، وإنما نزاعهم حول الكلام النفسي إذ أنكر المعتزلة هذه الفكرة وتمسكوا بالجانب المادي المحسوس، بينما تمسك الأشاعرة بتصور وجود معنوي مجرد للكلام هو الجوهر وما الوجود اللفظي المحسوس إلا خادم له.

2-2- النظم عند أبي بكر الباقلاني:
اعتنى الباقلاني كثيرا بمباحث الإعجاز وخصص لذلك كتابا مستقلا سماه (إعجاز القرآن)، وهو يرى أن القرآن معجز من ثلاث أوجه: أحدها ما فيه من عجيب النظم، وبديع الوزن والرصف المخالف لجميع أوزان العرب ونظومهم. والوجه الآخر ما تضمنه من أخبار الغيوب. والوجه الثالث شرح أقاصيص الأولين وسنن النبيئين وأحوال الأمم المتقدمين".([22]) وكان لزاما على الباقلاني أن يوفق بين القول بقدم القرآن وبين كونه معجزا بنظمه، يقول: "وإنما تحداهم بمثل الحروف المنظومة التي هي عبارة عنه في براعتها وفصاحتها واختصارها وكثرة معانيها"([23]). فالحروف المنظومة التي يتألف منها القرآن الكريم هي عبارة عن الكلام القديم ودلالات عليه، والإعجاز واقع في نظم تلك الحروف والتحدي واقع في مثل هذا النظم.

ويرى الباقلاني أن نظم القرآن مباين لنظام كلام العرب من ناحيتين:
1-الطول الذي يتميز به نظم القرآن مع احتواه من فنون مختلفة من قصص وأخبار وتشريع ... دون أن يؤدي ذلك إلى اختلال في النظم...
2- طريقته وأسلوبه مختلف عن أساليب العرب...

وهذان الوجهان في حد ذاتهما مكمن للإعجاز في نظر الباقلاني، يقول: "وعلى أن القرآن منزل بلسان العرب وكلامهم، ومنظوم على وزن يفارق سائر أوزان كلامهم، ولو كان من بعض النظوم التي يعرفونها لعلموا أن شعرا أو خطابة أو رجزا أو طويلا أو مزدوج قد برع فيه وتقدم."([24]) فالمباينة في الشكل والقدر مع وحدة المادة اللغوية مما تحدى به القرآن فصحاء العرب، فحاروا في أمره أشعرهم أم نثر؟ أرجز أم طويل؟ ... خصوصا وهو يجمع بين الطول والجودة، يقول الباقلاني: "ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة، والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة والفوائد العزيزة ... على هذا الطول وعلى هذا القدر، وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة، والفاظ قليلة وإلى شاعرهم قصائد محصورة ... كما أن نظم القرآن الكريم لا يتفاوت في شيء لا يتباين في أمر ولا يختل في حال"([25]). في حين أن غيره من الكلام – على قصره – كثير التلون دائم التغير يقف على بديع مستحسن ويعقبه قبيح مستهجن يأتيك باللفظة المستكرهة بين الكلمات التي هي كاللآلئ الزاهرة".([26])

وإلى جانب اهتمام الباقلاني في حديثه عن النظم القرآني بالأسلوب والطريقة، اهتم بالحروف والألفاظ وصياغتها، يقول: "تحداهم أن يأتوا بمثل الحروف التي هي نظم القرآن، منظومة كنظمها متتابعة كتتابعها مطردة كاطرادها، ولم يتحداهم إلى الكلام القديم"([27]). ويقول مؤكدا: "ليس الإعجاز في نفس الحروف وإنما هو في نظمها وإحكام رصفها، وكونها على وزن ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، ووجودها متقدمة ووجودها متأخرة."([28]) فهو يهتم بترابط الحروف وعلاقة بعضها ببعض، من تقديم وتأخير، وتتابع وتعاقب ... بما يخدم الصياغة اللفظية، وهو يقترب في هذه النقطة من تصور المعتزلة، وخاصة الجاحظ الذي بالغ في الاحتفال بجودة الألفاظ وحسنها وجماليتها، ولعل هذا التقارب راجع إلى الاتفاق الحاصل بين مذهبي الرجلين في مسألة الكلام اللفظي، ويوضح ذلك أن الباقلاني رغم اهتمامه بالألفاظ فإنه يشترط اقترانها بالمعاني، بل إن الصياغة اللفظية الخالية من المعاني الهادفة تبقى – في نظره– مجرد مظاهر وزخارف وهذا ما يتضح من ملاحظاته التي سجلها على معلقة امرئ القيس، حيث شجب بشدة ما اشتملت عليه من المعاني الساقطة والمبتذلة.

واحتج الباقلاني لرأيه هذا بأن "الكلام موضوع للإبانة عن المعاني القائمة في النفوس، فوجب أن يتخير من اللفظ ما كان أقرب للدلالة على المراد، وأوضح في الإبانة عن المعنى المطلوب، ولم يكن مستكره المطلع ولا مستنكر المورد على النفس، لا يتأتى بغرابته عن الإفهام أو يمتنع بتعويض معناه عن الإبانة"([29]). وبهذا يوفق الباقلاني بين الاهتمام بالكلام اللفظي المحسوس، والكلام القديم القائم بالنفس. وما يلفت الانتباه - في آراء الباقلاني بخصوص النظم- أنه ينظر إلى النص باعتباره وحدة متكاملة، ويظهر ذلك من خلال تحليله السورة بتمامها، لإبراز ما تضمنته من نظم بديع، كما أنه لا يقف عند مجرد روعة استعارة أو بلاغة أو تشبيه في آية أو عبارة قصيرة".([30]) فالسورة عنده كل متكامل، والآيات يمسك بعضها برقاب بعض، ويتصل المتقدم منها بالمتأخر، حتى تتشكل في وحدة فنية متماسكة في نظام بديع([31])

إن هذه النظرة الشمولية للنصوص تعتبر – في نظر الباقلاني – شرطا أساسيا في صحة الحكم على النص بالجودة أو الرداءة، فلا يكفي أن تأخذ عيّنة من الكلام تحكم من خلالها بالتفوق أو الضعف، يقول: "إذا وجدت للشاعر بيتا، أو قطعة أحسن من شعر امرئ القيس لا يدل ذلك على أنه أعلم بالنظم منه، لأنه لو كان كذلك، كان يجب أن يكون جميع شعره على ذلك الحد، وبحسب ذلك البيت في الشرف والحسن والبراعة"([32]). فالإنسان – كما يقول الباقلاني – يقدر على شرب جرعة ماء، ولا يقدر على شرب ماء البحر([33])، ومن ثم وجب استقصاء وتتبع النصوص قبل استصدار الأحكام.

كما التفت الباقلاني إلى ذلك الترابط العجيب الذي يؤلف بين كلمات القرآن الكريم، وقد علق على قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإيمَانُ" الآيات([34]) قائلا: "فانظر إن شئت إلى شريف هذا النظم، وبديع هذا التأليف، وعظيم هذا الوصف، كل كلمة من هذه الآية تامة وكل لفظ بديع واقع."([35]) وأشار إلى أن براعة هذا اللون من النظم إنما تتبين "بأن تتصور هذه الكلمة مضمنة بين أضعاف كلام كثير، أو خطاب طويل، فتراها ما بينهما تدل على نفسها فإذا ضمت إلى أخواتها وجاءت في ذاتها، أرتك القلائد منظومة كما كانت تريك الأفراد منها اليواقيت منثورة، والجواهر مبثوثة",([36]) إن هذه الإلتفاتة إلى الترابط بين الكلم تقترب من فكرة النظم القائم على الترابط النحوي التي برع عبد القاهر الجرجاني في بيانها، مما يرجح اطلاعه على أبحاث الباقلاني واستفادته منها.

وجملة القول أن فكرة النظم عند الباقلاني أخذت أبعادا متعددة بتعدد الزوايا التي نظر منها، فهو نظم يهتم بالصياغة اللفظية المحسوسة، ويعالج علاقة هذه الصياغة بما تحيل عليه من معاني، وهو نظم يهتم بالوحدة الفنية للنصوص، ويرفض فكرة تجزيئ تلك الوحدة الى وحدات صغرى مصنفة حسب ما تحتويه من أقسام فنية، كما أنه نظم يراعي الترابط الحاصل بين الكلمات... وهذا التعدد يدل على قيمة الأبحاث التي قدمها الباقلاني في هذا المجال، وبذلك يكون قد مهّد الطريق لصاحبه في المذهب عبد القاهر الذي جاء فيما بعد وفصل الكلام في النظم، وخلف فيه آراء واضحة تنطلق من التصور الأشعري، وتنتصر لرأيه في مسألة الكلام. ([37])

ب-النظم عند الفقهاء والمحدثين:
1- ابن قتيبة:
إن منشأ الخلاف في كلام الله تعالى كان بين المعتزلة ، والفقهاء والمحدثين، قبل أن يخرج الحسن الأشعري من بين المعتزلة ويستقل بآرائه في هذه المسألة وفي غيرها، وقد كان الفقهاء والمحدثون يرفضون ما تميز به المذهب الاعتزالي من جرأة في التأويل، ومبالغة في تمجيد العقل، ويطالبون بضرورة الوقوف عند حدود الكتاب والسنة، ولكن انتشار المذهب الاعتزالي، وإمساكه بمراكز القرار فرض عليهم الدخول إلى حلبة النقاش، والرد على مزاعم المعتزلة. وفي هذا الخضم ألف ابن قتيبة كتابه (تأويل مشكل القرآن) يرد فيه مجموعة من الشبهات التي حاول بعض أعداء القرآن الكريم إثارتها، وعمد ابن قتيبة إلى إبراز بعض وجوه الإعجاز القرآني، ومن ضمنها النظم العجيب، وإن كانت هذه القضية لم تستوقف ابن قتيبة طويلا، واكتفى بالإشارة إليها بشكل عام في مقدمة كتابه، يقول: "وقطع منه بعجيب التأليف أطماع الكافرين، وأبان بعجيب النظم عن حيل المتكلفين".([38])

فالقرآن الكريم أعجز العرب بنظمه العجيب المخصوص المباين لما عهدوه من فنون القول، والنظم هنا الأسلوب والطريقة المتبعة في ترتيب الكلام، ويشير ابن قتيبة إشارة أخرى إلى تميز النظم القرآني بما يحدثه من ألفة لدى القارئ والمستمع، نظرا لما يتميز به من إيقاع داخلي منتظم، يقول "وجعله متلوّا لا يمل على طول التلاوة ومسموعا لا تمجه الآذان وغضا لا يخلق على كثرة الرد"([39]). وتبقى هذه الالتفاتة من ابن قتيبة عامة ومجملة ولا تشكل مفهوما متكاملا للنظم، ولعل ذلك راجع إلى انصرافه إلى وجوه بلاغية أخرى محاولا إبراز الإعجاز من خلالها.

2-الخطابي:
اعتنى الخطابي في كتابه (بيان إعجاز القرآن) بإظهار أهمية النظم وتبيين سر إعجازه في القرآن الكريم".([40]) يقول في ذلك: "اعلم أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنا أصح المعاني".([41]) والكلام – عند الخطابي – يقوم على ثلاثة أشياء: "لفظ حامل ومعنى به قائم وربط لهما ناظم"([42]) ويظهر من هذا أن النظم هو تلك الصلة التي تجمع بين اللفظ والمعنى باعتبار الأول وعاء الثاني، أي أن الخطابي حاول تجنب الفصل بين العنصرين، والاهتمام بأحدهما على حساب الآخر، ومن ثم حاول إيجاد صيغة تبرز التفاعل الإيجابي بينهما وتخدم البعد الفني للكلام، يقول: "ولم نقتصر فيما اعتمدنا من البلاغة لإعجاز القرآن على مفرد الألفاظ التي منها يتركب الكلام، دون ما يتضمنه من ودائعه التي هي معانيه وملابسه التي هي نظوم تأليفه"([43]).

فالألفاظ المفردة ليست لها أهمية كبيرة حتى تلتئم مع معانيها عن طريق النظم، ورغم محاولة الخطابي تجنب الفصل المباشر بين اللفظ والمعنى، والانتصار لأحدهما على الآخر، فإن امتداحه للمعاني المبثوث بين ثنايا كلامه، يوحي بشيء من الميل إلي المعنى، ومن ذلك قوله: "أما المعاني التي تحملها الألفاظ، فالأمر في معاناتها أشد، لأنها نتاج العقول وولائد الأفهام. وأما رسوم النظم فالحاجة إلي الثقافة والحذق فيها أكثر لأنها لحام الألفاظ ورماح المعاني، وبها تنتظم أجزاء الكلام، ويلتئم بعضه ببعض فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان"([44]) وفي هذه الإشارة الأخيرة يقترب الخطابي من مفهوم الكلام النفسي عند الأشاعرة، فأجزاء الكلام بعد التئامها تقوم لها صورة في النفس فتشكل البيان. ومهما يكن فإن مفهوم النظم عند الخطابي يتسع ليشمل اللفظ والمعنى والعلاقة التي تؤلف بينهما.

ومن الإشارات التي تبرز أهمية النظم كما فهمه الخطابي ما نقرأه في قوله: "اعلم أن عمود هذه البلاغة التي تجمع لها الصفات، هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص ... الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام، وإما ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البلاغة، ذلك بأن الكلام ألفاظ متقاربة المعاني بحسب أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان الخطاب غير أن الأمر فيها وفي معانيها عند علماء أهل اللغة بخلاف ذلك..."([45]). والخطابي ينبه بهذه الإشارة إلى خصوصية الألفاظ التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار حتى يلتئم النظم، ويحصل المراد من الكلام.

إن مما يضفي طابع الأهمية على دراسات المتقدمين في مجال الإعجاز، أنها كانت سباقة إلى إثارة إشكالات بلاغية مهمة ومحاولة استصدار آراء بخصوصها، مما مهد لنشوء حس بلاغي دفع بأصحابه إلى تتبع الوجوه البلاغية التي وقع من طريقها الإعجاز وتم بها التحدي. وكان من جملة تلك الوجوه النظم الذي استوقف كثيرا من البلاغيين، وفي مقدمتهم الجاحظ بما خلفه من إشارات تعتبر أقدم ما وصلنا في هذا المنحى.

وقد توالت الأبحاث بعد الجاحظ وراحت تحتفل بالنظم وتستثمره في الاحتجاج للإعجاز القرآني، غير أن المفهوم ظل مختلفا باختلاف التصورات التي كانت تؤطر البلاعيين فأصحاب الاعتزال منهم رأوا النظم واقعا في الحروف والأصوات، ومتمثلا في الصياغة اللفظية والأشاعرة والمحدثون ذهبوا إلى أنه واقع بين الألفاظ في علاقتها بما تحمله من معاني.

غير أن الملاحظات التي تلت الجاحظ – وإن كانت مهمة فإنها– لم تصل إلى الكشف الدقيق عن حقيقة النظم، إلى أن برزت أبحاث عبد القاهر الذي توج، جهود السابقين ببلورة موقف متكامل حول النظم وظلت آراؤه صامدة حتى العصر الحديث.

 

المصادر والمراجع

*القرآن الكريم، برواية ورش.

1-"الانتصار للقرآن"، أبو بكر الباقلاني، ت محمد عاصم قضاة، ط1- 1422/2001 دار ابن حزم، بيروت، لبنان.

2-"إعجاز القرآن" أبو بكر الباقلاني، ت عبد المنعم خفاجي ط1/ 1411-1995، دار الجيل، بيروت.

3-"تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل" أبو بكر الباقلاني، ت عماد الدين أحمد حيدر، ط1 1407/1987، مؤسسة الكتاب الثقافية.

4-"نكت الانتصار لنقل القرآن" أبو بكر الباقلاني، ت ع السلام هارون، منشأة المعارف.

5-"البيان والتبين" أبو عمرو الجاحظ، ت عبد السلام هارون، ط5/ 1405-1985 الخانجي.

6-"الحيوان" أبو عمرو الجاحظ، ت عبد السلام هارون ط3/ 1388-1969، دار إحياء التراث العربي

7-"رسائل الجاحظ" ت ع السلام هارون، ط1/ 1411-1991 دار الجيل، بيروت.

8-"التعريفات" علي الجرجاني ت محمد بن الحكيم بن القاضي، ط1/ 1411-1991 دار الكتاب، مصر

9-"نقد النثر في تراث العرب" نبيل خالد، الهيئة المصرية العامة، 1993.

10-"النقد الأدبي عند العرب" محمد طاهر درويش، دار المعارف، القاهرة، 1979.

11-"أثر القرآن في تطور النقد العربي" زعلول سلام، ط3 دار المعارف، مصر

12-"ثلاث رسائل في إعجاز القرآن" الخطابي، ت زعلول سلام ومحمد خلف الله، ط4، دار المعارف، القاهرة.

13-"مقدمة في الأصول الفكرية للبلاغة وإعجاز القرآن" أحمد أبو زيد، ط1/1409-1989 دار الأمان، الرباط.

14-"في علم الكلام" أحمد محمود صبحي، ط/5 1405-1985، دار النهضة العربية، بيروت.

15-"البلاغة تطور وتاريخ" "شوقي ضيف ط4/ دار المعارف، القاهرة.

16-"مفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ" ميشال عاصي، ط2/1981، مؤسسة نوفل، بيروت.

17-"قضية الإعجاز وأثرها في تدوين البلاغة العربية" عبد المعطي عرفة، ط1/ 1405-1985، عالم الكتب، بيروت.

18-"مفهوم الإعجاز القرآني" أحمد جمال العمري، دار المعارف القاهرة.

19-"معجم مقاييس اللغة" أحمد بن فارس ت ع السلام هارون، 1410-1990 الدار الإسلامية.

20-"تأويل مشكل القرآن" محمد بن قتيبة ت السيد أحمد سقر ، المكتبة العلمية.

21-"إعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعرة منير سلطان، منشأة المعارف، الإسكندرية.

22-"الإعجاز اللغوي في القصة القرآنية" محمود السيد مصطفى ط1/ 1981مؤسسة شباب الجامعة الإسكندرية.

 

[1] - معجم مقاييس اللغة، ابن فارس ج5 ص 443.

[2] - التعريفات، علي الجرجاني، ص 251.

[3] في علم الكلام، أحمد محمود صبحي ج1 ص 131.

[4] - رسائل الجاحظ، القرآن مخلوق، ج3 ص290.

[5] - الحيوان، ج3، ص131.

[6] - الحيوان، ج4، ص90.

[7] - أشار إلى هذا الكتاب بقوله " كتابي في الاحتجاج لنظم القرآن وغريب تأليفه" الحيوان ج1 ص93.

[8] - الحيوان ج1، ص131.

[9] - البيان والتبين، ج1، ص8.

[10] -"البيان والتبين" ج1 ص66

[11] - مفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ، ميشال عاصي ص 169 بتصرف.

[12] - قضية الإعجاز القرآني وأثرها في تدوين البلاغة العربية" عبد المعطي عرفة، ص 172 والقضية ذاتها أشار إليها درويش في "النقد الأدبي عند العرب" ص 214.

[13] -"مقدمة في الأصول الفكرية للبلاغة وإعجاز القرآن، أحمد أبو زيد ص 60.

[14] - رسائل الجاحظ، حجج النبوة، ص 129.

[15] - أثر القرآن في تطور النقد العربي، زعلول سلام ص 100 (نقلا عن الرسائل).

[16] - البلاغة تطور وتاريخ، شوقي ضيف، ص 119، نقلا عن "المغني في أبواب العدل"

[17] - نفسه والصفحة نفسها.

[18] - مفهوم الإعجاز القرآني، أحمد جمال العمري، ص 159.

[19] - أنظر البلاغة تطور وتاريخ، شوقي ضيف ص 119 (نقلا عن المغني).

[20] - وقد أشار إلى ذلك شوقي ضيف ص 118 وأيده منير سلطان في كتابه "إعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعر" ص 187.

[21] - في علم الكلام، ج2، أحمد محمود صبحي ج2، ص73.

[22] - "الانتصار للقرآن" أبي بكر الباقلاني ج1 ص67.

[23] - "تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل" أبو بكر الباقلاني ص 179.

[24] - "التمهيد" ص 170.

[25] - إعجاز القرآن، أبي بكر الباقلاني،ص 148.

[26] - نفسه، ص نفسها.

[27] - نفسه، ص 43.

[28] - التمهيد، الباقلاني ص 177.

[29] - المصدر السابق، ص 178.

[30] - أثر القرآن في تطور النقد العربي زعلول سلام ص286 بتصرف.

[31] - الإعجاز اللغوي في القصة القرآنية، محمود السيد حسن مصطفى ص 69 بتصرف

[32] -إعجاز القرآن، ص320.

[33] - نكت الانصتار لنقل القرآن، الباقلاني، ص 249.

[34] - الآية 49 سورة الشورى

[35] - إعجاز القرآن، ص 228.

[36] - نفسه، ص 146.

[37] - لا يتسع المقا لبسط الكلام في هذه الآراء ومن الأنفع أن يفرد عبد القاهر ببحث خاص يسلط الضوء على ما قدمه في هذا المجال نظرا لأهميته.

[38] - تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، ص 3.

[39] - المصدر نفسه.

[40] - نقد النثر في تراث العرب، نبيل خالد أبو علي، ص 40 بتصرف

[41] - ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، الخطابي، ص 27.

[42] -المصدر نفسه، ص نفسها.

[43] - المصدر نفسه، ص 36.

[44] - ثلاث رسائل إعجاز القرآن، ص149.

[45] - المصدر نفسه، ص 29.